تقدير موقف
مقدمة:
قبل الحديث عن دور العقيدة في حرب غزة؛ لا بد أن نفرق بين شعب غزة وحركة حماس؛ فشعب غزة مستضعف ويتعرض لإبادة في معركة لا ناقة له فيها ولا جمل؛ ونتألم لألمه.
وأما حركة حماس التي تمثل قوى الأمر الواقع المفروض على شعب غزة؛ فهي تقوم بمغامرات ومقامرات عسكرية دون أي دراسة لموازين القوى والواقع العسكري والسياسي الدولي؛ ودون مراعاة لأمن غزة الاجتماعي الذي يعاني اليوم من كارثة بكل معنى للكلمة بسبب الحرب.
المدخل:
لحركات المقاومة الإسلاموية التي هي أحد فروع الإسلام السياسي؛ سياسةٌ شبه ثابتة في تبرير الحروب التي تقوم بها؛ ولو تدبرناها بهدوء؛ سنجد بأنها تتقاطع في بعض نقاطها مع الأنظمة التي تدعي المقاومة والممانعة.
وغزوة حماس في غلاف غزة لا تخرج عن هذه السياسة التي سنوضحها؛ بل هي أشد التصاقاً فيها، الغريب والعجيب أن مغامرات الحركات الإسلاموية عسكرياً منذ نشأة الجماعة الأم (الإخوان المسلمين) حتى اليوم؛ أي على مدار قرن كامل؛ لم تنجح في حرب من حروبها؛ سواء مع الأنظمة؛ أو مع إسرائيل و(حماس وحزب الله أنموذجاً).
ولكن ما هي استراتيجية حماس في حروبها مع إسرائيل؟ وما الأسس العقائدية لحركات الإسلام السياسي عموماً في معاركها؟ ولحماس خصوصاً؟
لا يمكن أن نعرف الدوافع العسكرية لغزوة غزة التي قامت بها حركة حماس؛ إنْ لم نعرف الدوافع العقائدية المحركة لحماس؛ إذ إن هناك مسلمات أساسية؛ بناءً عليها يتم دخول هذه المعركة أو تلك؛ وتتمثل بما يلي:
- تحرير الأوطان مقدم على تحرير الإنسان. ولا بأس أن يكون الإنسان قرباناً لهدفٍ سياسي؛ وهذا يتعارض مع مقاصد الإسلام.
- ملف القضية الفلسطينية عند حركة حماس أهم ملف في العالم؛ وبالتالي فإن الشعوب العربية لا يمكن أن تحصل على استقلال حقيقي؛ ما لم يتم تحرير فلسطين.
- لا بد من إبقاء ملف القضية الفلسطينية على طاولة البحث الدولي، لذلك يعتبرون الثورة السورية؛ أخذت مكان الملف الفلسطيني من حيث الاهتمام العربي والدولي، مما جعل الملف الفلسطيني تحت الطاولة. وهذا ما يفسر موقف حماس السلبي من الثورة السورية.
- تؤمن قيادة حماس بعودة القطبية العالمية؛ حتى لا تبقى الإدارة الأمريكية الداعمة بالمطلق لإسرائيل متفردةً بالقرار الدولي؛ ولذلك لا بد من لوي ذراع أمريكا؛ من خلال شغب سياسي أو عسكري هنا وهناك؛ وهذا واضح في تأييدها لروسيا في حرب أوكرانيا؛ وتأييدها لإيران في جلِّ سياساتها الخارجية.
- لا بد من إيقاف التطبيع العربي المتسارع مع إسرائيل بأي ثمن؛ لأنها تعتبره تصفيةً وإنهاء للقضية الفلسطينية.
- تقوم سياسة حماس وعموم حركات الإسلام السياسي على الإيمان بنظرية سيد قطب؛ التي تقول: يجب علينا العمل؛ بغض النظر عن النتائج؛ فالنتائج من عمل الله. وهذه النظرية تقوم على تفسير خاطئ لبعض الآيات القرآنية.
- والنظرية السابقة ولدت مسلمةً خاطئةً؛ طرحها كذلك سيد قطب وآخرون من منظري الحركات الإسلامية وتقول: كلما أزداد ألمُنا؛ والتنكيلُ بنا؛ وعذابُنا؛ أصبحنا من الله أقرب، وبالتالي نكون على الطريق الصحيح؛ مهما وصفنا؛ أو قال عنا خصومنا.
- تؤمن حماس وجلُّ الحركات الإسلاموية بمقولة منسوبة لكيسنجر: الجيش إنْ لم ينتصر على عدوه فهو مهزوم. وبالتالي تؤمن حماس وحزب الله ومنهم على شاكلتهم؛ بأن المقاومة؛ إنْ لم تُهزم؛ فقد انتصرت. وهذا ما تؤمن بها أنظمة المقاومة والممانعة كذلك؛ فحماس وحزب الله والحوثيين؛ هذه التنظيمات اللادولتية إن لم تنتهِ بشكل كامل في أية معركة تدخلها؛ فإنها تعدُّ نفسَها منتصرة.
- الإعلام السلاح الأقوى في المعركة العسكرية، وبالتالي فمسموح لهم بالكذب وتزيين الهزيمة؛ واختراع القصص الأسطورية أثناء المعارك؛ وهذا ما يقوم به جمعٌ مهم من منظري ودعاة الإسلام السياسي في مواقع التواصل الاجتماعي؛ مثل حذيفة عبدالله عزام؛ ومختار الشنقيطي وغيرهم كثر. بتغريدات اسطورية عن كرامات وخوارق لمجاهدي حماس في معركتهم.
- استغلال هذه المعارك لإخراج المعتقلين؛ بأي ثمن؛ وهذا يُعَدُّ نصراً للمقاومة والممانعة؛ لأنه يساهم في تزييف النصر العسكري الموهوم للحاضن الاجتماعي الداعم لها؛ رغم أن حماس في هذه المعركة؛ كسرت قاعدة تبادل الأسرى مع إسرائيل؛ ففي حين كان يستبدل الأسير الإسرائيلي بمئات الأسرى العرب؛ إلا أنه في عملية تبادل الأسرى الأخيرة أثناء الهدنة؛ كسرت حماس القاعدة، وتم تبادل الأسرى بإسرائيلي واحد مقابل ثلاثة فلسطينيين؛ وهذا تأسيس غير مسبوق؛ فيه تنازل كبير للفلسطينيين.
تخبطات قيادة حماس في غزوتها!
هناك أسباب أخرى جيوسياسية دفعت حماس للدخول في هذه المغامرة والمقامرة العسكرية؛ ففي حديث لنا مع بعض الأصدقاء من غزة؛ قائلاً: إنّ المجتمع الغزاوي كان يُحَضّر لانتفاضة ضد حماس؛ وثورة شعبية ضد سياستها الظالمة مع مخالفيها ومعارضي سياسةَ تفردِها وأحاديتِها بغزة.
في تفسير آخر للغزوة قال السياسي الفلسطيني ( أ أ ه) أحد القيادات الفلسطينية:
خلال سنوات الربيع العربي؛ تزايدت الأعباء الاقتصادية على حماس في غزة، وبالتالي أرادت قيادة حماس تصدير أزمتها الداخلية؛ بحرب ما؛ لإلهاء أهل غزة عن مشاكلهم الحياتية، وتحويل مشكلة غزة من أزمة محلية، إلى أزمة دولية؛ وبالتالي تأتي المساعدات الدولية والإنسانية لدعم حماس بشكل غير مباشر لإنقاذها من أزمتها.
ولقد حدثنا الإعلامي عبد السلام عقل في ندوة شاركنا معاً فيها حول غزة؛ وهو متعاطف في الحرب مع حماس: بأن رئيس المخابرات الإسرائيلية (الشاباك) ذهب إلى الدوحة متوسطاً قطر؛ لرفع حجم مساعداتها الشهرية بزيادة 50 مليون دولار؛ التي تأتي لحماس من الدوحة عبر مطار تل أبيب؛ وتصل إلى حماس بغزة؛ بحماية (الشاباك) وتُسَلَّم للقيادة الحمساوية.
وهذا أكده قائد حماس بغزة “يحيى السنوار” في خطاب له؛ موجود على مواقع التواصل؛ بأن تردي الأوضاع في غزة؛ أصبح فوق طاقتنا؛ فإن لم يحصل لنا دعم عربي ودولي؛ سنحرق الأخضر واليابس! وإعلان السنوار هذا؛ واحد من تخبطات عديدة لقيادة حماس حول الهدف من المعركة؛ الذي لم يُتَّفَق عليه حتى اللحظة بين قياداتها، وهذا دليل تخبط كبير.
