تستعرض هذه الدراسة ما حدث في ألمانيا مؤخرا، واستحوذ اهتماماً إعلامياً ألمانياً واسعا. فنقابة المعلمين عبرت عن شكواها حول التعامل مع التلاميذ الصائمين خلال شهر رمضان، الذي يسبق شهر الامتحانات النهائية، بسبب ضغط الأهالي ومطالبتهم بتخفيف المواد الدراسية والنشاط الميداني لأن أولادهم صائمون (المرجع 1) من خلال المحاور الآتية:
- آراء المسؤولين الألمان بالمشكلة.
- الصراع مع اليمين المتطرف حول اللاجئين.
- هل هناك مؤامرة على اللاجئين المسلمين أوروبياً.
- حقائق حول قبول ألمانيا للأعداد الكبيرة من اللاجئين.
- هل هناك عنصرية ضد اللاجئين.
- هل موضوع صيام الأطفال حكر على مشايخ الفضائيات.
- سرُّ سنِّ الثامنة عشر علمياً.
- مشكلة صيام التلاميذ اللاجئين في أوروبا علمياً.
- توصيات مهمة حول الموضوع.
- الخاتمة
المدخل
نقلت صحيفة فيلت (Welt) عن رئيس نقابة المعلمين هاينز بيتر مايدنغر Heinz-Peter Meidinger أن هذا الموضوع يشكل ضغطا على المدارس والمدرسين، خصوصاً أن بعض الأهالي يطالبون بواجبات ونشاط أقل للطلاب، إذ إن الصيام مدة تقارب خمسة عشر ساعة يضعف قدرة الطلاب الصائمين على التفاعل المتوقع منهم في المدرسة (المرجع 2). ووزيرة العائلة الألمانية فرانسيسكا كيفي Franziska Giffey (من الحزب الاشتراكي) أكدت أن الحكومة ونظام التعليم الألماني لا يمكنه التعامل مع هذه المطالب، لأنها شبه مستحيلة، فالمبدأ الأساسي للتعامل مع الأطفال هو (المدرسة والصحة أولاً)، وقالت الوزيرة لصحيفة شبيغل (يجب على الأطفال أن يأكلوا ويشربوا لكي يستطيعوا متابعة الدروس والنشاط). وأضافت الوزيرة (لا يجوز أن يحدّ الصيام من قدرة التلاميذ على ممارسة نشاطهم الطبيعي في المدرسة، فلا يمكن القبول بأي تمييز بين الأطفال لأن هذا يصوم وذاك لا يصوم) (المرجع 3).
الصراع مع اليمين المتطرف حول اللاجئين
هذه الإشكالية متصلة بالمشكلة الأساسية التي تواجه الأوروبيين والمسلمين (الصدمة الثقافية) التي تضخم حجمها مع هذا الارتفاع المفاجئ لعدد المسلمين بعد موجة اللجوء الأخيرة، وما زاد المشكلة تعقيدا هو أن الصراع السياسي الداخلي في أوروبا على أشده مع اليمين المتطرف الصاعد بسرعة، فاليمين المتطرف الأوروبي استغل ورقة اللاجئين في الانتخابات الأخيرة لمصلحته، من باب التخويف وترسيخ نوع من نظرية المؤامرة ضد أوروبا، بينما فشل السياسيون التقليديون الأوروبيون في مجاراة شعبوية هذا اليمين المتطرف ومواجهتها؛ ثم إن الإعلام، من الجهتين الأوروبية والعربية، لعب لعبته غير المتوازنة، ما بين السعي خلف المتابعين من خلال الإثارة، ودور التوعية والمساهمة في فتح الحوارات الشعبية.
حقائق حول قبول ألمانيا للأعداد الكبيرة من اللاجئين
قبل المضيّ في مناقشة هذه الإشكالية أطلب من القارئ العزيز التخلي عن الأفكار المسبقة التي جرى حشو خيالنا الجمعي بها حول مؤامرات الغرب على الإسلام، ومن ذلك خرافة أن ألمانيا قبلت اللاجئين لكي يعملوا في مصانعها أو يرفعوا معدل النمو السكاني فيها.
