ملخص تنفيذي:
فور اندلاع الاحتجاجات في العالم العربي 2011 م، ووصول بعض الحركات الإسلامية في دول “الربيع العربي” إلى سدّة الحكم، أثيرت عدّة تساؤلات ذات صلة بطبيعة التأثيرات التي يمكن أن تحدثه تلك الأحداث على المنطقة عموماً وحركات الإسلام السّياسي خصوصاً، وشَكلِ النظم السّياسية التي ستحلّ محلّ النظم الدكتاتورية التي تهاوت، وعن إمكانية التحوّل الديموقراطي في شرقنا البائس، وطبيعة الديموقراطية وحدودها وتطبيقاتها المتوقّعة، وستبقى تلك التساؤلات ونظائرها مثار بحثٍ ونقاشٍ وجدلٍ ساخنٍ ومستمرّ. نناقش ذلك من خلال المحاور التالية”
- أسئلة مهمة حول الإسلام السياسي!
- أســبـاب صـعــود وتـقـهـقـر “الإخـــوان المسـلمين”
- قدرة الإسلام السياسي على استغلال حدث شعارتياً!
- ضعف المهارة السياسية عند الإسلامويين!
- البراغماتية الإسلاموية؛ من القطيعة إلى الغزل!
- الخلاصة
أسئلة مهمة حول الإسلام السياسي!
كان من بين أهمّ وأبرز تلك الأسئلة المثارة، على سبيل المثال وليس الحصر:
هل ستشهد المنطقة العربية أو دول الربيع العربي على الأقلّ تحوّلاً حقيقيًّا نحو الديمقراطية، بعد موجة الثورات والانتفاضات التي اجتاحت المنطقة؟ هل الإسلاميون الذين رفعوا شعارات تتضمّن المطالبة بتطبيق قيم الديموقراطية جادّون أو قادرون بالفعل على إقامة نظم ديموقراطية شبيهة ولو في الحدّ الأدنى بالأنموذج الإسلامي التركي؟ هل الإسلاميون إذا وصلوا إلى سدّة الحكم، ووعدوا ناخبيهم بإقامة نظم ديموقراطية يؤمنون حقًّا بالديموقراطية ومبادئها؟ أم أنها ستبقى حبيسة الشّعارات فقط؟ ما هي طبيعة الديموقراطية التي يتطلّع إليها الإسلاميون؟ وما هي حدودها وإمكان تطبيقها على أرض الواقع؟ ما هي طبيعة العلاقة أساساً بين الدين والديمقراطية؟ وأين حدود التوافق والاختلاف؟ وهل البيئات العربية مهيّأة بالفعل للتحوّل الديموقراطي؟ أم ما زالت الأرضية غير ملائمة لذلك الاستحقاق؟ ما هي المسارات والآليات التي من خلالها يمكن إحداث تحوّلٍ حقيقيٍّ نحو الديمقراطية في البيئات العربية وخصوصاً في دول الربيع العربي؟ ما هي العوامل الفاعلة التي يجب توفّرها في المنطقة العربية لإحداث التحوّل الديمقراطي؟ أم أن حدث الثورات وحده كافٍ لإحداث ذلك التحوّل المنشود؟ ما هي طبيعة العقبات التي يمكن أن تعترض مسيرة التحوّل الديموقراطي في دول الربيع العربي؟ وإلى أيِّ حدٍّ يمكن أن يلعب العامل الديني وحركات الإسلام السّياسي من أثر في إحداث التحوّل أو إعاقته ومن ثم تجاوز تلك العقبات؟.. إلخ.. من التساؤلات التي يغلب على إجاباتها النفي والطبيعة السلبية لجهة النتائج. [1]
ولعل السبب الرئيس الذي تتلخص فيه الصفة السلبية هو أن من اعتلى سُدة الواجهات السياسية لمن قدم نفسه بوصفه معارضة “بديلة” للأنظمة القائمة يمثل تيار “الإخوان المسلمين” في الغالب الأعم، وهو تيار يعتبر المعادل السياسي للاستبداد المتمثل في الأنظمة الحاكمة، ناهيك عن الدور التركي –الإخواني بدوره- الداعم لمعادل الاستبداد ذاك.
أســبـاب صـعــود وتـقـهـقـر “الإخـــوان المسـلمين”
إنّ الشعارات الديمقراطية التي ردّدها الإسلامويّون في مصر وتونس، أثناء الحملات الانتخابية، ولّدت شعوراً لدى غالبية الجماهير مفاده بأنّ ثَمَّةَ إسلاماً سياسيًّا جديداً قد ولد في شرقنا البائس؛ وأنّ هذا الإسلام يختلف عن الإسلام الذي عايشوه طيلة عقود مضت.
هذا الشعور الإيجابي نحو الإسلاميين ترجم في صورة تعاطف ومنحهم الثقة والتصويت لهم في الانتخابات. فحينما جرت الانتخابات في تونس وفاز حزب النهضة وشكل الحكومة؛ ضرب راشد الغنوشي مثالاً فريداً في عدم ميله شخصيًّا نحو السّلطة، بل أسند المهمّة لنائبه، والأهمّ من هذا أنه أعلن عن نهج ديمقراطي حضاري في التعاون مع الأحزاب الأخرى، ودعاهم لمشاركة النهضة سلطة الحكم؛ كما كانوا شركاء في الزّنازين، على حدّ تعبيره، وأجاب عن الأسئلة التي طرحها الناس والمراقبون، سواءً المتعلّقة بالحرّيات أو ملف المرأة والعلاقات الدولية. وصارت تونس (النهضة) معبّرة عن أسلوبٍ فريدٍ مطمئن للداخل والخارج، وأثنى الغرب، ومنه فرنسا، على توجّه الإسلامويين.
واقع الحال هذا في تونس كان بفعل الواقع التونسي اليساري الهوى والمنفتح على القيم الغربية لعقود من الزمن تحت تأثير البورقيبية التي تركت بصمة مستمرة في تطور المجتمع التونسي رغم سنوات الاستبداد. وهي إشارة التقطتها النهضة مع الوقت لتعمل على تشكيل “ترويكا” مع أحزاب علمانية؛ تشترك معها في إدارة البلاد؛ فتتجنب بذلك السيناريو المصري. [2]
ولم يختلف الحال كثيراً عمّا فعله “إخوان” مصر، الذين حصدوا 65% من الأصوات، مما يعني السّيطرة على مقاليد الأمور على السّاحة المصرية، مع فارق أن هؤلاء ذهبوا بعيداً في استثمار الطارئ التاريخي باعتلائهم السلطة التي ستقذفهم خارج دائرتها؛ التي أصروا أنها لا تتسع لغيرهم.
فنفوذ الإسلام السّياسي ووصوله إلى سدّة الحكم بعد ثورات “الربيع العربي” جاء نتيجة سلوك جديد؛ ارتبط بظاهرة التأقلم الاضطراري من قبل “الإخوان” مع الأحداث الكبرى الحاصلة على الأرض. وبالرغم من فشل الكثير من التجارب الإسلاموية في الحكم في أكثر من بلد إسلامي، ولا سيّما تلك التي تولّدت من رحم “الإخوان”، مع أنّها بعثت برسائل غير مطمئنة للجماهير، إلا أنّ الشعارات الجديدة التي رفعها الإسلاميّون أثناء التظاهرات والحملات الانتخابية في دول “الربيع العربي” أعادت ثقة الناس مجدّدا للإسلاميّين، ومنحتهم أصواتهم وأوصلتهم للحكم مرّة أخرى.
على الأرجح، فإنّ ثقة الجماهير بالإسلامويين يعطي إشارة واضحة على أنّ تلك الشعوب، حتى تلك اللحظة على الأقلّ، كانت لا تزال مستعدّة لمنح الحركات الإسلاموية الفرصة مرّة أخرى لإثبات مصداقيّتها عبر بوابة تحقيق طموحات الجماهير وآمالها، والنهوض بمجتمعاتها واستعادة كرامتها وتعزيز قيم العدل والمساواة والحرية، وتنمية المجتمع ورفاهيته، من خلال الشّراكة الحقيقية في إقامة نظام ديمقراطي حديث، يكون الرافعة لبناء دولة مدنية قائمة على مـبـدأ المـواطنة وسيادة القانون، ولا تفسح المجـال لإعـادة إنتـاج الاسـتبداد مرّة أخرى بأيّ شـكلٍ من الأشـكـال. في المقابل، كان رد “الإخوان” المزيد من التسلط عبر محاولاتهم الحثيثة في أسلمة الدولة والمجتمع، وهو الأمر الذي قادهم إلى حتفهم السياسي؛ كما حصل في مصر. [3]
قدرة الإسلام السياسي على استغلال حدث شعاراتياً!
ليس سراً القول إن من بين مسببات صعود تنظيم “الإخوان المسلمين” هو انسجام الخطاب مع البيئة الاجتماعية، والاتّكاء على أرضية الدين والعمل التطوّعي (الإنساني) في سبيل استثمار البيئات الأكثر فقراً، وكذلك فساد النظم السياسية ومناهضتها للإسلامويين، وتجذّر الحركات الإسلامية في مجتمعاتها، مضافًا إلى تمتّعها بالخبرة كمعارضة سّياسية والإمكانات المالية والبشرية، هذه كلّها عناصر قوّة امتازت بها حركات الإسلام السّياسي في معظم شرقنا البائس منذ نشأتها. كما هي عوامل أساسيّة ساعدت بشكل حقيقي في ترسيخ شعبيتها في مجتمعاتها، سيّما فيما بات يعرف بدول “الربيع العربي”.
لكنّ تلك العوامل وحدها لم تكن كافية لدفع شرائح وقوى المجتمع المختلّفة في مصر وتونس لمنح أصواتها للإسلامويين في مختلف جولات العملية الانتخابية؛ ليحصدوا العدد الأكبر من المقاعد؛ حتى يتبوؤوا أعلى المناصب السّياسية في الدولة.
فلولا تمتّع تلك الحركات بقدرات تنظيمية هائلة، التي ظهر جانب منها خلال إدارة العملية الانتخابية والتحشيد الشعبي، خصوصاً في ظلّ ضعف ملحوظ لدى القوى السّياسية والاجتماعية الأخرى سيّما الناشئة حديثاً. لولا ذلك لما استطاعت أن تصل إلى ما وصلت إليه.
قد يكون من غير الملائم إجراء أيّ نوعٍ من أنواع المقارنة بين ما تتمتّع به حركات الإسلام السّياسي من قدرات تنظيمية وبقية القوى السّياسية والاجتماعية الأخرى، خصوصاً القوى الجديدة، التي كان لها الفضل الأكبر في حشد الجماهير في الميادين منذ بداية اندلاع الثورات، سواءً في مصر أو تونس، وذلك نظراً لوجود بون شاسع بين تلك القوى، وحركات الإسلام السّياسي، التي خاضت غمار العمل المعارضاتي منذ زمن طويل، مما أكسبها خبرة طويلة من جهة، وتنظيم هياكلها التنظيمية والإدارية؛ ورصّ صفوفها بشكل محكم، من جهة أخرى.
لذلك لم يفاجئ كثير من المراقبين بنتائج الانتخابات التي جرت في دول “الربيع العربي” بفوز الإسلامويين، علماً بأنّ القوي الجديدة غير الإسلامية، خصوصاً شريحة الشباب، هي التي كانت المحرّك الرئيس في الثورة التونسية والمصرية (وهي قوى متجاوزة للأطر الأيديولوجية والسّياسية)، وكان يفترض أن تصل إلى سدّة الحكم؛ لكنها لم تحظَ بأيّ نوعٍ من أنواع السّلطة، بل أضحت خارج اللعبة السّياسية.
السبب في ذلك ببساطة يعود إلى أنّها قوى غير منظّمة، على عكس القوي الحزبية والدينية التي كان إسهامها في الثورات إمّا قليلاً أو منعدماً، لكن لكونها قوى تتمتّع بقدرات تنظيمية هائلة، استطاعت أن تقطف الثمرة.
ذلك أن الحضور الضعيف للإسلاميين في الثورات العربية يعود إلى ذكاء قياداتها وإدراكهم لحساسية اللحظة الثورية وحساباتها، خاصّة في ظلّ إرث التربص السّلطوي والرفض الغربي لهذه الحركات، مما قد يزيد من احتمالات وأد الثورات العربية وإجهاضها في مهدها، كما حدث في الجزائر أوائل التسعينيات.
ضعف المهارة السياسية عند الإسلامويين!
بَيْدَ أنّ ذلك أيضاً لا ينفي ضعف المهارة السّياسية لهذه الحركات؛ وعدم استشعارها المبكر للزخم الثوري. ولعلّ أهمّ دلائل هذه الفرضية هو انعدام أو فقر الخيال الثوري لدى التيارات الإسلاموية، وذلك نتيجة لخبرتها السّلبية مع الأنظمة الحاكمة كما هي الحال في مصر (الصّدام التاريخي بين ناصر و “الإخوان”، فضلاً عن المواجهة المستمرّة بين مبارك والجماعة طيلة العقدين الأخيرين)، وسورية (أحداث حماة عام 1982)، وتونس (أحداث باب سويقة عام 1990). والجزائر في (العشرية السوداء).
وقد اختزنت ذاكرة الإسلامويين هذه الأحداث طيلة العقود الأخيرة، فكانت النتيجة إسقاط الخيار الثوري من حساباتها. ولعلّه من اللافت أن لغة الخطاب الإسلامي الحركي طيلة العقود الثلاثة الماضية؛ قد خلت من مفردات العمل الثوري كالتغيير، وإسقاط الأنظمة، وتعطيل الدساتير.. إلخ.
زد على ذلك أن جاءت الثورات العربية نتيجة لفعل جماعي يتجاوز الأطُر التنظيمية والأيديولوجية والسّياسية الكلاسيكية، ومعبّرة عن قوى وتيارات جديدة، لم تعرف العمل الحزبي بشكله التقليدي. فالسّواد الأعظم للثورتين التونسية والمصرية لم يخرج من عباءة الأحزاب القائمة، وإنّما من حركات اجتماعية وثقافية تتسم بالمرونة الشديدة في حركيتها وأفكارها وعضويتها.
وهو ما يختلف جذريًّا عن طبيعة وبنية الخطاب الإسلامي الحركي الذي يتّسم بالمركزية الشديدة والالتزام الأيديولوجي والتنظيمي. وهنا، كان أمام الحركات الإسلاموية أحد خيارين، إمّا المشاركة في الثورات العربية، ولكن وفق شروط وقواعد اللعبة التي يحدّدها محرّكوها والدّاعون إليها، وإمّا عدم المشاركة، وما قد يؤدّي إليه ذلك من خسارة سياسية ومجتمعية؛ ليس فقط بين قواعدها وأعضائها، وإنما أيضاً بين جموع الشعب.
كما أن مشاركة الحركات الإسلاموية في الثورة لم تكن أمراً اختياريًّا أو بقرار تنظيمي، إنما كانت أمراً واقعاً فرض عليها بفعل تطوّرات الفعل الثوري الذي كان سريعاً وحاول الجميع اللحاق به. فعلى سبيل المثال، رفضت جماعة “الإخوان المسلمين” في مصر المشاركة إيجابيًّا في تظاهرة 25 يناير 2011 في بداياتها.
وهو أمر ليس غريباً على الجماعة، التي لم يكن لها حضور ثقيل في غالبية المناسبات التعبوية التي قامت في مصر خلال الأعوام الثلاثة الماضية (لم تشارك الجماعة في إضراب 6 أبريل 2008 وغيرها من إضرابات العمال والمهنيين والضرائب العقارية … إلخ)، وذلك إمّا بسبب تخوّفها من قمع النظام لها، أو عدم تأثيرها في هذه الدوائر السّاخطة. في حين جاءت مشاركة الإخوان في الثورة المصرية، بعدما تأكّد لها أنّ ما يحدث يتجاوز كونه تظاهرة فئوية، كي يصل إلى العمل الثوري التاريخي. [4]
البراغماتية الإسلاموية؛ من القطيعة إلى الغزل!
كل متتبع لتاريخ تنظيم “الإخوان المسلمين” في علاقتهم بالسّلطة؛ سيجد أنها كانت علاقة مدّ وجزر بسبب شيءٍ من البراغماتية السّياسية التي يتعامل معها “الإخوان” كثيراً في سبيل الوصول إلى السلطة تحت عباءة الدين.
هذا السّلوك البراغماتي بين التصالح مع السّلطات والتنافر معها، الذي لم يكن جديداً، جعل “الإخوان” يستفيدون من أيّة فرصة يمكن أن تتحقّق لهم في بناء تنظيمهم وامتداده أفقيًّا في طول دول المنطقة، خاصّة في منطقة الخليج العربي.
فمذ نشوء “الإخوان” كتنظيمٍ سياسيّ ودينيّ في مصر كانت ذهنية العلاقة مع دول الخليج حاضرة بقوّة، لذلك كثيراً ما سعى التنظيم إلى عقد صداقات جيّدة مع الخليجيين بوصفهم دولاً تميل إلى الرؤية المحافظة في سياساتها، لا سيّما في السعودية، وذلك بغرض اختراق المجتمع هنا أوهناك. فالبراغماتية حاضرة دائماً في سياستهم؛ ولكن لم يجيدوا استثمارها بشكل استراتيجي.
فالحركة الإسلامية التي كانت تعلن “تمسكّها” بشدّة بمبادئ الإسلام القائمة على إقامة حكم الدين في الدولة، و”خدمة” الناس و”منع” الفتن، و “تحرير” الأرض، و”نشر” العدالة، قفزت سريعاً وبخطى ثابتة نحو مربّع آخر قد لا تجده مترابطاً فكريًّا أو عقائديًّا مع ما وصلت إليه الحال بعدَما يُسمّى بـ”الربيع العربي”.
فاتّجهت بعض تلك القوى الإسلاموية إلى مغازلة الغرب الأمريكي، ببراغماتية فاقعة! وتقديم ولاءات الطّاعة بسيلٍ من التنازلات العقائدية في سبيل انتقالها إلى مرحلة الإسلام السّياسي أو الديمقراطي الذي يقبل بالتعايش حتى مع المحتلّ من أرضه، واحترام كافّة المعاهدات والتحالفات التي كانت إلى ما قبل عام تلقى سخط وتكفير تلك الجماعات، ما دامت هي في السلطة!
كما أدارت حوارات مع الإدارة الأمريكية مستغلّة ما تعيشه البلاد من أزمات وحراك سياسيّ في الشارع العربي، فأعلنت بعض القوى الإسلاموية إيمانها بالديمقراطية والتعدّدية والدولة المدنية وحرية المعتنق والفكر وحقوق الأقلّيات، وإيمانها بالسلام والتسامح، وطيّ صفحات الصّراع بمجملها، وهذا ما حدث مع الجماعة الإسلامية في كلٍّ من مصر وتونس والأردن وليبيا وسورية. كل ذلك تغير في لحظة بعد أن كانت قد صدعت آذان الناس بالتهجم على الغرب وإسرائيل تحت مسمى “معارضة”.
إن السّلوك السّياسي للإسلامويين المتّسم بالبراغماتية، لم ينحصر في العلاقات مع النظم المحلية القائمة أو القوى السّياسية المنافسة، وإنّما كان هناك نصيبٌ منه تجلّى في العلاقة مع الغرب.
فمعاداة الإسلامويين الواضحة للغرب، إلى جانب رفع الصوت عالياً للدعوة بمقاطعة إسرائيل، وقطع أيّ شكلٍ من أشكال العلاقة معها، كان سلوكاً قديماً وشائعاً. جعلته براغماتية السلطة شيئاً من الماضي؛ على المبدأ الميكافيللي: الغاية تبرر الوسيلة.
ولقد كان هذا السّلوك مبرّراً ومفهوماً من قبل الإسلامويين ما داموا في خندق المعارضة. لكن حينما وصلوا السّلطة، بعد تحولات “الربيع العربي”، تحوّلوا إلى الوجه الآخر المختلف تماماً؛ وأصبحوا يتودّدون للولايات المتحدة.
وكانوا بالأمس ضدّ اتفاقية السّلام مع إسرائيل؛ ويهاجمون نظام مبارك ويطالبون بإلغائها، واليوم يعلنون احترامهم لها. ولقد كانوا في السّابق ضدّ الاستدانة وضدّ شروط صندوق النقد الدولي، واليوم هم الأكثر اعتماداً وحرصاً على الاستدانة من أيّ جهة وبأيّ شروط.
وليس بعيداً عن نهج “الإخوان” الوصولي، وفي تونس والمغرب هذه المرة، إذ صرّح الغنوشي من قبل بأنّ حزبه لن يمنع “البكيني” ولن يغلق البارات، وأكّد بن كيران رئيس الحكومة المغربية وأمين عام “حزب العدالة والتنمية”، أنّ مجتمعاتنا ليست بحاجة إلى “الأسلمة”، لأنّها مسلمة أصلاً، وأنّهم لن يضيفوا إلى إسلامها شيئاً، وأنّ حزبه لم يأتِ ليقول للرجال: التحوا، وللنّساء: تحجّبن، مؤكّداً رفضه التدخّل في خصوصيات الناس وفرض الفهم الديني لحزبه عليهم.
ويعجب المرء أن يكون بين أنصار هذا الرأي المدافع عن الإسلامويين (الإخوان) بعض الكتّاب والمحلّلين الأميركيين والغربيين الذين راهنوا على “الإخوان” في السّلطة، وتوقّعوا بأنهم سيصبحون عقلانيين معتدلين واقعيين وقادرين على كبح جماح التطرّف الإسلامي، وأنّهم سيلتزمون بقواعد اللعبة الديمقراطية بإقامة الدولة المدنية. لكن هذا الخطاب المزدوج لجهة النظرية والتطبيق سيكون مآله الفشل الذريع وعدم بلوغ المأرب الوحيد والأوحد، والمتمثل في السلطة تحت عباءة الدين. [5]
الخلاصة
نخلص مما قدمناه آنفاً؛ إن هوس الوصول إلى السلطة حوّل حركات الإسلام من حركات إيديولوجية؛ تدعي أنها تمثل مشروع “الله” وتريد تطبيق شرعه؛ إلى حركات لا همَّ لها إلا الوصول إلى السلطة، وأنها في لحظة الوصول تتخلى عن شعاراتها الديماغوجية؛ ودغدغة مشاعر الشاعر المتدين؛ فالغاية تبرر الوسيلة عندها.
وأن العمل داخلياً على أسلمة الدول والمجتمع؛ أحد أكبر أخطائها؛ لأنه بشكل أو آخر؛ سياسة الأسلمة ضد الإيمان بالتعددية التي تطرحها حركات الإسلام السياسي وهي في مرحلة المعارضة، كما أن شعاراتها الكبرى في خصومتها للغرب، تتضح بأنها كذبة كبيرة لتروج ذاتها شعبوياً داخل الحاضن الاجتماعي الحاقد على الغرب لانحيازه في قضايا المستضعفين.
ولقد كان الربيع العربي مختبراً حقيقياً فشل فيه الإسلام السياسي بكل مدراسه؛ وكان خاسراً بامتياز؛ وربما تمضي عقود حتى يستعيد بعض ما كان عليه قبل الربيع العربي.
مراجع
[1] أسئلة محرجة برسم الإسلامويين؟
[2] “العودة إلى الظلال”: لماذا فشل الإخوان في مصر وتونس؟
[3] هل تؤشر النكسات السياسية الى أفول زمن الإسلام السياسي؟
[4] الربيع العربي: نهاية الإسلام السياسي كما نعرفه:
[5] الإسلاموية الجديدة فيما بعد الربيع العربي:
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مركز أبحاث ودراسات مينا.