هناك تبرير لقيادة حماس؛ يطرحونه لحلفائهم وأصدقائهم الذين يتساءلون عن توقيت المعركة؛ وخطئها؛ حتى أن خالد مشعل أشار إليه في أكثر من لقاء إعلامي في الأسبوع الأول للمعركة فقال في تبريره:
إن قرار المعركة هو قرار خاص بكتائب القسام؛ ونحن لا نعلم به.
وهذا تبرير غير صحيح؛ يعرفه كل من هو قريب من حماس؛ إنما كانوا يعرفون بتوقيت المعركة، والخطة لها؛ ولكن ثبت أن الجهاز الأمني الذي قاد المعركة غير منضبط بأوامر القيادة السياسية؛ إذ كانت الخطة المتفق عليها؛ وتعلم بها بعض الأنظمة الإسلامية والعربية الداعمة لحماس؛ أن العملية ستكون محدودة جداً بالهجوم صباح 7 أكتوبر على المستوطنات في غلاف غزة، وتتمثل بأسر بعض المستوطنين وبأعداد قليلة جداً بالنسبة للعدد الذي تم أسره؛ ويُراد منها تبادل أسرى لحماس في سجون الاحتلال؛ كما يُراد من هذه العملية تحقيق ضغط إيراني على الولايات المتحدة؛ ومن ثَمَّ عرقلة التطبيع مع إسرائيل.
وهناك تسريبات إعلامية أعلنها رئيس المخابرات الأمريكية والمصرية؛ ووصلت لإسرائيل؛ تؤكد هذا؛ تحدثت عما جرى قبيل المعركة في الاجتماع الذي حصل ببيروت بلبنان يوم الإثنين السابق ليوم السبت الذي جرت فيه غزوة غزة.
ولكن الجهاز الأمني الذي قام بالعملية؛ وجد الإسرائيليين سكارى بعد احتفالهم بيوم الغفران؛ وبدلاً من أن يأسروا بضعة أشخاص؛ أخذوا (250) أسيراً؛ وبطريقة مذلة ومُصَوّرة ومنشورة إعلامياً؛ مما شكل جرحاً كبيراً للكبرياء العسكري الإسرائيلي؛ استدعى هذا الرد المفرط بالوحشية على سكان غزة عموماً.
وهذا التصريح لقادة حماس بعدم علمهم؛ يجعلنا نذهب لاحتمالين اثنين لا ثالث لها:
الأول: إما هو تَنَصُّل للقيادة السياسية من المعركة؛ وعلى رأي أهم الداعمين الإعلاميين لمعركة حماس إذ قال: حماس وضعتنا في ورطة؛ لا نعرف كيف نخرج منها.
والثاني: إن القيادة السياسية؛ في الخارج باتت منفصلة تماماً عن قرار حماس الداخل؛ ولا سلطة لها عليه. وما يجعلنا نرجح الاحتمال الثاني؛ أن المعلومات من غزة، تقول بأن السنوار المتفرد بقرار حماس داخلياً؛ يرى بأن القيادة السياسية بالخارج (مشعل ــ وهنية ــ وأبو مرزوق) يعملون سفراء لحماس بالخارج؛ وليسوا قيادة سياسية لها، كما يروجون. وهذا يعني أن قيادة حماس بالخارج منفصلة عن قيادة وقرار حماس بالداخل.
غزوة غزة من وجهة النظر الإيرانية!
إيران تعمل كعادتها على الاستفادة من أي حدث يقع في شرقنا البائس، لاستثماره في سياسة تمددها بالمنطقة العربية، وفي مناكفة الإدارة الأمريكية؛ حيث تعتبر إيران أن حماس أحد أذرعها في شرقنا البائس؛ ومن هذا المنطلق تتعامل معها. ولكنها تعامل مع حماس بمرتبة أقل من مرتبة حزب الله الذي تعتبره إيران جزءاً لا يتجزأ من فيلق القدس. وإيران في سياستها الخارجية حريصة على حماس؛ وتدعمها طالما تخدم مصالحها؛ وتأتمر بأمرها؛ ولكن إنْ خرجت عن تعليماتها؛ وتمردت على سياستها؛ تتخلى عنها.
الذي حدث أن حجم عملية 7 أكتوبر؛ كان أكبر مما هو مخطط له، مما دفع العالم كله للتعاطف مع إسرائيل بشكل مطلق؛ هذا التوسع في تنفيذ العملية من قبل الجهاز الأمني لحماس؛ أحرج إيران؛ واعتبرته تمرداً على تعليماتها؛ مما دفعها للتخلي عن حماس في معركتها؛ وهذا كان واضحاً في التصريحات الإيرانية، وتردد وتخبط حسن نصر الله في سلوكه المقاوم؛ وفي خطابه اليتيم؛ المخيب لآمال مناصري محور المقاومة والممانعة عموماً؛ ولحماس خصوصاً، وإشارات خالد مشعل وغيره من قيادة حماس واضحة في ذلك.
ولكن إيران بالوقت نفسه متضايقة جداً من سلوك الإدارة الأمريكية؛ التي أخلت بالتفاهم مع إيران؛ ففي التفاهم الإيراني/الأمريكي الذي حصل في فيينا عام 2021 بين الإدارة الأمريكية وإيران؛ بحضور الاتحاد الأوروبي؛ والمتمثل بتوقف إيران عن تصنيع وتطوير السلاح النووي؛ مقابل السماح للأذرع الإيرانية بالتمدد بشرقنا البائس؛ المتمثلة بحزب الله والحوثيين. إلا أنّ إيران وجدت بالقرار الأمريكي بإغلاق الحدود بين سوريا والعراق مؤخراً؛ وبالتالي بالتضيق على حزب الله من جهة، والميلشيات التابعة لها والعاملة في سوريا من جهة أخرى؛ وجدته إخلالاً أمريكياً بالتفاهم؛ وبالتالي لا بد من الرد عليه من خلال الشغب على المصالح الأمريكية بواسطة أذرعها؛ فكانت غزوة غزة الحمساوية أحد أنواع هذا الرد الإيراني؛ ولكن نتائج ورد الفعل الإسرائيلي؛ كان أكبر من المتوقع حيث تم تدمير غزة؛ وربما يؤدي إلى نهاية حماس سياسياً وعسكرياً.
كما أن إيران تؤمن بنظرية الشغب المتواصل مع خصومها دون الوصول إلى مرحلة إحراج الخصم؛ وإخراجه عن طوره؛ وهذا المبدأ مقبول أمريكياً، ولكن توسع عملية 7 أكتوبر أخرج إسرائيل عن طورها.
وإيران اليوم أصبحت ناضجة؛ وهي على قناعة كاملة بأنها لن تكرر أخطائها السابقة؛ كما حدث في حرب حزب الله عام 2006؛ التي اعترف حسن نصر الله بخطئه فيها؛ ولهذا لم تدعم غزوة غزة الحمساوية، لأنها مدركة لوحشية الرد الإسرائيلي؛ فتخلت عن حماس.
وبذا أمرت حزب الله بعدم دخول الحرب؛ حتى صرح مقربون من حسن نصر الله؛ بأن من يريد منا أن ندخل الحرب دعماً لحماس؛ أن يضع لنا في البنك (30) مليار دولار ثمن تكلفة ما ستدمره إسرائيل في الجنوب؛ وهذا التصريح كان في الأسبوع الأول للحرب؛ عندما ارتفعت الأصوات المطالبة بدخول حزب الله الحرب مع حماس. فالسياسة الإيرانية تقبل بالمساومة على كل شيء من أجل مصالحها العليا؛ بما في ذلك رأس حماس؛ بمعنى آخر إذا كان هناك مكسب استراتيجي لإيران؛ فلا مانع من التضحية بحماس؛ ويبدو هذا ما حصل.
المجتمع الإسرائيلي قبل غزوة غزة
المجتمع الإسرائيلي قبل غزوة غزة؛ مختلف عنه بعد الغزوة، والحكومة الإسرائيلية حائرة بين أمرين شديدي الأهمية في سياستها.
الأول: الخوار الداخلي أو الوهن عند المجتمع الإسرائيلي.
حيث تتحدث جملة دراسات عن ذلك قائلةً: إن المجتمع الإسرائيلي الشاب في سنوات التكنولوجيا، ونتيجة النيو ليبرالية التي يعيشها؛ فقد أخْلَدَ إلى الأرض، ولا يريد حرباً كبيرة ولا توسعية! إنما يرغب أن يعيش بأمان مستفيداً مما حصل عليه؛ ومستمتعاً به. فجاءت حرب غزة التي تتناسب مع رؤية القيادة السياسية في استراتيجيتها؛ بأن يعود المجتمع الإسرائيلي إلى ثقافة الحرب الضامنة لبقاء إسرائيل؛ لكونها متفوقة علمياً وعسكرياً واقتصادياً على المحور العربي للمقامة والممانعة. وبالتالي فإن هكذا حرب تعيد المجتمع الإسرائيلي إلى ثقافة العسكرة؛ ليكون جاهزاً لأية حرب؛ ومتفوقاً فيها للأسباب المذكورة آنفاً.
الأمر الثاني: الحرب ضرورة سياسية لإسرائيل:
فبالحرب وقسوة الرد الإسرائيلي؛ تجعل من يفكر بشن حرب عليها يرتدع؛ فلا يفكر بالشغب عليها؛ وبذلك تضمن أمنها وسلامة شعبها؛ ولذلك تم في اليوم الثاني لغزوة غزة تشكيل حكومة حرب؛ حتى لا تكون السلطات الأخرى عائقاً للردع الإسرائيلي الفاحش. فكان الرد الوحشي للاحتلال على غزة كلها لإنهاء حماس؛ الذي ترى مجموعة مهمة من أصحاب القرار الإسرائيلي بأن الموافقة الضمنية سابقاً على استفراد حماس بغزة 14 حزيران/يونيو سنة 2007، وتشكيل حكومة حمساوية متفردة، كان خطيئة استراتيجية إسرائيلية؛ فجاءت الحرب لتصحيح هذه الخطيئة، وبالتالي إنهاء حماس عسكرياً وسياسياً وشعبياً من خلال عدم قدرة أهل غزة على تحمل الأذى الوحشي الإسرائيلي.
وإن بقاء حماس بعد نهاية الحرب؛ ولو بنطاق ضيق جداً في غزة؛ يُعَدُّ كارثة على المجتمع الإسرائيلي مستقبلاً؛ وهزيمة لإسرائيل بمنطق كيسنجر. فإنْ نجت حماس من التصفية العسكرية والسياسية، فهذا نذير بتفكك المجتمع وزوال إسرائيل؛ كما أشار أكثر من محلل إسرائيلي من ذوي الإيديولوجية الدينية؛ خصوصاً أن المجتمع الإسرائيلي اليوم يعاني من الوهن نتيجة الترف الاقتصادي.
سياسة الإدارة الأمريكية بعد غزوة غزة
الإدارة الأمريكية اعتبرت عملية 7 أكتوبر مسألة خطيرة عالمياً؛ لأنها جاءت خارج السياق الاستراتيجي المرسوم للقضية الفلسطينية، فالتفاهمات مع الجميع كانت ذاهبة باتجاه تبريد ملف القضية الفلسطينية بشكل كامل؛ وهذا ما حصل خصوصاً في الربيع العربي، فجاءت غزوة غزة لتعيد تسخين القضية الفلسطينية، وتضعها على طاولة البحث دولياً. وسياسة الإدارة الأمريكية كما هو معروف تقوم على فتح الملفات دون إغلاقها؛ ولا يمكن إغلاق أي ملف إلا إذا أصبح يشكل خطراً على المصالح الأمريكية؛ وبالتالي سيتدخل الأمريكي؛ ليفرض حلاً يراه مناسباً لمصالحه الاستراتيجية.
وهذا ما حصل بالفعل للملف السوري؛ فبعد إنهاء داعش؛ جاءت تفاهمات (كيري/لافروف عام 2016) من خلال اجتماعات متعددة بينهما استمرت ما بين شباط/فبراير وآب/أوغست بإنهاء الحرب على الجغرافية السورية، وتوقف كل طرف عند ما هو عليه جغرافياً؛ ريثما يأتي الوقت المناسب للحل؛ مع السماح بنقاط اشتباك محدودة، إنْ توسعت يتدخل الروس والأتراك وحتى الأمريكان لإعادتها لمرحلة التبريد.
والإدارة الأمريكية تريد أن تثبت للعالم كله بأنها السيد والمتحكم به؛ ولن تسمح بأكثر من القطب الواحد؛ ولن تعود إلى القطبية التي كانت أثناء الحرب الباردة. فجاءت غزوة غزة لتؤكد على التفرد الأمريكي عالمياً؛ الذي يملي ويقرر لإسرائيل ماذا تفعل رداً على غزوة غزة، فإسرائيل بالنتيجة ليست إلا ذراعاً أمريكياً؛ كما حزب الله ذراع إيراني.
القناعة الأمريكية في الملف الفلسطيني بأن حماس يجب أن تنتهي عسكرياً وسياسياً في غزة، ولا مانع من أن تكون معارضة في الخارج؛ وأية معارضة خارجية مع الأيام تصبح لا قيمة لها؛ كما حدث لمعارضات كثيرة ومنها المعارضة الرسمية السورية. وكما حدث لإخوان سوريا بعد أحداث الثمانينات؛ وإخوان مصر كمعارضة للسيسي اليوم، فالمعارضة الخارجية ستفقد شعبيتها وقيمتها وارتباطها تدريجياً بالداخل؛ وبالتالي فحماس بعد القضاء عليها في غزة؛ لا مانع من أن تكون معارضة بالخارج، حتى لو كانت في قطر أو اليمن أو جنوب لبنان. لأنها لن تكون ذات قيمة وتأثير على الداخل الفلسطيني.
وعندما تأتي الإدارة الأمريكية بكل هذه الأساطيل إلى المنطقة؛ وتتخذ قراراً صارماً تجاه حماس؛ هذا يعني أنها تدعم بشكل مطلق العملية العسكرية في غزة من جهة، وبالتالي تفرض حلاً بالقوة في القضية الفلسطينية؛ حتى ولو لم توافق إسرائيل.
هناك بُعْدٌ استراتيجية يجعل الإدارة الأمريكية تتدخل بقوة في الحرب؛ فطريق التوابل يبدأ من الخليج إلى الأردن ففلسطين؛ وينتهي بغزة، وهذا الأمر لا يتم إلا بعد القضاء على حماس؛ وربما حزب الله بالمستقبل؛ وطريق التوابل يقابل طريق الحرير الصيني المزمع إنشاؤه بمسار الصين إيران فتركيا إلى أوروبا.
صحيح بأن الأمريكان ضغطوا على إسرائيل من أجل تخفيف موضوع تدمير غزة؛ والقبول بتبادل الأسرى؛ بعد أن انقلب مزاج الرأي العام العالمي على إسرائيل نتيجة الوحشية العسكرية لها. ولكن العمل على سياسة الإبطاء في تدمير غزة؛ وإنهاء حماس قائم؛ لكن ببطء كيلا يستفز الشارع الإسلامي العربي السُني أكثر، فيقوم بخطوات غير محسوبة العواقب ضد المصالح الأمريكية والإسرائيلية بالعالم. ثم تتفرغ فيما بعد لضرب الذراع الشيعي بالمنطقة المتمثل بحزب الله؛ إرضاءً للشارع السني؛ ومن خلال ذلك سيمر التطبيع العربي/الإسرائيلي بهدوء.
ختاماً:
مسلمات خاطئة للعقل السني في الحروب
إن خطيئة غزوة غزة كما نراها؛ هي نتيجة طبيعية لطبيعة العقل السني الذي يفكر انطلاقاً من مجموعة ثوابت، وتتمثل بمائلي:
- العمل دون النظر إلى النتائج الكارثية له على المجتمع وبنيته التحتية.
- كثرة الهزائم والخسائر؛ لا تعني بأنك على الطريق الخاطئ، فالابتلاء الرباني لمؤمنين واقع لا محالة، ولا يجوز التذمر منه.
- كلما ازداد ألمك كمؤمن؛ كلما ازداد قربك من الله.
- الخلط بين الاستخلاف في الأرض؛ والسعادة الأبدية في الآخرة، وكأن الألم والخسائر والابتلاء السلبي ثمنٌ للسعادة الأبدية وشرطاً له.
- يعتمد العقل السني المبدأ القرآني؛ الذي يجتزأه من سياقه، كم فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، متناسية قانون السببية الذي تعج به آيات القرآن الكريم.
- ما يزال العقل المسلم عموماً والسُني خصوصاً يؤمن بالمعجزات والخوارق؛ وبالتالي يصدق المرويات المنسوبة للنبي في ذلك؛ وعلى هذا الإيمان يدخل مغامراته ومقامراته العسكرية؛ ويخرج منها خاسراً، ويعد الخسارة نصراً.
والله المستعان.
جميع حقوق النشر محفوظة لصالح مركز أبحاث مينا.