قاد انتهاج الحل الأمني العسكري من قبل نظام الأسد ضد الشعب السوري الذي خرج مطالبًا بحريته وكرامته، إلى تدمير مدروس ومتزايد في عموم سوريا اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا في ظل قمع مفرط وجرائم بحق الشعب وعموم المواطنين لتحقيق مقولة الأسد وأعوانه السابقة التي تهدد بحرق البلد دون الأسد..
وتجاوزت مستويات الإنهيار التي شهدتها بنية الدولة السورية قضايا البعد الإنساني والموتى والمعتقلين إلى مرحلة بات فيها شبح الجوع يحاصر كل من تبقى لدى الأسد في مناطق سيطرته؛ جراء إجراءاته الاقتصادية الممنهجة المتداخلة مع تعنت فروعه الأمنية وقطعه العسكرية وجيشه المتهالك.. بدعم من حلفاء أقل همهم نهب ثروات سورية التي قدمها لهم بشار على طبق من فضة مقابل دعمهم له حاكمًا على عرش سورية ضد إرادة السوريين الذين طالبوا بحريتهم وكرامتهم ضد طغيان دولة متوحشة.
صراع معقد خاضه الشعب السوري ضد النظام وحلفائه أنهك الاقتصاد ودمر حتى أبسط مقومات الحياة لدى المواطن السوري البسيط الباحث عن قوت يومه.. فبعد أن كانت سوريا تصدّر القمح وتحتفظ باحتياط استراتيجي يكفيها لسنوات.. باتت مستوردًا صافيًا بسبب سنوات الصراع التي ضربت الاقتصاد ودمرت القطاع الزراعي.
أرقام مفزعة
محمد سامر الخليل، وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية في النظام السوري أعلن قبل يومين، أن دمشق تحتاج إلى استيراد ما بين 180 و 200 ألف طن من القمح شهريًا.. ليؤكد أن تكلفة الواردات ستبلغ نحو 400 مليون دولار، دون أن يوضح إطارا زمنيا.
طبعًا، حاول الوزير المذكور – وفق ما نقلته عنه صحيفة الوطن المحلية – تبرير كمية الاستيراد المهولة بقوله إن الواردات أصبحت ضرورية بسبب “ميليشيات” تمنع المزارعين من بيع القمح إلى الدولة.
في حين ذكرت تقديرات منظمة الأغذية والزراعة في للأمم المتحدة، أن البلاد أنتجت ما بين 2.1 و2.4 مليون طن من القمح هذا العام.. في حين يبلغ حجم الطلب في أنحاء البلاد حوالي أربعة ملايين طن، لتُسد الفجوة عن طريق الواردات.
حيث هبط إنتاج القمح في البلاد بشكل حاد منذ اندلاع الصراع.. حيث كانت سوريا تنتج فوق أربعة ملايين طن سنويا في أعوام الوفرة، وكانت قادرة على تصدير 1.5 مليون طن.
بدائل واجراءات
بات منظر المواطنين السوريين في الأشهر الأخيرة سمة عامة لدى وقوفهم طوابير طويلة أمام المخابز، حيث يباع الخبز المدعم بنظام الحصص التموينية باستخدام البطاقات الإلكترونية.
حيث تسعى حكومة النظام السوري للبحث عن بدائل تحد من أزمة القمح التي تشهدها البلاد، والتي تعد واحدة من أسوأ الأزمات منذ اندلاع الثورة في 2011..
وعمدت السلطات إلى تقليل القدر اليومي من الخبز للأسر في المناطق التي تخضع لسيطرة دمشق، بحسب تصريحات سابقة لمدير التنسيق في وزارة التجارة السوري فادي كانو، لوكالة الأنباء الإسبانية في شهر سبتمبر أيلول الماضي.
“كانو” اعتبر أن هذه الأزمة الاقتصادية “استثنائية” بسبب “الحصار الذي أجبر الحكومة على اتخاذ إجراءات اكثر صرامة، في انتظار بدائل واستيراد المطلوب من القمح”.
وكانت الحكومة السورية قد طبقت الشهر الماضي آلية جديدة لتوزيع الخبز اليومي عبر بطاقة الكترونية توزع في البداية في محافظات حمص، وريف دمشق، واللاذقية، وحماة.
وخلال الأشهر الستة الأخيرة وحدها أشارت بيانات برنامج الأغذية العالمي إلى أن عدد الذين يقدر أنهم “لا يشعرون بالأمن الغذائي” في سورية ارتفع من 7.9 ملايين فرد إلى 9.3 ملايين.
خسائر وديون
صدرت دراسة مختصة في شهر مايو أيار الماضي.. من قبل المركز السوري لبحوث الدراسات.. أكدت أن خسائر الاقتصاد السوري منذ عام 2011 وحتى مطلع العام الجاري وصلت 530 مليار دولار، أي ما يعادل 9.7 أضعاف الناتج المحلي الإجمالي لعام 2010 بالأسعار الثابتة.
الدراسة أيضًا أوضحت ارتفاع الدين العام للبلاد لنحو 208 % نسبة إلى الناتج المحلي وفقدان العملة المحلية (الليرة السورية) نحو 97 % من قيمتها، إضافة إلى بلوغ معدلات البطالة في البلاد نسبة 42 %.
كما أظهرت الدراسة الآثار الكارثية للنزاع المسلح على السوريين في مختلف المستويات، حيث أشارت إلى ارتفاع نسبة الفقر في البلاد من 1 % في عام 2010 إلى نحو 86 % من السكان مع نهاية 2019.
رؤية أممية
لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) أدلت بدلوها مع تأكيدها بأن سوريا تكبدت خسائر اقتصادية تُقدّر بنحو 442 مليار دولار خلال ثماني سنوات من الحرب المستمرة.
اللجنة الأممية، نشرت تقريرًا مشتركًا أعدّته بالتعاون مع مركز الدراسات السورية في جامعة سانت آندروز، بعنوان “سوريا: بعد ثماني سنوات من الحرب”، (نُشر قبل فترة).
التقرير المذكور وجد أن مؤشر التنمية البشرية في سوريا شهد انخفاضًا حادًا من 0.64 % عام 2010 إلى 0.549 % في عام 2018.
القطاعات المتضررة
أوضحت اللجنة الاممية أن التقرير الذي يغطي الفترة الواقعة بين 2011 إلى 2019، كشف أن 82 % من الأضرار الناجمة عن الصراع تراكمت في سبعة من أكثر القطاعات كثافة في رأس المال، كالإسكان والتعدين والنقل والأمن والتصنيع والكهرباء والصحة، بحسب ما نقلته وكالة الأنباء السعودية الرسمية.
يذكر أن دراسة أجراها المركز السوري لبحوث الدراسات، صدرت في مايو/ أيار الماضي.. أكدت أن خسائر الاقتصاد السوري منذ عام 2011 وحتى مطلع العام الجاري بلغت 530 مليار دولار، وهو ما يعادل 9.7 أضعاف الناتج المحلي الإجمالي لعام 2010 بالأسعار الثابتة.
الدراسة كشفت أيضًا عن ارتفاع الدين العام للبلاد لنحو 208 % نسبة إلى الناتج المحلي وفقدان العملة المحلية (الليرة السورية) نحو 97 % من قيمتها، إضافة إلى وصول معدلات البطالة في البلاد نسبة 42 %.
أما عن الآثار الكارثية للنزاع المسلح على المواطنين السوريين في مختلف المستويات، فأشارت الدراسة إلى ارتفاع نسبة الفقر في البلاد من 1 % في عام 2010 إلى نحو 86 % من السكان مع نهاية 2019.
ووفق التقرير، فقد ارتفع معدل البطالة من 14.9% في عام 2011 إلى 51.8 % في عام 2016، قبل أن ينخفض تدريجيا إلى 42.3 % في عام 2019.
كما خسر سوق العمل 3.7 مليون فرصة عمل، لترفع الخسارة الضخمة لفرص العمل نسبة الإعالة الاقتصادية من 4.13 شخصًا لكل مشتغل في عام 2010 إلى 6.4 في عام 2019، بحسب ذات التقرير.
المعضلة الحقيقة التي تضمنها التقرير كانت مع تأكيده أن المقومات الاقتصادية للبلاد تحولت إلى مصادر لاستدامة العنف، وذلك من خلال تدمير جزء كبير من رأس المال أو إعادة تخصيصه لأنشطة مرتبطة بالنزاع.
آثار العقوبات “قانون قيصر”
اتخذت واشنطن في شهر يونيو حزيران الماضي، مجموعة من العقوبات على النظام السوري (صنفت بأنها الأكثر شمولا حتى الآن) وهي التي عرفت إعلاميا بقانون قيصر.
تقول واشنطن إن قانون العقوبات “قانون قيصر” يستبعد المساعدات الإنسانية ويهدف إلى محاسبة الأسد وحكومته على جرائم حرب.. في تعتبر سلطات الأسد أن العقوبات الغربية هي المسؤولة عن المصاعب الكثيرة التي يواجهها المواطن العادي.
يذكر أن انهيار العملة السورية الكبير بعد العقوبات.. فقد ظلت الليرة مستقرة حول 500 ليرة مقابل الدولار لعدة سنوات، لتشهد هبوطًا سريعًا العام الماضي بلغت معه مستوى متدنيا وصل 3000 ليرة للدولار في يونيو/حزيران تحسبًا للعقوبات الجديدة. (عادت لمستوى 2200 ليرة للدولار).
تراجع قيمة العملة، يمنع ويفشل خطط الأسد لشراء كل محصول القمح هذا العام لتعويض أي نقص في الواردات من شأنه تقليص المخزون الإستراتيجي..
بات الفشل سمة بارزة في عمليات أو مناقصات الاستيراد الدولية التي تسعى لها المؤسسة السورية العامة للحبوب المملوكة للحكومة (هي المشتري الرئيسي للحبوب في سورية)، فقد تكرر الفشل منذ العام الماضي..مع امتناع حكومة الأسد عن التعليق الإعلامي على عدد الصفقات التي تمكنت من إبرامها.
تنطلق معاناة الحكومة من أن العقوبات الغربية – التي لا تقيد مشتريات الغذاء- لكنها تقيم قيودًا مصرفية وقرارات تجميد الأصول.. صعّبت بشكل كبير جدًا على معظم الشركات التجارية إبرام صفقات مع دمشق. ( اتجاه حكومة النظام الأخير – بعد خروج كبار تجار الحبوب من المشهد – الاستناد إلى رجال الأعمال في إبرام صفقات للحفاظ على دعم سعر الخبز).
بدورها.. وسائل إعلام نقلت عن رئيس المؤسسة العامة للحبوب يوسف قاسم، قوله إنه تم التعاقد على 1.2 مليون طن من القمح الروسي خلال 2019 بما قيمته 310 ملايين دولار. (لم تتمكن رويترز من التحقق من مصدر مستقل من هذه المعلومة).
وكانت المؤسسة المذكورة قد حاولت تبديل بعض القمح السوري الصلد المستخدم في صناعة المعكرونة بالقمح اللين المستخدم في صناعة الخبز مرتين في سبتمبر أيلول 2019 دون أن تعلن عن نتيجة تلك المحاولات.
لبنان متنفس غائب
اعتبر المحلل السياسي السوري، أيمن عبد النور (مقيم في الولايات المتحدة) في تصريحات إعلامية أن للأزمة اللبنانية دورها في تعقيد المشهد الغذائي بقوله “هم يستوردون كميات إلى لبنان ثم ينقلونها إلى سوريا برا ما لم تقدم روسيا شحنات مباشرة من الحكومة للحكومة وعندها يمكنها تسليمها في (ميناء) اللاذقية”، وأضاف “أما الآن فقد أغلقت هذه النافذة بسبب المشاكل في لبنان”.
أما موسكو حليفة الأسد وأكبر مصدر للقمح في العالم، فتعتبر موردًا دائمًا للقمح إلى سوريا، لكن حجم مساعدات القمح لدمشق لا يلبي الطلب.. ويبدو أن قضية التوريد ترتبط بمشاكل مالية وربما ضغوط سياسية؛ حيث قال مصدر في قطاع القمح الروسي لرويترز “الإمدادات مستمرة. ومع ذلك توجد مشاكل في السداد وفي توفر السفن المستعدة لتسليم شحنات لتلك الوجهة”.
ليقدر المصدر أن حوالي 150 ألف طن فقط من مبيعات القمح التجارية وصلت إلى سوريا في الفترة من يوليو تموز 2019 إلى مايو أيار 2020.
في العمق
كان من نتائج الصراع المسلح خروج أهم المحافظات – في صعيد الثروات- من يد النظام وهي محافظات (دير الزور – الحسكة – الرقة) التي تمثل أكثر من 70 % من إنتاج القمح في سوريا (مع ثروات أخرى ) فباتت تسيطر على أغلبها قوات سوريا الديمقراطية “قسد” الذي تقوده فعليًا وحدات حماية الشعب الكردية.
في المراحل الماضية، كانت حكومة الأسد تلجأ إلى إغراء الفلاحين بأخذ محاصيلهم عبر دفع سعر أعلى من منافسيها حتى إذا ظلت حقول القمح في مناطق خارج سيطرتها.
وشهد العام الحالي انهيار الليرة السورية لترفع الحكومة السعر الذي تدفعه من السعر المعلن في بداية الموسم (من 225 ليرة للكيلوغرام إلى 425 ليرة).
إلا أن لقسد وقيادتها الكردية رأي آخر (يخضعون للنفوذ الأمريكي) حيث اتجهوا في مواجهة انهيار العملة وخوفا من تداعيات العقوبات الأميركية على الاقتصاد في المناطق الخاضعة لسيطرتها، إلى رفع سعر شراء القمح المحلي، مع ربطه أيضًا بالسعر السائد للدولار حيث أعلنت سلطات “قسد” المحلية بدفع 17 سنتًا أميركيًا للكيلوغرام مهما انخفض سعر الليرة. (ضيق الخناق على واردات النظام).
حيث تسعى القوى الكردية – فيما يبدو – إلى تخزين كميات تكفي استهلاك 18 شهرًا، فلا تفتح الباب أمام بيع كميات للمناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية إلا في حالة وجود فائض.