يدخل القضاء اللبناني في مواجهة مفتوحة مع السياسيين، على إثر الخلافات حول الجهة الصالحة للتحقيق في انفجار مرفأ بيروت، واعتراضات رئيس الحكومة السابق “حسان دياب” و3 وزراء سابقين على إجراءات القاضي “طارق البيطار”، حيث مهّدت الهيئة العامة لمحكمة التمييز برئاسة رئيس مجلس القضاء الأعلى “سهيل عبود” الطريق أمام عودة المحقق العدلي طارق البيطار لاستئناف عمله في ملف انفجار المرفأ.
وبينما يرى مراقبون أن قرارات الهيئة، أعادت بعض الهيبة للقضاة وللقضاء، وشكلت رادعا للطبقة السياسية التي تحاول الافلات من العقاب بشتى الطرق، كما أعادت الأمل بقيام دولة حقيقية بعيدة عن منطق المغالبة والاستئثار، الذي يعطل حتى عمل الحكومة، يحذر آخرون مما قد تأول إليه التطورات خاصة مع إصرار حزب الله على تعطيل التحقيقات، محذرين من مواجهة مفتوحة بين قطبي القضاء والسياسة في البلاد.
القضاء يكابد تدخلات السياسة
ردت الهيئة العامة لمحكمة التمييز، الدعوتين المقدمتين من “حسان دياب” والنائب “نهاد المشنوق”، معتبرة أن القاضي “البيطار” لم يرتكب أي مخالفة بحقهما، وألزمت كلاً منهما دفع مليون ليرة بدل عطل وضرر.
كما ردت الهيئة، دعوى “مخاصمة الدولة” التي قدمها الوزيران السابقان والنائبان “علي حسن خليل” و”غازي زعيتر” للسبب نفسه، كذلك، ردت الدعوى التي تقدم بها الوزير السابق “يوسف فنيانوس”، الذي صدرت بحقه مذكرة توقيف، وكان قد طلب نقل ملف انفجار المرفأ من عهدة البيطار بسبب “الارتياب المشروع”.
يشار إلى أن المسؤولين الخمسة من المدعى عليهم في انفجار مرفأ بيروت، الذي تسبب بمقتل أكثر من 215 شخصا وإصابة أكثر من 6500 بجروح، عدا عن دمار واسع في المرفأ وأحياء من العاصمة.
وبمجرّد تبلغه قرارات رد الدعاوى، يصبح بإمكان “البيطار” استئناف التحقيق المعلق منذ الرابع من الشهر الحالي.
يرى المحامي والقانوني اللبناني، “نبيل رومية”، أن الهيئة العامة لمحكمة التمييز برئاسة رئيس مجلس القضاء الأعلى “سهيل عبود”، مهدت الطريق بهذه القرارات، أمام عودة المحقق العدلي “طارق البيطار” لاستئناف عمله، معتبرا أن تغريم “دياب” و”المشنوق” و”خليل” و”زعيتر” بدفع مبلغ مليون ليرة لصالح الدولة اللبنانية كعطل وضرر يدل على أن الدعاوى المقدمة لمخاصمة الدولة لا تتوفر فيها الشروط المطلوبة، لذلك فهي أضرت بالتحقيق وأظهرت عدم احترافية قانونية.
ويقول “رومية” إن مخاصمة الدولة تكون عندما يحجب القاضي حقا عن مدعٍ فيلجأ الى طلب إحقاق الحق والتعويض عن التأخير الذي حصل، ولا يكون بمجرد طلب استدعاء أو استماع أو حتى ادعاء، ما يعني أن مسار الهيئة العامة لمحكمة التمييز يتجه نحو رد كل الدعاوى المقدمة لمخاصمة الدولة، خاصة أن الاجتهادات التي اعتمدت في دعاوى رئيس الحكومة السابق والنواب الثلاثة قد تُعتمد نفسها في الدعاوى الباقية، ما من شأنه أن يعيد ملف القضية بالكامل الى يد القاضي “البيطار”.
يشار إلى أن مصادر سياسية لبنانية كانت كشفت الأربعاء، عن خطة “توافقية” تقضي بتحجيم صلاحيات “بيطار” مع ترك ما لا يدخل في صلاحياته للمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، وهو مخرج يرضى “حزب الله” بحسب المصادر ذاتها.
مواجهة من نوع آخر
بالإضافة إلى ذلك، يشير “رومية” إلى أن المعركة لم تعد بين “البيطار” والقوى السياسية الداعمة للمتهمين، بل أصبحت بين القطبين القضائي والسياسي، مشددا على أن عودة البيطار، من شأنها أن تستفز “حزب الله” وتبقيه على موقفه التصعيدي منه والداعي الى عزله، وقد يمدد تعطيل الحكومة التي يربط الثنائي الشيعي عودة وزرائه إلى طاولة مجلس الوزراء بإنهاء ملف المحقق العدلي.
يتفق المحلل السياسي “نزار رمال” على ما جاء به “رومية”، مؤكدا دخول لبنان في معركة كسر العظم بين القوى القضائية والسياسية، وهذه المعركة قد تطول لسنوات في ظل التعطيل الذي يشهده عمل الحكومة. كما يتوقع “رمال” حدوث مواجهات مماثلة لأحداث “الطيونة” نتيجة التصعيد الذي ستنتهجه القوى السياسية المتمثلة بالثنائي الشيعي (حزب الله وحركة أمل)، في محاولة لعرقلة التحقيقات، لكنه يستبعد أن تشهد المرحلة المقبلة أي تنازلات من جانب القضاء.
ويشدد “رمال” على ضرورة البت بمصير الأشخاص الموقوفين في هذه القضية، والاسراع في إصدار القرار الظني لعدم منح شركات التأمين المزيد من الوقت للتهرب من التزاماتها، وحماية أهالي الشهداء من الارهاب العاطفي الذي يمارس عليهم في كل مرة والذي يكاد يفقدهم ثقتهم بالدولة والقضاء.
ويتخوف لبنانيون من السير في هذه القضية الى النفق المظلم، محذرين من أن يتحول ملف مرفأ بيروت الى فتيل قد يشتعل في أي لحظة، وإذا كان الاعتراض على ما سُمّيَ باستنسابية القاضي بيطار قد أسفر عن مجزرة الطيونة، فإن عرقلة التحقيق بهذا الشكل قد يؤدي الى ما هو أخطر.
انتفاضة قضائية ضد تهديدات حزب الله
احتجاجاً على ازدياد وتيرة التدخلات السياسية التي باتت تعرقل مؤخراً عمل القضاء في لبنان، شهدت أروقة قصر العدل في بيروت خلال الساعات الماضية، حركة استقالات لقضاة نتيجة تعثّر وضع العدلية بشكل عام، بما يُسيء إلى هيبتها ومكانتها.
وأفادت معلومات عن إقدام أربعة قضاة على الاستقالة من السلك وإيداع استقالتهم لدى رئيس مجلس القضاء الأعلى “سهيل عبود” من دون البتّ بها.
وفيما نقلت تقارير صحفية عن مصدر قضائي مطلع، قوله إن هذه الاستقالات تعتبر بمثابة انتفاضة قضائية ضد التدخّلات السياسية في عمل القضاء، بدا لافتاً أن اثنين من هؤلاء القضاة المستقيلين وهم “ناجي عيد” و”جانيت حنا”، كانا نظرا في مسألة كفّ يد “البيطار”، لكن المصدر أكد أن لا علاقة للاستقالة بما يجري في ملف تحقيقات المرفأ، ولكنه أشار في الوقت عينه إلى أنه ” يُمكن القول إن ملف المرفأ كان بمثابة القشّة التي قسمت ظهر البعير، إذ إن القاضي بات هدفاً للتصويب السياسي والشعبي، وتُشنّ ضده الحملات عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي وفي الشارع ليس لسبب إلا لأنه ينظر في ملف متورّط فيه سياسيون ومسؤولون رسميون”.
كما أكد “أن استقالة هؤلاء القضاة لن تكون الأخيرة، فهناك قضاة يعتزمون اتخاذ الخطوة نفسها، للأسباب ذاتها أيضا، علماً أن من يُقدم على خطوة الاستقالة قضاة مشهود لهم بعملهم المستقل وبنزاهتهم، وهم خارج المنظومة السياسية الحاكمة ولا يخضعون لضغوط السياسيين”.
يذكر أن “حزب الله” كان صعد لهجته في الفترة الأخيرة تجاه المحقق العدلي في انفجار مرفأ بيروت، رابطاً استقرار الوضع السياسي في البلاد بتنحيه.
كما وصف أمين عام الحزب “حسن نصر الله” القاضي المذكور بـ”المسيّس”، ليأتي بعده نائبه الشيخ نعيم قاسم، ويعتبر أنه “بات مشكلة حقيقية في لبنان”.