الحلقة الثالثة: ما وقع فيه الآخرون أنا وقعت فيه أيضًا
إنَّ مشروعك التنويري يهدف إلى كتابة تاريخنا من جديد، ودافعهُ كما كتبتَ في “ملاحظات حول مسألة تقويم جديد لتراثنا العربي الاسلامي ولما كتب حوله” هو “الانتقال من المجتمع الإقطاعي- الرأسمالي المتخلف والقاصر إلى المجتمع الاشتراكي الجديد” وتحدثتَ عن ضرورة تجاوز التجزئة القومية في الوطن العربي حيث قلت أو كتبت: ” هذا يعني أنَّ مجابهة “التخلف” الاجتماعي و”التجزئة” القومية في وطننا العربي لا تشترط فقط تثوير القطاعات الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية والسياسية، وإنما تقتضي أيضاً وبشكل ضروري، ثورة ثقافية منظمة ومخططة تتمثل تراثنا الفكري الايجابي…”السؤال: ما هو تصورك السياسي للانتقال من هكذا مجتمع إقطاعي- رأسمالي؟ أية قوة طبقية ستقوم به على أرض الواقع؟ وبمعنى أدق، أية قوة سياسية؟، خصوصاً أنك تدعو إلى إقامة مجتمع اشتراكي جديد، وتدعو إلى ثورة ثقافية.. هل كنتَ مع موضوعة طريق التطور اللارأسمالي كما طرحها السوفييت؟ هل ناديت بالثورة الثقافية متأثراً بثورة ماوتسي تونغ الصينية؟
د. تيزيني: الحقيقة هذا السؤال مركب يتصل بالمرحلة كما قبلها، كما ما يأتي، هناك مسألة أخرى تخليت على أساسها عن الهدف مما أطمح إليه، هذا الهدف الذي أطلقت عليه اسم: المجتمع الاشتراكي، تركته في رحم الحوار والتحول، خصوصاً بعد الأحداث العالمية التي حدثت، جعلتني أرجئ المسألة، أرجئ إنهاء الحديث عنها لمرحلة قادمة أرجو أن أعيشها، ولذلك كتبت بعد هذا النص نصاً آخر ألخصه بمسألتين كبريين، الوحدة والديمقراطية، وحدة الشعب في القطر الواحد، والوحدة العربية، يعني هذه المسألة تظهر الآن وكأنها هي المدخل إلى النعيم الأعظم: الوحدة..
وحدة القطر الواحد؟ أم وحدة الأقطار العربية تقصد؟
د. تيزيني: وحدة القطر الواحد، ووحدة الأقطار العربية، ما يحدث الآن صدَّعَ وحدة البلدان العربية..
ما يحدث سيؤدي إلى تفتيت القطر الواحد
د. تيزيني: بالضبط هذا ما عنيته، لذلك حديثنا السابق عن وحدة العالم العربي مازال صحيحاً، ولكن أضيف إليه وحدة كل قطر على حدة، بحيث تأتي متناغمة قابلة للعيش المستقبلي..
عبد الناصر.. أي خطأ هائل حدث؟
نعم فوحدة الأجزاء تعني وحدة الكل، وصحة الأجزاء تعني صحة الكل أيضاً.
د. تيزيني: نعم، هذا الجديد أرجعني إلى ما كان عليه أن يحدث قبلَ، ربما قبلَ قَرْن، منذ القرن التاسع عشر، لم يحدث، والمشكلة أنَّ هذا الهدف الأعظم وحدة عربية، مشروط بجزئياته، وجزئياته بدأت بالتصدع ونعيش الحالة، فأنا في طور إعادة النظر للفكرة، واعتبرت أنَّ الديمقراطية شرطاً أساسياً لتحقيق الأمرين، الوحدة الجزئية في القطر الواحد، والوحدة بين الأقطار العربية. والديمقراطية هنا شرط حاسم لصيق بالأمرين، وحدة القطر ووحدة الوطن، وأظن أنَّ هذا الأمر ليس غير قابل للتحقيق، إنه في الإمكان النظر إليه من موقع ما يحدث في العالم كله. أنا انشغلت كثيراً بما تحقق تحت اسم الوحدة بين سورية ومصر وكتبت مجدداً الكثير عن ذلك، وتبين لي ماكنت أخمنّه من قبل أنَّ خطأ هائلاً كان قد حدث وتمثَّل في مشروع الراحل عبد الناصر، عبد الناصر كان قائداً وطنياً لاشك، لكن فاته هذا الأمر الهائل الكبير، النضج في الداخل كي يتسنى للمجموع أن يتحقق ضمن الهدف الأكبر، كان يظن..
كان يظن أنَّ الوحدة تقوم وتكتمل بقرار سياسي
د. تيزيني: نعم، قرار سياسي، ومع ذلك بدأ بداية مؤسفة جداً، اشترط على سورية أن تنتهي الأحزاب الموجودة فيها، أن تتفكك، فقتل المشروع، كان ذلك مقتلاً للمشروع الوحدوي بين البلدين، هذه هي المعطيات التي استجدت بعد التجربة الأليمة السابقة، صار تحقيق وحدتها محتملاً ضمن أوليات تسير لمشروع هادئ، نحن لسنا متسرعين فيه، ولكن بدأنا نهتم بما كنا نعتقد أنَّه أصبح خارج الاهتمام الحاسم، إنه الاهتمام بالقطر العربي الواحد، يعني هنا الحديث عن الأقطار العربية، إنَّ كل قطر يجب أن يؤسس لذاته ويؤسس للطريق الذي يُفضي به إلى الآخرين، وهذا مشروع جديد أعتقد أنه استمرار لمشروع الوحدة السابقة، لكن هناك معطيات جديدة جدَّت بعمق، وتتمثَّلُ في مشروطية الوحدة الوطنية ضمن القطر الواحد، ولاشك أنَّ هذا الآن ظهر معقداً حتى الحد الأدنى ضمن الرؤية التي استجدت في العالم العربي، وخصوصاً في سورية والبلدان الأخرى مثل العراق..
ومصر واليمن وليبيا
د. تيزيني: نعم ومصر وليبيا وربما الجميع.
اسمح لي يا سيدي أن أستعرض انتقادك للعديد من المستشرقين والباحثين العرب، في استخراج وتطوير رؤية علمية حول العهد العربي الاسلامي الوسيط، حيث عزيتَ ذلك الفشل بداية، بأنَّهم لم يحوزوا على رؤية علمية تاريخية لأنهم انطلقوا في أبحاثهم من أطر فلسفية أو غيبية ساذجة، ثم تشير إلى اتجاه تجديدي بسبب ظهور بوادر العلاقات الانتاجية الرأسمالية التي تناقضت مع العلاقات الاقطاعية القديمة المتخلفة والمتبلدة كما وصفتها، ثم تستدرك أنَّ هذا الاتجاه التجديدي قد تم ضمن تواطؤ تاريخي بين البرجوازية المدنية الناشئة وإقطاع الريف… وبالتالي فإنَّ “البرجوازية” لم تطرح نفسها، من حيث هي “طبقة اجتماعية” عبر ثورة صناعية وايديولوجية وأخلاقية. لقد ظلت تتحرك ضمن الأطر العامة للوجود الاقطاعي، ولم تشكل هويتها الخاصة…السؤال: مع اعتراضي على تعبير” تواطؤ تاريخي”، هل كانت الاقطاعية في شرقنا متميزة كتشكيلة اقتصادية اجتماعية بالمعيار الماركسي؟، وهل كانت البرجوازية كذلك؟ حتى عندما بدأت تتشكل الرأسمالية هل كان هناك تناقض ما بين قوى الانتاج وعلاقات الانتاج، وهل تشكلت البروليتاريا العربية؟ وهل كان لها طليعة حقيقية؟
د. تيزيني: هو سؤال ربما أقرأهُ الآن بسؤال آخر يعيد بناء السؤال الأول، إنَّ الوجود البرجوازي في العالم العربي، خصوصاً في بعض الأقطار العربية الناضجة فيها هذه المسألة، لم يكتمل، لا من الداخل ولا من الخارج، كان هناك حركات خفيفة تحدث في الأقطار العربية تناوئ التحول إلى محور تاريخي جديد، وكانت مرتبطة بالخارجي كما بالداخل، أي المشروع الاقطاعي، فكلا الموقفين حالا دون تحقيق السير إلى الهدف المعني هذا، الذي يأتي بعد البرجوازية، ظهر أنَّ هذه البرجوازية لم تكن تعي رسالتها، أهدافها، كانت تتلطى تحت عباءة العلاقات الاقطاعية..
والعشائرية..
د. تيزيني: والعشائرية، كل ما سبقها تقريباً، بحيث أنَّ مشروعها ظلَّ عاجزاً حتى النهاية، النهاية التي ظهرت مؤخراً خصوصاً في المرحلة التالية وهي: إنَّ الحروب الداخلية العربية أصبحت بديلاً عن كلِّ ما مرّ في العالم العربي.
يا دكتور طيب، صار هناك قطع تاريخي، لم يُتح للبرجوازية أن تستمر في مشروعها، ومُنِعت من أن تمتلك وسائل الانتاج، لذلك من الطبيعي جداً ألا تكمل دورها وألا يكون هناك لها مشروعها الخاص، حين استلمت البرجوازية الصغيرة الثورية مقاليد الحكم في معظم دول المشرق العربي، أو بقيت بعض الدول العربية أسيرة المَلَكِيَّات والمشيخات والأمارات.
د. تيزيني: كأننا الآن لخصنا تاريخنا بالعودة إلى ما قبل البرجوازية، ما قبل البرجوازية بمعنى أنَّ هذه الطبقة التي يتسنى لها تحقيق الحد الأدنى للانتقال إلى علاقات تفضي إلى وحدة الأوطان العربية داخلياً، حتى هذا الأمر تصدَّع، تصدَّع بقوة، ومن داخل الأوطان أو البلدان العربية، والشيء الخطير أنَّ هذا التصدع صار بمشاركة الخارج، الخارج الذي أسهم بقوة بعملية التصديع..
يا دكتور المنطقة العربية، وطوال عمرها، تتأثر بالخارج، خذ مثلاً المناذرة والغساسنة وتبعيتهما للفرس والروم، كأنَّ قَدَر هذه المنطقة أن تكون بشكل من الأشكال تابعة للخارج أو أنها متأثرة جداً بالخارج.
أيقونة التاريخ، لكن هذه الأيقونة في أيدي غير قادرة على حمايتها.
د. تيزيني: نعم هذه هي مأساة العالم العربي، إنّه عالم يتمنى الآخر أن يمتلكه بالحرب وبدون الحرب، وهذا ما عشناه ونعيشه الآن، وأوقف المشاريع كلها تقريباً، فالبداية، حتى الآن، لا ندري من أين؟، حتى الآن لَمَعَان الحرب هنا وهناك وهنالك أصبح هو سيّد الموقف، هذه مأساة العالم العربي، كما كان سابقاً، ويبدو لأنَّ الأمر قارب المثال الذي يتَمَثَّلُ بشيء جميل نادر في الوجود، تنظر إليه العيون كلها، وهو محطّ النظر العالمي، فعلاً اكتشفنا، خصوصاً في المرحلة هذه، أنَّ العالم العربي عالم مطلوب من الجميع لأنه عظيم وجميل، إنَّه أيقونة التاريخ، لكن هذه الأيقونة في أيدي غير قادرة على حمايتها.
تحدثتَ عن أنَّ عالمنا مرغوب من الآخرين أو أنه مرغوب باحتلاله أو مطموع به، لكن هناك الشيء الداخلي في العالم العربي، وفي الحضارة العربية الاسلامية عبَّرَ عنها مكسيم رودنسون بنظرية المركز والدائرة.
د. تيزيني: بالضبط.. بالضبط
هذا عن الداخلي، عدا عن الأطماع الخارجية التي ذكرتَها أنت.
د. تيزيني: الدائرة هنا اتسعت، أصبحت دائرة كونية، صارت ملحقة بالكونية، والفعل الداخلي أصبح مُغَيَّباً، مغيباً إلا إذا كان مناسباً لتحسين رؤية الحالة الجديدة، تحسين هذه الرؤية، بمعنى قد اختصَّ بنا، أن ننظر إلى الداخل كأنه ملحق بالخارج، وإلى الخارج كأنه سيد الداخل، هذا ما نعيشه الآن وهي المأساة العظمى التي لم يعشها العالم العربي في تاريخه أبداً.
لكن ياسيدي، يداك أوكتا وفوك نفخ، فمنذ اجتماع سقيفة بني ساعدة، بدأت مشكلات هذه الأمة، حين قال الأنصار للمهاجرين: مِنَّا أمير ومنكم أمير، ولم يلتفت المهاجرون إلى الأنصار، ولذلك ولأسباب أخرى تتعلق بالسلطة لا مجال هنا لذكرها، قُتل ثلاثة خلفاء: ابن الخطاب وابن عفان وابن أبي طالب، واستمر القتال والقتل، حتى أنك تستطيع أن تستنتج ببساطة أنَّ تاريخ الاسلام والعرب هو تاريخ القتل. هل كانت الصراعات حادة إلى هذه الدرجة العنفية؟ هل أثرت القبلية والعشائرية والبطون والأفخاذ فيها؟ هل تأثرت بالفرز الطبقي؟ هل تأثرت بالشعوبية وبأطماع الخارج؟
د. تيزيني: هي صورة قاتمة، صورة قاتمة لا أتمنى أن تصحَّ حرفياً فيما نحن فيه، لكن في الواقع قائمة، يعني الألم ازداد بكيفية هائلة غير مسبوقة، الألم الذي نشأ في مرحلتنا الراهنة في العالم العربي سبق كل أحداثنا، وأصبح هذا الألم جزء من واقع الحال، ولكن يبدو أن الواقعة بدأت تقع وهذا ما يبشِّرُ بشيء جديد، إنَّ نقض الداخل، هذه حركة جديدة، قد تكون هي الرهان، قتال الخارج علينا لأجلنا، رهاني أن يتحول قتال الخارج إلى قتال في الداخل حولنا، حول المشروع الوطني الديمقراطي، الآن هذا المشروع الوطني التوحيدي لم يعد محتملاً إطلاقاً دون الديمقراطية التي تضبط تلك الخطوة، تضبطها ضمن قانونية الديمقراطية وخصوصاً القوانين الأساسية وفي طليعتها قانون الحكم الديمقراطي، تبادل العملية بحيث نجد دائرة من التقدم إلى الأمام، عملية التقدم توقفت، بدأت تظهر كل ثلاثة أو أربعة أو خمسة عقود، يعني كل هذه العقود التي تمثل تاريخ قائد من هؤلاء القواد، فالآلية، آلية الوجود والتقدم تحولت بشكل كبير، أنت أصبحت الآن محاصراً بحركة لا تُرى أحياناً، لأنها تغصُّ قبل أن تتحرك جزئياً، والتجارب التي نعيشها الآن هي المصداقية على هذا الأمر، إنَّ الديمقراطية أصبحت ملازمة لعملية أي تغيير داخلي في أي قطر عربي، هذا هو واقع الحال الذي دخلنا في غماره ونعيشه الآن، نعيش مأساته العظمى، في داخلنا وفي العالم. لقد صدَّرنا عالمنا المتفسخ إلى الخارج، وذهب الآخرون كي يقدموا تجربتهم ويتعلموا تجربة أخرى، إنها مأساة الوطن العربي.
طيب دكتور تيزيني، التقدم الذي نوهتَ إليه والذي نحتاجه جميعاً كسوريين وكعرب، يصطدم بقوى في الواقع، قوى اقتصادية واجتماعية ودينية وثقافية، هذه القوى مختلفة، لكنها في معظمها أو جلّها تقرأ التراث قراءة مختلفة عن القراءة الجدلية الموضوعية.. أعود قليلاً إلى الوراء لأستذكر وأسأل: إذا كان مفكرو ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى أواخر الستينات في القرن الماضي قد انقسموا في تقييم الفكر العربي الاسلامي، فبعضهم أكد على تقديس هذا الموروث مثل محمد البهي في كتابه “الفكر الاسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي”، وآخر صنفه تصنيفاً مثالياً كأحمد أمين في “فجر الإسلام، وضحى الإسلام، وظهر الإسلام” وآخر كطه حسين الذي أكد بشكل ما غير دقيق على الطابع الجدلي للتطور الفكري، أما سلامة موسى فقد نادى بالقطيعة مع التراث العربي الإسلامي. إلا أنَّ مفكرين جدد بدأوا بدراسة هذا التراث دراسة منهجية علمية مثل د. طيب تيزيني وعابد الجابري ومحمد أركون وهشام جعيط وجورج طرابيشي وطبعاً بالإضافة إلى محاولة حسين مروة في كتابه “النزعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية”. السؤال: هل تعتبر محاولة حسين مروة في المآل محاولة انتقائية ودعائية لليسار العربي؟ ما الذي يميزه عن أولئك الذين يكتبون في الإعجاز العلمي في القرآن؟ وأحتفظ لنفسي بسؤال ضمن المقام والسياق بعد إجابتك.
د. تيزيني: سؤال مُرَكَّب، يعني ثمة واقعة ربما غابت كثيراً عن معظم الكتاب والمفكرين وهي: ضرورة تحديد السياق التاريخي للفكر العربي كما للفكر الإسلامي، العالم العربي أولاً تميز بعروبته، التاريخ ما قبل الإسلام وما قبل النزاعات كلها التي بدأت تنمو في العالم العربي، هذا يعني أنَّ صيغة محددة بدأ بها العالم العربي، عروبته، الفكرة حاسمة لذلك لم..
لم يبق مفهوم العروبة صافياً يا دكتور، منذ ظهور الإسلام ارتبطت العروبة بالإسلام والإسلام بالعروبة
د. تيزيني: صحيح، لكن بداياته، ارهاصاته، وجودهم قبل الإسلام، يعني سيظهر الحديث علانية مع الإسلام، يعني الإسلام كان له الفضل في إبراز العرب، هنا الفضيلة العظمى للإسلام..
باعتباره حركة ثورية اجتماعية دينية
د. تيزيني: نعم، دينية، هذه الدينية كانت مُتمثِّلة في الموجود تاريخياً، إنهم العرب وآخرون..
الإسلام أعاد صياغة الواقع العربي في تلك الأيام، يعني ثمة شعائر وعادات عربية أخذها الإسلام من الجاهلية وثبتها كبعض شعائر الحج، الطواف والسقاية والرفادة والسعي والإحرام والتحلل، وأخذ من اليهودية قصصها وبعض ما حللته وبعض ما حرَّمته، وصوَّب في المسيحية قصة قتل وصلب المسيح، ونفى موضوعة الفادي المُخلِّص، وأعادها إلى الخلاص الفردي بصحة الإيمان والعبادة، بمعنى آخر أخذ مجموعة من الأنساق السائدة وأعاد ترتيبها وتأويلها بشكل مختلف وصاغها عربياً وسمَّاها الإسلام.
د. تيزيني: جميل، لكن الواقعة الأساسية هنا، كي نكسب الأمرين كليهما، العروبة والإسلام، الواقعة الأساسية أنَّ الإسلام أتى ونظَّرَ للعروبة، الحامل الاجتماعي للإسلام، كان العرب..
طبيعي دكتور، لأنه نشأ في المنطقة العربية
د. تيزيني: طبيعي طبعاً، لذلك هذا الحامل الاجتماعي الذي بدأ يتصدَّع شيئاً فشيئاً حتى مرحلتنا لابد من العودة إليه، لن تستطيعَ أن تُنتِجَ مشروعاً وطنياً بالاستعارة من الآخرين وجوهاً ما، لكي يقومون بهذه المهمة الداخلية، إنَّ الداخل نفسه هو المنوط بذلك المشروع: إعادة بناء الفكر العربي في محايثة مع الإسلام نفسه. الإسلام كان له أهمية عظمى، كان بَعَّاثاً وباعثاً القدرة على الحركة في وسط عربي.
طيب ماذا فعل هؤلاء المفكرين الذين ذكرتهم لك: طيب تيزيني، عابد الجابري، محمد أركون، هشام جعيط، وحسين مروة الذي كان يمثل اليسار العربي، حيث كان في كتابه ” النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية” كمن يبحث عن ذرة ذهب في جبال من قش؟
د. تيزيني: هنا أظن، وهذا محتمل ما سأقوله، مرحلة ما قبل الإسلام أُكمِلَت من المفكرين والكتاب إلا نادراً، لم يُنظر إليها بمثابتها حاضنة اجتماعية تاريخية قادرة..
هو شيء مقصود يا سيدي، لأنهم أرادوا إبراز الإسلام بطمس وتغييب وتسفيه مرحلة ما قبل الإسلام
د. تيزيني: هذا ما يهمنا الآن، أن الإسلام انتشر بالأساس بالعربية، فالعرب هم الذين كانوا أساس وجود الإسلام، العودة الآن إلى هذه الحاضنة التاريخية وقراءتها من جديد في سياقها التاريخي الذي أفضى إلى الإسلام، هذه حالة جديدة هامة. هناك كتابات كثيرة ربما تتكلم عن هذا الأمر، الآن نشعر بحالة مأساوية، لا الإسلام ولا العروبة استطاعا أن يعملا شيئاً ضمن هذه الظروف الهائلة في تخلفها وفي صراعاتها الدموية.
إذاً، نحن بحاجة إلى بحث، معرفي ومنهجي، عن ميراثنا ما قبل الإسلام وما بعد الإسلام.
د. تيزيني: بالضبط. لماذا فشل الفريقان حتى الآن؟ لماذا؟ هذا هو السؤال الآن.
ما وقع فيه الآخرون أنا وقعت فيه أيضًا.
في بحثه المعرفي انتقد محمد عابد الجابري العقل العربي، بينما ذهب محمد أركون إلى نقد العقل الإسلامي، واكتفى هشام جعيط بالتركيز على نهج اختبار الوثائق والنصوص ودراستها بشكل موضوعي… السؤال: ماهي ملاحظاتك على مناهج ومواضيع الجابري- أركون- جعيط؟، وما الذي يميز مشروعك التنويري النهضوي عن هؤلاء الثلاثة؟ وأين تلتقي أو تفترق عنهم؟
د. تيزيني: في الحقيقة هذا سؤال إشكالي، يعني ما وقع فيه الآخرون أنا وقعت فيه، لقد لامستُ الفكر العربي قبل الإسلامي، لكن بمثابة درجة تُؤسس للدخول في الخطوة التالية، خطوة نشأة الحضارة العربية الإسلامية، أهمَلتُ إلى درجة ليست ضئيلة ما قبل هذه الخطوة، التكوين العربي قبل الإسلامي، هذه التي نشترك فيها جميعاً، أولئك ركزوا عليها كثيراً، أنا لامستُ القضية كما أراها، كما عبرتُ عنها الآن، لكن لم أُخَصِّصُ بحثي فيها، إنَّ عملي القادم يتمثَّلُ في بداية التاريخ العربي، هل كان قابلاً لأن يكون حاملاً تاريخياً لمشروع ما خصوصاً بعد نشأة الإسلام؟ هل كانت هذه النشأة محفزة باتجاه التقدم؟ يعني هذا التلاقي بين العروبة والإسلام، أم كان شيئاً آخر؟ وأنا أظن أنَّه كان محفِّزاً..
في الحلقة الرابعة من:
عندما يحكي الطيب تيزيني الكلام المؤجل: “الجابري وقع في خطأ حاسم، خطأ معرفي، بالمعنى الابستمولوجي، اعتبرَ الفكر العربي هنا فكر قاصر لم يستطع أن يرقى إلى مستوى العقل الغربي، هذا العقل الغربي الذي أسس له المستشرقون خصوصاً، ولذلك حين كتب عن هذه المسألة، العقل العربي والعقل الغربي، اعتبر أنَّ العقل العربي كان هامشياً، لم يؤسس لبنية معرفية عربية متماسكة، وإنما كان يمثل شذرات وخواطر هنا وهناك، العيب الأساسي فيه أنه لم يكن ذا بعد ابستمولوجي معرفي دقيق، هذا الذي غيّبه الجابري، لذلك دعا إلى الالتصاق بالفكر الغربي”.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي.