الملخص التنفيذي
قد يستغرب بعضهم هذه التقلبات الصارخة في السياسة التركية؛ حيث تفاجئ تلك السياسة المتابعين لها بين الحين والآخر بتقلباتها من أقصى اليمن إلى أقصى اليسار! ليغدو أعداء الأمس أصدقاء اليوم! ويتحول الخصوم إلى شركاء! وأن تلك الخطب النارية ضد خصوم الأمس؛ تتحول إلى رسائل غزل سياسية لأصدقاء اليوم.
هذه التناقضات الظاهرية؛ والتقلبات السياسية، والانحيازات البراغماتية، تدفعنا لقراءة العقل السياسي التركي قراءة هادئة ونقدية؛ لعلنا نفهم تلك التحولات.
هذه الورقة تحاول قراءة العقل السياسي التركي من خلال المحاور التالية:
- طبيعة العقل السياسي التركي المعاصر
- سلبيات العقل التركي سياسياً
- مشكلة العقل السياسي التركي
- ما هي ثوابت السياسة التركية؟
- المتغيرات في السياسية التركية اليوم
- المصادر والمراجع
مدخل:
غالباً ما يصاب المتابع للسياسة التركية بالحيرة؛ حيث إنها غير مستقرة استراتيجياً؛ خصوصاً في القضايا التي يتحدث عنها إعلامياً السياسي التركي كثيراً؛ كالعلاقة مع المسألة السورية، والخليج العربي، وأوروبا والغرب عموماً، ولو قمنا بتحليل العقل السياسي التركي؛ سيتبين لنا خطأ الاعتقاد بأن العقل السياسي التركي عقل متقلب، وهذا الخطأ ناتج عن عدم الدقة في فهم طبيعة هذا العقل على الأقل في العقدين السابقين من حكم أردوغان وحزبه.
طبيعة العقل السياسي التركي المعاصر
مما لا شك فيه أن هناك مواصفات ايجابية يتميز بها العقل التركي أفراداً وسلطة، ولعل من أهمها الانضباط والبساطة ودماثة الخلق ظاهرياً؛ والصبر، ولكن هناك صفات أخرى سلبية؛ أثرت على أدائهم السياسي بوضوح، ولعل من أهمها:
أنّ السياسي التركي عقله عقل إمبراطوري؛ حيث يعتقد بأنه سليل امبراطورية كبرى؛ وأنه أعرق من غيره وأكثر فهماً، وبالتالي فهو شديد الاعتداد بالنفس؛ وينظر الى آراء الاخرين وإن جاءت من مفكرين كبار بكثير من اللامبالاة، كما لديه ثوابت مسبقة، تجعله يتخذ مواقف غير محسوبة بدقة؛ وأحياناً يتخذ مواقف متصلبة في مواضع تقتضي المرونة وسعة الأفق.
كما يميل العقل السياسي التركي الى المناكفات مع الآخرين، إضافة إلى تبني مواقف استعلاء عليهم؛ حتى مع من هو أقوى منه رغم رضوخه في النهاية.
والعقل السياسي التركي بالعموم قليل المبادرة نسبياً؛ ولا يملك أفكاراً جذابة يطرحها، وإذا تمت مقارنته بالعقل الإيراني؛ تجد فرقاً واضحاً؛ فالإيرانيون شديدو الدأب والمتابعة والمبادرة.
كذلك لا يخلوا العقل التركي أحياناً من المغامرة السياسية، ولكن ليس بالضرورة أن تكون محسوبة بدقة؛ ولكن بالوقت نفسه يُعرف عن السياسة التركية بأنها محظوظة؛ تخدمها الظروف الدولية في أوقات مناسبة. فعلى سبيل المثال لا الحصر فإن اندلاع الحرب في أوكرانيا؛ جعل حاجة الغرب لتركيا أكثر، في الوقت التي كانت العلاقات التركية الامريكية في أدني مستوياتها.
سلبيات العقل التركي سياسياً
هناك مجموعة سلبيات يعاني منها العقل السياسي التركي؛ ولعل أهمها أنه لا يثق بالآخرين، ودائمُ التوجس منهم؛ حتى ولو كانوا حلفاءه، ويحرص على مباشرة جميع الأعمال المتعلقة فيه بيديه، ولا يشرك بها أقرب المقربين اليه من حلفائه ومحبيه. ولعل طريقة التعامل التي تسلكها الحكومة التركية مع أقرب حلفائها من المعارضة السورية أوضح مثالاً في ذلك.
كما يحاول السياسي التركي في كثير من الحالات الى الجنوح للغموض؛ مالم يضطر الى الإفصاح في تبيان حقيقة الموقف التركي في قضية ما؛ ولا تُعرف توجهاته الحقيقية في الغالب؛ إلا من خلال ردة الفعل على تصرفات يتخذها الخصوم أو الحلفاء على حد سواء؛ وعندها تعرف خلفيات قراراتهم.
والعقل السياسي التركي هو عقل كتوم؛ لا يُطلْع حلفاءه على ما يفكر فيه؛ ولا يشاورهم في قراراته؛ وتلك المسألة تجعل بينه وبينهم مسافة غير مريحة، كما أنه لا يعطيهم أي معلومة ذات قيمة؛ يمكن أن يُبنى عليها قرار سليم ذو مصداقية. ولا يجد مشكلة في مفاجأتهم بقراراته. وهذا واضح في تعامله مع المعارضة السورية التي تنام في كنفه. وهذا الأمر يكاد يكون عاماً في العقل التركي؛ حتى داخل بنيتها السياسية والسلطوية؛ ولقد أكد ذلك؛ واشتكى منه معظم كوادر الصف الاول في الدولة التركية والحزب؛ فهم لا يعرفون شيئاً مما يدور في القصر الجمهوري في أنقرة.
ومن سلبيات العقل السياسي التركي؛ أنه عقل مادي مقياسه الاول دائماً هو مقياس الربح والخسارة المادية، ويحب أن يكسب دون أن يدفع شيئاً، ويعتقد أنه بدماثة خلقه الظاهرية؛ يستطيع كسب قلوب الناس؛ فيضيع الكثير من الحلفاء. وهناك مثل تركي يترجم مادية العقل التركي وبخله؛ يقول المثل متحدثاً عن الأتراك: إن التركي في جيبه عقربة؛ فيخشى أن يمد يده في جيبه فتلدغه العقربة! للدلالة على بخله.
مشكلة العقل السياسي التركي أنه في العموم لا يحب العرب! رغم حاجته لهم اليوم أكثر من أي وقت مضى في مواجهة الغرب، فمن الممكن أن يمنحوه قوة مضافة، لكنه ما يزال يحمل في داخله الغضب منهم، وينظر إليهم باعتبارهم خونة؛ خانوا الإمبراطورية العثمانية؛ وتحالفوا مع الغرب؛ إذ يعتبر حركات التحرر العربية والاستقلال من الهيمنة العثمانية؛ خيانة وغدر بتركيا، ولهذا لم ينسَ أبداً الثورة العربية الكبرى، ولكنه يتناسى سلوك حركة الاتحاد والترقي التي استحوذت على السلطة آخر أيام الدولة العثمانية؛ ويتجاهل سياسية التتريك البائسة التي أذلت العرب؛ وجعلتهم يكفرون بالعثمانية. فدفعتهم المتغيرات الدولية، وولادة الدولة الوطنية الحديثة للانتفاضة على القهر العثماني؛ الذي كان استعماراً استغل الدين لتحقيق مصالحه.
ومن سلبيات العقل السياسي التركي؛ أنه عقل أحادي التوجه؛ وهذا ما يجعله في كثير من الحالات يتسبب بمشاكل متعددة من أجل حل مشكلة واحدة تعترضه.
ولعل أزمة اللاجئين السوريين؛ التي جعلها السياسي التركي جزءاً مهماً من حملته الانتخابية؛ كما تسبب استغلال السوريين سياسياً ودفعهم باتجاه الهجرة من تركيا بمشكلات اقتصادية كبيرة لأرباب العمل الأتراك؛ فخسروا عمالة سورية ماهرة ورخيصة الثمن، كما أضعفت الشغف الذي كان لدى العرب والمسلمين تجاه تركيا. وهذه خسارة استراتيجية لتركيا؛ أضعت التعاطف العربي والإسلامي معها كثيراً قياساً لما كان عليه الوضع بداية الربيع العربي.
المشكلة في العقل السياسي التركي أنه لا يمتلك هوية وطنية واضحة! فلا هو ذو توجه إسلامي؛ حتى تتعامل معه على هذا الأساس! ولا هو ذو توجه تركماني قومي رغم جنوحه لهذا! ولا هو ذو توجه غربي؛ رغم رغبته في ذلك؛ ولا هو ذو توجه أوراسي، وما يزال عدم وضوح الهوية التركية يسبب بين الأطراف صراعاً قوياً داخل البيت السياسي التركي؛ ولهذا حتى الآن لم يستقر قادة تركيا على أي جنب ينامون هوياتياً؛ مع تلك تناقضات صارخة في القرارات.
الثوابت السياسية التركية
تقوم السياسة التركية على اعتقادات موهومة؛ لا تستقيم مع سياسة الواقع، إنما تبدو كأوهام غير صالحة في عالم السياسة، وما تزال ترسبات حقبة الإمبراطورية العثمانية؛ وأحلام عودتها، والانقلاب على معاهدة سيڨر 10 أغسطس/آب 1920؛ حتى تتوسع الدولة التركية اليوم أكثر، ما تزال حاضرة في العقل السياسي التركي؛ إضافة براغماتية فاقعة؛ تجعلهم ينقلبون 180 درجة على تحالفاتهم؛ وحتى اتفاقياتهم.
فما يزال الاعتقاد لدى العقل السياسي بأن تركيا تستحق أن تكون من الدول الكبرى في العالم، وشعارهم الدائم إن العالم أكبر من خمسة، وهم يعتبرون أنفسهم أهم من معظم الدول الأوربية، وربما أهم من المانيا.
والاستراتيجية التركية تعتبر كل الدول ذات الأصول التركمانية، أو من كانوا تحت الدولة العثمانية؛ هي دول ينبغي أن تكون تحت جناحهم، وتدور في فلك سياستهم؛ وإن لتركيا حقاً وفضلاً عليهم.
وإنْ كان الحلم بعودة الإمبراطورية صعب التحقق؛ لكنهم يؤمنون إيماناً مطلقاً بأن الـ (ميثاق الملّلي) حق تاريخي لهم، ومصممون على تنفيذه؛ وضم أراضيه يوماً ما الى ديارهم! حيث يتضمن الميثاق المللي ضم أراضٍ في شمال سوريا وحلب ودير الزور والموصل حتى جبل سنجار؛ ويجب أن تعود لتركيا، وهذا ما يعمل عليه أردوغان دون كلل، ولذلك يدعم المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري في إدلب وما حولها، ويطمع كثيراً بالاستحواذ على شمال شرق سوريا (مناطق سيطرة الإدارة الذاتية ـ مسد وقسدــ) ويعتبرها من فضاء الأمن القومي التركي.
ونتيجة البراغماتية التركية المصلحية المفرطة عند الطبقة السياسية التركية الاستعداد لتغيير التحالفات والاتفاقات والانقلاب عليها؛ إنْ وجدوا مصلحة ولو صغيرة في ذلك. وهذا ما حصل مع السوريين اللاجئين إليها؛ فقد تخلوا في يوم وليلة عن مفهوم المهاجرين والأنصار مع السوريين؛ الذي كان يصدح به أردوغان في خطبه.
الأهم في ذلك؛ ويوضح البراغماتية في الاستراتيجية التركية، أنّ السلطة التركية الحاكمة؛ قامت بإلغاء أحد أهم شعارات حزب العدالة والتنمية الحاكم والقائل بأن تركيا تمثل الأخ الأكبر لشعوب العالم الإسلامي؛ وأنهم الجهة المدافعة عن حق الشعوب المسلمة في التحرر من الاستبداد، كما قاموا بالتخلي نهائياً عن الحركات الإسلامية؛ ودعم الاسلام السياسي؛ رغم أنهم كانوا الحاضن لهم.
ومن طبيعة العقل السياسي التركي ألا يعطي حلفاءه أكثر من ٨٥% من الالتزام، فيما يعطوا ال١٥% المتبقية لخصوم الحلفاء في عملية توازن بين الأطراف، وهذا ثابت من ثوابتهم السياسية؛ حتى في العلاقة مع حلفائهم في حلف الناتو ويتفاخرون بهذا، وهذا مشابه كثيراً لسياستهم التي كانوا يمارسونها في أواخر القرن التاسع عشر.
ومن أهم الثوابت السياسة التركية؛ أن عدوهم الأزلي هو حزب العمال الكردستاني وأفرعه في المنطقة؛ ولا يمكن أن يتخلوا عن محاربته مهما كانت المغريات، ويعتبرون ذلك من الثوابت التي لا تتغير عبر الزمن، ويتحركون بسياستهم على أساس أن هذا الحزب مهدد للأمن القومي التركي.
المتغيرات الحالية في السياسة التركية
تركيا حالياً ليست في أحسن علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية، وتتعامل مع الولايات المتحدة وأوروبا على أنهما في حالة أفول حضاري؛ وضعف أمام عزيمة الأمم الصاعدة، وأن المستقبل ليس لهم! وعلى تركيا أن تبحث عن مستقبلها خارج حلف الناتو.
ويعدّون قيام الولايات المتحدة بإقامة قواعد عسكرية في اليونان استهدافاً مباشراً لهم؛ وربما لإخراجهم من حلف الناتو. كما أن المسؤولين الأتراك يحمّلون ضمناً الأزمات الاقتصادية الخانقة في تركيا؛ وانهيار سعر صرف الليرة التركية للولايات المتحدة ورجال الاعمال المقربين منها.
ورغم أن الشعب التركي أميل الى طبيعة الحياة الغربية، إلا أنّ القادة السياسيين وفي تغير ملحوظ؛ أصبحوا أقرب الى روسيا والصين والمعسكر الشرقي، ويعتقدون أن المعسكر الشرقي سينجح في إعادة القطبية العالمية، فلماذا تراهن تركيا على حصان خاسر (أمريكا وأوروبا)؟
ولذلك نجد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يستخدم كثيراً ذريعة ومصطلح “التركوفوبيا” في الفترة الأخيرة، وأن “أوروبا غارقة كثيراً في مخاوفها، و“التركوفوبيا” تتزايد ومعها الإسلاموفوبيا. والمثير في أن مصطلح التركوفوبيا يذكّر للوهلة الأولى بالإسلاموفوبيا، بل يصر ناحتوه على دمج المصطلحين معاً، مثلما فعل أردوغان، ولعل وراء مزاحمة “التركوفوبيا” للإسلاموفوبيا في الاستعمال وفي التوظيف، عقل ماكر يدركُ أن للخلط بينهما محاصيل وافرة.
هذه السياسة قامت على فرضية؛ أدت إلى متغيرات في السياسة التركية؛ إذ يعتقد الساسة الأتراك بأن روسيا ستحسم الامر في أوكرانيا هذه عاجلاً أم آجلاً، وبالتالي فإن الدولار لن يكون العملة العالمية مستقبلاً.
وبذلك باتت السياسة التركية متخلية عن كثير من الأطروحات السابقة التي كان يتبناها حزب العدالة والتنمية الحاكم، ولم تعد من أولوياته الرابطة الروحية الجامعة بينهم وبين المسلمين، بل الهم الأكبر لهم الآن، وملهم كل التصرفات السياسية هو كيفية الفوز بالانتخابات.
الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية على الأبواب، فهل يبقى العقل السياسي التركي يمارس الأسلوب ذاته؛ الذي سبب له مشاكل مع القريب والبعيد؟ أم سيعيد النظر في تلك السياسة؟ نحن أم صيف ساخن في تركيا؛ ولا أحد يدري ماذا سيقع بعد الانتخابات التركية!
المراجع والمصادر لهذه الورقة:
- ريجيس دوبريه: نقد العقل السياسي. ترجمة: د. عفيف دمشقة.
- د. عمر خضيرات: العوامـل المؤثـرة في تـوجهــات السياســة الخارجيــة التركيــة تجــــاه المنطقــة العـربية: 2002 – 2012 م
- د. زبير خلف الله: من يحكم تركيا
- محمد نور الدين: العقل التركي والميثاق الملّي.
- برهان كور أوغلو: السياسة الخارجية التركية الجديدة بين الشرق والغرب
- محي الدين أتامان: قراءة في السياسة الخارجية التركية لعام 2022.
- عبد الجليل معالي: التركوفوبيا؛ العقل السياسي التركي وتوسيع المعركة.
- محمد عربي لادمي: محددات السياسة الخارجية التركية.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مركز أبحاث ودراسات مينا.