المحتويات
- مقدمة
- الأستانة ومعادلات الوضع القائم جيوبولتيكيا
- محور إدلب حماة
- محور البوكمال
- محور جنوب سورية
- البدائل الروسية: مؤشرات نهاية الأستانة؟
- خاتمة
- المراجع
مقدمة:
مسار الأستانة المثير للدهشة والقلق السياسي، لم يتأخر بالكشف عن مدى عمق فداحته السياسية، وأثره في المسألة السورية، وأيضا بمواقف روسيا من الحالة الدولية العامة. فالأستانة وبعد طاولتها الثانية عشرة الأخيرة، اتضح معها كمّ الوبال، والمغالطات، والفواجع التي تضمنتها، وما حملته للسوريين، سواء بتعدد المحاور والممرات الدولية الجيوبولتيكية المنفذة منها، أم الحالية ومحاولة السيطرة على عدم تمددها.
زمنياً، دشنت الأستانة، العاصمة الكازخستانية المنتقاة روسياً بعناية، أولى لقاءاتها عقب اتفاق مسرب عن قبول الأتراك تهجير سكان حلب أواخر عام 2016، وانطلاق عملية سياسية تسووية بين 23-24/1/2017 ضمت دولاً رئيسة ثلاثاً هي: روسيا وإيران وتركيا وممثلين عن المعارضة العسكرية السورية ومثلها سلطة النظام، لتخرج بصيغة “خفض التصعيد” مناطقياً في سورية[1]، التي أتت نتائجها تصعيدية منطقة تلوَ أخرى على نحو متتالٍ زمنياً حتى اليوم.
اليوم، وبعد محطة سوتشي الأخيرة بين بوتين وأردوغان[2] المنعقدة شهر أيلول/ سبتمبر 2018، والمترافقة مع ضغوط أمريكية على إيران وتجاذب وتباين مع تركيا، تبرز للعيان الترسيمات الجيوبوليتيكية المحددة في أشواطها الأخيرة، إذ تبرز محاورها الروسية في مواقع حكم الأرض عبر النفوذ البري بعد تحقيقها معادلة الوصول للمياه الدافئة على المتوسط، لتعود العمليات العسكرية في المنطقة المتفق عليها في هذه المحطة منزوعة السلاح، وفق محور الفصل بين ريفي إدلب وحماة، كما حلب لتأمين الطريق الدولي حلب – حماة وحلب – اللاذقية، فهل تصبح اتفاقية أستانة في محورها الأخير ملزمة لروسيا بفك ارتباطها بإيران عبر محور ومعبر البوكمال، بعد استكمال فصل إدلب عن حماة وحلب وتمرير الخط البري عبرهما إلى تركيا فموسكو؟ كما تبرز موضوعة الجنوب السوري المنسي إلى اليوم سياسياً في خضم العمليات العسكرية والتسويات السياسية فيها كمحور ثالث يتعلق بتفاهمات روسية إسرائيلية، فهل يبقى مهملاً؟!
سؤال محوري في المسألة السورية ومستقبلها العام، وحجم التدخلات الدولية، والإقليمية المتنازعة فيها وعليها، تبدو محاولة الإجابة عليها صادمة سياسياً كما أوردتها في دراسة سابقة مفصلة عنوانها (جيوبوليتيكا الدوائر المتقاطعة: سورية في عالم متغول) [3] بقدر ماهي تفتح إمكانات العمل السياسي الدولي مجدداً في حال توقف الأستانة والاستدارة لفرض الحلول السورية بمرجعية أممية وكيفية روسية.
الأستانة ومعادلات الوضع القائم جيوبولتيكيا:
مثلت الأستانة بالنسبة لروسيا معادلة دولية مفادها تطبيق واقعي لموضوعة نظرية في الجيوبوليتيك وتعني في مضمونها: التفوق الإقليمي الروسي، وربطها بعمليات الواقع على الأرض عسكرياً، مع اتفاق مصالح ونفوذ بين تركيا وإيران يضمن مركزية ومحورية وجودها السياسي في دائرتها الجيوبولتيكية الثالثة، التي تربط مشروعها السياسي بما سمي بالمحيط الحيوي الأوراسي لموسكو[4]، الذي يربط أوروبا بأسيا عبر سورية، ما يرشّح روسيا مجدداً للعودة إلى قطبية العالمية بموازاة الولايات المتحدة الأمريكية، تلك التي نظر لها مركز كاتخيون للدراسات وعلى قمته الروسي المتطرف ألكسندر دوغين في نظريته السياسية الرابعة [5].
الأستانة من جهة أخرى بما تعنيه سورية بـ “خفض التصعيد”، لم تخطئه عين تحليل سياسية بأنه فخ سياسي محكم لهيمنة وفرط القوة العسكرية بفرض الحلول السياسية تحت عناوين براقة عنوانها الأوضح “المداهنة” والمكر السياسي، حتى باتت المناطق السورية مكشوفة كلية بجملة من المخططات الإقليمية في تغير وجودها الديموغرافي وتهجير غالبية سكانها، وتحويل مساراتها الوطنية إلى مسارات تحكّم وهيمنة، كما هي إخضاع وتفريع من محتواها، والتحول من مسارات التغيير الوطني المنشود، إلى مسارات تقاسم النفوذ والسطوة العسكرية، التي تفضي إلى تحكّم سياسي بالنتيجة، ومساومات اقتصادية على الكعكة السورية التي تكاد تنضج وتصبح “لذيذة وشهية” على حساب ألم السوريين وأوجاعهم..
موقعة الأستانة تبدو هي السلاح الأكثر فاعلية بيد الروس سياسياً لتحقيق غرضين:
الأول استمالة الأتراك في معادلتهم الإقليمية بالتعاون من الإيرانيين في تقاسم النفوذ داخل سورية، واستبعاد القوى الأخرى كافة خاصة الخليجية والعربية، من المعادلة، وذلك لأن الأتراك هم الأكثر قدرة وقرباً من المعارضة السورية خاصة العسكرية، والسياسية الفاعلة منها، كما الإيرانيين في قربهم من سلطة النظام، ما يضمن للروسبوتينية التحكم بالطرفين السوري عبرهما.
والثاني هو تفريغ محتويات القرارات الدولية الخاصة بالانتقال والتغيير السياسي المبنية على جنيف1 وما تلاها خاصة القرار 2254/2015 إلى جملة من التفاهمات الجيوبولتيكية بين الأطراف الإقليمية الفاعلة في الملف السوري وفق إدارتها الروسبوتينية له، ما يضمن لها التفوق الإقليمي ومن ثم الدولي كقطب عالمي يسعى لأن يكون موازياً للأمريكان على الساحة العالمية..
في سياق تفكيكي، شكلت مفاهيم الجيوبوليتيك المستحدثة روسياً عودة ثقيلة لمفهوم التوسع الإمبراطوري من خلال عودة السيطرة على مثلث القوى العالمي الكلاسيكي وعدم الاكتفاء بالتقانات الحديثة:
- السيطرة على الممرات البحرية وعقد اتصالها المائية.
- الوصول البري للمياه الدافئة.
- كما والتعامل على أساس فرضية علوم الإنتروبولوجيا التي تقوم على فكرة وجود اتصال تاريخي بين كل من أوربا وأسيا، أسماه دوغين، “الأوراسية” أو منظومة ” أوراسيا الكبرى”[6].
تمكنت روسيا من لعب دور المركز وصلة الوصل الكبرى عبر دوائر متعاقبة مركزها روسيا، فدائرة جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق ومن ثم دول أوربا الشرقية مروراً بتركيا ووصلها بإيران في أسيا عبر سورية فـ (إيجاد مخرج للبحار الباردة في الشمال والشرق يجب أن يتمم بالانفتاح على البحار الدافئة في الجنوب والغرب، وفي هذه الحالة فقط تصبح روسيا “مكتملة” من الناحية الجيوبولوتيكية)[7]، تلك المنظومة شكلت الأرضية السياسية والعسكرية للتوجهات الروسية مع قيادة بوتين لها، وهي ذاتها التي قادته للتعامل بخطوط متوازية سياسياً وعسكرياً ودولياً في التعامل مع ملفات روسيا الدولية، خاصة منذ إعلان تدخلها العسكري المباشر في سورية سبتمبر/2015 وما تلاه من خطوات عسكرية وسياسية لليوم.
المنظومة الروسية هذه لم تكتفِ بالعسكرية المباشرة، بل عملت على توفيق المصالح المتباينة بين إيران وتركيا، واستثمار الميليشيات الإيرانية برياً، وإرضاء تركيا عسكرياً وإقليميا خاصة بعد خلخلة تفاهماتها مع الولايات المتحدة الأمريكية بعد محاولة انقلاب 2016. اليوم روسيا باتت مهيئة لفرض هيمنتها المنفردة في الساحة السورية وهي على بوابة القطبية العالمية بعد فرض نفسها لاعباً دولياً في موازاة أمريكا بعد لقاءات هلسنكي 2018 بين بوتين وترامب؛ لتتكشف أشكال الخلاف على تقاسم النفوذ في سورية سواء بين الروس والإيرانيين التي تطورت حسب تقارير عدة، لنزاع عسكري يبدو إلى اليوم محدوداً، لكنه مترافق مع غض نظر روسي واضح عن العمليات العسكرية الجوية الإسرائيلية على المواقع الإيرانية، ما يشير لرغبة الروسبوتينة على الاستفراد بالداخل السوري سيطرة وهيمنة، ما يجعلها تبارك أية خطوة تزعزع الوجود الإيراني فيه دون أن تُقدم على مواجهتها مباشرة بشكل عريض وواسع قبل تثبيت وجودها السياسي والاقتصادي بشكل وثيق ومنفرد في الداخل السوري. هذا ما جعلها أكثر قرباً من تركيا في تفاهماتها الجيوبولتيكية كون الأتراك يستفردون في المنطقة الشمالية خارج حدود سورية المفيدة لها، فمهما بلغت الخلافات بينهما تبقى قابلة للتحديد في محيط آمن تحاول روسيا ترسيمه يوماً وراء يوم.
الخارطة الجيوبوليتيكية الروسية اليوم بدأت تتحدد بمحاور ثلاثة:
- محور حلب وحماة-إدلب
وهو المحيط الآمن في الساحل السوري، وذلك بفصل التداخل القائم بين محافظتي إدلب وحماة، كما حلب وفق الخطوط الدولية البرية الواصلة إلى اللاذقية والساحل، ما يجعل الأتراك يغضون النظر عن عمليات محدودة عسكرية في الشريط الآمن منزوع السلاح المتفق عليه بسوتشي الأخيرة، مكتفية بمنطقة الحيازة الكاملة لها في شمال حلب وصولاً إلى حدود منبج، وربما تضيف إليه شريطاً حدودياً شمالياً في منطقة شرق الفرات، المنطقة الخاضعة لسيطرة قوات سورية الديموقراطية “قسد” والحماية الأمريكية، وهي خارج المعادلة الروسية تماماً.
في سبتمبر/2018 في سوتشي، وبعيداً عن الأستانة، اتفق بوتين وأردوغان على إيقاف العمليات العسكرية في إدلب (آخر معاقل المعارضة العسكرية السورية المهجرين من المناطق السورية كافة بحدود الملايين الثلاثة، إضافة إلى هيئة تحرير الشام المتطرفة أيضاً)، وفتح خطوط الحركة البرية بين حلب/اللاذقية وحلب/حماة وإنشاء منطقة منزوعة السلاح على هذين المحورين بعرض يصل ل 20 كم وتسيير دوريات شرطة عسكرية مشتركة روسية تركية فيه وإيلاء الجانب التركي مهمة ترتيبها سياسياً؛ تلك التي بادرت الإدارة الأمريكية بالترحيب بها بشدة.
اليوم، ومنذ أواخر نيسان/أبريل الحالي، تعود الآلة العسكرية للعمل مجدداً في مناطق متعددة فيها، ومناطق تركيز القصف العسكري الروسي والهجوم البري المرافق تتركز في فتح المحاور المتفق عليها في سوتشي أساساً، بدءاً من معرة النعمان على امتداد الخط الدولي الواصل بين حلب وحماة، والامتداد شمالاً تجاه حلب مروراً بسراقب، وللغرب منها على محور اللاذقية وصولاً إلى كفر نبل، وجنوب غرب إلى كفر نبودة، والغاية الرئيسة منها إبعاد فصائل المعارضة السورية عنها، وفتح طريق حلب الساحل وفصل الريف الحموي الحلبي عن الريف الإدلبي وبالضرورة فتح معبري الطريق الدولي بين حلب واللاذقية كما حماة تنفيذاً لسوتشي، وجعلها تحت الإشراف الروسي التركي المباشر. وترافقت هذه العمليات مع تصريحات كل من أردوغان وبوتين بالالتزام بنصوص سوتشي ذاتها، وسط صمت دولي لا يشي إلا بدراية تامة من المجتمع الدولي خاصة أمريكا بمجريات العمليات العسكرية الحالية وغايتها المتضحة حتى اليوم!
محاولات روسيا امتصاص الهجوم المعاكس للمعارضة المسلحة في هدنة لثلاثة أيام، وطلبها تنفيذ الأتراك التزاماتهم خاصة بعدم تعرض حميميم للقصف تبدو ذات رسائل متعددة:
- فمن جهة تعلن التزامها بسوتشي، خاصة بعد تعطيلها تسليم منطقة تل رفعت شمال حلب- المحمية روسياً بشكل جزئي وكردياً من قسد بشكل فعلي- إلى الأتراك تلك التي تفصل الباب عن إعزاز مكان وجود المعارضة العسكرية المدعومة تركياً، ما يجعل الأتراك يغضون النظر عن الضغط بالمحور الجنوبي في كفرنبُّودة فيما يسمى عمليات عض الأصابع المتبادلة.
- ومن جهة أخرى رسالة إلى لمجتمع الدولي بعدم نيتها تمديد مناطق العمليات العسكرية تجاه إدلب.
- وفي رسالة ثالثة للميليشيات الإيرانية بضرورة توقفها عند الالتزامات الروسية في قيادة العمليات، مترافقاً هذا بالمضمون مع استعادتها لزمام المبادرة وتغير الخطط العسكرية.
- جيوسياسياً، فتح الممرين المتفق عليهما يعني إمكانية استبدال الممر البري لموسكو عبر البوكمال مروراً بطهران وبغداد، بآخر عبر أنقرة، فحلب، فالساحل السوري، ومن منظار آخر محاولة تنفيذ الاتفاقات المبرمة مع أمريكا لتحجيم الدور الإيراني في العمق السوري، فهل ستتحقق الخطوات الروسية التركية هذه، وما مصير هذا على أستانة بالضرورة؟
- محور البوكمال
البوكمال كانت لها الأهمية القصوى لدى روسيا بداية، بحيث تضمن تفوقها الجيوسياسي بالمرور الإيراني لسورية، تنفيذاً لنظريتها الجيوبولتيكية جغرافياً بوصل إيران، البوابة الآسيوية، بتركيا البوابة الأوربية، تلك التي عززتها نظرية مركز كاتخيون للدراسات الذي يربط موسكو برياً بالمتوسط عبر البوكمال وباستخدام الميليشيات الإيرانية، وقوات النظام السوري أواخر عام 2017 فـ (البوكمال هي النقطة الاستراتيجية التي يجب أن يصل الجيش السوري إليها لفتح بولفار موسكو، طهران بغداد، دمشق بيروت. وهو من الممرّات القوية التي تلجم العدوانية الأميركية بأساليب عسكرية واقتصادية وسياسية)[8].
محور البوكمال الاستراتيجي بات اليوم قابلاً للتغير بحكم عدة عوامل أهمها:
الضغوط الأمريكية على إيران المترافقة مع العقوبات الاقتصادية الأمريكية على روسيا؛ فشرق الفرات يخضع للحماية الأمريكية كخط أحمر عريض وتحت إشراف قوات سورية الديموقراطية (قسد).
منافسة الإيرانيين للروس في السيطرة على العمق السوري من خلال التحكم بالمنفذ البري المترسم بالبوكمال وسيطرة القوى الإيرانية عليه، ما يجعل النفوذ الإيراني إلى العمق السوري حيث سيطرة الروس فيه تصبح قلقة وغير مستقرة بعد بروز واضح للخلافات على مجريات الإحكام والسيطرة الروسية الإيرانية، ما يحتم على الروس فتح البوابة الشمالية عبر تركيا ومحور حلب- حماة- الساحل والاستعاضة البرية لها عن محور البوكمال وبالضرورة تحجيم الدور الإيراني، ما يوفر لها شرطين هما:
تنفيذ الاتفاقات المبرمة مع إسرائيل وأمريكا في استبعاد الدور الإيراني من معادلة الداخل السوري.
تحقيق الاستفراد بالحل السوري الداخلي، وفرض شروطه السياسية كاملة وفق رؤيتها المنفردة، وبالضرورة ما يتبعه من شروط اقتصادية في إعادة الإعمار، وهيمنة مباشرة على مواقع الطاقة في الساحل السوري.
فهل ستكون هذه المعادلات قابلة للتنفيذ اليسير على أرض الواقع؟ سؤال لا تشي به متغيرات المسألة العسكرية حيث التمسك الإيراني الشديد بمعززات وجودها اللوجستي في العمق السوري، مع إدراكها التام لمفعول الضغوط الأمريكية الشديدة عليها وانعدام قدرتها على الرد على الهجمات الجوية الإسرائيلية ومعرفتها الدقيقة بغض البصر، والتواطؤ، الروسي عنها؛ لتصبح إيران وفق هذا تحت ضغوط متعددة أمريكية روسية مدعومة أوروبياً اقتصادياً، ما يجعلها تسابق الروس على الوجود القوي في المؤسسات العسكرية، والأمنية السورية مدركة حجم قوة انتشار ميليشياتها البري خاصة في حلب، وجنوب دمشق والجنوب السوري غير المعلن. فما البدائل التي ستطرحها في حال تمّ فتح معركة البوكمال دير الزور والميادين؟! هل ستفتح حرباً واسعة؟! أو ستكتفي بامتصاص الصدمة والعمل بالديبلوماسية الماكرة بتنفيذ الشروط الأمريكية تامة لتستبعد بذلك مواجهة عسكرية متوقعة مع قوات قسد، والفصائل العربية في هذا المثلث بحماية أمريكية وانكشاف ظهر روسيّ؟
- محور جنوب سورية:
المنطقة الجنوبية المنسية إلى اليوم، والمتروكة بحكم المهمل سياسياً، وذلك منذ سيطرة الروس عليها منتصف العام الماضي التي عملت خاصة في درعا والقنيطرة على تركها تحت سيطرة فصائلها المحلية بعد مصالحات عدة، أدت إلى عودة تغلغل سلطة النظام مجدداً مترافقة مع نفوذ ميليشوي إيراني فيها، لم تسمح الضربات العسكرية الإسرائيلية لها بالتمركز المطلق فيها، بل جعله قلقاً وغير مستقر إلى الآن، مع عدم النية بفتح مواجهة أرضية مباشرة بينهما وذلك بضمانة روسية في السيطرة والتحكم.
الإهمال الروسي للمنطقة ليس وليد الصدفة، بل يأتي ضمن سلسلة الملفات الروسية التي تعمل على ترتيبها أمنياً وعسكرياً وسياسياً في خطوط متوازية على كامل سورية، ويبدو الأهم لها تثبيت وجودها السياسي في الساحل السوري امتداداً لدمشق، ما يجعل المحاور الأولى أكثر أهمية لها استراتيجياً من المنطقة الجنوبية، لذلك تكتفي إلى اليوم بإدارة اللعبة عن بعد بطريقة أمنية مع إجراء تغييرات دقيقة في القيادات الأمنية والعسكرية السورية، والعمل عن بعد على إدارة أمنية باردة لحالة الفوضى المتعالية في درعا حصراً والسويداء أيضاً يتخللها الاستهداف والتصفيات الفردية التي تتطور إلى بعض المواجهات الجماعية في مناطق درعا؛ ويأتي البرود الروسي هذا غايته تحييد و/أو استمالة الأطراف الفاعلة فيها عسكرياً بغية كسبها سياسياً بأقل التكاليف الممكنة خاصة وأن بوابتيه الحدوديتين مرتبطتان بالأردن وإسرائيل وبالضرورة بالقرار الأمريكي والبريطاني، وهو ما تتجنبه روسيا لليوم، وتعمل بحذر شديد فيه على تنفيذ المتفق بينهم على تحجيم الوجود الإيراني في سورية والالتزام بحماية الحدود البرية الإسرائيلية. فهل ستكون هذه البرودة السياسية والإدارة الأمنية قادرة على تقليم الوجود البري المتمترس الميليشوي الإيراني؟ أم ستفتح مواجهات أخرى وبأدوات مستحدثة عندما لا تستجيب هذه الميليشيات للتغييرات الروسية هذه؟ وهل سيكون هناك مواجهة قادمة إيرانية إسرائيلية في المنطقة بناء عليه، مع تجنب الروس الخوض فيها؟
البدائل الروسية: مؤشرات نهاية الأستانة؟
أمام هذه المعادلات المعقدة جيوسياسياً، يصبح المشهد والتحليل السياسي أيضاً معقداً وغير كاف بتوصيف المشهد العام واستخلاص نتائجه، ويوحي بالمزيد من التعقيد في ملفاته الأمنية واتفاقاته الخلفية غير المعلنة والمحملة على احتمالات عدة بنتائجها الواقعية ومجرياتها اللحظية، ولكن تبقى خطوط المسألة السورية بعمومها هي الأوضح لليوم في عدم قدرتها في الوصول إلى آليات تغيير في هذه المعادلة العامة متعددة الأطراف والمصالح، وربما تكون خياراتها باتت الأصعب والأعقد والأكثر كلفة على السوريين بكل أطيافهم، فكيف إن تغيرت المعادلات بشكل سريع وانتقلت المعارك فعلياً من محور إدلب–حماة لمحور البوكمال باتفاق روسي أمريكي على قطع المد الإيراني البري من خلاله؟ ما يرجح ازدياد العنف والعنف المضاد خاصة من الجانب الإيراني الذي يهدد بتفجير المنطقة بعمومها من البوابة الجنوبية وخاصة في محيط دمشق.
من خلال المنظار العسكري تبدو موضوعة المواجهات العسكرية المباشرة الكبرى من أي طرف مع إيران مستبعدة حتى اليوم، وبالضرورة ثمة عمل جيوعسكري ترسيمي محدود جغرافياً تقوم به روسيا أولاً في محور إدلب حماة، ستبقى تحاول عدم تمدده وتسخينه أكثر كما فعلت في حلب والغوطة سابقاً حتى تبقي على علاقتها الجيوسياسية مع تركيا، وتركيا بالمقابل تسعى لاستكمال مخططها في الشمال السوري مكتفية بالدعم والتلويح بالوجود العسكري بما يعنيه ضمناً حلف الناتو، والاستفادة من توتّرات المسألة السورية وضغوط المهجرين السورين على أوروبا بتحقيق نقاط كسب جيوسياسية بالضغط المتوازي الروسي والأمريكي على أكراد شمال حلب خاصة في تل رفعت ومنبج. وبكل الحالات تسعى جاهدة لعدم الخلل بتفاهمات سوتشي الأخيرة متناسية ومتجاهلة موضوعات أستانة التي باتت مؤشرات نهايتها أوضح من ذي قبل وأهمها توافق روسي أمريكي إسرائيلي على تحجيم الدور الإيراني وهذا ما يخدم الروس والأتراك أيضاً.
بدائل موسكو القريبة في هذا باتت سياسية بالاعتماد على وصولها لمفاتيح القرارات الأممية المتعلقة بسورية وفق مرجعيتها السياسية المثقلة بوقائع الأرض، خاصة القرار 2254/2015، وبالضرورة تخليها عن الأستانة محدودة الأهداف الجيوسياسية، لتنتقل بعدها لعمليات سياسية واسعة تدير شروط تنفيذها مع أمريكا، تتضمن حلحلة في ملف اللجنة الدستورية وإجراء تغييرات جزئية في بنية النظام الأمنية والعسكرية في مقابل فك عزلة سورية دولياً؛ لتجني من خلفها نتائج عملها هذا لسنوات سابقة، بمباركة دولية ونموذج أولي في التفاهم أكثره سوءاً تقاسم النفوذ والحصص في سورية والمنطقة برمتها في ملامح صفقة القرن المزعومة، وأقله حكومة انتقالية تعمل على اللامركزية الإدارية بشروط حكم الواقع مناطقياً، لتبقى عقبة الوجود الإيراني هي الأقوى أمامها، وهذه المؤجلة إلى لقاء القمة الروسي الأمريكي في إسرائيل أواخرحزيران/ يونيو الحالي.
خاتمة:
تبقى كل السيناريوهات قابلة للتوقع كما النفي في الوقت ذاته، ويبدو الأوضح اليوم أن خيار السوريين حسب السياسة الروسية هو القبول بأحد شرطي المعادلة العسكرية فقط: نفوذ روسي – إيراني بالتشارك معاً أو روسيا منفردة في الداخل السوري، بينما شمال وشرق الفرات إلى اليوم خارج الحسابات جميعها؛ ومع هذا تطل علينا كل يوم المزيد من طروحات “الحلول السياسية” وكأن ثمة ما يوحي باقتراب المسألة من نهايتها، وربما فصلها الأخير في الحرب، وقد يكون الفصل الأكثر دموية والأكثر غرابة في شكل تحالفاته القادمة، وتغيير قواعد لعبة الأحلاف بطريقة دراماتيكية يصعب التكهن بدقة وسلامة نتائجها عسكرياً من الناحية الإقليمية؛ كل هذه الشروط والعمليات تأتي على حساب السوريين بمزيد من القتل وعمليات التهجير المتتالية كما يجري اليوم في محور ريفي إدلب-حماة، مع حصار اقتصادي خانق للمواطن السوري في الداخل والمستفيد من مجريات الحدث لليوم هي فرط القوة العسكرية وتحديدها العميق للمسألة السياسية السورية، وهذه المعادلة التي تأخرت قوى المعارضة السياسية عن إدراكها منذ زمن بعيد، إذ بدأ نصر الحريري رئيس هيئتها العليا للتفاوض بنعيها حديثاً، حيث لا لجنة دستورية حتى اليوم ولا حلاً سياسياً، وكل هذا مجرد عمليات لكسب الوقت والحسم النهائي فيها للقتال على الأرض..!
مع هذا لازالت المسألة السورية هي عقدة الاشتباك والتوافق الدولي إلى اليوم، ومع حجم تركتها الدولية باتت مع كل صانعيها في طرفي النظام والمعارضة الضالعة في ملفاتها عبئاُ على السياسية الدولية، ما يرجح دوراً سياسياً آخر للمحاور الخفية منها بعد استكمال ترسيمات المحاور الجيوبوليتيكية المتفق عليها خفاءً والمتكشفة يوماً وراء يوم، والصادمة في مضمونها ومحتواها وكارثيتها، لتبقى سورية حتى اليوم دونما حلٍّ سوري ذي بعد وطني كما نشتهي ونرغب..
المراجع:
- سلسلة مؤتمرات أستانة منذ بداية العام وحتى اليوم، http://www.asharqalarabi.org.uk/
- http://www.bbc.com/arabic/middleeast-45549979
- جمال الشوفي، جيوبوليتيكا الدوائر المتقاطعة: سورية في عالم متغول، دراسة فكرية سياسية، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، 3/2018.
- مركز كاتخيون للدراسات، “نظريات العولمة”، 24/3/2016.
- Alexander Dugin, “The Fourth Political Theory”, Translated by: Mark Sleboda & Michael Millerman, ARKTOS MEDIA LTD, London, 2012.
- أمينة مصطفى دلة، “المخيلة الجيوبولوتيكية الروسية والفضاء الأوراسي”، المعهد المصري للدراسات السياسية و الاستراتيجية، القاهرة، 27/9/2016.
- ألكسندر دوغين، ” القوة الأوراسية والبحار الدافئة والباردة”، مركز كاتخيون للدراسات، 12/8/2016
- مركز كاتخيون للدراسات، “الطريق إلى سوتشي يمر من البوكمال”، 3/11/2017.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي.