حافظ قرقوط
لا شك أن مجرى الأحداث الأخيرة والمرحلة التي وصل إليها الوضع في فنزويلا، جعل من العسير الخروج برؤية واضحة لعوامل عدة تداخلت فيما بينها، أدت إلى أن يكون المشهد ضبابياً في كثير من الجوانب مع التأكيد على أن الأمور وصلت فعلاً إلى ما يسمى بعنق الزجاجة، حيث لم يعد لدى طرفي المعادلة، النظام والمعارضة، القدرة على تقديم شيء جديد يحسم الأمور لصالح أي منهما، لا في الشارع ولا في السياسة، ولا عسكرياً، وكلا الطرفين أصبحا محاطين بدعم دولي،[1] وإن غير متعادل، لكن له دلالاته، وأثره الذي يعقّد الأوضاع بشكل متصاعد[2]، لوضع هو بالأساس يمكن وصفه بالمأزوم والهش.
يرى آزاد كرم:[3] (مهاجر سوري عمل في التجارة في فنزويلا لعدة سنوات، وقد استطاع الوصول إلى إحدى الدول الأوربية هرباً من الأوضاع السيئة هناك)، أن الرئيس نيكولاس مادورو ونظامه بيدهم الجيش وما يملكه من سلاح وقوة ضاربة، وهو من الجيوش الكبيرة، كما يتحكم النظام في المنافذ الحدودية، وفي قطاع الخدمات، بينما تملك المعارضة تأييد الشعب بشكل جيد.
تؤكد هذه المقولة جينيفر ماكوي من جامعة جورجيا الأميركية في حديث لـ “بي بي سي” قالت فيه:
“تسيطر الحكومة على السلاح[4] ولديها حلفاء مهمون، لكنها تفقد التأييد الشعبي”، وكان الصحافي الفنزويلِّي هوسيه بيجارويل قد أشار في حديث سابق معه إلى أنَّ الحراك الشعبي تقود غالبيته المعارضة التي دأبت على توضيح أن “الطغمة العسكرية نهبت فنزويلا فأوصلتها إلى الانهيار الاقتصادي”، وتيقن الناس صدق ذلك، إذ أوصل الفساد الحكومي الكثيرين إلى “ما دون خط الفقر”، لكن النظام لا يعترف بكل ذلك، ومازال يرمي التهمة على جهات خارجية يصفها بالمتآمرة.[5]
انقلاب لم يكتمل
تصاعدت الأحداث في فنزويلا وخصوصاً في العاصمة كاراكاس، منذ نهاية نيسان/أبريل الماضي، بعد أن توجه مئات الألوف من المتظاهرين إلى القصر الرئاسي، وطلب زعيم المعارضة خوان غوايدو من الجيش التحرك ضد مادورو[6]، فتجاوبت بعض وحدات الجيش وكذلك الشرطة وانضمت إلى المتظاهرين، فيما بدا أنه انقلاب عسكري على نظام الحكم، لكنَّ النظام حرَك بعض وحداته، وقامت عربات من الجيش بملاحقة بعض المتظاهرين، ودهسهم[7] في الشارع، كما اتضح من صور وفيديوهات مصورة عبر نقل مباشر بثته عدة وكالات أنباء منها “رويترز” و”c.n.n”، ودعت الولايات المتحدة الأميركية، وعدد من الدول الأوروبية إلى عدم سفك الدماء مؤكدة اعترافها بـ “غوايدو” رئيساً شرعياً للبلاد، فيما أيدت روسيا وإيران وتركيا وكوبا مادورو، حكاية أن الانقلاب تديره جهات خارجية ضد حكومة معادية للغرب الذي يتدخل في شؤون فنزويلا الداخلية[8].
في هذا السياق استطاعت المعارضة منذ كانون الثاني/يناير الماضي الحصول على اعتراف أكثر من 50 دولة، بـ “غوايدو” الذي تؤيده الجمعية الوطنية، رئيساً مؤقتاً لفنزويلا[9] سعياً إلى إجراء انتخابات عامة، إلا أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أعلن أن روسيا ستدافع عن حكومة مادورو[10] التي وصفها بـ”الشرعية”، كذلك أعلنت الصين عن دعمها لها، من جهته الرئيس الأميركي دونالد ترامب قال: “الولايات المتحدة تقف مع شعب فنزويلا وحريته”، أما وزير خارجيته مايك بومبيو فقد أشار إلى أن مادورو كان على استعداد لمغادرة فنزويلا إثر التحرك العسكري.. لكن روسيا مارست ضغوطها عليه ومنعته من المغادرة[11]، الأمر الذي نفاه وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، على الرغم من تصريحه الذي يقول فيه: “لا يمكن التوفيق بين موقفي روسيا والولايات المتحدة حيال فنزويلا”، وفي الوقت نفسه خاطب مادورو قواته العسكرية من إحدى القواعد بقوله: يجب أن يكون “الولاء دائماً ولا خيانة أو خوفاً، ويجب سحق الخونة الذين يحاولون الانقلاب، ويبيعون أنفسهم لدولار واشنطن”[12]، وقد أدّت المواجهات بين الجانبين، بعد هذا الخطاب، ودعوة المعارضة مؤيديها إلى العصيان المدني، ما أدى إلى سقوط عدد من الجرحى، نجحت في إطلاق سراح أبرز قيادييها “ليوبولدو لوبيز” من إقامته الجبرية بمساعدة بعض ضباط الأمن، ويشير بعض الأهالي إلى أن تسهيل عملية الوصول إلى لوبيز للإفراج عنه قد تكون خلطاً لأوراق المعارضة، من خلال تعدد مرجعية قراراتها، لكن مازالت هذه الصورة غير واضحة على أرض الواقع.
بلاد النفط والذهب
يدعم حكومة مادورو على نحو فاعل وقوي على الأرض بوجه المعارضة إيران التي نفى ذلك بعض مسؤوليها عبر أجهزة إعلامها الرسمية، إلا أن تقارير مختلفة أكدت نشاطها الكبير وخاصة عن طريق حزب الله اللبناني الذي تمدد في السنوات الأخيرة من باب البحث عن استثمارات لدعم نشاطاته، فتوجه إلى مناجم الذهب في هذا البلد الغني بهذا المعدن، ووفق تقارير اقتصادية، كانت فنزويلا قد أعدت مشروعاً استثمارياً كبيراً سمَّي بـ”قوس التعدين”[13] وبُدئ العمل به منذ عام 2016 بهدف التنقيب عن احتياطي كبير من الذهب، ويشمل أيضاً البحث عن الماس والبوكاسيت والنحاس والحديد.
يقول آزاد كرم: “إن كميات الحديد المتوفرة في ولاية بوليفر وحدها تعدُّ ثروة كبيرة لحجمها، كما أن التنقيب على الذهب في بعض المناطق يشكل مصدر دخل للسكان حيث يجدونه كمادة خام بعدة غرامات بعد عناء البحث البسيط والبدائي، أما الشركات فقد دخلت بقوة للتنقيب وأخذت تستولي على مساحات من الأرض التي تحوي مناجم ذهب ومنها ما يتبع لحزب الله اللبناني”[14]. أشارت بعض التقارير الصحفية أيضاً إلى نشاط روسي صيني تركي في هذا المجال ضمن هذا المشروع الذي قدمته حكومة مادورو، وهي محاولة منها للاستفادة من دعم هذه الدول بوجه المعارضة[15]، وإن العلاقات الوطيدة لعناصر حزب الله مع الجنرالات والمقربين من الحكومة تمنحه امتيازات خاصة يستفيد منها الطرفان.
يرى بعض المحللين الصحفيين وفق “بي بي سي” أن عدداً من رجال الحقبة السابقة المحسوبين على الرئيس الراحل هوغو تشافيز[16]، يخشون أن يصبحوا كبش فداء ضمن تلك العلاقات، وقد أخذوا يتخلون عن مادورو ومنهم وزراء وضباط كبار والمدعي العام السابق، وهذا لرغبة منهم أن يكونوا جزءاً من حكومة انتقالية تعمل على تنفيذ إصلاحات سياسية واقتصادية وإدارية، ويحمون من خلالها امتيازاتهم، ولكن يمكن النظر إلى ذلك من ناحية أخرى، كون المرحلة الحالية كان قد أسسها تشافيز والدائرة القريبة منه، بما فيها علاقاته بإيران، وحزب الله اللبناني وتركيا وروسيا ونظام الأسد، ولهذا فإن بعض وجوه نظام تشافيز قد تكون قلقة من التحالف مع المعارضة لخوفها من فتح ملفات فساد تطولها بالمستقبل، ولهذا يتوقع ظهور تحالفات داخلية من نوع جديد بعيداً عمَّا هو ظاهر.
حكم هوغو تشافيز
ظهر اسم هوغو تشافيز[17] بشكل واضح عام 1992، عندما حاول مع عدد من ضباط الجيش السيطرة على الحكم بانقلاب عسكري، لكنه اعتقل وأودع السجن لمدة سنتين ثم خرج بعفو عام، كانت توجهاته الفكرية الاشتراكية متأثرة بكارل ماركس، وأرنستو تشي غيفارا، فأعلن عن (حركة الجمهورية الخامسة) التي خاض من خلالها الانتخابات وفاز فيها، فتسلم رئاسة فنزويلا في عام 1999، وفي هذا مؤشر على البنية الديموقراطية في فنزويلا، لكن تشافيز بدأ يغير في النظام السياسي للدولة وعدَّل الدستور وقد ساعدته القوانين والمراسيم الجديدة بتأميم مساحات كبيرة من الأراضي بالإضافة إلى المصارف، ومناجم التعدين، وحقول النفط إذ تعدُّ فنزويلا في المرتبة الرابعة عالمياً لجهة إنتاجه، وتصاعدت الاحتجاجات ضده بدءاً من عام 2001، إلى أن جرت مظاهرة عمالية كبيرة في نيسان/أبريل 2002 تطالب بتنحيته عن الحكم، فقابلها الأمن والجيش بالرصاص والعنف وسقط نحو تسعة عشر قتيلاً وعدد كبير من الجرحى، واستطاع إفشال الحراك، واتهم الغرب وأميركا بالذات بدعم الاحتجاجات ضده، وأخذ يوطد علاقاته مع دول لها الموقف العدائي نفسه المفترض للغرب، ومنها إيران والصين وروسيا وسورية وليبيا وغيرها، وبدا أن الرجل يقود معسكراً اشتراكياً افتراضياً متناقضاً في واجهاته الإيديولوجية ومتفقاً في أن الإمبريالية تعاديه، لكن مع تصاعد الاحتجاجات ضده تدخل الجيش وعزله عن الحكم، وأعلن عن استفتاء حوله ليفوز به في 2004 ويعود إلى الحكم بقوة، فتعاون مع عدة دول في أميركيا الجنوبية لإنشاء مجموعة البديل البوليفاري، كمجموعة اشتراكية تبنت التجارة الحرة فيما بينها لتسهيل مرور الأشخاص.
أعيد انتخاب تشافيز[18] عام 2006 لست سنوات فباشر فور ذلك بترسيخ تحالفاته السابقة وتثبيتها وكان التحالف الأبرز بينه وبين حكومة أحمدي[19] نجاد في إيران، حيث اعتقد الرجلان أنهما في حالة دفاع عن المستضعفين في الأرض تجاه القوى المهيمنة، وبهذا وجدت إيران تسهيلات كبيرة بناءً على تلك الصداقة والتنسيق في مجال النفط والسياسة، فدخل حزب الله بطريقته على خط التسهيلات وأخذ أتباعه يتحركون بحرية كبيرة في فنزويلا واعتبارها قاعدة للانطلاق والتوسع في عدد من دول أميركا، ووطد عناصره علاقاتهم بالجنرالات والسياسيين ومافيات إنتاج وتهريب المخدرات في فنزويلا وكولومبيا.
انتخب تشافيز من جديد في 2012، لكن المرض كان قد تملكه بشكل كبير، إذ أصيب بسرطان القولون وتوفي على إثره في آذار/مارس 2013، فترشح مادورو وفاز برئاسة البلاد[20] في نيسان/أبريل 2013، في انتخابات أثارت الكثير من الاستفهامات حول طريقة إجرائها وإدارة المؤسسة العسكرية والأمنية لها، لكنه أصبح رئيساً بنسبة بسيطة قدرت بـ “50.62 بالمئة”.
إيران وحزب الله من تشافيز إلى مادورو
العلاقة التي أسس لها نظام تشافيز مع إيران وحزب الله، رأى فيها مادورو مناخاً مناسباً له للاستثمار فيها، وخاصة أن الحزب كان قد توسع في علاقاته الداخلية مع جنرالات الحكم في بلد تتمتع بغنى كبير في مواردها وثرواتها مقابل فقر كبير تعاني منه نسبة كبيرة من الشعب، كما أن حزب الله استطاع أن يتغلغل في الدولة العميقة وأصبح جزءاً من منظومة الفساد[21] فيها وفي بعض دول أميركا اللاتينية.
وجد حزب الله على ما يبدو في عدد من المهاجرين اللبنانيين القدامى من الطائفة الشيعية، الذين فرّوا من الفقر منذ عقود إلى أميركا الجنوبية، ومن بعض أبناء الجالية الفلسطينية والسورية التي ما زالت ترى في التنظيمات الإسلامية أرضية مناسبة للنشاط الحزبي بحجة رفع شعارات “المقاومة” ضد إسرائيل، وكالعادة يتم اللعب على هذه الشعارات السياسية والدينية في الأوساط الشعبية لتدغدغ مشاعر الناس، ومع قدرته وخبرته على استخدام التمويل استطاع حزب الله تثبيت أقدامه هناك[22].
يقول الكاتب الأميركي “كولين بي كلارك” من “مؤسسة راند” الأميركية للأبحاث والتطوير: إن “حزب الله يمتلك خلايا نشطة في فنزويلا، يجري تمويلها وتدريبها وتجهيزها من عملاء إيرانيين ويرى أن المحللين لم يأخذوا بالحسبان سابقاً نشاطات الحزب في هذه القارة الواسعة، إذ “حافظ على وجود دائم له في أميركا اللاتينية ولا سيما في منطقة الحدود الثلاثية الفوضوية بين الأرجنتين وباراغواي والبرازيل”، وأضاف:[23] إن الحزب “راسخ جداً داخل فنزويلا منذ فترة طويلة، وقد أنشأ بنية تحتية ضخمة جداً، شملت الاتجار بالمخدرات، وغسيل الأموال، والتهريب، وتعد جزيرة مارغريتا قبالة شواطئ فنزويلا مرتعاً له وملاذاً، وتَأمَّن ذلك في عهد تشافيز”.
أكدت فورين بوليسي[24] في مادة نشرتها في شباط/فبراير الماضي تلك المعلومات، وأوضحت أن “تهريب المخدرات نشط” منذ بداية الألفية الثانية، ويدير العملية شخص “لبناني يتبع الحزب ويهربها نحو الولايات المتحدة الأميركية وغرب أفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا”، وقد استخدم “بنما وفنزويلا كمحاور للتهريب”، ويجني أموالاً طائلة منها يحولها إلى الحزب، وإنّ تعاطُفَ المهاجرين مع الحزب، ساعد بالتغطية على عملياته تلك، كما أن “الرشاوى التي يقدمها” لموظفي الحدود كان لها دورها.
تقاطعت معلومات قدمتها تقارير صحافية مختلفة حول وجود إيران في فنزويلا كمنطلق للدخول إلى أميركا اللاتينية، وإن موطئ القدم في هذا البلد لن تتخلى عنه إيران بسهولة، وهي مستعدة لـخوض معركة لأجله، كما أوضح آزاد كرم ذلك بقوله: إن إيران تتحرك على نحو واسع لدعم مادورو وقد استنفرت الكثير من أتباع حزب الله من المجنسين القدامى للوقوف معه وممارسة الشغب والتصدي للمتظاهرين، وإن طائرات إيرانية تهبط وتغادر بشكل منسق في مطار العاصمة.
شبكة “صوت أميركا” أشارت إلى أن إيران أسست فعلاً ميليشيا في فنزويلا لدعم مادورو، بالاعتماد على عناصر حزب الله اللبناني، وتقوم بدعمها بكل ما يلزم، وذكرت وفق تقارير استخباراتية أميركية أن مسؤولين كبار في نظام مادورو على صلات قوية مع الحزب، ومنهم “نائب الرئيس طارق العيسمي” وهو من أصول سورية، وقد اتهمته الولايات المتحدة بـ “تمويل حزب الله [25]عن طريق تسهيلات في تهريب المخدرات” وغيرها، وكانت وسائل إعلام فنزويلية قد نقلت عن العيسمي قوله: “هناك أوجه تشابه بين ما يجري في سورية وما يجري في فنزويلا”، يشار إلى أن شركة “ماهان إير” الإيرانية بدأت في 8 نيسان/أبريل الماضي، رحلات مباشرة إلى فنزويلا[26]، وفق “رويترز”، وكانت كل من ألمانيا وفرنسا قد حظرتا طيران الشركة لنقلها العتاد العسكري والمقاتلين إلى سورية وغيرها من مناطق الحروب، كذلك أعلنت الولايات المتحدة عقوبات عليها منذ 2011، وذكرت وكالة الأنباء الإيرانية “مهر” أن الشركة ستنقل مسؤولين بوزارة الخارجية الإيرانية إلى كراكاس.
أفادت المعلومات الصحافية أيضاً أنَّ مهاجراً لبنانياً “غازي نصر الدين”، يعمل بالتعاون مع العيسمي، ويشرف على “تدريب مجموعات شبه عسكرية في صالة ألعاب رياضية وسط كاراكاس”، مهمتها التصدي للمتظاهرين، وقد أدرجه مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي “f.b.i” على قوائم الإرهاب[27] لـ “تسهيله سفر عناصر حزب الله من وإلى فنزويلا” كما أنه سافر إلى سورية وإيران، فالدور الإيراني هو “تصميم هيكل أمني للدفاع عن مادورو” وقد قدِّم أكثر من “2000 جواز سفر لعناصر من حزب الله اللبناني، وتابعين له، صدر جزء منها بإشراف “مستشارين أمنيين كوبيين”، يضاف إلى ذلك النشاط، الاتفاقيات القديمة المفبركة بين إيران وفنزويلا لتصنيع ذخائر، وتبادل الخبرات العسكرية وإقامة مشاريع مشتركة[28]، وهناك تقارير صحفية أشارت إلى أن عدد جوازات السفر الممنوحة لعناصر حزب الله أكبر من ذلك الرقم بكثير.
الحراك المدني المعارض
بدأت الاحتجاجات على حكم مادورو بعد فترة وجيزة من تسلمه منصب الرئاسة، وانطلقت تظاهرات وُصفت بالكبيرة في 2014 واستمرت لعدة أشهر، حصل خلالها تصادم بالشارع مع قوى الأمن التي حاولت قمعها بقسوة، وسقط عشرات القتلى والجرحى من المدنيين، ولكن الحراك تم إفشاله واعتقل المعارض ليوبولدو لوبيز كونه قاد الاحتجاجات، وحكم عليه بالسجن لمدة 14 عاماً، وهدأت الأحوال نسبياً لكن بدأت الأزمة الاقتصادية بالتفاقم شيئاً فشيئاً، إلى أن قاد بعض الجنرالات محاولة انقلاب في شباط/ فبراير 2015 وتم إفشالها.
مع بداية نيسان/أبريل 2017، تجددت التظاهرات المطالبة برحيل مادورو ونظامه وأطلق عليها (أم التظاهرات)[29] ، وهتف المحتجون بشعارات تندد بالتعدي على الديموقراطية وإفقار الناس، وقد وصفها مادورو بأنها محاولة انقلابية بدعم من الخارجية الأميركية، ومع اشتداد المواجهات سقط عدد من القتلى والجرحى، ثم هاجمت مجموعة مسلحة مجهولة مستشفى للأطفال سرعان ما اتهم النظام المعارضة به، إذ قال وزير الخارجية دلسي رودريغير: “إن عصابات مسلحة تستأجرها المعارضة هاجمت مستشفى الولادة فيها 54 طفلاً”.
لكن المعارضة حشدت من جديد في الشارع وشهد شهر شباط/ فبراير 2017 تظاهرات لم تشهدها البلاد منذ عقود وفق الصحفي الفنزويلّي هوسيه بيجارويل، فتعهدت الحكومة بتلبية مطالب الناس لكنها تنصلت لاحقاً وحلت الكونغرس الذي تسيطر عليه المعارضة، ولفت بيجارويل إلى أن ممارسات العسكر والفساد مع الجوع والفقر اللذين أصبحت تعانيهما أعداد كبيرة من المواطنين ساعد على أن تستجيب الناس لمطالب المعارضة.
أوضح آزاد كرم أن الجيش تعامل بعنف شديد مع تلك الاحتجاجات بما فيها استخدام الرصاص الحي، وقد شاركت أعداد جيدة من الجالية العربية فيها، وبشكل رئيس نسبة لا بأس بها من الجالية السورية التي رأت تشابهاً بين الحالتين، كما حاول نظام مادورو أن يقول إن هناك تشابهاً بالعداء لنظامه ونظام الأسد.
يشير كرم إلى أن الموارد الكبيرة في فنزويلا وخاصة النفط والغاز، وكذلك المعادن كالحديد والنحاس والذهب، يمكنها أن تمنح أضعاف عدد السكان حياة كريمة لولا الفساد المستشري، إذ يبلغ عدد سكان فنزويلا نحو30 مليون نسمة، على مساحة تقدر بنحو مليون كيلو متر مربع، فيما الحكم يحاول استنساخ خط فيدل كاسترو في كوبا بطريقة تثبيت ديكتاتورية عسكرية، وعلى هذا يعتقد الكثير من الأهالي أن إزاحة هذا النظام قد تكون مكلفة، لكنها ضرورية للأجيال القادمة.
في منتصف 2018 قال صندوق النقد الدولي إن نسبة التضخم في فنزويلا قد تصل إلى “مليون في المئة”[30]، وقد أكد كرم أنه مع الأشهر الأربعة الماضية من 2019، وصلت نسبة التضخم إلى “مليونين بالمئة”، ويمكن قياس أن راتب المدرس في الشهر يكفيه فقط ثمن وجبة غداء واحدة فيها دجاج، فأصبح الموظفون يعملون عملاً إضافياً بكثير من المهن حتى أنهم يبحثون بالغابات عن أي شيء يساعد على الحياة وبعضهم يبحث عن الذهب بشكل متعب بجوار المناجم، كما أن الدواء مختفٍ وهناك وفيات كبيرة من الأطفال بسبب نقص الغذاء والدواء، فيما قام الصليب الأحمر بتنظيم اتفاق مع النظام لإدخال المساعدات من خلاله، وبهذا وجد النظام وسيلة جديدة للتلاعب بها ودعم مؤيديه وبيع بعضها في السوق السوداء.
أشار كرم إلى وضع الجالية العربية في فنزويلا وبخاصة السورية واللبنانية التي تعود بدايات وجود جزء منها إلى أكثر من 100 سنة، وبعض من أبنائها لا يعرف اللغة العربية، لكن بشكل عام كانت أوضاع هذه الجالية جيدة سابقاً وهي جالية نشطة في عدة مجالات خاصة التجارة، إلا أن الأزمة الاقتصادية الأخيرة أثّرت عليها كما بقية الشعب، واضطر عدد منها إلى بيع أملاكه ومحالّه التجارية ليعيش، لكن هذه الجالية تماماً كما في الشرق الأوسط، هي مقسومة إلى قسمين: قسم مؤيد للنظام ويتصرف كما مؤيدي تلك الأنظمة بجوار المتوسط بطريقة استفزازية، وقسم يجد بذلك منفذاً لتأمين بعض من احتياجاته عبر علاقاته بالسلطة، لكن القسم الآخر تأذى كثيراً وهو مساند تماماً لمطالب الشعب الذي احتضنه، وهنا تظهر التباينات حيث القسم الأول يعتقد أن النظام احتضنه بينما القسم الثاني يدرك بأن الشعب الفنزويلّي هو الأساس، وعلى هذا يرى نفسه جزءاً منه.
من جانب آخر فقد شهدت البلاد حركة نزوح ولجوء كبيرة، وقال كرم إن هناك مئات الألوف من الناس تسير على الأقدام مئات الكيلومترات لعدم وجود إمكانيات مادية لديها وبذلك تصل عبر الغابات إلى البرازيل وكولومبيا، كما أن خروج فنزويلا من مجموعة أميركا الجنوبية، سبّب مشكلة حصول المواطنين على تأشيرة كانوا معفيين منها، مع الإشارة إلى أن كلفة جواز السفر وصلت إلى قرابة 1000 دولار أميركي بسبب دفع عمولات كبيرة للحصول عليه.
روسيا التي تستثمر بالنزاعات
يرى كرم أن روسيا استفادت كثيراً من الأزمة الحالية، التي دخلت على خط الابتزاز والمساومة تماماً كما يحدث في سورية، ويؤكد أن الفائدة ليست بامتلاكها ورقة سياسية تساوم الغرب من خلالها، بل إن تنقيبها عن النفط والذهب والثروات الأخرى يتوسع، إضافة إلى ملاحظة حركة طيران مدني روسي في مطار العاصمة كركاس، وتدور الشبهات حسب ماينقل بعض العاملين بالمطار، عن تهريب كميات من الذهب، ربما يعود لعملاء يعملون لصالح روسيا، أو لجنرالات وأعضاء من الحكومة يريدون تهريب أموالهم، وهذا يترافق مع تجميد أموال عدد من رجالات النظام لدى البنوك الأميركية وبخاصة في ولاية ميامي.
علاقات روسيا قديمة وقوية مع فنزويلا، وتعتقد موسكو أن تمسكها بمادورو يؤمّن لها حضوراً مهماً في تلك القارة الغنية، كما يمنحها إمكانية إمساك ورقة جديدة في مجلس الأمن في حال تقدمت الدول الغربية بمشروع قرار يخص هذا البلد، وعلى هذا فهي تجد في نشاط حزب الله عاملاً مساعداً لها بدعمه لمادورو وورقة أخرى بوجه الولايات المتحدة، ولا تتوقف روسيا على لسان مسؤوليها عن تحذير الولايات المتحدة من القيام بأي عملية عسكرية في فنزويلا[31].
فور إعلان البرلمان أن ولاية مادورو غير شرعية، وإعلان رئيس البرلمان خوان غوايدو في كانون الثاني/ يناير الماضي أنه رئيس مؤقت، أعلنت روسيا موقفاً حاسماً وداعماً لمادورو، تلتها إيران وتركيا وكوبا والصين، مقابل دعم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول أخرى لقرار غوايدو.
الحلول المتوقعة
بدأ أخيراً تداول سيناريوهات مختلفة يمكن أن تحصل، منها التفاوض المباشر من خلال مبادرات دولية، واتفاق على الذهاب نحو انتخابات جديدة بإشراف دولي[32]، لكن المعارضة تقول إن الحكومة لا تلتزم بتعهداتها وسبق أن وعدت بإصلاحات سياسية بعد احتجاجات سابقة، لكنها لم تنفذها، بينما بعض التحليلات تذهب إلى أن العقوبات المفروضة على بعض أركان النظام من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي سيجعل التفاوض بالنسبة للحكومة أمراً صعباً، وعلى هذا قد يحصل انشقاق بداخلها وتضعف وتتفكك، الأمر الآخر هو توقع حصول انقلاب عسكري، لكنه أيضاً سيكون خطوة لتعقيد الأمور، ولن يكون في خدمة المعارضة، رغم دعوتها قادة الجيش للانشقاق عن النظام، خاصة بوجود ميليشيات شبه عسكرية دربتها إيران وحزب الله بحسب المراقبين، وفي المقابل هناك من يرى أنّ تخلي الدعم الدولي عن المعارضة، كما حدث في دول أخرى سيؤدي إلى انقسامها، وسيمنح فرصة لمادورو لتثبيت حكم شمولي طويل الأمد، وخاصة أن هناك استبعاداً لأي تدخل عسكري خارجي بغطاء أممي، كون الفيتو الروسي والصيني جاهزاً، والولايات المتحدة غير مستعدة للذهاب في هذا الخيار مع حلفائها دون قرار دولي.
المؤشرات الداخلية والخارجية كافة، تشير إلى أن الأوضاع في فنزويلا دخلت مرحلة اللاعودة، ومع تفاقم مشكلة اللجوء والأزمة الاقتصادية الداخلية، وحدّة المواجهة في الشارع، ستبقى الأمور، على ما يبدو، ذاهبة إلى مزيد من التأزم دون أي حلول واضحة، وعلى هذا، فمن المرجح أن تكون الحلول بعيدة المنال، وخاصة أن عدم الاستقرار يصب في مصلحة نظام مادورو وروسيا وإيران وحزب الله، فالفوضى بوجود حكومة ضعيفة تمنح الحلفاء مساحة أكبر لتنفيذ أهداف لا علاقة للمجتمع المحلي بها، فتغيير النظام مهما كانت الصيغة، لن يصب في مصلحة هؤلاء وبالذات حزب الله الذي يتصرف على نحو مافيوي داخل الدولة، لكن القلق من عدم إدراك دول الجوار والغرب لذلك، على غرار ما جرى في لبنان وسورية، إذ أصبح دولة داخل الدولة، فإن الميليشيات المحلية من عصابات تهريب مختلفة في فنزويلا التي يرعاها الحزب، باتت لها كلمتها داخل المجتمع الذي لا يجد أمامه من معين فيسهل اقتناصه ببعض حاجاته، يشار إلى أن هناك من يعتقد أنه في حال استلمت المعارضة مقاليد الحكم، فإن إيران وحزب الله قد ثبتا أرجلهما، ومن العسير الانتهاء من وجودهما، وتتفق هذه الرؤية مع مجلة “فورين بولسي”، كذلك الأمر بالنسبة لعلاقة روسيا مع بعض الضباط، وهي علاقة قديمة جعلتها تتحكم في مفاصل مهمة في الجيش والأمن.
يذكر أن المعارضة الفنزويلية حازت عام 2017، على جائزة “ساخاروف” من برلمان الاتحاد الأوروبي[33] التي تمنح لحرية الفكر، وبحسب “a.f.b” فقد دعا الاتحاد الأوربي أثناء تسليم الجائزة إلى “انتقال سلمي نحو الديموقراطية”، وقال أنطونيو تاجاني رئيس الاتحاد الأوربي تعليقاً على الجائزة، إن رؤساء الكتل السياسية أخذوا هذا القرار لأن الأمور في فنزويلا قد تتدهور، إذ توجد أزمة إنسانية واجتماعية واقتصادية حقيقية”، ووصف مادورو بـ “الديكتاتور”.
المراجع:
[1]– دويتشه فيلا: فنزويلا تعيش حالة من الشلل وسط جدل أميركي روسي (https://cutt.ly/WtXhlV) فرانس 24: روسيا ستبقي قواتها في فنزويلا (https://cutt.ly/wtXhKP)
أورو نيوز: تصريحات الرئيس الأميركي حول فنزويلا (https://cutt.ly/utXkQk)
[2]– الجزيرة: واشنطن وموسكو تتبادلان الاتهامات بتصعيد الصراع في فنزويلا (https://cutt.ly/JtXzdY)
[3]– لقاء خاص لمرصد مينا
[4]– بي بي سي: خمس سيناريوهات محتملة لحل الأزمة في فنزويلا: (https://cutt.ly/ntXxdk).
[5]– لقاء سابق، الفنزويليون يتظاهرون والنظام يرد بعنف، جيرون: (https://cutt.ly/stXvcc).
[6]– فرانس 24: غوايدو يدعو أنصاره إلى الإطاحة بمادورو (https://cutt.ly/ptXbsM).رويترز: زعيم المعارضة يدعو الجيش إلى انتفاضة ضد مادورو (https://cutt.ly/jtXnxC).
[7]– c.n.n: دهس مدرعات لمتظاهرين: (https://cutt.ly/itXbUB).
[8]– رويترز: آلاف يبدؤون احتجاجات ضد رئيس فنزويلا وخلاف بين أميركا وروسيا: (https://cutt.ly/LtXWX7).
[9]– رويترز: دول أوربية كبرى تعترف بغوايدو رئيساً مؤقتاً لفنزويلا (https://cutt.ly/9tXmcj).
[10]– روسيا اليوم: بوتين يعقد جلسة طارئة لمجلس الأمن الروسي بعد نبأ الانقلاب الفاشل في فنزويلا: (https://cutt.ly/utXRD3).
[11]– رويترز: روسيا ترفض تصريحاً أمريكياً بأنها أقنعت رئيس فنزويلا بعدم الفرار https://cutt.ly/FtXEbf
[12]– الجزيرة نت: فنزويلا.. مادورو يحشد لمحاربة الانقلابيين، وغوايدو يدعو لإضراب عام.. https://cutt.ly/ItXYnJ
[13]– اليوم السابع: موقع “فنزويلا إنسيليس”: بدء المرحلة الأولى من مشروع التعدين في فنزويلا: https://cutt.ly/ltXU8U
[14]– مقابلة خاصة مرصد مينا
[15]– العربية نت: حزب الله يملك منجمين من الذهب في فنزويلا (https://cutt.ly/ftXAF7).
سكاي نيوز: بعد المقاومة بالمخدرات.. حزب الله يستغل منجم الذهب (https://cutt.ly/9tXIPt).
[16]– بي بي سي مصدر سابق
[17]– فرانس 24: هوغو تشافيز خصم الإمبريالية العنيد والثائر(https://cutt.ly/PtXSNL).
[18]– بي بي سي: نبذة عن الرئيس الفنزويلي الراحل هوغو تشافيز (https://cutt.ly/jtXDEx).
[19]– فرانس 24: مصدر سابق.
[20]– دويتشه فيله: مادورو يفوز بانتخابات الرئاسة والمعارضة ترفض النتائج (https://cutt.ly/otXGOR)
[21]– القدس العربي: فورين بوليسي.. بوجود مادورو أو غيره حزب الله باق في فنزويلا (https://cutt.ly/ItXJVA).
[22]– سكاي نيوز: بعد التغيير المرتقب.. هل يصطاد غوايدو حزب الله في فنزويلا (https://cutt.ly/gtXKnr).
[23]– كيو بوست: ترجمة عن (مؤسسة راند) جذور حزب الله العميقة في فنزويلا.. سيناريوهات ما بعد الإطاحة بمادورو (https://cutt.ly/ztXL74).
[24]– كيو بوست: ترجمة عن (مؤسسة راند) جذور حزب الله العميقة في فنزويلا.. سيناريوهات ما بعد الإطاحة بمادورو (https://cutt.ly/ztXL74). سكاي نيوز مصدر سابق
[25]– دويتشه فيله: تحقيق أميركي في تمويل حزب الله والاتجار بالمخدرات لغايات الإرهاب (https://cutt.ly/XtXCTk)
[26]– رويترز: (https://cutt.ly/OtXC07)
[27]– قناة الحرة: العيسمي كلمة سر ارتباط فنزويلا بحزب الله (https://cutt.ly/ytXBsn)
[28]– العربية نت: كيف أسست إيران ميليشيات في فنزويلا لدعم مادورو (https://cutt.ly/8tXNem)
[29]– جيرون مصدر سابق
[30]– سكاي نيوز: تضخم فنزويلا إلى مليون بالمئة (https://cutt.ly/atX17u)
[31]– دويتشه فيله مصدر سابق
[32]– بي بي سي: مصدر سابق
[33]– فرانس 24: جائزة زاروف لحرية الفكر لعام 2017 تمنح للمعارضة الفينزويلية https://cutt.ly/YtX21S))
هذه المادّة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي.