الحلقة الرابعة: الجابري وقع في خطأ حاسم
أنا حذر في تسمية المفكر الجابري بهذه السمة، كان الجابري مفكراً أتقن أداة التفكير الغربي، وأراد أن يطبقه على الفكر العربي فوقع في المفارقة.
في مرحلة ما، حين نشأت الدولة الأموية ومن ثم العباسية، حيث رُسِمت ملامح الحضارة العربية الإسلامية التي أفرزت علماء أجلَّاء ذكرتهم أنت في مشروعك؛ في كتابك “من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المغربي – بحث في القراءة الجابرية للفكر العربي وفي آفاقها التاريخية” تعتبر أنَّ التصورات البنيوية للعقل العربي التي وضعها الجابري تُمَثل أحد المعوقات الأساسية لفكر النهضة العربية. كيف؟
-د.تيزيني: هذا هو الخطأ الأعظم الذي وقع فيه مجموع كبير من المفكرين العرب، بدؤوا أبحاثهم ودراساتهم في ما بعد التشكل العربي الإسلامي، واعتبروا أن بداية الحضارة تتمثل هنا، لم يولوا أهمية مركزية حاسمة لما قبل الإسلام، من هنا أحسستُ بضرورة العودة إلى بدايات ما قبل المشروع الذي بدأت به أنا، إلى ما قبل الإسلام، لماذا لم يستطع الإسلام أن يوحّد، ولماذا لم يستطع العرب أن يوحدوا أنفسهم، ظلت هذه الفكرة الحاسمة ترافق جموعاً هائلة من الكتاب والباحثين، فالجابري مثال على أهمية ما كتبه بالنسبة إلى الفكر العربي، كان هناك خطأ خطر في ما ابتدأ به، إنَّ التحول الثنائي الذي أتى بين المسلمين والعرب، محاولات الدمج بينهما، المحاولات لم تثمر كثيراً، هذه عقدة، عقدة كبيرة. كانت البداية تحتاج إلى عمل هائل، أن يكون التاريخ العربي ما قبل الإسلام حاسماً، لأنه أفضى إلى مرحلة الإسلام وإلى ما بعد الإسلام بمراحل، معظمها أو كلها بشكل ما كانت مخفقة في ما نسميه الآن المشروع العربي.
لنتابع في ما طرحه الجابري، إن كشف الجابري لبنية العقل العربي اعتبر اكتشافاً للبنية الداخلية للمعرفة، من حيث كونها آلية ومفهومات وأدوات وهذا الاكتشاف اعتُبِرَ بمنزلة تصنيف حديث للحيوانات بكونها فقرية أو لافقرية، وهذا مهم جداً لعلم البيولوجيا، وبذا أصبح تصنيف العلوم والمعارف في الثقافة العربية الإسلامية ثلاثة علوم: 1-علوم البيان، 2-علوم البرهان، 3-علوم العرفان.
عدا أنَّ بعضهم اعتبر إنجاز الجابري بمنزلة خريطة تضبط المنطق والرؤية لدارسي التراث العربي الإسلامي. السؤال: ألا تقوم الثقافة العربية الإسلامية على تلك الأركان الثلاثة (البيان والبرهان والعرفان)؟ كيف تقول في كتابك، “من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المغربي” إنَّ الجابري “ينظر إلى الثقافة العربية ككل من طرف وأنَّه يميز فيها –من طرف آخر- ثلاث قطاعات يشكل كل منها حقلاً معرفياً متميزاً يكفي نفسه بنفسه”؟، ألا يشكل الكل مجموع الأجزاء؟
-د. تيزيني: هنا دخلنا في مرحلة لاحقة، بعد العروبة ما قبل الإسلام.
دخلنا في مرحلة الإسلام، وتشكيل العقل العربي بعد الإسلام
-د. تيزيني: نعم، وقع الجابري في خطأ حاسم، خطأ معرفي، بالمعنى الإبستمولوجي، اعتبرَ الفكر العربي فكراً قاصراً لم يستطع أن يرقى إلى مستوى العقل الغربي، هذا العقل الغربي الذي أسس له المستشرقون خصوصاً، ولذلك حين كتب عن هذه المسألة، العقل العربي والعقل الغربي، اعتبر أنَّ العقل العربي كان هامشياً، لم يؤسس لبنية معرفية عربية متماسكة، وإنما كان يمثل شذرات وخواطر هنا وهناك، العيب الأساسي فيه أنه لم يكن ذا بعد إبستمولوجي معرفي دقيق، هذا الذي غيّبه الجابري، لذلك دعا إلى الالتصاق بالفكر الغربي، يعني أحدث هذه الهوّة بين التاريخ العربي وأوروبا ووجد طريقة ما للتلاقي بينهما، هذه الهوة، هنا قصور وهناك فضائل جديدة، فجمع بين التاريخين على أساس يقوم على اللامساواة، من هنا وقع الجابري في هذه المسألة. إنَّ ما نسعى إليه الآن أن نسدَّ هذه الهوة التي وقع فيها الجابري وآخرون كثيرون من العرب والأوروبيين، هذه الهوة، في ظني، تتمثل القدرة على سدّها على الأقل في الحد الأول بالعودة إلى ما قبل الإسلام، دراسة الفكر العربي قبل الإسلام الذي حُصِرَ في فكر شِعري، يقوم على الشِّعر، لكن القضية النظرية الفكرية غُيّبَت، لم يكن هناك بحسب الجميع تقريباً، فكر عربي، كان هناك فكر أو نسق شعري كان عاماً بصورة تامة، لذلك ما قبل الإسلام اعتبر بدايات أولية تأسيسية بمعنى ما، لما سيأتي لاحقاً، ومن ثم أوقعنا الجابري في هوة وهي الدعوة إلى تمثل الفكر الأوروبي، هذه الدعوة كانت أساسية عنده، نحن قاصرون كفكر عربي، المتقدم هو الغرب، هذا عن الجابري لكن المفكرين الآخرين لم يأخذوا هذا الموقف الجابري الحاسم، كانوا مختلفين في مسيرهم، مثلاً الدكتور أركون كان نشيطاً في اكتشاف هذه المسألة، لمَّاحاً في العودة إلى ما قبل الإسلام.
وجواد علي له فضل عظيم أيضاً
-د.تيزيني: نعم، جواد علي مؤرخاً، هناك كتاب كثر، مؤرخون كتبوا عما قبل الإسلام، لكن أغفلوا الوجه النظري الفكري فيه، وألحّوا على الوجه الشعري.
سؤال أخير حول نقدك للخطاب الجابري. اشرح لي النتيجة النهائية لنقدك للخطاب الجابري بقولك: “خطاب أيديولوجي مُمَعرَف، وخطاب معرفي مؤدلج”؟
-د.تيزيني: صحيح. كان الجابري رجلاً مجتهداً، وكان صديقي، ومع ذلك أحسست أنّه غمط حق الفكر العربي، فهو وضع يده على مسألة أساسية هي أنّ الفكر العربي وما قبله كان مغموراً في الأيديولوجيات.
هل كان هناك أيديولوجيات؟
-د. تيزيني: الأيديولوجيات ليست المتقدمة التي نعيشها الآن، أظن أنّ الفكر العربي جزء منها.
من أي أيديولوجية ينطلق الجابري؟ أنت تقول عن خطابه إنّه أيديولوجي مُمَعْرَف
-د.تيزيني: الأيديولوجية هنا الدينية، أظن أن الفكر العربي نشأ فيها وظل فيها، ولم يتخلّص منها لا على أيدي الفلاسفة ولا على أيدي المفكرين، يعني هذا الخط البياني المتصاعد في الفكر العربي ما قبل الفلسفي، علم الكلام وغيره وإلى ما بعده، اعتبرَه سيرورة أيديولوجية واحدة، ومن ثم بدأ بوضع يده على القضية المعرفية في التاريخ العربي، فتنبّه إلى ضرورة اكتشاف هذه اللحظة وتعميمها، لكنه بدأ بتطبيقها على الفكر العربي بإزاحته من اللوحة المعرفية، إنه فكر أيديولوجي ما قبل المعرفة، هذه هي الفكرة التي وقع فيها الجابري.
ألا تظن أن الجابري ينطلق من نسق شخصي في التعالي على الشرق، إذ يعتبر أنَّ المفكرين في الشرق العربي هم مرتزقة ليس من هدفهم الأبحاث الجدية بل هدفهم راتب آخر الشهر، بينما يكتب المفكرون في المغرب العربي في المعرفة ويتسلحون بقربهم من الغرب باستخدامهم منهجاً معرفياً غربياً؟.
-د. تيزيني: أظن أنني سأكون أقل نقداً من هذا الذي سمعت.
- ما الذي أطاح مشروع محمد عابد الجابري؟
هو يتهمك باعتبارك مفكراً من الشرق العربي، أنك مرتزق تكتب فقط للمحافظة على راتبك الشهري.
-د.تيزيني: يعني أنا حذر في وسم المفكر الجابري بهذه السمة، الجابري كان مفكراً أتقن أداة التفكير الغربي، وأراد أن يطبقه على الفكر العربي فوقع في هذه المفارقة، ربما كانت بداية المفارقة أنه ظن أنَّ ما سبق الفكر العربي هو ما أسَّسَ له، أي الفكر الديني، يعني أن الإسلام أسس للفكر العربي بالصيغة الدينية، وقع في هذه المسألة ولم يُدرك أنَّ الإسلام قدَّم إرهاصات للتفكير العربي، وَضَعَ سدَّاً منيعاً بين الفكر العربي والفكر الإسلامي واعتبرَ أن الفكر العربي امتداد للفكر الإسلامي الأيديولوجي، وهذا ما أطاح مشروعه معظمه، لأنه جعل الفكر العربي ربيب الغرب، حالة من حالات المحاولة لاستلهام كل شيء من الغرب على أساس أنه يملك الحقيقة، لذلك أنا في موضع الشاعر الأوروبي الذي قال: الشرق شرق، والغرب غرب ولا يلتقيان.
كالخطين المتوازيين في الرياضيات.
-د. تيزيني: نعم.
لنعد إلى مشروعك. بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وتسلّم الولايات المتحدة الأمريكية قيادة العالم وبداية هيمنة العولمة، أعدتَ النظر في مشروعك النهضوي وجعلتَ عنوانه: من التراث إلى النهضة بعد أن كان من التراث إلى الثورة، وركَّزتَ على أنَّ الحامل الاجتماعي في مشروع النهضة – الحلُم هو “الحامل المجتمعي الذي يتمثل الأمة من أقصاها إلى أقصاها أي من أقصى اليمين القومي الديمقراطي إلى أقصى اليسار الوطني” وهذا التحوّل في مشروعك ساوقه طرحك للنظر إلى العلاقة بين الدين عموماً والنص القرآني خصوصاً، في مشروعك الجديد، شيء ما يشبه اليوتوبيا الأفلاطونية. أليس في مشروعك الجديد بعض الشطح – الحلُم؟.
-د.تيزيني: في الحقيقة قد يبدو الأمر هكذا، لأنه أتى في مرحلة كان فيها الموقف السابق راسخاً في أوساط كثيرة من المفكرين والكتاب العرب، وجاء هذا الموقف الجديد، فاعتُبر حالة من حالات الشطح المعرفي، الخروج من سياق إلى سياق آخر، بعد إطاحة ما سبق، أو مقدمات لما أتى بعد في تاريخنا ذاته، إنَّ الانتقال من هذا إلى ذاك جاء بعد سقوط الاتحاد السوفياتي الذي أظهر مسألتين كبيرتين كمنتا وراء سقوطه، المسألة الأولى، أنه أغفل الديمقراطية العصرية.. ولم..
- ما تبقّى فكر القائد، هذا الذي يبقى قائدًا حتى ما بعد الموت.
العصرية تعني بها الغربية دكتور؟ فهناك ما يسمى أدبياً الديمقراطية الاشتراكية.
-د. تيزيني: لنقل الديمقراطية الليبرالية التي كان يمكن الشغل عليها باتجاه المستقبل، أي باتجاه اشتراكي، هذا الأمر لم يجرِ، فظل فكر القائد والفكر القائد، والآخر غُيّب نهائياً، يعني كان الحزب الشيوعي هو الحزب المهيمن والوحيد، وهذا ظهر في البلدان الاشتراكية الأوروبية أيضاً مثل ألمانيا و..
رومانيا- تشاوشيسكو، وكوبا- كاسترو
-د.تيزيني: نعم رومانيا وكوبا. وأمثلة كثيرة، هذا الذي يبقى قائداً حتى ما بعد الموت، حتى إذا مرض ووصل حدّ الموت يبقى، كان هذا من علّات الاتحاد السوفياتي، ففكرة التجديد، التطوير، التنويع غُيّبت للأسف..
تلك أمة قد خلت، هي مرحلة وذهبت. أنتَ الآن بصدد كتابة مشروع جديد، بل إعادة النظر إلى مشروعك حقيقة وليس كتابة مشروع جديد، فكثير من الثوابت في مشروعك ما زالت صحيحة وصالحة، لكنك بحسب ما أرى تشطح كثيراً باتجاه الوحدة، إذ تركّز على الوحدة القطرية والوحدة العربية كما تحدثنا هنا من قبل، أظن أنَّ ما طرحتَه بعيد المنال.
-د.تيزيني: هنا تساؤل، واقع هذه الأقطار العربية، في أي اتجاه يُحَفِّزُنا؟ باتجاه أي تقدم؟.
فكرت في هذه المسألة طويلاً وقد أكون مخطئاً، ولكني ظننتُ أنني قاربتُ حدَّاً من حدود الصدقية، وأنَّ هذه البلدان المتعثرة تعثراً هائلاً، والتعثر يُنتجُ التعثر، ليس فقط مرحلة من تاريخ التعثر، وإنما هو مرحلة في اتجاه تأسيس بديله الأكثر اضطراباً، فهذا ما يفضي به إلى الإنهاء وجعله جزءاً من تاريخنا؟،
فكَّرتُ ووجدتُ ألّا وجود لأداة أخرى أكثر من التوحيد، التوحيد الداخلي، التوحيد السياسي وليس توحيد البشر، التوحيد الديمقراطي. الديمقراطية هي الأداة التي تقوم على توحيد البلد الواحد، كما على توحيد البلدان العربية مجتمعة، فلا خطة أنَّ هذا هو الحل المحتمل، وليس هناك حدّ آخر مستقبلي، لم يُكتشَف في التاريخ العالمي غير هذين الحلّين، جربنا التفكير ما قبل الإسلامي، وجرّبنا الفكر الإسلامي أيضاً، وما زلنا نعيش هاتين المرحلتين.
وجرّبنا الفكر الماركسي.
-د.تيزيني: والماركسي والعالم الآخر، ولم يأت شيء
- التبادل والتقدم يبدأ مع موت كل زعيم
وفشلت هذه المشروعات كلها.
-د.تيزيني: فشلت، ليس هناك حلّ يتجاوز واقع الحال، الحل لا يأتي من الخارج، ولا يأتي عبر تجربة فاشلة في الداخل، فالأمران كلاهما؛ الداخل والخارج لا بد من تجاوزهما، الديمقراطية هنا تُمثّل الخلاص، الديمقراطية التي تقوم على قواعد أساسية، المبدأ الأساسي هو التبادل التاريخي المفتوح أمام التقدم والتطور، التبادل والتقدم، هنا التبادل والتقدم يبدأ مع موت كل زعيم.
موت عقلية. مات زعماء كثيرون، وجاء بعدهم زعماء جدد، لذلك أنا أقول موت عقلية، حين تموت العقلية تغيب فكرة الزعامة.
-د.تيزيني: نعم، تجسَّد هذا في بشر، يعني هذا المصير التاريخي قضى على الإرهاصات الأولى التي تكونت بطريقة أو بأخرى في هذا البلد العربي أو ذاك، حتى أصبحت من التاريخ، وجاءت مشروعات انقلابية أطاحت ما تبقى وحوّلت العالم العربي إلى فسحة من خيبات الأمل، التي لا نستطيع أن نمسك بها لأنها فقدت الاحتمالات كلها، أصبحت طيشاً مبعثراً، خصوصاً بفعل الخارج، لكن الخارج لم يستطع ذلك من دون أن يكون الداخل قابلاً لذلك.
في الحلقة الخامسة من: عندما يحكي الطيب تيزيني الكلام المؤجل.
مراجعة التجربة.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي.