مع تصاعد الأزمة المعيشية والاقتصادية في البلاد، يتزايد اعتماد الأسر اللبنانية على الأموال المحولة لها من المغتربين في الخارج، والتي باتت خلال الأشهر القليلة الفائتة، مصدر دخل رئيسي للعديد من تلك الأسر، لا سيما مع تزايد معدلات البطالة بشقيه التقليدي والمقنعة، بحسب ما يؤكده خبراء اقتصاديون، لمرصد مينا.
تزايد الاعتماد على أموال المغتربين، يتزامن بحسب ما يقوله الباحث الاقتصادي، “جبران أبي عاصي” لمرصد مينا، مع بيانات مقلقة للغاية حول الاقتصاد اللبناني، لافتاً إلى أن معدلات الفقر ارتفعت خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة بنسبة 5 في المئة، وهو ما يعتبر مؤشر كارثي في علم الاقتصاد، كما انها يمثل نسبة انهيار مهولة عادة ما تسجل خلال سنوات من الأزمات وليس أشهر، على حد تأكيده.
استكمالاً لعرض الأزمة اللبنانية وأهمية تحويلات المغتربين، يرى “أبي عاصي” أن فقدان الليرة اللبنانية لأكثر من 80 بالمئة من قيمتها، أثر على قدرة اللبنانيين في تأمين معيشتهم الأساسية، خاصةً وأن ما يتراوح بين 90 إلى 95 في المئة من اللبنانيين يتقاضون أجورهم بالعملة المحلية، في حين تقاس الأسعار بسعر صرف الدولار، الآخذ في الارتفاع.
وكان مفوض الشرق الأوسط لحقوق الإنسان، “هيثم ابو سعيد” قد صنف في وقت سابق، الفقراء في لبنان إلى فئتين، الأولى تحت خط الفقر، ونسبتها 25 في المئة، أما الثانية فهي مقاربة لخط الفقر، ونسبتها 30 في المئة، مضيفاً: “الفرق بين الفئتين، أن الأولى غير قادرة إطلاقاً على تأمين حاجياتها الشهرية، بما في ذلك الغذاء، أما الثاني فهي قادرة على تأمين الغذاء لكنها عاجزة عن تأمين بقية مسلتزمات الحياة من صحة وملبس وتعليم”.
ينفقون على شعب جائع وحكومة مفلسة
أموال المغتربين وبحسب ما يقوله “أبي عاصي” لا تنفق على اللبنانيين وحدهم، وإنما حتى على الحكومة، التي وصفها بـ “المفلسة”، لافتاً إلى أن رسوم التحويل المرتفعة جداً، شكلت دخلاً إضافياً للدولة اللبنانية، خاصةً وأن معدلات التحويل تنامت بوضوح خلال الفترة الماضية.
وبحسب الأسعار والإحصائيات الرسمية فإن لبنان يصنف بين أكثر دول العالم ارتفاعاً لتكاليف ورسوم الحوالات المالية، حيث تتراوح تكلفة تحويل 200 دولار أمريكية من خارج لبنان إلى داخله، بين 17.24 دولار و 25.83 دولار، وذلك الاختلاف يرتبط بالمنطقة المحول منها المبلغ، وفقاً لبيانات البنك الدولي.
أما عن الأزمة برمتها، فيقول “أبي عاصي”: “أزمة لبنان المالية سببها الرئيسي سوء الإدارة المالية للحكومة والنظام الحاكم، والتي أدت إلى حالة إفلاس شبه تام لقطاع المصارف والمنظومة المالية”، لافتاً إلى أن ذلك أوقع المواطن اللبناني فريسة موجات الغلاء وتراجع الدخل، ما دفعه للاستعانة بأموال المغتربين، خاصة وأن تكلفة المواد الغذائية الأساسية الشهرية ارتفعت بنسبة تصل إلى 125 في المئة، خلال الأشهر الأخيرة.
في السياق ذاته، يعتبر المحلل الاقتصادي “بيير قومجيان” أن تصاعد معدلات التحويل إلى لبنان، يشير إلى حقيقة مرة، بأن لبنانيو الداخل قد استهلكوا كافة مدخراتهم، خلال الأشهر الماضية، وهو ما يعكس طبيعة الأزمة، التي يمر بها لبنان، على المستوى المالي والاقتصادي، مشدداً على أن حل المعضلة الاقتصادية لا يمكن أن يكون منفصلاً عن الاستقرار السياسي والأمني في البلاد.
إلى جانب ذلك، يكشف “قومجيان” أن الإحصائيات الدولية الرسمية المتداولة حالياً، تصنف لبنان في مقدمة الدول التي تستقبل الحوالات المالية من الخارج، مشيراً إلى أن آخر الإحصائيات أوضحت أن لبنان قد تصدر قائمة الدول المستقبلة للحولات المالية من ألمانيا، في حين حل في المرتبة الثانية في الولايات المتحدة الأمريكية، بعد كوبا.
بطالة مقنعة وموظفون تحت خط الفقر
تناولاً لأسباب ارتفاع معدلات التحويل المالي إلى لبنان، يذهب “قومجيان” إلى تراجع القيمة الشرائية للعملة اللبنانية متأثرةً بسعر الصرف والتضخم وغلاء الأسعار بشكل كبير، موضحاً: “تلك الظروف أدت إلى ارتفاع كبير في معدلات البطالة المقنعة، حيث أن الكثير من الأسر تراجع دخلها في وقت ارتفعت فيه الأسعار، فباتت عاجزة عن تأمين كافة احتياجاتها، لذا فإن أزمة لبنان لم تقتصر على البطالة التقليدية فحسب وإنما شملت حتى من لا يزال مستمراً في عمله، مع ارتفاع معدلات البطالة المقنعة”.
كما يشير “قومجيان” إلى أن نحو 40 في المئة من الموظفين أو العمال في لبنان يتقاضون أقل من 660 دولار في الشهر، بحسب إحصائيات الحكومة اللبنانية، في حين أن خط الفقر محدد في لبنان بـ 993 دولار، ما يعني أن 40 في المئة من الموظفين هم فعلياً تحت خط الفقر، على حد قوله.
ويشهد سعر صرف الدولار في لبنان حالة فريدة من نوعها، مع وجود ثلاثة أسعار متباينة للصرف، الأولى في المصرف المركزي، الذي يحدد سعر صرف الدولار بـ 1510، والمنصة الألكترونية بـ 3800 ليرة، والسوق السوداء، بما يتراوح بين 8500 إلى 9000 ليرة.
في هذا السياق، يعتبر “قومجيان” أن ذلك التباين في أسعار الصرف، أثر بشكل كبير على مستلمي الحوالات ومدى استفادتهم منها، خاصة بالنسبة للحولات القادمة بشكل رسمي، لافتاً إلى أن اتساع الفجوة بين سعر الصرف الرسمي والسعر في السوق السوداء، دفع المغتربين إلى إرسال الحوالات عبر أسواق الظل وشبكات التحويل السوداء، بهدف الحفاظ على قيمة حوالاتهم.
وسبق أن كشفت مصادر خاصة لمرصد مينا، فضلت عدم الكشف عن هويتها، عن تزايد نشاط الأسواق السوداء في لبنان، لافتةً إلى أن ضاحية بيروت الجنوبية، المعقل الرئيسي لحزب الله، بات مركزاً للسوق الموازي وعمليات التحويل غير الشرعية، لا سيما مع وجود حماية من قبل مسلحي الحزب لمكاتب صرافة معينة؛ تابعة لشخصيات محسوبة على الحزب أو موالية له.
أما الأزمة الأكبر من وجهة نظر “قومجيان” فإنها تتمثل في حال فقدان المغتربين لوظائفهم في الخارج، خاصة وأن تبعات انتشار وباء كورونا أثرت على اقتصادات معظم الدول الكبرى والغربية، التي تعتبر مراكز انتشار للعمالة اللبنانية في الخارج، مضيفاً: “تلك هي الطامة الكبرى”.
يشار إلى أن لبنان ووفقاً لإحصائيات شبه رسمية، قد شهد خلال الأشهر الستة الأخيرة، عودة نحو 200 ألف عامل لبناني من الخارج، بعد أن فقدوا عملهم في الدول، التي كانوا مقيمين فيها، بسبب الآثار الاقتصادية للوباء التاجي.
آثارعابرة للقارات ومغتربون في دوامة الأزمة
بعيداً عن التحليلات الاقتصادية والأكاديمية، يعتبر العديد من المغتربين اللبنانيين أن آثار الفشل الحكومي والأزمة الحالية، طالتهم حتى وهم على بعد آلاف الأميال من بلدهم، حيث تقول الشابة “بشرى” المغتربة في فرنسا لمرصد مينا: “أتيت إلى هنا لمتابعة دراستي، ولكنني بسبب ما يشهده لبنان، أضطررت أيضاً للعمل حتى أتمكن من مساعدة أسرتي في هذه الظروف الصعبة، لأجد نفسي في النهاية أنفق أيضاً على المنظومة السياسية الفاسدة في البلد، والتي تقتطع مبلغاً كبيراً من قيمة الحوالات التي أرسلها”.
في ذات السياق، يعتبر الشاب اللبناني “إياد” المغترب في فرنسا أيضا أن ما يشهده لبنان من أزمة عابرة للقارات، تطارد اللبنانيين أينما حلوا، هو مؤشر على الأسباب، التي دعتهم إلى مغادرة البلاد والهجرة، ولو من خلال ركوب قوارب اللاجئين غير الشرعية، كاشفاً أنه تحول إلى المعيل الفعلي لعائلته، بعد أن فقد والده وشقيقه عملهما قبل شهرين، بسب إغلاق المطعم، الذي كانا يعملان فيه.
وتشير الإحصائيات الصادرة عن الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، تراجع حركة التوظيف في العام 2020 بنسبة 71 في المئة، تزامناً مع تصاعد عمليات التسريح وإنهاء العقود للموظفين، وسط مخاوف من إمكانية ارتفاع معدلات البطالة حتى نهاية العام الجاري، إلى 65 في المئة.