تقدير موقف
صعدت تركيا من وتيرة قصفها على منطقة عين عيسى شمال وشرق سوريا، وبدأت الفصائل المسلحة المدعومة من تركيا في المنطقة بترويج لعملية عسكرية تركية جديدة على غرار عملية (نبع السلام)، التي أطلقتها قبل نحو عام؛ وانتهت باحتلالها للمنطقة الممتدة بين رأس العين وتل أبيض، وتهجير قرابة ثلاثمئة ألف نسمة من أهالي تلك المناطق.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا:
هل هناك صفقة أميركية- تركية على غرار ما جرى في رأس العين (سري كانيه)؟
وهل الإدارة الأميركية غير قادرة على اتخاذ موقف واضح في ظل المرحلة الانتقالية التي تفصل بين عهدي ترامب وبايدن؟
وهل ما يجري هو اختبار روسي/ تركي مسبق لسياسة الإدارة الأميركية المقبلة في سوريا؟
وماذا لو قررت الإدارة الأميركية التحرّك ضد تركيا في عين عيسى، خاصةً في ظل توتر العلاقات بين الجانبين بعد العقوبات الأميركية الأخيرة؟
كل هذه الأسئلة تأخذ طابع الافتراض، ولكنها تُطرَح بقوة في ظل الحسابات المختلفة لأطراف الأزمة السورية، وإلى أن يتضح مدى التصعيد التركي ضد عين عيسى، وربما تكون حسابات الإدارة الذاتية هو أن تخرج من العاصفة التركية الجديدة بأقلِّ الخسائر، حفاظاً على المكتسبات التي تحققت، والتطلّع لتحويلها ربما إلى إنجازات سياسية في المراحل المقبلة.
غايات ودوافع تركيا لاحتلال عاصمة الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا (عين عيسى)
من أكثر الأسباب والدوافع لتركيا من احتلال عين عيسى، أن منطقة عين عيسى تشكل رمزاً سياسياً وإدارياً وعسكرياً للإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، وهي بمثابة العاصمة الإدارية لها، منذ سيطرة قوات سوريا الديمقراطية )قسد) عليها بدعم من التحالف الدولي لمحاربة داعش قبل نحو خمس سنوات، لذا فإن أحد أهم أسباب التركيز التركي على عين عيسى، هو ضرب هذه الرمزية السياسية، على اعتبار أنها تختزل قسد بالأكراد فقط، حيث العداء التركي لأي مشروع كردي يشكل ثابتاً من ثوابت السياسة التركية في الداخل والخارج، ومن جهة أخرى لوضع اليد على الطريق الدولي (M4) الذي يربط بين حلب والقامشلي، وهو ما يعني سيطرة وهيمنة تركيا على كافة مناطق شمال سوريا وشرقها وضرب الخاصرة الاقتصادية لها، حتى شمال العراق، نظرا لما لهذا الطريق من أهمية تجارية وأمنية واقتصادية وجيوسياسية حيوية.
تقطيع مناطق الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا
من جملة الأسباب التي ترغب تركيا بتحقيقها من احتلال عين عيسى، قطع أوصال مناطق الإدارة الذاتية فيما بينها جغرافياً، إذ إن عين عيسى تتوسط بين الرقة ومنبج وكوباني – عين العرب – شمالاً وجنوباً، وبين القامشلي وحلب شرقاً وغرباً، وإذا ما نجحت تركيا في احتلال عين عيسى، فستشكل ضربة في قلب الإدارة الذاتية، ومحاصرة لمدينتي منبج وكوباني، ولن تتوانى عن احتلالهما لاحقاً.
إضافة إلى أن أي عملية عسكرية في عين عيسى، ربما ستشكل ضربة للحوار الكردي/الكردي الجاري برعاية أمريكية، إذ إنها ستدفع الطرف الكردي، أي المجلس الوطني الكردي المنضوي في إطار الائتلاف السوري، ويتخذ من تركيا مقراً له، إلى رفع سقف شروطه، وخلط الأوراق، بما يؤدي إلى فشل الحوار، وهو ما تريده تركيا فعلياً، إضافة إلى أن توقيت التصعيد التركي الذي تزامن مع توتر العلاقة بين حزب العمال الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني، والاجراءات والخطوات الأمنية التي اتخذها الأخير على الحدود مع المناطق الحدودية في شرقي سوريا الواقعة تحت سيطرة الإدارة الذاتية، كل ذلك بالتزامن مع احتمالية توقف الحوار الكردي/الكردي السوري، إذ بدا للمراقب أن ثمة ما يربط بين هذه الأحداث مجتمعة.
المشروع التركي الحقيقي يريد السيطرة التدريجية على كامل المنطقة الحدودية
امتهن أردوغان سياسة الصفقات والمقايضات في الأزمة السورية، قد تمثل هذه العملية منعطفاً لاستمالة الروس إلى جانبه إذ انتهج بايدن سياسة حازمة ضده، انطلاقاً من مسألتين وهو التنافس الروسي/الأمريكي من أجل السيطرة على مناطق شرقي الفرات، وكذلك السعي الروسي لوضع هذه المناطق تحت سيطرة الحكومة السورية في دمشق بدلاً من الإدارة الذاتية هناك.
فالمشروع التركي الحقيقي في شمال سوريا وشرقها، هو السيطرة التدريجية على كامل هذه المنطقة، ومن ثم إجراء عمليات تطهير عرقي، وتغيير ديموغرافي، وإقامة بنية خدمية فيها مرتبطة بتركيا، كما حصل ويحصل في مدن عفرين وسري كانية/رأس العين وجرابلس وإعزاز، وهو ما يعني عملياً تهيئة فصل هذه المناطق عن سوريا.
وفي جميع الأحوال، لن يتوانى أردوغان عن القيام بأي عدوان جديد لتحقيق أجندته التوسعية إذا وجد ما يشبه الضوء الأخضر من موسكو أو واشنطن للقيام بعملية عسكرية لاحتلال عين عيسى، وعندما يفعل ذلك، لا بد أن يضع نصب عينه اتفاقه مع كل الرئيس الروسي بوتين، ونائب الرئيس الأمريكي مايك بنس، بخصوص وقف إطلاق النار خلال عملية (نبع السلام، وضمانات بعدم القيام باعتداءات جديدة من خلال التزام جميع الأطراف بوقف إطلاق النار، حيث كان لافتاً تصريح المبعوث الأمريكي الخاص بسوريا جيمس جيفري، عندما أعلن خلال زيارة لشرقي الفرات قبل أكثر من شهر “أن تركيا لن تطلق عملية عسكرية جديدة في شمال شرق سوريا” ورغم أهمية هذا الكلام الصادر عن جيفري لكن لا يمكن الرهان عليه، في ظل سياسات أردوغان التي لا تلتزم بوعد أو ميثاق أو اتفاق أو عهد، ولا يتوانى عن ارتكاب عدوان تلو الآخر.
الخبث الروسي يضع قسد أمام خيارين إما النظام أو تركيا؟!
تتردد في الأوساط الدبلوماسية والسياسية بأن هناك ثمة معادلة صعبة كانت قد طرحتها روسيا للإدارة الذاتية، وهي إما تسليم قوات سوريا الديمقراطية (قسد) منطقة عين عيسى للنظام السوري أو أن الغزو التركي قادم لا محال، في صيغة حملت طابع الابتزاز والخبث، والخيارات الصعبة لقسد تراوحت بين الاستجابة للطلب الروسي كي لا تتكرر مأساة عفرين، أو مواجهة الغزو العسكري التركي، وتحمّل المسؤولية التاريخية عن نتيجة المعركة بغض النظر عن كسبها أو خسارتها، وتزامن كل ذلك مع بقاء نحو شهر على مغادرة دونالد ترامب سدة الحكم في البيت الأبيض وتسلّم بايدن لها، وهو ما بدا للبعض أن أردوغان ربما يريد استغلال الفرصة الأخيرة لوجود ترامب في السلطة، حيث العلاقات الشخصية القوية بين الرجلين سهّلت إلى حدٍّ كبير لأردوغان قيامه بغزواته السابقة، ولا سيما احتلاله للمنطقة الممتدة بين سري كانيه (رأس العين) وتل أبيض.
وبخصوص كل ما ذكر أنفاً، تحدثت الناطقة باسم حزب الاتحاد الديمقراطي (pyd)، وعضو في لجنة مباحثات الحوار الكردي السيدة سما بكداش، لمرصد مينا لدراسات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، قائلةً:
الهجمات والتهديدات التركية مستمرة على مناطق شمال وشرق سوريا، ولم تلتزم تركيا بأي اتفاقيات لوقف إطلاق النار، فقد استهدفت بين الحين والأخر عدة مناطق كعين عيسى و كوباني وتل تمر وغيرها، وما تقوم به دولة الاحتلال التركي هو لتدمير وسحق مشروعنا الديمقراطي ومكتسباتنا، لأنه كلما خطونا خطوة مهمة سياسياً، تستعر هجمات الدولة التركية على مناطقنا، ومن جملة حججها الباطلة هو الحفاظ على الأمن القومي التركي وبأن وجود أي كيان كردي يشكل خطراً عليها، وطبعاً كل ما تقوم به من هجمات هو خارج عن المواثيق والشرائع الدولية، وما تم تأسيسه في شمال وشرق سوريا بمختلف مكوناته هي إدارة ذاتية ديمقراطية تسعى للعيش بكرامة وبديمقراطية دون إقصاء وإلغاء الأخر، واستهداف الاحتلال التركي لمنطقة عين عيسى لضرب مشروعنا الديمقراطي، نظراً لأن عين عيسى هي ذات دلالة رمزية وسياسية للإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا بعد تشكلها، وبعد أن دحرت الارهاب من مناطقه، ونظراً لما له من أهمية اقتصادية، وهو الطريق الدولي (M4-M5) الذي يربط الشمال بالشرق.
وتابعت: إن ما تقوم به قوات سوريا الديمقراطية في مناطقها هو الدفاع المشروع، ونحن منفتحون على الحوار مع جميع الأطراف، وحتى مع “العدو”، ولا نشكل أي خطر على أي دولة، وأما بالنسبة لما يتم التحدث به بخصوص مطالبة روسيا من قوات سوريا الديمقراطية بأن نقوم بتسليم عين عيسى، ففي الحقيقة إن هذه المطالب لم يتم طرحها، وكل ما يتم الترويج لها غير صحيح، وقد تم تداول ذلك كثيراً، خاصة وإن السياسة الروسية واضحة وعميقة واستراتيجية، وما يتم الترويج عنه هو خارج أي اتفاقات سابقة، ومن جهة أخرى علينا أن لا ننسى بأن روسيا دولة ضامنة، وبالمقابل ليس مستبعداً أن يكون هناك بعض المقايضات والاتفاقيات بين تركيا وروسيا بخصوص إدلب مثلاً، وسوف تخرج إلى العلن لاحقاً، فهناك أمور تختلف عليها روسيا وتركيا، وأمور أخرى تتفق عليها! فالسياسة فن الممكن، ولا نستبعد شيئاً من أي طرف فالجميع يبحث عن مصلحته في سوريا، ولا يبحث عن مصلحة الشعب السوري ومكوناته، إضافة إلى أن تركيا تحاول الاستفادة من الفراغ الذي شكله فترة الحكم الرئاسي أي قبل استلام بايدن حكم الرئاسة الأميركية بدل عن ترامب.
وأكدت سما بكداش: بأن الحوار الكردي/ الكردي ما يزال مستمراً، ولم يتوقف بحسب ما يروج له كثيرون، فهناك العديد من الأمور تم الاتفاق عليها وهناك بعض الأمور يتم النقاش فيها، وسيتم طرحها والإعلان عنها في الوقت المناسب، ولن يؤثر أي شيء في تحقيق أهدافه الحوار الكردي، لأن الحوار الكردي ضروري ومهم لجميع الأطراف للحفاظ على مكتسباتنا الديمقراطية.
وحول جملة من التساؤلات، حول مصير عين عيسى، وماذا يجب على الإدارة الذاتية فعله كي لا تتكرر مأساة سري كانية/عين عيسى، وماذا عن المخاوف التي تنتاب الشارع الكردي لفقدانها ما اكتسبته عسكرياً وسياسياً، والتي تحدث فيها لمرصد مينا لدراسات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، الباحث والأكاديمي السياسي الكردي، الدكتور محمود عباس، قائلاً:
لا نتوقع أن يكون هناك اتفاق بين الأمريكيين وتركيا وروسيا على عين عيسى، بقدر ما هو بين روسيا وتركيا، وهذه تجارة سياسية/عسكرية تشمل مصير إدلب والمعارضة وما جرى في ناكورنيا كرباغ، وهي رسالة ضغط على الإدارة الأمريكية القادمة في مرحلة الانتقال الجاري، والمتوقعة أن تزيد من دعمها للكورد، خاصة إذا نجحت المفاوضات الكوردية/الكوردية، ومصير عين عيسى ومستقبلها تستند على وعي قيادة الإدارة الذاتية ومدى قدراتها الدبلوماسية مع روسيا واتفاقياتها معهم على أرض الواقع، كل الاحتمالات متوقعة في واقع اللامبالاة الأمريكي.
هل سيكون مصير عين عيسى كعفرين وسري كانية/عين عيسى، قال:
لا نتوقع أن يكون مصيرها كمصير عفرين، رغم أن الطلب الروسي فيها خدعة سياسية/عسكرية، وهي عملية ضغط مبنية على اللامبالاة الأمريكية، وغايتها من السماح لتركيا بالضغط هي، أولاً، لإزالة السيادة الكوردية، تحت منطق احتلالها من قبل تركيا ونقل قسم من المعارضة من إدلب. ثانياً، إعادتها إلى سلطة الأسد. وفيما إذا لم تتماثل للإملاءات الروسية، حينها قد يعاد واقع الباب وإعزاز وعفرين التي كانت بوابة الخطأ الذي وقعت فيه قيادة الإدارة الذاتية، وتتكرر بعدة إشكاليات ومنها ضعف دبلوماسيتها والتفرد في السيادة”.
ما هو المطلوب من ممثلي الإدارة الذاتية في هذا التوقيت، فقال:
توسيع حراكها الدبلوماسي على مستويات عدة وخاصة مع الأمريكيين، ومع الروس في الواقع الميداني بإقناعهم على أن منطقة عين عيسى هي جزء من المنطقة الكوردية التي يجب الاعتراف بها كفيدرالية كوردستانية بكل مكوناته، ضمن سوريا اللامركزية، وفي الواقع الميداني، العسكري وليس السياسي، نرجح الاتفاق مع الروس في حال استمرت أمريكا على اللامبالاة”.
وعن المخاوف التي تنتاب الشارع الكوردي، قال:
في الحقيقة عين عيسى لم تكن البداية، ونتمنى أن تكون نهاية مسيرة عودة السلطة المركزية للمنطقة الكوردية، وإن تم ونحن نستبعد إعادتها كلياً، ستكون بوابة نهاية الإدارة الذاتية بكل مكوناتها وعلى مراحل، التي بدأت قبل احتلال الباب وإعزاز ومن ثم عفرين، بل من الهجرة والتهجير الكردي غير المباشر، وبالتالي التغيير الكارثي للواقع الديمغرافي في جنوب غرب كوردستان، والتفرد في إدارتها والإبقاء على مخلفات السلطة في المنطقة، وغيرها من الأخطاء”.
من الخبث الروسي والمكر التركي إلى الصمت الأمريكي!
هناك جملة من الأمور الأساسية تقف وراء السياسة التي اتبعها الجانب الروسي في عين عيسى، تتمثل بتنافس مع الولايات المتحدة على النفوذ في مناطق شرق الفرات، وفي قلب هذا التنافس عين عيسى لرمزيتها الكبيرة، وإن دفع اللاعب التركي إلى هذه المعركة هو تكتيك روسي معقد، فمن جهة يفتح باب الصدام بين التركي والأميركي في شرق الفرات كما يعتقد الروسي، ومن جهة ثانية يفتح باب الصفقات والمقايضات مع تركيا من جديد، حيث كان لافتاً تزامن الانسحابات التركية من مناطق في أرياف حلب وإدلب وحماة مع التصعيد في عين عيسى وتل تمر، وفي النهاية تبحث روسيا عن وضع بصمتها على كامل أوراق الأزمة السورية، ومع وضوح المواقف الروسية والتركية من ما يجري في عين عيسى، فإن الغموض يلفُّ الموقف الأميركي، إذ إن التصعيد التركي يشكّل خرقاً واضحاً لاتفاق أردوغان/بنس قبل أكثر من عام، كما يشكّل خلافاً لتصريحات جيمس جيفري قبل فترة، حين قال: إن تركيا لن تطلق عملية عسكرية جديدة في شمال شرق سوريا. والصمت الكامل للتحالف الدولي وعلى رأسها الولايات المتحدة، إزاء التصعيد التركي، خلافاً لمضمون التصريحات الأميركية التي تعهدت مراراً بحماية الحلفاء الذين حاربوا معاً تنظيم داعش.
وكان لعضو المنسقية العامة لحركة الإصلاح الكردي سوريا، ومنسق تنظيم الحركة في إقليم كردستان العراق، الدكتور عبد الوهاب أحمد المجلس الوطني الكردي، حديث خاص لمرصد مينا لدراسات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، قائلاً:
البداية، لا بد من القول أن المساحات الجغرافية التي تسيطر عليها القوات العسكرية المحلية أو الإقليمية أو الدولية حالياً، هي نتاج توافقات سياسية حصلت في الماضي بين اللاعبين الدوليين المؤثرين في الأزمة السورية مثل أمريكا وروسيا والى حد ما تركيا؛ لفرض مناطق النفوذ خاصة بها كأمر واقع ريثما يتم الوصول إلى تسوية سياسية عامة في البلاد وفق مسار جنيف وقرار مجلس الأمن 2254 وما يحصل في عين عيسى يندرج في هذا الإطار، مع الاختلاف في الرغبة التركية وسعيها المستمر إلى قضم مزيد من المساحات في المناطق الكردية على حساب التفريط بقليل من دورها في إدلب لصالح روسيا أو النظام.
وأضاف: يبدو أن تركيا وبدفع روسي تحاول استغلال فترة انتقال الإدارة الأمريكية إلى رئيسها المنتخب بايدن وطاقمه، إلا أن المتابع للرؤية الأمريكية في سوريا عموماً ومناطق شرق الفرات بشكل خاص، يدرك أن الإدارة الأمريكية وبغض النظر عن هوية إدارتها (جمهورين أو ديمقراطيين) ليست بوارد القبول بأي تحرك باتجاه منطقة نفوذها الحالية، واعتقد لن تسمح لتركيا أو روسيا بالضغط على قوات سوريا الديمقراطية واجبارها تحت الابتزاز للقبول بالشروط الروسية التركية. والواقع الحالي بالنسبة لعين عيسى يختلف تماماً عن الظرف الذي تم فيه احتلال تركيا لعفرين وسري كانيه وكري سبي، سابقاً كانت هنالك مناطق تحت سيطرة المعارضة المسلحة التابعة لتركيا في ريف حلب وريف حماه والغوطة الشرقية قايضت تركيا روسيا عليها مقابل هذه المدن الكردية والتي أعلنت الإدارة الأمريكية وقتها أنها لا تخضع لمنطقة نفوذها، باستثناء مدينتي سري كانيه/رأس العين وكري سبي/تل أبيض، التي تمت بموجب اتفاق بين الرئيس ترامب واردوغان، والذي سرعان ما تراجعت الإدارة الأمريكية عنها بإبرام اتفاق عسكري آخر بعد توغل تركيا والمليشيات السورية التابعة لها في المنطقة، حددت بموجبها خطوط التماس بين تركيا وقوات سوريا الديمقراطية، ومنعت من انتشار القوات الروسية والنظام في المناطق الخاضعة لسيطرة قسد، لذا أجد ما يحصل في عين عيسى من اشتباكات ليست سوى ابتزاز روسي بالدرجة الأولى لقسد حليفة أمريكا بهدف انتزاع ما يمكن انتزاعه لصالح النظام، ورسالة تركية استباقية للإدارة الأمريكية الجديدة رداً على اي منحى قد تتخذه هذه الإدارة لصالح قسد في سوريا، أو تضييق الخناق على الاقتصاد التركي من خلال العقوبات والضغط عليها لإلغاء صفقة الصواريخ الروسية أس 400 “.
وأشار: إن إطالة عمر الأزمة السورية الى هذا الوقت أفقد الأطراف المحلية (النظام – المعارضة السورية، قوات سوريا الديمقراطية ومسد) قدرتها على المناورة واتخاذ القرارات المناسبة البعيدة عن أجندات ومصالح الدول الكبرى المؤثرة ، من هنا أرى أن قسد محكومة في النهاية باعتبارات خارج إرادتها: أولاً، هي مازالت حليفة الإدارة الأمريكية، والأخيرة أعلنت مراراً عن دعمها لقسد في جهوده لمحاربة تنظيم داعش، والمنطقة التي تحصل فيها الاشتباكات منطقة خاضعة لسيطرة النفوذ الأمريكية بإدارة كردية، أي أن القرار النهائي لمصير عين عيسى يعود للإدارة الأمريكية، ولكن إذا ما تنصلت الإدارة الأمريكية عن التزاماتها تجاه حليفها المفترض، عندئذ علينا البحث عما تريده الإدارة الأمريكية من تركيا أو روسيا مقابل الإفراط بعين عيسى، أو ما الذي تريده الإدارة الأمريكية من قسد حتى تبعدها عن فكي الكماشة؟ من جهة تهديدات تركية بالسيطرة على عين عيسى، ومن جهة أخرى ابتزاز روسي في الضغط على قسد لتسليم المدينة إلى قوات النظام دون مقابل، وأعتقد لا يوجد ما يقدمه الروس لقسد سوى تجنيبه المواجهة العسكرية المباشرة مع تركيا. ثانياً، إذا وجدت قسد نفسها وحيدة في المواجهة مع تركيا وتجنباً للدخول في معركة لا يوجد فيها اي تكافؤ في القوة، المنطق يحتم عليها الرضوخ للضغوط الروسية والنظام، ونجد عين عيسى خارجاً عن سيطرتها، وبالتالي تخسر قسد مزيداً من جغرافيتها وتصبح داخلياً أكثر ضعفاً. في ظل هذه المعطيات أرى أن قسد لا تملك الكثير من الخيارات إذا ما تخلت عنها الإدارة الأمريكية في عين عيسى، أما أن تقرر المواجهة العسكرية مع تركيا وهذا خيار سبق وأن خسرت فيها الكثير، وأما القبول بالشروط الروسية وتجنيب المدنيين المزيد من التهجير والتشريد والعذابات بسبب الممارسات التي ستنتهك بحقهم من قبل المليشيات التابعة لتركيا.
كما أكد في حديثه: إن أي سيناريو جديد بالنسبة لمنطقة شرق الفرات وشمال شرق سوريا لن يكون بمنأى عن الموافقة الأمريكية، وهذا مرتبط بمدى الجدية الأمريكية ومشروعها في المنطقة الذي لم يتضح معالمه حتى اللحظة، فإذا كانت هنالك إرادة أمريكية حقيقة في الحفاظ على المنطقة خدمة “لمشروعها” سوف لن تسمح لتركيا أو روسيا والنظام بالتمدد خارج المتفق عليه والاقتراب من منطقة نفوذها، ولن تسمح أيضاً لقسد أو مسد بالدخول في مفاوضات مع روسيا او النظام حول كيفية وشروط تسليم المدينة، ومن هنا يمكننا القول إن مصير باقي المناطق الكردية ليس مرهون بتسليم عين عيسى للنظام أو روسيا، وإنما مرتبط بالدرجة الأولى بالتوافقات الداخلية بين القوى السياسية المحلية وجميع مكونات المنطقة وفق مشروع وإدارة جديدة يتلاءم مع المصالح والتوافقات الدولية، وهنا تبرز أهمية الرعاية الأمريكية وإدارتها للمفاوضات الكردية – الكردية الجارية حالياً بغية الوصول إلى اتفاق سياسي شامل، هدفه التأسيس لإدارة حكم أكثر تشاركية وفعالية وشفافة لتضم لاحقا كافة مكونات المنطقة السياسية والعرقية والدينية وقوى وفعاليات مجتمعية ومدنية وهذا ما يضع حداً لجميع انواع التهديدات الخارجية الآتية من تركيا والمعارضة التابعة لها أو الداخلية الآتية من النظام وروسيا. إذاً باعتقادي ما يجنب باقي المناطق الكردية من شبح الحرب والتهديدات الخارجية والداخلية هو الإتيان بمشروع سياسي متكامل عبر اتفاق كردي يراعي مجمل المتغيرات والمتطلبات الداخلية والإقليمية والدولية.
وأما فيما يتعلق بالحوار الكردي- الكردي، قال: أولاً، الحوار الكردي/الكردي كان ومازال حاجة وطنية وقومية في الآن معاً، وقبل كل شيء هو مطلب الشعب الكردي قبل أحزابه السياسية، وانطلاقاً من هذا الاعتبار كان لابد من ترتيب البيت الكردي وفق مقتضيات المصلحة العامة بعد أن أصابه التشتت وعدم وجود رؤية سياسية مشتركة تعبر عن تطلعات الشعب الكردي بشكل حقيقي وتحافظ على خصوصيته. مازالت المفاوضات الكردية/الكردية بين المجلس الوطني الكردي وأحزاب الوحدة الوطنية مستمرة برعاية الإدارة الأمريكية والجنرال مظلوم كوباني وبدعم وتنسيق مع قيادة إقليم كردستان العراق، وانجزت الكثير من مراحلها بعد الاتفاق على الرؤية السياسية، والمرجعية الكردية العليا، وكيفية مشاركة المجلس الوطني الكردي في الإدارة الذاتية بعد إجراء التعديلات اللازمة. مازالت بعض نقاط الخلاف الجوهرية عالقة لم يجر التفاوض حولها، وهي بحاجة إلى مباحثات ونقاشات جدية للوصول إلى توافق عليها حالما يعود السفير الأمريكي الجديد ويستلم مهامه في سوريا. حتى الآن نحن في المجلس الوطني الكردي مصرون على إنجاح هذا المسار بشكل يليق بتضحيات شعبنا الكردي في سوريا وقضيته، ونعتقد كل الظروف مواتية للوصول إلى اتفاق سياسي شامل يلبي احتياجات شعبنا ويخفف العبء عن كاهله ويوفر الأمن والاستقرار لمناطقه، وعلينا أن نسعى إلى خلق المناخات الإيجابية وتذليل العقبات في طريق هذه المفاوضات بدل التشكيك وكيل الاتهامات، أو اللجوء إلى أعمال وممارسات تخريبية كما حدث مؤخراً لمكاتب المجلس الوطني الكردي وأحزابه وذلك للتشويش على المسار التفاوضي وتقويض فرص نجاحه والتي في النهاية لا تخدم سوى الانتهازين وطبقة الفاسدين والمتضررين من هذا الاتفاق.
ختاماً
إن الوضع في عين عيسى محكوم إلى حد كبير بالتفاهمات الروسية التركية، فإن أياماً وربما أسابيع قليلة ستكون صعبة في عين عيسى التي تتعرض لقصف يومي من تركيا والفصائل الموالية لها، ولعل الأمل الذي يسكن أهلها هو عدم تكرار مأساة جديدة على غرار ما جرى لعفرين وسري كانية/ رأس العين؛ وهذه مسؤولية أمريكية وروسية معاً، إذ دون ذلك لن تهدأ الطموحات الجامحة لأردوغان الذي يعيش على وقع أزماته الداخلية والخارجية، ولن تشهد الأزمة السورية حلاً أو حلولاً سياسية طالت انتظارها، في وقت تتفاقم فيه معاناة السوريين في كل الاتجاهات.