شهدت منطقة الشرق الأوسط خلال العامين الماضيين تحوّلات نوعيّة في سياسات اللاعبين الإقليميين الرئيسيين، تجلّت في المصالحات العربية- التركية، والعربية-العربية، وانعكست بشكل سلبي على حضور وأداء جماعات الإسلام السياسي في معظم دول المنطقة، بعد “حقبة ذهبية” عايشتها تلك الجماعات خلال السنوات الأولى لثورات الربيع العربي.
ويمكن ملاحظة هذا التراجع بشكل واضح في دور وتأثير جماعة الإخوان المسلمين السورية التي تقوقعت على ذاتها منذ فترة ليست بالقصيرة، وباتت بالنسبة لكثير من المراقبين مجرد طابور خامس وجوقة إعلامية هدفها تنفيذ الأجندات التركية وإسباغ “الشرعية” على العمليات العسكرية التي تنفذها أنقرة في الشمال السوري.
رغم ذلك، يبدو أنّ هذا الإنكفاء لن يستمر طويلاً مع مساعي بعض الأطراف إعادة إنعاش المشروع الإخواني الذي يشكل حجر الأساس في مشروع تقسيم سوريا إلى دويلات طائفية وإثنية متصارعة. ويندرج في هذا الإطار تكثيف قطر من تحركاتها ذات الطابع التنموي والعسكري في الشمال السوري، بالتزامن مع مساعي جماعة الإخوان للهيمنة على النشاط السياسي في مناطق سيطرة ما يسمى “الجيش الوطني” المدعوم من تركيا.
“مؤتمر وطني” بنكهة إخوانية..
في هذا السياق، أعلن الحزب الوطني للعدالة والدستور (وعد) المعارض، عن عزمه عقد “مؤتمر وطني” في شمال سوريا خلال أيلول/سبتمبر 2022، الأمر الذي ربطه البعض بمحاولات جماعة الإخوان العودة إلى المشهد السياسي، خاصة وأنّ هذا التحرك جاء بعد 4 أشهر من عملية هيكلة أجرتها تركيا لـ”الائتلاف السوري” الذي يمثّل الواجهة السياسية للفصائل المعارِضة، حيث قامت بتخفيض تمثيل “الإخوان المسلمين”، واستبعاد شخصيات سياسية معروفة بتبعيّتها المطلَقة لأطراف دولية.
وقال رئيس حزب “وعد”، القيادي في جماعة الإخوان المسلمين في سوريا، محمد زهير الخطيب، عبر مقطع فيديو مصور، يوم السبت 6 آب أغسطس، إن الهدف من المؤتمر هو “التوصل إلى اتفاق على وثيقة شرف وطنية، والتوافق على نموذج لقانون أحزاب، وتشكيل رابطة للأحزاب التي تنطبق عليها شروط قانون الأحزاب، بالإضافة إلى العمل على ترسيخ الحياة المدنية والديمقراطية في الشمال المحرر”.
وبحسب المعلومات المتداولة، وَجّهت قيادة الحزب رسائل إلى القوى والأحزاب السياسية السورية المعارضة ووسائل الإعلام، لحضور المؤتمر الذي سيكون عنوانه العريض “اللقاء التشاوري”، إلّا أنّ الأطراف المدعوة “لم تُظهر حماسا للمشاركة في الفعالية”. وتقول صحيفة “المدن” إنّ أغلب من وجهت لهم الدعوة اعتذروا عن عدم الاستجابة لها بسبب التحفّظ على بعض البنود التي يتضمنها جدول الأعمال، باستثناء حزبي “الوفاء” و”النهضة”، المرتبطين بالاخوان أيضاً.
وأثارت أجندات المؤتمر، وخاصة بندَي “إقرار نموذج لقانون الأحزاب” و”السعي لتشكيل رابطة للأحزاب التي تنطبق عليها الشروط”، مخاوف نشطاء اعتبروا أن جماعة الإخوان وعبر حزب “وعد”، تسعى لطرح قانون أحزاب على مقاسها الخاص، وبشكل يتيح لها ترسيخ حكمها العسكري ومن ثمّ السياسي، للشمال السوري، بالنظر إلى أنّ الجماعة هي إحدى قوى الأمر الواقع في مناطق سيطرة المعارضة، وتمارس سطوتها حالياً عبر فصائل عسكرية متعددة.
وحاول زهير الخطيب تبرير الخطوة ووضع المبادرة في إطار “حق الشعب السوري بالعمل السياسي القانوني” عبر إلقاء اللوم على المؤسسات الرسمية للمعارضة التي “تجاهلت مطالب الحزب”، حيث قال: “قدّم الحزب مشروع قانون لتنظيم عمل الأحزاب إلى رئيس الإئتلاف الأسبق أنس العبدة، إلا أنّ المشروع رُفض بدعوى أنه قد يؤدي إلى ترسيخ التقسيم في سوريا، كما تكرر الأمر مع الرئيسين التاليين للإئتلاف، نصر الحريري وسالم المسلط، دون أن يتم تبني مشروع القانون أو حتى فكرة طرح قانون الأحزاب”، وهو ما دفع الحزب للمضي قدماً في تنفيذ المبادرة بحسب الخطيب.
وتأسس الحزب الوطني للعدالة والدستور (وعد) في عام 2013 في الداخل السوري، عبر توليفة إخوانية تمّ تطعيمها بشخصيات مستقلة وأخرى علوية ومسيحية. وترأّس الحزب في أول دوراته المراقب العام الحالي لجماعة الاخوان المسلمين محمد حكمت وليد.
وينفي الحزب بشكل دائم ارتباطه بالجماعة، ويقول على موقعه الالكتروني بأنه “حزب وطني مستقل، ذو مرجعية إسلامية وسطية، يعمل على ترسيخ مبادئ الحرية والعدالة بالوسائل الديمقراطية”.
تحركاتٌ قطرية..
كثّفت قطر منذ مطلع العام الجاري تحركاتها للمّ شتات المعارضة السياسية في سوريا، حين تقاطرت وجوه المعارضة السورية البارزة إلى العاصمة القطرية الدوحة في يناير المنصرم، وكان من بين هؤلاء الرئيس السابق لهيئة التفاوض ورئيس الوزراء السوري المنشق رياض حجاب، ورئيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة سالم المسلط، ورئيس جبهة السلام والحرية أحمد الجربا، ورئيس الائتلاف الأسبق معاذ الخطيب، لتنكشف لاحقاً ملامح محاولة قطرية لمزاحمة تركيا والإمساك بزمام القرار السياسي لمؤسسات المعارضة السورية، وذلك من خلال مبادرة طرحها رياض حجاب “لتوحيد المعارضة”، إلا أنّ المشروع تحوّل لاحقاً إلى مجرّد ندوة حوارية أجريت على مدار يومين في قطر مطلع فبراير الفائت، ولم تسفر عن أيّ نتائج تذكر، بسبب ماقيل إنه “رفض تركي للمشروع”.
على الصعيد الإغاثي، وبعد فترة من “الخمول”، عادت قطر وبقوة إلى مشهد العمل “الخيري” في الشمال السوري، وهو الملف الذي أثار- ولا يزال- الكثير من الجدل حول استغلال الدوحة لهذا القطاع الحيوي في التوغل وتنفيذ مخططات التغيير الديمغرافي، ناهيك عن دعم فصائل متشددة تحت ستار المساعدات الإنسانية.
في هذا الإطار، وقّع الهلال الأحمر القطري، يوم 28 تموز يوليو الفائت، اتفاقية لبناء قرية سكنية للنازحين في منطقة الباب شمالي سوريا مع إدارة الكوارث والطوارئ التركية (آفاد). وتبلغ تكلفة بناء مشروع القرية السكنية، نحو 3.5 ملايين دولار، ومن المقرر إتمامه خلال عام، ويقضي ببناء ألف منزل في مدينة الباب داخل منطقة (درع الفرات) وفق تنسيقٍ مشترك بين الجهتين التركية والقطرية.
كما أعلنت “شبكة الجزيرة” يوم الثالث من آب أغسطس الجاري، أنّ منظمة “قطر الخيرية” أنهت أعمال إعادة تأهيل صوامع مدينة الراعي شمالي حلب بقدرة استيعابية تبلغ 12 ألف طنًا من الحبوب، بعد توقف دام أكثر من 10 سنوات. وبحسب مصادر مطلعة تحدثت لمرصد “مينا” فإنّ إعادة تأهيل المنشأة هو جزء من مشروع استراتيجي متكامل يحمل اسم “دعم سلسلة القيمة لمحصول القمح”، وترعاه “قطر الخيرية” منذ عام 2019، بالشراكة مع مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA).
المشاريع القطرية ليست دائماً محط ترحيب من السكان، ففي عفرين غربي حلب بدأت المنظمات المموّلة من قطر وإخوان الكويت، بتنفيذ مشاريع ينظر إليها أبناء عفرين على أنها “استيطانية” وتهدف إلى “تغيير ديمغرافية المنطقة”، كما حصل في قرية “بافلونط ذات الغالبية الإيزيدية، حيث تمّ توطين نحو 70 عائلة من ريف حلب والغوطة، مع تقديم الدعم المادي لها، وبناء مسجد في القرية التي لم يقطنها أي مسلم في السابق.
وتقول مصادر حقوقية كردية وسورية وأوربية في تقارير نشرتها بأوقات سابقة، إن تنظيم الإخوان قام بتوطين ما يقارب /500/ ألف نسمة من عوائل المسلحين المرتبطين بتركيا والمنتمين أيديولوجياً إلى تنظيمات إسلامية راديكالية في عفرين ونواحيها، وإسكانهم في منازل ومحلات وممتلكات السكان الأصليين بدعم وتمويل من جمعيات قطرية وكويتيية وفلسطينية مثل جمعية “الأيادي البيضاء” و”العيش بكرامة”، بيما تسهّل أنقرة دخول تلك المنظمات والجمعيات التابعة فكرياً للتنظيم، إلى عفرين عبر أراضيها، في إطار تعاون إخواني تركي لتتريك وأخونة المنطقة الكردية.
على الصعيد العسكري، وفي محاولة من قطر لاستعادة الدور الذي تخلّت عنه خلال الأعوام الماضية، قامت قطر بإعادة تفعيل علاقاتها مع بعض الفصائل النشطة في الشمال السوري. وشكّلت الإشتباكات التي جرت بين فصيل “أحرار الشام- القاطع الشرقي” (الفرقة 32) و”الفيلق الثالث” (الجبهة الشامية)”منتصف حزيران يونيو الفائت، وماتلاها من دخول هيئة تحرير الشام (جبهة الصرة سابقاً) إلى منطقة عمليات “غصن الزيتون” (مدينة عفرين وريفها) المحظورة عليها “دعماً لأحرار الشام”، شكّلت فرصة ذهبية للدوحة لإعادة إمساك خيوط الفصائل المتشعبة الإنتماءات والولاءات، مستفيدةً من علاقتها المتينة بـ”أحرار الشام” و”هيئة تحرير الشام” و”فيلق الشام”، وهو الفصيل المدعوم من الإخوان المسلمين بشكل مباشر.
ووفقاً لجريدة “الأخبار” اللبنانية فإن وفداً قطرياً أجرى لقاءات مع ممثّلين عن «الفرقة الثالثة» و«أحرار الشام»، بهدف حلّ الإشكال القائم بينهما ووضع حدّ للاقتتال، مقابل مغريات مالية كبيرة تضْمن استمرار صرْف رواتب شهرية لنحو 30 ألف مقاتل، من دون تأخير أو انقطاع. مشيرة إلى يَصعب التأكُّد من مدى دقّة هذا الرقم بسبب تشعّب الفصائل واختلاف أعدادها بشكل مستمرّ جرّاء عمليات الانشقاق والتكتّل المستمرّة.
ويرى مراقبون أن عودة اهتمام قطر بالملف السوري مرتبط بمحاولة ضرب مسار إعادة تعويم الأسد الذي اتخذ منحى تصاعديا في الأشهر الأخيرة لاسيما مع إبداء عدد من الدول العربية رغبتها في كسر عزلة دمشق، وإعادة تفعيل العلاقات معها.
ويشير هؤلاء إلى أنّ لقطر وجهة نظر مختلفة عن باقي القوى العربية إزاء الأزمة السورية، وهذه الوجهة مرتبطة إلى حد بعيد بالتفاهمات بينها وبين تركيا. لافتين إلى أن حديث الدوحة المتكرر عن دعمها للشعب السوري لا يخلو من مغالطات وهو مجرد شعارات تُرفع، والدليل -برأيهم- أنّ قطر تقوم بتدوير ذات الوجوه وذات الكيانات التي أضحت محل رفض حتى من الشارع المعارض للنظام السوري.
مراجع:
https://www.noonpost.com/content/2057
https://al-akhbar.com/Syria/342125
https://www.enabbaladi.net/archives/584131/amp