مدخل
عن سياسات النقائض المُمارَسَة في المجموعات والشبكات الرديفة للأجهزة الإعلاميّة الرسميّة في منظومة العمل الصحافي، والإعلامي الخبري المؤثَّر والفاعل في قضايا الشرق الأوسط، ننظر في الخط التحريري لِـلقسم المرئي في شبكة الجزيرة الإخباريّة (قناة الجزيرة).
شبكة الجزيرة (تعريف)
منظومة عمل إعلامي وصحافي مرئي، ومقروء، ومسموع، انبثقت من القناة الأمّ المؤسِسَّة للشبكة عام 1996م، منشئةً مفهومًا جديدًا للإعلام القريب من الشعوب وقضاياها[1].
هكذا عبّرت شبكة الجزيرة عنّ نفسها بحسب أدبيات العمل الصحافي، والإعلامي، وصناعة الخبر التي تبنتها علانيّة منذ نشأتها، وصولًا إلى اـلنشاط الخاص بصناعة الرأي العام، والتأثير الجمعي في وعي الشعوب شرق الأوسطيّة، وخصوصًا منها الناطقة باللغة العربيّة بوصفها (لغة أمّاً) للشبكة وقناتها المركزيّة.
كسرت الجزيرة منذ انطلاقتها المُعلنة حواجز الحوار والنقد الرسمي المُتعارف عليه في أجهزة الأنظمة الرسميّة العربيّة التي عملت على تأطير الوعي الجمعي العربي لِـمصلحة تأليه الأنظمة، وأحاطتها بهالة القدسيّة التي لا تُمس، إضافة إلى أنّها _الأنظمة_ منعت تقدّم وعي الشعوب الجمعي، مِن خلال حجب تلاقح أفكار الشعوب المحكومة مع الشعوب المحيطة، بعنوان (منع التأثير الخارجي في الوطن).
عبر سياسات القمع الفكري الرسمي وجدت الجزيرة ضالتها في اختراق حائط الأنظمة الذي بدا صلبًا لِـوهلة قبل انكساره التام، ووصوله إلى حالة أشبه بجدار برلين المُنهار، بعد دخول مفهوم طبق استقبال القنوات الفضائيّة (Satellite reception dish) في منتصف العقد الأخير من القرن العشرين، إلى البيوت العربيّة، التي تفاجأت لأوّل مرة بِـ لقاءات معارضين عرب كان من الخطر محض ذكر اسمهم، يظهرون بالصوت والصورة لِـيشتموا النظام الرسمي العربي، الذي بدت عليه علامات الشيخوخة، وعدم القدرة على الضبط، وهنا كان مدخل السياسات الناعمة في قناة الجزيرة التي لم تكتفِ بِـ معارضين ليبراليين، أو إسلاميين وعلمانيين معتدلين، بل ظهرت كَـ جهاز دولي قادر على لقاء أخطر شخصيات العالم، ومنهم أسامة بن لادن، زعيم تنظيم قاعدة الجهاد، وأعضاء فريقه مثل الناطق الرسمي سليمان أبو غيث.
في العقد الأخير من القرن الماضي _الذي سبق أن ذكرنا ما مثله مِن حالة عجز، وشيخوخة في الأنظمة الدكتاتوريّة الحاكمة_ اتبعت الجزيرة سياسات الصدمة والإدهاش، مِن خلال: آ- نوعيّة البرامج، ب- حجم إنتاج البصمة المرئيّة، ج- الأخبار التي قدّمتها، معتمدةً الجانب المظلم، وغير المرئي مِن سياسات الشرق الأوسط، كما برنامج يسري فودة (سرّي للغاية).
هنا بتنا أمام صورة شبه وثائقيّة تحدث بسياسات أمن الإعلام الذي لم تعرفه الشعوب العربيّة إلّا بوجه كلاسيكي ثقيل خلال الكتب والروايات والأفلام الرسميّة التي قدمتها الأنظمة العربيّة لتصوير بطولات أجهزتها الحساسة، بعكس ما قدمه فودة وغيره من صحافيي وإعلاميي الجزيرة، مِن كسر للصورة النمطية المعتادة في العرض الرسمي منتهي الصلاحية.
الجزيرة (الحضور الانفجاري)
بانطلاقتها الفعليّة في صناعة الخبر المتزامنة مع حرب أفغانستان عبر مكتب نشط وفاعل في الإمارة الإسلاميّة، ترأسه تيسير علوني بوصفه صحافياً وحيداً مخوّلاً بالحركة بحريّة داخل أراضي تسيطر عليها حركة طالبان، وتنظيم القاعدة، أسست الجزيرة نظريّة إعلاميّة في تدوير شخصيات موسومة دوليًّا بالإرهاب، ومبغوضة مِن الأنظمة، إذ استغلت القناة كره الشعوب العربيّة لِأنظمتها في الترويج لشخصيات إشكاليّة كسرت فيها حاجز الغموض الذي كان يلفها، وهذا ظهر بوضوح عقب هجمات سبتمبر/ أيلول في الولايات المتحدة.
أثبتت الجزيرة فاعليّة أخرى في تغطية أحداث احتلال العراق، وترافق هذا مع نشاط توسعي في القناة التي باتت نواة مركزيّة لشبكة قنوات، ومواقع إلكترونيّة، إلى الحد الذي باتت فيه الشبكة دولة موازية، داخل الدولة الراعية لها، والمحتضنة لوجودها.
الجزيرة (نظريّة التأطير، والمنهج الحادّ)
كـجهاز يُعنَى بِـ سياسات غير رسميّة، وصناعة الرأي العام، سعت الجزيرة إلى تثبيت موقعها الصلب في وعي شعوب المنطقة الجمعي، واستمر هذا في العقد الأوّل مِن عُمْرِ الشبكة التي استحالت رقماً صعباً في معادلة الشعوب والأنظمة، وصولًا إلى العام الفصل في حرف السياسات الناعمة التي خاضتها الجزيرة في أوقات سابقة، نحو تبنّي سياسات حادّة تعزز موقع القناة ضمن خط ما يعرف بِـ محور المقاومة الذي مثل حزب الله اللبناني التابع لِـ مرجعية الولي الإيراني الجزء الأخطر فيه، وكان هذا في حرب تموز التي شنّتها إسرائيل على البنى التحتيّة والفوقيّة لِـلدولة اللبنانيّة، مستخدمةً ذريعة مكافحة حزب الله، الذي خرج مِن الحرب بصورة وهالة تقديس ساهمت في صناعتها بشكلها الأكبر قناة الجزيرة، والأطر الإعلاميّة الرديفة لها.
ما يثير الانتباه، هو طريقة تعاطي القناة وعموم الشبكة الناشئة تحت مسمّى الجزيرة، في تغطية الأحداث المؤثِّرة في شكل نظام الشرق الأوسط، إذ تجاوزت الخط الرصين الإعلامي في شيطنة أطراف، على حساب تلميع أطراف أخرى، وهذا ما برز في أحداث بيروت عندما تمرّد حزب الله على البقايا الهشّة لِـلدولة اللبنانيّة، وسيطر على مفاصلها الأكثر حساسيّة في 2007م، ابتداء مِن المطار الدولي، وصولًا إلى مفارز ونقاط استناد عسكريّة، وأمنيّة في مواقع عدّة داخل العاصمة اللبنانيّة بيروت وخارجها، وصولًا إلى تثبيت هذا الوجود وشرعنته 2008 م[2] بما عرف بِـ المصالحة مع تيار المستقبل.
هذا أسس لسياسات تأطير الحوار وفرض رؤية معدّة مسبقًا على المشاهد تبدأ بِـ تحديد شكل ضيوف القناة، والسيطرة على ذهن المتلقي، وهنا نمرّ على برنامج الاتجاه المعاكس، الذي كسر إطار العلمية في الحوار، لِـمصلحة سياسة الشتم، والشتم المضاد، معتمدًا على ركيزتين:
1- انتقاء الضيوف بحساسيّة، يكون فيها الضيف الأقوى بجهة فكرة تريد القناة تعزيزها، مقابل طرف ضعيف مهزوز يمثل الفكرة المضادة. 2- توجيه الحوار بتدخل واضح وفجّ مِن المُقَدِّم.
الجزيرة والحراك الشعبي العربي (الثورة السوريّة نموذجاً)
كما باقي التغطية الإعلاميّة المُقدّمة في الحراك الشعبي ضد الأنظمة العربيّة، سعت الجزيرة إلى فرض أيديولوجيا الحضور لحساب توجهات وأفكار، ووجوه شكّلت المشهد البائس والثقيل في معارضة تصدّرت المشهد الإعلامي، ومِن خلفه المشهد السياسي المتحكّم في مصير الشعب وثورته، ما عزز نظرية الفراغ الذي قد يمثله سقوط النظام، أمام معارضة هشّة، ومقسمة، ومتأكلة، وراديكاليّة، وفوقها لا تجيد توجيه الخطاب الإعلامي، بينما حجبت أيّ أصوات قادرة على تقديم توعية شعبيّة بدل التجييش الممارس من دون هدف واضح، بل قدّمت هذه الوجوه للإعلام الغربي عبر شبكة علاقات الجزيرة الواسعة، وحجم المال المستثمر، وكذلك الجزيرة بنسختها الإنكليزيّة. (والأمثلة على هذا أكبر مِن حصرها، وخصوصًا إذا ما ربطنا الوجوه التي صدّرتها الجزيرة بميزات الاستئثار بِـ المشهد المُعارض، مِن المجلس الوطني، إلى الائتلاف، وهذا كله يضعنا أمام حلقة مفرغة_ كان يظهر فيها من الخلف_ التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، ومعه بعض الشبكات الموازية المتحكّمة بإدارة القناة التي سببت شرخاً في التوجهات الدوليّة، والإقليميّة من الحالة السوريّة).
تناقض في سياسات النشر والتغطيّة (انتفاضة إيران نهايات 2017)
أكثر ما يلفت الانتباه هو سعي الجزيرة إلى تغطية الانتفاضة الإيرانيّة أواخر 2017م على أنّها حراك محدود، وتحت سقف ولاية الفقيه، وهذا ما برز في التوصيف الذي اعتمدته الجزيرة بأنّ الحراك ضد رئيس الجمهوريّة[3]، وليس ضد المرشد، بعكس ما أثبتته صور التظاهرات مِن جوانب أخرى التي لم تستثنِ أيّ مسؤول روحي أو رسمي في نظام الولي الفقيه.
حاولت الجزيرة الظهور بِـ مظهر المهنيّة الماسكة بِـ عصا الاحتجاجات من المنتصف، وهذا ما تناقضه سياسة تبني خطاب النظام الذي تماهت معه القناة في:
أولًا_ تحميل واجهة نظام روحاني تبعات الاحتجاج وعدم المساس بِـمقام رأس النظام الحقيقي، وصاحب نظرية الحكم بِـ اسم القداسة الإلهيّة المدعو علي خامنئي مرشد الانقلاب الإيراني[4].
ثانيًّا_ إبراز شخصيات تنادي بِـ الإصلاح الداخلي، وتركّز في خطابها الموجّه إلى الداخل الإيراني على نظريّة (خلل اقتصادي) الذي يمكن معالجته، بدل فضح سياسات الدمّ التي يمارسها أتباع المغيّب، والمحكومين بسلطة الولي المعصوم[5].
ثالثًا_ تناقضت سياسات عرض الجزيرة للانتفاضة الإيرانيّة مع سياساتها المعهودة كلها في تأجيج الموقف والشحن الفوضوي داخل البلدان العربيّة، وبالذات سوريّة وليبيا.
رابعًا_ تغيب في التغطيات الشخصيات المعارضة للكيان الديني المتطرف الحاكم بِـ اسم ولاية الفقيه، ويستعاض عنها بِـ مَن يمثِّل نظام الملالي، ومعارضته التي تحت سقف العمامة[6].
أدّت هذه السياسات المتبعة مِن القناة إلى زيادة عزلتها شعبيًّا، وهذا بناءً على استطلاع لمصلحة هذا التقرير بغية الوقوف على مدى ثبات مجموعة القنوات المؤثِّرة في الرأي العام العربي أو غياب صدقيّتها، الراسمة أو الموجّهة للسياسات الشعبيّة، إذ أظهرت الجزيرة انخفاضاً واضحاً في مدى تأثيرها، وحضورها ضمن شرائح المثقفين أو متوسطي التعليم العرب، أمام أيّ إعلام آخر محلياً كان أو مواقع التواصل الاجتماعي التي رُصِدَ فيها هي الأخرى حملات تهكّم واسعة ضد الجزيرة وسياساتها الإعلاميّة.
الجزيرة (كيان موازٍ، ومصدر توتّر، وتأثير سلبي)
برصد تقني وفنّي في الخط الإعلامي الذي تمثله شبكة الجزيرة، وقسمها المرئي تحديدًا _القناة_ نرى سياسة واضحة في الكيل بِـ مكاييل تتبع لسياسات خاصة داخل هذه الشبكة، وأظهرت الخلافات الحادة بين قيادات الشبكة صراعات تشكّل مفترق طرق يؤيّد نظريّة أنّ الشبكة دولة موازية وكيان قائم بحد ذاته، يعتمد حجم القوّة الماليّة، وطبيعة الاستثمار في العلاقات التي تملكها الجزيرة التي باتت ثقلاً داخلياً في الشرق الأوسط، بما تملكه من:
- قدرات ماليّة، واستثمار مستقل يمنحها قدرة تشغيليّة عالية.
- شبكة علاقات كبيرة، مع مراكز صناعة قرار دولي، وإقليمي.
- الاستثمار في الخلافات، وتفعيل إبقاء الصدوع بما يتنافى مع سياسة الاستقرار الإقليمي.
وأخيرًا
يبقى النظر في سياسات الخطّ التحريري الذي تتبناه شبكة الجزيرة ضرورة مهنيّة، وتفسيريّة لمجمل شعوب المنطقة، على أنّ هذا _بِـالمقابل_ لا ينفي الأخطاء الكارثيّة المُمارسة مَن قبل شبكات إعلاميّة موازية تعمل هي الأخرى خارج سقف المهنيّة الإعلاميّة، وتنشط في تشويش الجمهور المتلقِّي بغية تحقيق مأرب سياسي، وهذا ما يهدد سلام الشرق الأوسط وأمانه، ويوجب البحث في مجمل السياسات التوجيهيّة لِـقنوات رأي عام مؤثرّة ومتهمة باتباع سياسات التأطير ومنها مجموعة العربيّة، وإم بي سي، وسكاي نيوز، وغيرها.
المراجع:
[1]– https://goo.gl/aD66zr // الجزيرة نت: “انظر” شبكة الجزيرة الإعلاميّة. 31_12_2015مـ.
[2]– https://goo.gl/Fu44P8 // YouTube: نصر الله (لن نقتل بعد اليوم في الطرقات). 8_5_2008مـ. شوهد 4_6_2018مـ.
[3]– https://goo.gl/4GvYKs // YouTube: الحصاد (مظاهرات في إيران _مع أم ضد روحاني). 30_12_2017مـ. شوهد 6_6_2018مـ. انظر د. 1,30_1,40.
[4]– https://goo.gl/45XS9E // YouTube: مظاهرات إيران (مع وضد روحاني). 30_12_2017مـ. شوهد 6_6_2018مـ. انظر د. 0_1.
[5]– https://goo.gl/45XS9E // YouTube: مظاهرات إيران (مع وضد روحاني). 30_12_2017مـ. شوهد 6_6_2018مـ. انظر ثا. 30_40.
[6]– https://goo.gl/45XS9E // YouTube: مظاهرات إيران (مع وضد روحاني). 30_12_2017مـ. شوهد 6_6_2018مـ. انظر د. 1,30.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي.