هيئة التحرير
بدأت كافة التوقعات والترجيحات، تشير إلى أن منطقة شرق المتوسط باتت على موعدٍ مع شتاء ساخن، خاصة مع تطور الموقف بشكل سريع باتجاه العسكرة، مع إعلان تركيا اعتراضها لطائرات عسكرية يونانية، وهو ما يتزامن مع أزمة حقول الغاز في المتوسط، والتي يرى المحلل الاستراتيجي، “حسن عرابي”، أنها كفيلة بإشعال المواجهات بين الجارين اللدودين، إلى حد قريب من المواجهة العسكرية.
وكانت تركيا قد أعلنت خلال الساعات الماضية، أنها بصدد إجراء مناورات عسكرية بالقرب من سواحل قبرص، والمنطقة البحرية المتنازع عليها مع اليونان.
أوضاع إقليمية واستعراض قوى
التوجه المتسارع لكل أطراف أزمة البحر المتوسط باتجاه الأعمال العسكرية، سواء من طلعات جوية أومناورات، يصفها “عرابي” بأنها سباق استعراض للقوى، لا سيما من الجانب التركي، لافتاً إلى أن الحكومة التركية تريد إرسال رسائل مبطنة للاتحاد الأوروبي ككل وليس فقط لليونان، بأن أي مواجهة عسكرية معها ستكون مغامرة غالية الثمن، بالإضافة إلى إظهار مدى التطور العسكري التركي.
وكانت الحكومة التركية قد اعتبرت في وقتٍ سابق، أن الاتحاد الأوروبي ليس لديه أي سلطة لفرض أوامر على تركيا بوقف أبحاثها، التي وصفتها بالمشروعة في شرق البحر الأبيض المتوسط، رداً على تلويح أوروبا بالعقوبات الاقتصادية.
الحسابات التركية ووفقاً “لعرابي”، لا تقوم فقط على العوامل العسكرية وإظهار القدرات الدفاعية والهجومية، وإنما تستند أيضاُ إلى العديد من الأمور، في مقدمتها الظروف الإقليمية المتوترة في منطقة الشرق الأوسط ككل، والتي تعتقد حكومة العدالة والتنمية أنها ستدفع أوروبا لتلافي أي أزمات جديدة والدخول في صدام مباشر مع تركيا، مشيراً إلى أن الاتحاد الأوروبي فعلاً يميل إلى مواجهة الأزمة بالوسائل الدبلوماسية، على الرغم من أهمية قضية الغاز بالنسبة للدول الكبرى فيه، وتحديداً فرنسا وألمانيا.
وبحسب التصنيف العالمي، تستهلك أوروبا سنوياً ما يصل إلى 500 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً، تستخرج نحو 300 مليار متر من حقول البحر المتوسط، وتستورد الباقي من روسيا، يذهب منها 25 في المئة للأنشطة الصناعية، و20 في المئة لمحطات توليد الكهرباء و55 في المئة للاستهلاك المنزلي والتجاري.
استغلال تركيا للوضع الإقليمي وانشغال الاتحاد الأوروبي بالكثير من القضايا الداخلية، كالهجرة والإرهاب وتزايد الأنشطة اليمنية، يؤكده أيضاً، الباحث في الشؤون الأوروبية، “بيير فوس”، الذي يشير إلى أن تركيا بالإضافة إلى ذلك، تستغل مجموعة من الظروف الدولية، وتحديداً حالة التوتر بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية، فيما يتعلق بالملف الإيراني، موضحاً: “مع تباعد وجهات النظر بين واشنطن والترويكا الأوروبية، يعلم الرئيس التركي أن الولايات المتحدة لن تقدم أي دعم للموقف الأوروبي في مواجهة تركيا، على الأقل في الوقت الحالي، كنوع من رد الفعل على عدم تجاوب أوروبا مع الخطط الأمريكية لمواجهة إيران، قد يبدو الأمران بعيدان ظاهرياً ولكن في السياسة كل الأمور ترتبط ببعضها”.
وسبق للولايات المتحدة أن انتقدت ما وصفته بضعف الموقف الأوروبي وتخاذله عن دعم مطالب واشنطن في مجلس الأمن بتمديد حظر السلاح المفروض على إيران وفرض المزيد من العقوبات عليها.
الصحوة من الحلم.. وأوراق ضغط متعددة
تصاعد لهجة التحدي التركية للمنظومة الأوروبية، تعكس بحسب ما يراه “فوس” في تصريحاته لمرصد مينا، قناعة تركية بأن لا سبيل لها لدخول الاتحاد الأوروبي، وأنها صحت من حلمها في الانضمام إليه، ما دفعها إلى تحريك كافة أوراقها المادية والمعنوية ضد الاتحاد، بدءاً بموجات اللاجئين وانتهاءاً بحقول الغاز، مروراً بقرار آية صوفيا والاتفاقية البحرية مع حكومة الوفاق الليبية وغيرها.
وتخوض تركيا منذ أكثر من ثلاثة عقود مباحثات معقدة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، دون أن تتوصل إلى نتيجة، وسط تأكيدات المحللين بأن الكثير من الدول الأوروبية تعارض تلك الخطوة، في مقدمتها اليونان وقبرص والنمسا.
كما يلفت “فوس” إلى أن تركيا وبغض النظر عن حاجتها للغاز كمنفعة اقتصادية، فإنها تُقَّيِم تماماً مدى أهميته وأهمية حوض شرق المتوسط، للجانب الأوروبي، خاصة وأن المنطقة تحوي على 122 تريليون متر مكعب من الغاز الطبيعي، ما يكفي لتلبية حاجة سوق أوروبا لمدة 30 عاماً، على حد قوله، مشيراً إلى أن تركيا تحاول الإمساك بشكل كامل بموارد الغاز إلى أوروبا سواء عبر خطوط الغاز الروسي المارة من أراضيها أو حقول الغاز في شرق وجنوب المتوسط.
وكانت الأزمة قد تفجرت بشكل فعلي ومباشر آواخر العام 2019، بعد أن أعلنت الحكومة التركية بدء عمليات التنقيب في المنطقة، وإرسال بوارج تركية عسكرية إلى مواقع التنقيب، ما أثار حفيظة اليونان.
أوراق تركيا في مواجهة أوروبا، قد تمتد بحسب الخبير في الحركات الإسلامية، “محمد نوفل”، إلى تحريك مجاميع تابعة لحركة الإخوان المسلمين داخل القارة العجوز، لخلق بلبلة للحكومات التي قد تتخذ خطوات تصعيدية ضد أنقرة، لافتاً إلى وجود جاليات تركية كبيرة في الكثير من البلدان الأوروبية وتحديداً في ألمانيا وفرنسا، والتي قد تكون مستعدة للتحرك والخروج في مظاهرات وإحداث أزمات داخل أوروبا، خاصةً مع تركيز حكومة الرئيس “رجب طيب أردوغان” على الخطاب الشعبوي في تناول الأزمة.
وبحسب الإحصائيات الرسمية فإن نحو 5 ملايين تركي يقيمون في ألمانيا وحدها، وجزء كبير منهم يحمل الجنسية الألمانية، في حين حذر تقرير للمخابرات الداخلية الألمانية في ولاية بادن فورتمبيرغ، قبل أسابيع، من ما أسماه خطر الإخوان المسلمين، مشيراً إلى وجود نحو 190 شخص في الولاية ينتمون إلى الجماعة.
إلى جانب ذلك، يعتبر “نوفل” خلال حديثه مع مينا، أنه من الخطأ التقليل من مدى فعالية اعتماد تركيا على مجاميع حركة الإخوان المسلمين داخل أوروبا، تحديداً وأن الحكومة التركية تتولى مسؤلية رعاية المساجد التركية في كامل الدول الأوروبية تقريباً، وأنها استطاعت من خلال ذلك، ترسيخ بعض الأفكار لدى أبناء الجالية التركية والمسلمة، وتشكيل لوبي لها على أرض أوروبا، لافتاً إلى أن تركيز “أردوغان” على الخطاب الديني والشعبوي جيش مشاعر نسبة كبيرة من المسلمين عموماً، الذين بدأوا ينظرون إلى الموقف وكأنه استهداف أوروبي لتركيا المسلمة.
نقطة اللا تنازلات
وجود كل تلك الأوراق بيد الجانب التركي، على أهميتها، لا يعني أن أوروبا ستقدم تنازلات لا نهائية لأنقرة، يقول المحلل السياسي، “أونيسال أوغلو”، لمينا، لافتاً إلى أن تلك الأوراق قد تدفع الاتحاد الأوروبي إلى المزيد من الصبر، ولكنه في نقطة معينة سيفقد اللغة الدبلوماسية، خاصة وأن قضية الغاز بشكلٍ خاص تمثل أولويةً قوميةً للدول الأوروبية.
وكانت مجموعة من الدول الأوروبية خلال اجتماعها الأخير، قد هددت أنقرة بفرض عقوبات اقتصادية عليها، في حال استمرارها بعمليات التنقيب، التي وصفتها بغير الشرعية في البحر المتوسط.
كما يشير “أوغلو” إلى أن الحكومة التركية تدرك أن التنازلات الأوروبية لن تكون لا نهائية، لذا تتعامل معها على مبدأ الحبل المرخي، على حد قوله، موضحاً: “تركيا تطرح كل ما لديها لترمي الكرة في ملعب الأوربيين، ما يساعدها على معرفة الحد الأخير للتنازلات والمكاسب التي قد تجنيها من ملف الغاز، قبل الوصول إلى مرحلة المواجهات العسكرية، وهنا لا بد من الانتباه إلى أن أوضاع تركيا أيضاً لا تسمح لها بدخول مواجهات عسكرية جديدة مع دول بحجم ألمانيا وفرنسا، لا سيما وأنها غارقة في كل من سوريا وليبيا، بالإضافة إلى وجود واقع اقتصادي صعب”.
ويعيش الاقتصاد التركي أزمة كبيرة على مستوى قيمة العملة ومعدلات التضخم، بعد أن وصل سعر صرف الدولار أمام الليرة، خلال الأشهر الماضية إلى نحو 8 ليرات، مع تراجع الاحتياطي التركي من العملات الأجنبية من 81.2 مليار دولار نهاية 2019 إلى 45.4 مليار دولار مع حلول آب الجاري.
في السياق ذاته، يؤكد “أوغلو” على أن تركيا لن تكون قادرة على التوغل أكثر في صدامات مع أوروبا، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وأن الحكومة التركية وضعت حداً للأزمة يجب عدم تجاوزه، لافتاً إلى أن ذلك الحد يرتبط أولاً بكسب الناخبين الأتراك، مع تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية وظهور أحزاب معارضة جديدة، وثانياً ابتزاز أوروبا اقتصادياً بأكبر قدر ممكن، وهو ما ستنتهي إليه الأزمة الحالية، وفقاً لتحليلاته.