أولاً؛ لو أرادت ألمانيا أيدياً عاملة خبيرة لفتحت باب الهجرة النظامية، ولتوافد على سفاراتها حول العالم مئات آلاف الأطباء والمهندسين والتقنيين أصحاب الخبرات الجاهزين لمباشرة العمل فوراً من دون أن يطلبوا دعماً مادياً ومساعدات اجتماعية، ولتحكَّمت الحكومة بالعدد السنوي من المهاجرين كما اعتادت الدول التي لديها نظام هجرة ناجح مثل كندا والسويد وأستراليا والولايات المتحدة الأمريكية، فلا يوجد حكومة عاقلة مهما كانت حاجة بلدها، تقبل أن يدخلها خلال سنتين مليوني مهاجر.
للتوضيح وفق الأرقام الرسمية التي تبين عبثية هذا التفسير المنتشر عن حاجة ألمانيا إلى العمالة سبباً لاستقبال اللاجئين أذكر بعض الأرقام الأساسية. استقبلت ألمانيا ما بين 2010 و2017 أكثر من مليون وسبعمئة ألف لاجئ، أي أكثر من ثلث اللاجئين الذين وصلوا إلى أوروبا، من بينهم حوالى مليون وثلاثمئة ألف لاجئ من بلاد إسلامية، ومن بينهم أكثر من نصف مليون سوري. وصلت عام 2016 تكلفة اللاجئين على الحكومة الألمانية إلى 20 مليار يورو، أي بمعدل 12 ألف يورو سنوياً تكلفة وسطية لكل لاجئ، عدا التبرعات الشعبية الآتية من المنظمات اللاحكومية.
من ناحية ثانية تصل نسبة الأمية وسطياً بين اللاجئين الجدد إلى 10 في المئة، وإلى 17 في المئة بين النساء، أما حملة الشهادات أعلى من الثانوية فهي أقل من 17 في المئة (المرجع 4). وألمانيا تضم حوالى 5 ملايين مسلم، أي حوالى 6 في المئة من مجمل السكان، من بينهم حوالى مليونين يحملون الجنسية الألمانية، وهذه أعلى نسبة بين دول أوروبا، بحسب مركز بيو للأبحاث (المرجع 5).
فالواضح هنا أن دولة مثل ألمانيا التي لا تدار من حكومات ساذجة، لن تحل مشكلة الحاجة إلى يد عاملة خبيرة ومؤهلة باستقبال اللاجئين بهذا الشكل، فلديها إن أرادت حلولاً أخرى كما مرّ معنا.
ثانياً؛ حكاية عداء الغرب للمسلمين وتفسير كل شيء وفق هذه المعادلة العجيبة فهي مناقشة طويلة، لكن يكفي الإشارة إلى حقيقة بدهية هي لو أرادت هذه الدولة محاربة المسلمين لأنها تكرههم، فمن المؤكد أنها لن تستقبل خلال 3 سنوات أكثر من مليون ومئتي ألف لاجئ مسلم من أفقر بلدان العالم وأكثرها تأزماً وفوضى.
طبعاً من نافل القول التأكيد على خرافية الفكرة المنتشرة أيضا بين مروّجي الإسلامية السياسية، حول أن ألمانيا أو الغرب يريد تحويل المسلمين اللاجئين والمقيمين عن دينهم، فهذه الدول علمانية بصورة كاملة وعميقة، ولا تسمح للكنيسة بالتدخل ضمن الدولة والمجتمع بأي قرار، والمسيحية في ألمانيا وأوروبا الغربية عموماً هي ضمن ما يسمى التراث الثقافي للمجتمع، فعلى الرغم من أن حزب المستشارة الألمانية يحمل اسم (المسيحي) إلا أن سياساته لا ترجع إلى الكنيسة أو المسيحية، بل يتبناها بوصفها محتوى أخلاقياً وثقافياً في الجانب الإنساني.
هل هناك عنصرية ضد اللاجئين المسلمين؟
ربما كما هي العادة الشعبية، سيقفز كثيرون إلى استنتاج أن ذلك نوع من التصرف العنصري أو لأسباب عنصرية. طبعاً هو جواب سهل يريح من يصدقه، ويخفف عنه أي واجب آخر، فالمُلام هو الطرف الآخر.
كما ذكرنا سابقاً، لو كانت ألمانيا أو حكومتها أو أغلب شعبها عنصريين لما استقبلوا هذا العدد الهائل من اللاجئين، وتعاملوا معه بهذا النجاح النسبي، لكن المشكلة أن كثيرين لا يستطيعون تخيل ماذا يعني استقبال مليون ونصف إنسان خلال سنتين.
وزيرة العائلة الألمانية كيفي هي من الحزب الاشتراكي الديمقراطي، أي الحزب المؤيد والمدافع عن اللاجئين الذي كانت أهم شروطه للتحالف مع حزب المستشارة النمساوية حماية اللاجئين من طروحات اليمين المتطرف. والوزيرة نفسها، عندما كانت رئيسة بلدية مقاطعة نويكولن في برلين تحدت كثيراً من التحذيرات الرسمية والإعلامية في حملة دعم وتواصل مع مسجد المقاطعة عام 2016 لما كان للمسجد وإمامه من دور في مساعدة اللاجئين.
أما رئيس نقابة المعلمين مايدينغر، فهو أستاذ لغة ألمانية سابقاً، ورجل ذو سجل علمي واحترافي كبير، ولا يُعرف عنه توجهات سياسية تدخل ضمن لعبة الأحزاب، بل بعكس ذلك كان ممن تصدى لدعوات اليمين الألماني المتطرف لعزل الطلاب اللاجئين عن الألمان، وطالب بضرورة دمج الطلاب الجدد ضمن المدارس وبين الطلاب الألمان (المرجع 6).
الشخصيتان كلاهما بعيدتان تماماً عن أي شبهة عنصرية، فلا تاريخهما ولا عملهما ولا حاضرهما يستدعي هذا التصرف.
هل موضوع صيام الأطفال حكر على مشايخ الفضائيات
تحمل مناقشة هذا الموضوع حساسية كبيرة، بسبب ما عودونا عليه خلال عقود طويلة من الريبة والشك بكل نقد حتى لو كان بناء.
فمن المهم أن يكون واضحاً للقارئ أن نقد بعض عادات المسلمين أو أفكارهم قليلها أو حتى كثيرها لا يعني أبدا التهجم على المسلمين أو الإساءة إليهم أو الإسلام؛ بالعكس تماما إن منهجية النقد الذاتي هي الوسيلة الأصح لحلّ المشكلات في المستوى الفردي والمستوى الجماعي.
هذا ما يُتوقع أن يراه بوضوح اللاجئون والمقيمون في ألمانيا وأوروبا الغربية عموما، ممن يستطيعون قراءة الإعلام الغربي ومتابعته؛ فلنتخيل إنساناً لم يرَ ألمانيا في حياته، وجلس سنة يقرأ فقط في الصحف الألمانية ويسمع الإعلام حول أحوال البلد، سيجد ما لا يقل عن 90 في المئة من الكلام هو نقد وفي كثير من الأحيان نقد قاسٍ، لسياسة الحكومة، لقرارات بعض المؤسسات العامة، لسياسة الشركات الخاصة، لسلوكات اجتماعية، لأفكار منتشرة بين بعض الناس وغير ذلك؛ سيخرج هذا الإنسان وهو يتخيل أنه سيجد خراباً في ألمانيا، لكن الواقع يقول إن ألمانيا من أفضل ثلاث اقتصادات في العالم، ومن أفضل مستويات الحياة في العالم، فالنقد الهادئ الموضوعي هو أداة بناء، وسوء تفسيرها يفرز المشكلات وليس الحلول.
الناحية الثانية المهمة في هذه المناقشة، هي فكرة عامة سائدة رسخها مشايخ الفضائيات وبخاصة في العقود الأخيرة عبر الفضائيات والإنترنت، وهي أنه لا حق لأحد الكلام بأحكام الإسلام أو الإسلام سوى الشيوخ والعلماء والفقهاء، من باب القياس على أن للطبيب وحده حق الكلام في الطب، وللمهندس وحده حق الكلام في الهندسة، وللميكانيكي وحده حق الكلام في الآلة، ومن ثم فلرجل الدين وحده حق الكلام في بالدين. لكن هذه الفكرة تقوم على أساس باطل، وهي تحتاج إلى مناقشة أطول، لكن يمكننا الإيجاز هنا بما يأتي:
الطب والهندسة والميكانيك والبناء والقضاء وغير ذلك هي في النهاية (صنعة) تنتج منتوجاً مادياً يفيد المجتمع في عملية الاستمرار والبناء المادي والتنظيم الاجتماعي والحقوقي والقانوني، وكلها تحتاج إلى تعلم وعلم ذي مستويات مختلفة من التعقيد، فالطب والهندسة والفيزياء والقانون مثلا يحتاجون إلى سنين طويلة من التعلم والعمل الحثيث لامتلاك ناصية هذه العلوم، وقد تحتاج مهنة إصلاح السيارات إلى سنة أو سنتين من التعلم والممارسة، فهي في الحصيلة حرف وتخصصات يحتاج إليها المجتمع والدولة، ويتقاضى من يمارسها أجراً مقابل جهده في التعلم والممارسة.
أما الدين، فهو أساسا حق للناس كلهم، وبحسب تعريفه عموما هو رسالة الإله للتواصل مع الناس، الناس كلهم وليس فئة منهم.
والإسلام بالذات يقوم على حقيقة إسلامية ثابتة لا ينكرها أي مسلم أو رجل دين، وهي أن الله أرسل رسوله إلى الناس أجمعين بغض النظر عن لونهم أو جنسهم أو أصلهم، وكذلك بغض النظر عن ذكائهم وعلمهم وشهاداتهم.
وهذه حقيقة تستلزمها عقيدة الإيمان بالقدرة والعدل المطلقين لله في الإسلام، فالله يستطيع إيصال رسالته إلى الإنسان البسيط الأمي الذي لم يقرأ كتاباً وإلى العالم المتبحر في العلوم، فهذا من نتائج القدرة والعدل المطلق بين الناس.
كذلك فإن الدين على محمل التخصيص، أي أن نخص ديناً كالإسلام أو المسيحية أو اليهودية أو البوذية، ليس حاجة اجتماعية لبناء المجتمع والدولة. والدليل الواضح أن لا دين معين يستطيع الادعاء أنه كان سبب نشوء مئات الدول والحضارات التي شهدها تاريخ الإنسانية. فالصين بنت حضاراتها المتعاقبة من دون أيٍ من الأديان الإبراهيمية الثلاث، وحوض المتوسط شهد حضارات ودولاً كثيرة قبل انتشار المسيحية أو الإسلام، بل حتى ما يسمى الدولة الإسلامية لم تحتج إلى الإسلام سبباً وموجباً، بل كان الإسلام الحامل الديني لهذه الدولة، التي استمرت مثل غيرها في زمنها، دولاً ذات حكم شمولي وراثي وعرقي ومستبد في أغلب الأوقات، والدليل أنها كانت أموية ثم عباسية ثم سلجوقية وأيوبية وحمدانية وصفوية وعثمانية وغير ذلك، ومن ثم كان الإسلام بطوائفه التي تكاثرت مثل غيره من أديان حاملاً دينيا للمواطنين، وأداة في يد الحكام عبر طبقة رجال الدين الموالين منهم والمعارضين.
الأديان عموماً والإسلام خصوصاً رفض مبدأ التكسب بالدين، بمعنى أن يتحول الدين إلى صنعة مثل صنعة الطب والهندسة والقضاء والبناء وغير ذلك، لأن هذا يعني بوضوح هدماً للدين ورهنه بما يراه أصحاب الصنعة، فصاحب الصنعة يعمل على تطويرها وأحيانا كثيرة قلب أساسات صنعته مع الزمن، فلا يمكن مثلا أن نجد طبيباً يقبل العمل بما كان يفعله أطباء القرن التاسع عشر، ويستحيل أن يستدعي أساليب الأطباء قبل ألف سنة، لأن صنعة الطب تعرضت لتغيرات جوهرية في أساساتها النظرية والعملية؛ أما الدين فلا يمكن أن يتقبل هذه الحرية لصاحب صنعة الدين، لأن الدين يريد أن يحافظ على أساسات العقيدة والإيمان، حتى لو سمح للناس بتطوير فهمهم للدين، وتعديل بعض أحكامه الثانوية.
إذا في الحصيلة؛ فالقياس السابق المستخدم من محتكري الخطاب الديني الإسلامي، هو قياس فاسد وباطل حتى لو كرروه آلاف المرات. فالحديث في الإسلام حق للناس كلهم مسلمين وغير مسلمين. والحديث لا يعني بالضرورة كما نبهنا سابقاً فوضى الإساءة أو التهجم الأعمى.
سريعاً نلفت النظر إلى أن النص الذي يكرره كثيرون من شيوخ الفضائيات مقتطعاً من سياقه (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)، فيدلسون على الناس بأن القصد هو شيوخ الإسلام وفقهائه، على الرغم من أن سياق الآية الكريمة وتفاسير لأوائل كلهم تجمع على أن أهل الذكر هم أهل الكتب السابقة من مسيحيين ويهود:
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ۗ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (44سورة النحل).
إشكال صيام الأطفال إسلامياً
لا نريد الدخول في المتاهات الفقهية التي أورثها المشايخ عبر العصور، لكن نبقى ضمن الواضح إسلامياً وعقلاً. فأول أساس للفرض الإسلامي يقوم على مبدأ (من استطاع)، وهذه أحكام لا تحتاج إلى فتوى لأن الإسلام ليس دينا فوق طاقة البشر يطلب منهم أن يكونوا ذوي طاقات خرافية، فالمريض أو العاجز عن الحركة لا يصلي، حتى تصل الرخصة له أن يصلي بقلبه، وكذلك الصيام وغير ذلك من فروض أو مستحبات أو مندوبات.
وهذا مبدأ لا يختلف عليه المسلمون بمذاهبهم وطوائفهم كلها. بل إن عذر الاستطاعة وصل حدّ السماح لعمار بن ياسر أن ينال من الرسول ويذكر آلهة بني مخزوم بالخير تجنباً لتعذيبهم إياه خلال بداية الدعوة الإسلامية في مكة (المرجع 5).
ضمن المتداول والمتوارث إسلامياً يميل أغلب رجال الدين الإسلامي بمذاهبهم كلها إلى ادعاء أن واجب الصيام، مثل الصلاة، يقع على الصبي والبنت في عمر العاشرة أو أكثر قليلاً، لكن في الصيام يضيف أغلبهم (إن كان يطيق ذلك). بغض النظر عن أسانيدهم التي لا ترقى إلى وضوح الحكم في ما يتعلق بالعمر، وأحياناً تتناقض في متنها (محتواها) مع العقل والسماحة المحمدية الثابتة في تعامله مع المسلمين، من قبيل حديث الضرب على الصلاة. كذلك من الواضح أن الصيام ليس كالصلاة، الصيام يتطلب جهداً بدنياً ونفسياً وإرادة أكثر كثيراً من الصلاة، الصيام هو عمل يتحدى الحاجة الإنسانية إلى الشراب والطعام، وليس كالصلاة التي لا تعارض حاجة إنسانية بهذا الشكل، فقياس الصيام على الصلاة واضح البطلان عقلاً، بفرض صحة حديث الضرب على الصلاة.
سرُّ سنِّ الثامنة عشر.
من ناحية ثانية، مفهوم الطفولة والبلوغ بمعنى المسؤولية مفهوم متغيّر مع الزمن والمكان، فقبل قرنين من الزمن كانت شعوب الأرض معظمها تقبل زواج من هم بعمر الثالثة عشر للصبي والبنت، وكانت لا تشكك في ضرورة أن يبدأ الصبي العمل من سن العاشرة أو أكثر قليلاً ليساعد العائلة في العيش والاستمرار، أو يؤسس عائلته الخاصة؛ لكن هذه المفهومات تغيرت بسرعة منذ القرن العشرين، بسبب تغير الأوضاع وسنين التعليم والمستوى المادي والمتغيرات الحاكمة للمجتمعات البشرية، فاتفقت أغلب الشعوب حالياً على استهجان زواج من هم دون الثامنة عشر، وتجريم ذلك أحياناً؛ واتفقت أيضاً على منع عمل الأطفال دون سن الثامنة عشر، إن لم يكن ضمن منهج التدريب والتعليم المهني المدروس. هذه المفهومات المتغيرة أصبحت أساسية في المجتمعات الإسلامية أيضاً.
سن الثامنة عشر ليس محض رقم عشوائي، بل هو مرتبط بالحقيقة العلمية وهي: أن جسم الإنسان يتوقف عن النمو وسطياً في عمر الثامنة عشر، ومن الناحية التنظيمية للحياة العصرية، فالإنسان يكون حتى هذا العمر قد اكتسب ما يكفي من علوم مدرسية، وخبرات نفسية وفكرية، لمواجهة مسؤوليات الحياة المعقدة في العصر الحديث، ولتحديد خياراته في الحياة، أي دراسة يريد أن يتابعها، أو أي عمل يريد أن يمارسه، ومع من ومتى يريد تأسيس عائلته، وأي دين أو مذهب أو حزب سياسي يريد أن يتبع. لذلك اتفق مشرعو القانون في الدول كلها على أن من هم دون عمر الثامنة عشر ليسوا شخصيات مؤهلة قانونيا لتحمل المسؤولية والشهادة القانونية مثل البالغين.
بما أن الإسلام في جوهره يريد أن يكون دين حرية اختيار وليس إجبار ولا توريث، وبناء على ما سبق على الآباء والأمهات المسلمين أن يعيدوا التفكير في تعليم حرية الاختيار لأولادهم، وتوجيههم لاكتساب الشخصيات المستقلة.
والأهم مراعاة أن تغيّر الزمن والحاجات الدراسية العصرية وطبيعة المجتمعات تحتم النظر أيضاً في قدرة أولادهم على تحمل الصيام، ولا يصح لهم قياس أولادهم على ما عايشوه هم وقتما كانوا في مثل أعمارهم. فمع ما يُقال كله عن فوائد الصيام الصحية التي هي صحيحة في جزء منها، لا يمكن لطبيب أن يدعي أن طفلاً في عمر الثالثة عشر وجسمه في مرحلة النمو، ومطلوب منه التركيز والدراسة، والاستجابة لحاجته بوصفه طفلاً في اللعب والحركة سيستفيد من الصيام صحياً، أو أن جسمه يطيقه. وقد سمعنا عن عائلات مسلمة كثيرة تعاملت مع أولادها من مبدأ التيسير والوسطية، فتوصلوا إلى اتفاق أن يصوم أولادهم حتى الظهر، أو بعد الظهر بحسب الأحوال بناء على قدرة احتمالهم، وفي هذا انسجام أصح مع مقاصد الدين الإسلامي مما يقدمه كثير من الشيوخ والمفتين.
إشكال صيام طلاب المدارس في ألمانيا
لا نتوقع تغيير العادات في مجتمعاتنا الإسلامية، وتخفيف سيطرة طبقة رجال الدين على الناس سريعاً، وبخاصة في عصر الفضائيات ومنصات الإنترنت العشوائية الممتلئة للأسف بآراء متعصبة قاهرة ورافضة لكل جديد. لكن من حق دول مضيفة للمسلمين أن تعطي مبادئها المؤسسة لمجتمعاتها الأولية على أي عادات أو تقاليد أو حتى ما يُدعى أنه حكم ديني لقادم جديد أو قديم.
ألمانيا ودول أوروبا الغربية تقوم على أسس ثابتة لا تقبل المناقشة بهدف التراجع وهي قيم حقوق الإنسان، والمساواة والكرامة الإنسانية، والحرية والديمقراطية والعلمانية. ولعل أقوى هذه الأسس القيمية والقانونية في هذه الدول هي قوانين حماية حقوق الطفل وقيمها وتنظيماتها، بل إن منظمات حقوق الطفل في بعض البلدان مثل السويد والدانمارك تتجاوز سلطتها وصلاحياتها الحكومة والبرلمانات.
هذه حقيقة قائمة في أوروبا الغربية، لمسها ورآها المقيمون القدامى والجدد من لاجئين، فمع المشكلات والصعوبات التي واجهها اللاجئون كلها التي يحق لهم الشكوى منها، لا يستطيع أحد منهم إنكار حقيقة أن ما تقدمه الدولة والمجتمع من دعم ورعاية للطفل، هو على درجة عالية من الحرص والسخاء، ما يؤمن لكل طفل حياة جيدة.
فما قالته نقابة المعلمين الألمانية ووزارة العائلة الألمانية يقوم على حماية ما يمكن تسميته مقدساً في ألمانية (حق الطفل في الصحة والتعليم)، وهذا مبدأ لا يقبل التنازلات والمساومات. وخلال هذه السنين يأتي رمضان قريباً من فصل الصيف إذ يصل عدد ساعات الصيام أكثر من ثمانية عشر ساعة، ولا يمكن لعاقل أن يدعي أن طفلاً في عمر العاشرة أو حتى الخامسة عشر يستطيع ممارسة حياته المدرسية، وحقه في اللعب مع زملائه وهو صائم مدة ثمانية عشر ساعة.
من ناحية ثانية إن ألمانيا ودول أوروبا الغربية إضافة إلى اليابان وكوريا الجنوبية يملكون أفضل مناهج التدريس والجهاز المدرسي للأطفال من مرحلة الحضانة وصولاً إلى المرحلة الثانوية، هي مناهج وأساليب تعليمية مدروسة بدقة وبشكل مستمر من النواحي كلها؛ العقلية والنفسية والجسدية والعاطفية، لضمان أن ينال الأطفال حقهم كاملاً.
هذه المناهج والمؤسسات التعليمية ليست قابلة للتعديل بحسب طلب هذه المجموعة أو تلك لأسباب غير مقنعة ضمن السياق العلمي، وفي الوقت نفسه لا يمكن قبولها بالذات إذا كانت لأسباب عرقية أو دينية أو جنسية، لأن أساس التعليم الأوروبي الغربي يقوم على ترسيخ مبدأ المساواة بين الناس ونبذ أي تمييز بحسب العرق أو الدين أو الجنس.
إن الأخذ بمبدأ التيسير في الإسلام هنا، هذا المبدأ الأساسي إسلامياً وحتى فقهياً، ضرورة لمصلحة الأطفال من عائلات مسلمة أولاً وقبل كل شيء آخر، وفي الوقت نفسه هو حق للدولة المضيفة أن تتدخل به وفق قوانينها وقيمها الحاكمة.
وفي الواقع إن ذلك يدل على ثقة الأب والأم المسلمين بنفسيهما ودينهما، فهم ليسا مضطرين إلى الاعتماد على حب أطفالهما لهما، ورغبة الطفل الفطرية في تقليد والديه بتصرفاتهما كلها، لكي يثبتا لأولادهما أن الإسلام دين جميل ودين حق، بل إن التماشي مع جو حرية العقيدة وقوانينها المسيطرة في الغرب يعطي عملية انتقال الدين من الآباء إلى الأبناء قوة وعقلانية أكثر كثيراً من عملية التدريب والتعويد التي ألفناها في مجتمعاتنا.
توضيحات ضرورية
لا أدعي ضمن سياق ما سبق أن المجتمعات الغربية مجتمعات مثالية، كما قد يبادر بعضهم إلى الاستنتاج، فلا يوجد مجتمع أو دولة مثالية، كما لا يوجد إنسان مثالي، لكن يوجد مقارنات نسبية ما بين الدول والمجتمعات، كأن نقول إن حقوق الإنسان أكثر احتراماً في ألمانيا مقارنة بدولة مثل سورية أو مصر أو السعودية أو الصين أو روسيا أو إيران، ويعرف الألمانيون أيضاً أن حقوق الإنسان وبخاصة حقوق الطفل والمرأة لديهم أقل منها في السويد والدانمارك والنرويج، وأفضل منها في إيطاليا وبولندا. إذاً عملية المقارنة عملية نسبية.
لا علاقة لما يطلقه بعضهم من تعميمات جائرة باتهام المجتمع الألماني بأنه عنصري في مناقشتنا هنا، فمن يستسهل اتهام مجتمع كامل مكون من ثمانين مليون إنسان، لا يمكن أن يتجاوب مع مطالبة حق للمسؤولين والمدرسين الألمان بخضوع الأطفال كلهم لمعايير التعليم الألماني، وعندها سيتقدم اليمين الألماني المتطرف، الذي يعمم صفات الإرهاب والدونية على غير الألمان وبخاصة المسلمين، لندخل في حلقة حمقاء ما بين متطرفين، لا يمثلون الألمان ولا المسلمين.
وبالمثل لا تدعي الحكومة ونقابة المعلمين الألمانية أن نظامها التعليمي قد جنب طلابها كلهم المشكلات الاجتماعية والنفسية، وأنها ضمنت مثلا عدم وجود مخدرات بين طلاب مدارس الثانوي، أو جنوح بعض المراهقين إلى الأعمال غير القانونية. ذلك كله موجود ويعترف المجتمع الألماني به ويحاول باستمرار معالجته، لكن بالقياس النسبي هذه المشكلات في ألمانيا أقل كثيراً من الدول الأخرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً، فقوة النظام تكون بقابليته للتطور باستمرار.
توصيات مهمة
إن موجة اللجوء خلال السنين الثلاث الماضية إلى أوروبا الغربية وألمانيا والنمسا بالذات، قد سببت بعض المشكلات الكبيرة للطرفين، ومن ضمنها كانت الصدمة الثقافية. فأغلب من قدموا هرباً من الحرب والخراب لم يكونوا مستعدين نفسياً أو مادياً لهذا التغيير الكبير في نمط حياتهم وحياة عائلاتهم. المؤسف هو أن حكومات هذه الدول، على الرغم من كل ما قدمته بسخاء من دعم مادي ورعاية صحية وتعليمية، لم تستطع تأسيس سياسة اندماج ناجحة تعالج سوء التفاهم الحاصل بين اللاجئين وشعوب هذه الدول.
وما زاد خطر هذه المشكلات كان استغلال اليمين المتطرف الأوروبي، الأقرب إلى النازية، لهذه المشكلة، فأطلق حملات إعلامية اعتمدت على منصات التواصل الاجتماعي أكثر منها على الإعلام الكبير، لنشر نظرية مؤامرة تقول إن هؤلاء اللاجئين أتوا إلى أوروبا بهدف أسلمتها وتهديم ثقافتها. وهي مقولات واضحة البطلان إحصائياً وموضوعياً، لكنها تلاقي رواجاً، لأن ديدن الإعلام هو التركيز على ما هو شاذ وغير عادي، فمع كثرة الحوادث اليومية: أن يقتل رجل زوجته هنا، وأن يضرب أب أو أم أطفالهم هناك، وأن يقتحم شاب مريض نفسياً احتفالاً فنيا هناك، أو أن يخرج إسلامي متعصب صارخاً أنه يريد تطبيق الشريعة في لندن أو برلين، أو أن تعتدي مجموعة مراهقين من أصول إسلامية جنسياً على بنات ونساء، فذلك كله ساعد في رواج هذه النظريات.
في المقابل لم يساعد الإعلام العربي أو غيره هؤلاء اللاجئين على فتح قنوات الحوار، فما نعلمه من الإعلام العربي الرائج ومنصات التواصل العربية على الإنترنت، أن أغلب ما يذاع ويبث يعتمد على ترويج نظرية المؤامرة الغربية على المسلمين، وتحريضهم على البلاد التي استضافتهم بعد أن لفظتهم بلادهم، كذلك يركز على الحوادث والتصرفات العنصرية التي يلاقيها بعضهم من بعض الأوروبيين المتطرفين. إضافة إلى فوضوية وضع اللاجئين والمقيمين المسلمين في هذه الدول، وسهولة انتشار الشائعات والتحريض ضد الدولة المضيفة في ما بينهم، بسبب انعزالهم عن المجتمع المضيف.
الخاتمة
إن مشكلة الصيام أو مشكلة حجاب الصغيرات هي جزء من مشكلة أكبر، خضعت، لسوء الحظ، لتجاذبات الصراع السياسي الداخلي في أوروبا والصراعات الدولية حتى، ولطبيعة سوق الإعلام في العصر الحديث القائم على تشويه المعلومات ونقل الأكاذيب والحكايات الشعبوية والمضللة.
لكن في الحصيلة النهائية إن لم يجرِ التصدي لهذه المشكلات، فإن من سيدفع الثمن هم أطفال اللاجئين والمقيمين الأجانب والمسلمين في هذه الدول، كما هي حال الجيل الثاني والثالث في فرنسا وبريطانيا من أولاد المهاجرين القدامى.
على العائلات المسلمة في الغرب التحرر بما يكفي من أحمال الموروث الشعبي والعادات والتقاليد، حتى لو وضعها بعض الشيوخ تحت عنوان الإسلام أو أصوله، وتحكيم مصلحة الأطفال والمنهج العقلاني في عملية التفاعل والاندماج مع المجتمع الغربي؛ والاندماج لا يعني أن يتخلى الأجنبي عن هويته الثقافية أو الدينية، بل يعني ممارسة عملية مقارنة ومعادلة ما بين الهوية الأصلية والمجتمع الجديد، وإدراك أن الإنسان لا يمكن أن يحل ضيفاً أو عاملاً في مجتمع جديد ثم يطلب من هذا المجتمع أن يتكيف معه، ولا أن يطلب من هذا المجتمع أن يتركه معزولاً عن المحيط.
المراجع:
- مقال جريدة تاغزشبيغل الألمانية حول إشكالية الطلاب الصائمين في ألمانيا https://www.tagesspiegel.de/politik/beginn-des-ramadans-lehrerverband-beklagt-probleme-durch-fastende-schueler/22571632.html
- مقال جريدة فيلت الألمانية ومقابلة رئيس نقابة المعلمين الألمانية https://www.welt.de/politik/deutschland/article176397435/Ramadan-Oft-fasten-die-Kinder-weil-sie-den-Eltern-imponieren-wollen.html
- مقال جريدة شبيغل الألمانية ومقابلة وزيرة العائلة الألمانية http://www.spiegel.de/lebenundlernen/schule/ramadan-franziska-giffey-will-nicht-dass-schueler-fasten-a-1208029.html
- دراسة للكاتب بعنوان (اللاجئون السوريون واللاجئون في أوروبا(- موقع بيت السلام السوري https://goo.gl/65zeXQ
- دراسة حول المسلمين في أوروبا – مركز بيو للأبحاث Pew Research Center http://www.pewforum.org/2017/11/29/europes-growing-muslim-population/
- مقال في الدويتش فيله حول دمج الأطفال اللاجئين في المدارس الألمانية http://www.dw.com/en/how-to-integrate-refugee-kids-in-german-schools/a-18785567
- الطبقات الكبرى لابن سعد- عمار بن ياسر
هذه المادّة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي.