بدأ علم النفس الإيجابي Positive Psychology على يد “مارتن سليجمان”، رئيس جمعية علماء النفس الأمريكيين عام 1998. يهتم هذا العلم بالدراسة العلمية لما يحقق السعادة للناس. وتعزيز القدرات الشخصية، كالصمود، والصلابة النفسية، والتفكير الإيجابي، ومواجهة الضغوط النفسية، والتخلص من الاحتراق النفسي، وتحسين الرضا عن الحياة وجودتها، ودراسة الظروف والعمليات، المساهمة في الوصول إلى أعلى أداء وظيفي للناس والجماعات والمؤسسات. ويسعى إلى تنمية الفضائل، والشعور بالمسؤولية، والإيثار والتسامح، والعمل الخلاق لدى الأفراد؛ وتفعيل دور المؤسسات المدنية، لتحسين الواقع [1].
سنحاول في هذا السرد النظري تسليط الضوء على أربعة جوانب نقدية أساسية وجهت لعلم النفس الإيجابي؛ وبعض الاقتباسات الواردة هنا مأخوذة من مقالة علمية للعالمة في مجال علم النفس الإيجابي “باربرا س. هيلد” بعنوان “الجانب السلبي في علم النفس الإيجابي”:
أولا: نتائج أبحاث علم النفس الإيجابي غالبًا ما تكون غير صالحة ومبيّنة على نحو مبالغ فيه، وتقوم على بيانات غير موثوقة.
تشير المشكلة النقدية التي نتحدث عنها إلى الفترة الأولى التي تأسس هذا العلم خلالها، إذ غزت أخباره الصحافة التي أظهرته على شكل قفزات علمية هائلة يتم ترويجها، وكأن الأمر برمته ارتبط بالتفكير الإيجابي الذي يعدُّ عنصراً مهماً في علم النفس الإيجابي نفسه، ويبعث على الحماس وهو ما انتقل إلى الصحافة، وابتعد بذلك عن الخط العلمي المتعارف عليه الذي يستند إلى الأبحاث والتروي والمصداقية.
وقد ساهمت الصحافة المهنية والعامة الأمريكيتان بالترويج لعلم النفس الإيجابي، إذ ظهر اسمه على العديد من أغلفة الصحف والمجلات العلمية، ويمكن أن يكون ذلك كما قال “تايلور”: “سيليغمان يدعو إلى العلم ولكنه يعتمد على الدعم العام من خلال منصبه المرموق في الجمعية الأمريكية لعلم النفس” [2].
وبلغ الأمر أن نشرت مقالات لا تعدُّ علمية، وليس فيها استنادٌ إلى نتائج حقيقية بل تكهنات، رغم أن الأبحاث التي استندت إليها قد تخالف العنوان الذي يوحي بشيء آخر، فقد نشر سليغمان في صحيفة “نيويورك تايمز(صفحة العلوم) ١٩ تشرين الثاني/نوفمبر ٢٠٠٢”، مقالاً بعنوان: “قوة التفكير الإيجابي تتسع لتشمل، كما يبدو، الشيخوخة”. وكلمة “كما يبدو” هي تلميح إلى قدرة علم النفس الإيجابي في التأثير على الشيخوخة؛ رغم أن القارئ لن يظن من هذا العنوان الرئيس أن قرابة نصف المقال مخصص لأبحاث نتائجها معاكسة تشير إلى أن الأبحاث حول البهجة والاكتئاب والمشاكسة عند المسنين مثلاً قد خالفت وجهة نظر سليغمان [3].
وعبّر “سنيدر ولوبيز” وآخرون عن انزعاجهم من الضجيج الإعلامي والحماس المرتبط بهذا النهج الجديد، وصارت المبالغة في التعميم من أجل خلق شعور بالتقدم الذي يحرز أمراً مغرياً، مع وجود شخص من المحيط الإعلامي يقوم بتلقينهم ما عليهم قوله عن الاكتشافات والتطورات المزعومة. العلم يتقدم عادة في سياق زيادات بطيئة تدريجية في المعرفة وهذا يخالف ما يحدث في علم النفس الإيجابي. لذلك يجب على الباحثين أن يحرصوا على الوصول إلى استدلالات تتناسب مع بياناتهم. فالادعاءات التي تتجاوز البيانات يمكنها أن تسيء إلى مصداقية أيِّ حقل جديد. وعندما يُقدِّم أحد علماء النفس الإيجابيين ادعاءً غير مبرر علمياً، فإنه يزعزع مصداقية علماء النفس الإيجابيين و”الحركة” بشكل أعم. ولذلك يقولون: “يلزمنا أن نراقب بعناية زملاءنا وأنفسنا كذلك” [4].
ويؤخذ على علم النفس الإيجابي استناده إلى نتائج علمية قد لا تكون كافية في بناء الأساس النظري له والكشف والتنبؤ والتحكم؛ وخصوصاً في عملية التحكم بالمزاج. فنتائج الدراسات العلمية الحديثة تدل على وجود أساس وراثي للمزاج.
يؤكد عدد كبير من الباحثين اليوم أن 50% من التغيرات المزاجية تحدِّدها الوراثة سلفًا، حتى إن الظروف المسؤولة عن فرحنا أو حزننا، باستثناء الصدمات القوية، لا تبدِّل مزاجنا إلا مؤقتًا، لنعود بعد نحو ثلاثة أشهر من حصولها، إلى حالتنا العاطفية الطبيعية. ولذلك يستبعد سليغمان النظريات شديدة التفاؤل حول ليونة الشخصية الإنسانية المحاطة بحدود حقيقة تكبِّل قدرة الفرد على تغيير طبعه[5].
على صعيد آخر، قد يكون من المهم النظر إلى المجالات التي دخل علم النفس الإيجابي إليها؛ فقد دخل في مجال علم النفس الصناعي والتجاري والجنائي والعيادي وغيرها الكثير، وهذا يمكن له أن يدلل على أن الأساس العملي الذي بنيت عليه دراسات علم النفس الإيجابي يمكن لمس نتائجها رغم أنه قد لا يستند إلى أساس علمي صلب في تعميم نتائجه. فمثلاً: فيما يتعلق باستخدام علم النفس الإيجابي في المجال التعليمي، فإنه يقدم حلولاً للتعليم التقليدي من خلال تقديم أنموذج الوقاية والرفاهية، بواسطة التركيز على تطوير الكفاءة الانفعالية والتعليمية، والاجتماعية للتلاميذ وتصميم الخبرات اللازمة التي تفيد باكتشاف آلية التعامل مع الآخرين، واكتشاف هدف المدرسة والحياة[6]. وهذا يذكرنا بميدان آخر هو البرمجة اللغوية العصبية التي دخلت إلى أهم مناحي الحياة أيضاً دون أن يعترف بها حتى اليوم كعلم مستقل؛ فهي محاكاة مشوهة للعلاج المعرفي السلوكي وتتشابه أيضاً بأهدافها مع أهداف علم النفس الإيجابي، في الوصول إلى السعادة دون مراعاة للفروق الفردية إلا من خلال تصنيف ضيق لأنواع الشخصيات. ومنه لا يعني انتشار الشيء أنه حقيقي وصادق ويقيني 100% فالانتشار من معوقات التفكير العلمي كما يقول الدكتور فؤاد زكريا في كتاب مبادئ التفكير العلمي [7].
ثانياً: ليس لدى علم النفس الإيجابي إطار نظري شامل لإرشاد نفسه.
ينادي “سليغمان” بإحياء الطبع و”التحكم به” كمبدأ لدراسة السلوك البشري الذي يفضي علمياً إلى السعادة، مخالفاً العقائد والإيديولوجيات التي ربطت السعادة بالقدر أو القوى المستقلة عن إرادة الإنسان. ولذلك جرى البحث مكتبياً و”عيادياً” عن تصنيفات للعناصر الإيجابية في القوى الفكرية والفضائل، وركِّز عليها أكثر من الاضطرابات النفسية. ووصلت إلى لائحةٍ بأربعة وعشرين عنصرًا إيجابياً، موزَّعة على ستِّ فئات عامة هي:
الحكمة، والشجاعة، والحب، والإنصاف، والاعتدال، والروحانية. وتناولت أبحاثه هو وفريقه الحكم والعقائد العالمية المتعلقة بالإيجابية[8].
يحتاج كل مجال بحث معرفي إلى ثلاثة عناصر رئيسة ليعترف به كعلم مستقل: موضوع، منهج، وظيفة [9]. تكمن أهمية هذه المعلومة في أن المنهج والوظيفة الخاصتين بعلم النفس الإيجابي موجودتان، ولكن إشكالاً في ماهية الموضوع موجود أيضاً وهو “الجانب النظري” الذي تناوله علم النفس الإيجابي وتأثيره الحتمي على المنهج، كأساس نظري يستند إليه في البحث الميداني الذي يعدُّ الخلفية التوجيهية لأي بحث علمي.
فيما يتعلق بإشكالية الإطار النظري ذكر “لارسون” وزملاؤه أن البحث الذي يجري حول التأثيرات المفيدة للتفكير الإيجابي يقوم باسم علم النفس الإيجابي، لكن دون التطرّق إلى التفاصيل الدقيقة، مع وجود غموض في رسالته التي نلخصها: بـ “الإيجابية جيدة، وجيدة لك، والسلبية سيئة، وسيئة لك، وداعاً للفروق الفردية، فمقاس واحد يناسب الجميع”. ومنه فإن الانفعالات السلبية تؤثر في النتائج الصحية، وبالتالي عاملت التوجيهات التقليدية للأبحاث المشاعر السلبية كشيء ينبغي تفاديه أو على الأقل تقليصه، بدلاً من اجتراره أو الوقوف عليه طويلاً. ويقولون: إنّ تنشيط المشاعر الإيجابية والسلبية معاً لن يدخلنا في وضع الإرباك، بل قد يسمح للأفراد بفهم الضغوطات، واكتساب الخبرة للسيطرة على الضغوطات المستقبلية، وتجاوز التجارب المؤلمة. وذلك انطلاقاً من أن علم النفس الإيجابي يؤكد أن التركيز على المشاعر السلبية غير كافٍ، وبالتالي فإن علم النفس السلبي يؤكد أيضاً أن التركيز على المشاعر الإيجابية غير كافٍ[10].
ومن جهة أخرى لخص “كريستوفر وكامبل” نظرية شاملة معقولة تستقصي مواضيع علم النفس الإيجابية. ووصلا إلى تأكيد أن تطوّر الأهداف والقيم والذات يقتضي الصعود عبر مستويات المعرفة، وبناءً على ذلك، فإن على دراسة علم النفس الإيجابي القيام بأكثر من مجرد تفسير أداء الوعي واللاوعي. فسوف يلزمه الاعتراف بمستويات متعددة من الأداء البشري، وسيحتاج إلى إيجاد أو اعتماد أساليب كافية لتقييم ما يجري على كل مستوى[11].
يقوم علم النفس الإيجابي بتعميم منطلقاته النظرية ويقع ضحية تعميمه؛ فاحتسابه الإيجابية هي الحل مغفلاً الدور المهم للسلبية في توازن الإنسان وتكيّفه، يجعلنا نستثني بعداً كاملاً من أبعاد النفس البشرية لولاها لما كوّنت البشرية القيم أو العادات والتقاليد أو الثقافات، وهم بذلك أقرب إلى مبدأ أبقراط في اللذة؛ إذ لم نقم منذ البداية بالاتفاق على تعريف الإيجابية ومجالاتها الاجتماعية والنفسية والمكانية والزمانية المرتبطة بالتوازن النفسي، والصحة النفسية، وكيف أن نسبية المفهوم تختلف من مكان إلى آخر ومن زمان إلى زمان ومن مجتمع إلى آخر ومن فرد لآخر. وهذا ما سنتوسع فيه ضمن الانتقاد الرابع.
ثالثاً: علم النفس الإيجابي يؤكد القيم الفردية والتوافق مع نظام القيم الغربي القائم على أساس الطبقة الوسطى الغربية.
يرى “سليغمان” أن السعادة عموماً وأي عاطفة إنسانية إيجابية خصوصاً في الثقافة الغربية ليستا شعوراً أصيلاً، والسبب وراء هذا الاعتقاد هو مبدأ “الخطيئة” (Original Sin). ولذلك مال علماء النفس مذ أعلن فرويد عام 1895 في دراسته حول الهستيريا، أن هدف “العلاج بواسطة الكلام” هو تحويل “الألم العصابي” إلى “تعاسة عادية” إلى العمل بشكل أساسي مع الأمراض النفسية. وصحيح أن علم النفس ساعد ملايين المرضى، لكن ذلك كان له عواقبه أيضاً؛ فالمجلات المتخصصة تنشر مقالاً واحداً عن السعادة ومئة مقال عن البؤس، ونحن نعرف الأسباب التي تجعلنا نيئس أكثر من التي تجعلنا نفرح[12].
علم النفس الإيجابي يعمم بتعجل وبشيء من السذاجة تفضيلاته ومثله الثقافية الخاصة على أنها صالحة أو قابلة للتطبيق على المجتمعات البشرية كافة. وهناك تواطؤ بين علم النفس الإيجابي عن غير قصد مع بعض الجوانب النفسية لنمط حياتنا الحالي “الغربي”. هذا النوع من الفردية ربطه كثير من علماء النفس وغيرهم بالعزلة الوجدانية، والإجهاد المرتفع، والمعدلات العالية للاكتئاب واضطرابات الشخصية المختلفة، وغيرها من العلل النفسية في المجتمع الغربي. إضافة إلى ذلك، وخلافاً لعلم النفس الإيجابي السائد، فإن العديد من التقاليد الثقافية والأخلاقية، سواء الغربية وغير الغربية (كالبوذية والهندوسية وغيرها) يحددون شعورهم بالهوية، من خلال انتمائهم إلى واقع جماعي عريض أو روحي ويضعون تركيزاً أكبر على التعلم، وإيجاد معنى في المعاناة بدلاً من السعي بأي ثمن للخلاص منها. ويشير العلماء إلى أن الطريق إلى توسيع علم النفس وتعميقه (وفي الواقع نمط حياتنا ذاته) ليس بإصدار نظرية شاملة ومبررة علمياً، بل من خلال الحوار المتأني والمستدام والقائم على الاحترام المتبادل مع الثقافات ووجهات النظر الأخرى. ولا شك في أن لدى نظرية العلوم الاجتماعية والبحوث الكثير مما تقدمانه في مثل هذا التبادل، ولكن يجب أن تساهما بطريقة متكاملة وبحثية[13].
يقول كل من “جون كريستوفر وفرانك ريتشارد وبرنت سلايف”، في مقال مشترك بعنوان “التفكير من خلال علم النفس الإيجابي”28أيار/مايس2017 على موقع
http://hekmah.org بأن علم النفس الإيجابي يعجز عن الأخذ بالحسبان الكامل للسياق الثقافي الخاص. فهو يميل إلى القول والتوصية بالقيم الأخلاقية، ومبادئ الصحة النفسية التي تعكس النزعة الفردية أحادية الجانب للمجتمع الأمريكي، بتشديده على الاستقلال الشخصي والإنجاز الفردي. وعندما يتضمن قيماً وأخلاقاً من تصورات أخلاقية أو روحية أخرى، فإنه يميل إلى عرضها كأمور مفيدة، إذ إنها توظف غالباً كوسائل تخدم تلك الغايات الفردية، وهذا المنطق “الذرائعي” ذاته يعكس تحيزات ثقافة الغرب، هذا ما قد يعدُّه بعضهم مصلحية وفردية للغاية.
ونلاحظ الفردية المغرقة في برامج علم النفس الإيجابي مثلاً من خلال البرامج التربوية التي تبنى استناداً إلى القيم الغربية، وتهدف إلى وقاية التلاميذ من الاضطرابات النفسية حسب وجهة نظره:
- تعزيز العلاقات الإيجابية مع الأقران.
- التأكيد على نقاط القوة.
- بناء الكفاءات.
- توفير فرص لتعلم السلوكيات السوية.
- ربط الصغار برعاية الكبار[14].
يركز علم النفس الإيجابي على نقاط القوة الفردية والجماعية بدلاً من التركيز على الضعف، وعلى الخبرات الإيجابية بدلاً من المشكلات، وبناء الكفاءات بدلاً من معالجة الأمراض حسب الأسلوب التقليدي[15]. ويركز أيضاً على البرامج والتدخلات التي تسهم في رفاهية الأفراد، علاوة على وقايتهم من الاضطرابات النفسية. وكذلك فإن العديد من مكونات علم النفس الإيجابي ليست جديدة “فكما أوردنا هي مستقاة من الإرث الثقافي للشعوب المتعلق بالسعادة“، ويعتقد أصحاب هذا الاتجاه أن لديها القدرة على توحيد مجموعة من السمات الإيجابية ذات الصلة بالاتجاهات والبحوث النظرية والتطبيقية في مجال علم النفس التربوي[16]. بمعنى أن علم النفس الإيجابي يختلف عن علم النفس الذي يتجه إلى الاهتمام بالأمراض النفسية وعلاجها بكل تعقيداتها وتفاصيلها، بينما يمكن لعلم النفس الإيجابي إصدار مجموعة واحدة من المداخلات النفسية تنطبق على كل البشر وتوصلهم إلى السعادة التي هي الهدف، وهي مستمدة من كل الثقافات، لكنها انطلقت من ثقافة الطبقة الغربية المتوسطة “التي حملت الإرث الديني لعهود طويلة، ما منعها من الشعور بالسعادة وحرَّم عليها التعامل مع المشاعر الإيجابية” وهنا يكمن التعميم الذي وقع فيه علم النفس الإيجابي من خلال تعميم المداخلات للوصول إلى السعادة، وإنكار التعاسة على باقي الثقافات والأفراد حتى لو كانت جزءاً من مكوناتهم الاجتماعية والشخصية.
رابعاً: السعادة كتقنية للتلاعب وتوجيه العملاء نحو نتائج معينة.
يعمل علم النفس الإيجابي على ثلاثة مستويات: المستوى الذاتي، والمستوى الفردي، ومستوى الجماعة. ويهتم بالتمكين الشخصي وحسن الحال الذاتي. وأهم أدوات هذا التمكين هي “التفكير الإيجابي”، التي تعزز مكامن القوة والفضائل الإنسانية. ومثله مثل الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية “DSM4-5”، يوفر تعريفاً وتصنيفاً لمكامن القوة والفضائل البشرية الأساسية، وهذه الفضائل الإنسانية التي توجد بشكل متسق في كل الثقافات وعبر كل المراحل الثقافية مما يعطيها الطابع العام. والسعي إلى ما هو أفضل، لا يعني أن علم النفس الإيجابي نوع من التفكير التأملي المؤسس على الاعتقاد بصحة توجهاته لمجرد الرغبة في أن يكون صحيحاً، ولا يعني أنه نوع من التضليل أو خداع الذات، بل إنه يحاول تعديل أفضل الطرق العلمية لحل المشكلات النوعية الفردية التي تتعلق بالسلوك البشري بكل تعقيداته.
وتتضمن التطبيقات العملية لعلم النفس الإيجابي مساعدة الأفراد والمنظمات على تحديد مكامن قوتهم واستخدام هذه المكامن لإثراء مستويات السعادة وتعزيزها، ويمكن أن يستخدم المعالجون والمرشدون النفسيون وغيرهم من المستشارين، والمدربين للتنمية البشرية “طرق العلاج النفسي الإيجابي” في رفع مستوى الأداء العملي الإنساني والسعادة الحياتية[17]. لكن عندما يشعر الناس بالسوء حيال مصاعب الحياة الكثيرة، ولا يتمكنون من تجاوز آلامهم بغض النظر عما يبذلونه من جهد في تعلم التفاؤل، فسوف يشعرون في النهاية بسوء أكبر؛ وسيتملكهم شعور بالذنب أو بالنقص لعدم اتخاذهم الاتجاه (الإيجابي) الصحيح، إضافة إلى ما يعانونه في المقام الأول. هذه نتيجة ممكنة، وغير مقصودة للإيجابية الصاخبة، سواء في الأوساط الشعبية أم في أوساط المتخصصين[18].
لقد شاعت الفرضية التي تذهب إلى أن علاج الانفعالات السلبية والحد منها، يؤدي آلياً إلى تنشيط الانفعالات الإيجابية. ولهذا فقد اهتم علم النفس خصوصاً بالانفعالات السلبية والحد منها. لكن بينت الأبحاث المعاصرة في عمل الجهاز العصبي أن كلاً من الانفعالات السلبية والإيجابية مستقلة عن الأخرى، وتتبع نظاماً عصبياً خاصاً بها، وبالتالي الحد من السلبي لا يؤدي بالضرورة إلى تنشيط الإيجابي. واتضح أن كلاً من العواطف السلبية والإيجابية محددة بيولوجياً لتقوم بوظائف حيوية قائمة بذاتها على مستوى حفظ البقاء. وهو نظام تكيفي بالغ الأهمية لدوافع النماء، إذ يضمن توفير الموارد لإشباع الحاجات الأساسية، وحاجات الأمن والعلاقة الحيوية لبقاء الفرد والنوع سواء بسواء. وهكذا فنحن بصدد وظيفتين حيويتين تعملان بالتزامن أو بالتتابع، في تنظيم الاستجابات التكيفية، ولا يجوز تغليب إحداهما على الأخرى، أو إدماجهما أو إتباعهما واحدة للأخرى [19].
ومن ناحية أخرى مازال هناك جدل في تحديد مفهوم “الإيجابي” واختلاف علمي وثقافي حوله. وخصوصاً لدى تقديمه على أنه مرغوبٌ دائماً وخيرٌ مطلق، و”السلبية” في الجانب البشري جُرّمت بسبب “استبدادية الإيجابية”، وصنفت أنها غير مرغوب فيها أساساً وغير صحية ويجب تجاهلها[20]. فالمشاعر السلبية تعبر عن الصورة الحقيقية لتناقض حياة الإنسان منذ البداية، وحضور الثنائيات المتضادة فيها بقوة كالخير والشر والسعادة والحزن، وهو ما يساعد الأفراد من خلال التجربة على النضج، وفهم الحياة بطريقة أكثر واقعية، كما أن التركيز على الخبرة الانفعالية الإيجابية كتعريف أوحد للحياة الجيدة هو كذلك منزلق خطير واجتزاء للحياة.
لذا ظهرت ما تسمى ب ـ”الموجة الثانية” من علم النفس الإيجابي (SWPP) التي تعدُّ الرفاهية وجودة الحياة تنطوي على تداخل دقيق بين الظواهر الإيجابية والسلبية، ولا تقتصر بالضرورة على السعادة في حد ذاتها، لهذا يتسع مفهوم الرفاه أكثر ليشمل العواطف والخبرات السلبية، التي يمكن أن تساهم بدرجات متفاوتة في الشعور بما هو جيد، وهذا التفكير موجود سابقاً في علم النفس. وهناك العديد من المحاولات لتقديم قراءات جديدة وأفكار مختلفة يستمد بعضها من الأصول الثقافية عند بعض الباحثين، على غرار Wong الذي يطرح الآن بقوة فلسفة “الين واليونغ” كمخرج لعلم النفس الإيجابي [21].
ليس جديداً هذا النقد على علم النفس الإيجابي فمنذ بداياته وهو يتعرض للانتقاد ذاته، فقد سبق وأجاب عنه “سليغمان”: “بعضهم انتقد علم النفس الإيجابي بأنه لا يقدم جديدًا مختلفًا عن الحكمة القديمة؛ مع أنه مَنَحَ انطلاقة جديدة لمبدأ قديم كان يسمي السعادة “الحياة الجيدة”، التي عدَّها أرسطو ثمرة فضيلة وهي: أن نعرف كيف نحيا” [22].
إن العمل على النحو الذي يقوم به علم النفس الإيجابي بالتركيز على المشاعر الإيجابية وتجاهل المشاعر السلبية للحياة، هو كمن يعالج أعراض المرض ويترك الأسباب الرئيسة، ويمكن أن يكون هروباً من المواجهة أحياناً، وهذا قد يفاقم الأمور ويجعلها تتعقد دون أن نعرف أيضاً؛ وهو ما عبّر عنه الدكتور مصطفى حجازي بأن توازن التعبير السلبي والتعبير الإيجابي عن الانفعالات والمشاعر هو الاستجابة الأكثر فاعلية في مواجهة المحن. إذ يزداد الاضطراب كلما اشتد قمع التعبير الانفعالي سواء تجاه الشدائد أم تجاه الاضطرابات النفسية [23]. بل إنه لن يكوّن لدينا مناعة نفسية لمواجهة الظروف السلبية نفسها إن أخفقت الطرق الإيجابية في التخلص من الضيق، أو القلق الذي ينتابنا. تماماً كما تفعل بعض مضادات الاكتئاب الدوائية التي تجعل أدمغتنا تتوقف عن إخبارنا أننا تعساء، وهو يمنع الشعور لكنه لا يعالجه، لذا نلجأ إلى الطرق المرافقة للعلاج الدوائي التي من شأنها أن تعدل المزاج. ويذكرنا هذا النهج بكتاب السر للمؤلف “روندا بايرين” الذي يعدُّ الفكرة طاقة قابلة للتحقق، وأن قانون الجذب يستجيب بدرجة قوة هذه الطاقة، وأنه كلما فكرنا بالأمور التي نريدها وكان تفكيرنا قوياً وإيجابياً جذبنا الأمور التي نريدها.
المراجع:
- مقال بعنوان: “علم النفس الإيجابي”، https://ar.wikipedia.org ، 11/5/2019.
- Taylor, E. Positive psychology and humanistic psychology: A reply to Seligman. Journal of Humanistic Psychology, 2001, P 26.
- المرجع السابق، ص 41.
- Snyder C. R & Lopez S. J., Handbook of positive psychology A declaration of independence. New York: Oxford University Press, 2002, PP 751 – 767.
- Seligman, M.E.P., Authentic happiness: using the new positive psychology to realize your potential for deep fulfillment, London: Nicholas Brealey Publishing, 2017.
- رياض نايل العاسمي، علم النفس الإيجابي وتطبيقاته في العملية التربوية، جامعة دمشق، كلية التربية، شباط /فبراير2015، ص 13.
- فؤاد زكريا، مبادئ التفكير العلمي، بريطانيا، ونزر، مؤسسة الهندواي، 2017، 41.
- مرجع سابق، Seligman, 2017.
- يوسف بريك، مناهج البحث في علم الاجتماع، دمشق، جامعة دمشق، 1998، ص-ص 15-50.
- Larsen, J. T., Hemenover, S. H., Norris, C. J., & Cacioppo, J. T. Turning adversity to advantage: On the virtues of the coactivation of positive and negative emotions. In L. G. Aspinwall & U. M. Staudinger (Eds.), A psychology of human strengths: Fundamental questions and future directions for a positive psychology . Washington, DC, US: American Psychological Association, 2003, pp. 211-225.
- Christopher, J.C., & Campbell, R.L. An interactivist-hermeneutic metatheory for positive psychology. Theory & Psychology, 2008, pp. 675 – 697.
- مرجع سابق، Seligman, 2017.
- Becker, D., & Marecek, J. Positive psychology: History in the remaking? Theory & Psychology, A declaration of independence, 2008, pp. 591–604.
- مرجع سابق، رياض، 2015، ص 2.
- Seligman, M.E.P., & Csikszentmihalyi, M. Positive psychology: An introduction. American Psychologist, 2000, pp. 5-14.
- Seligman, M.E.P., Park, N. & Peterson, C. Positive psychology progress: Empirical validation of interventions. American Psychologist 60, 2005, p. 410.
- مرجع سابق، رياض، 2015، ص 2.
- – Held, B. S. Stop smiling, start kvetching. New York: St. Martin’s Griffin, 2000, p 969. – Held, B. S. What follows? Mind dependence, fallibility, and transcendence according to (strong) constructionism’s realist and quasi-realist critics. Theory and Psychology, 2002, pp. 651-669.
- مصطفى حجازي، علم النفس الإيجابي، أكاديمية علم النفس، http://www.acofps.com ، 5 أيلول/سبتمبر 2014.
- مرجع سابق، Held, 2002 ، ص 12 .
- جامعة زيان عاشور الجلفة، الملتقى الوطني الثاني حول علم النفس الإيجابي: الموجة الثانية في علم النفس الاجتماعي، مخبر استراتيجيات الوقاية، ومكافحة الجرائم في الجزائر، الجزائر/ 22 تشرين الثاني/نوفمبر 2018.
- مرجع سابق، Seligman, 2000، ص 55 .
- مرجع سابق، مصطفى حجازي، 5/9/2014.
هذه المادّة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي.