أعاد مقتل رجل سوداني قضى تحت التعذيب، أعاد ملف قوات الدعم السريع لواجهة المشهد السياسي والأمنية في السودان.. مثيرة موجة غضب جديدة اجتاحت البلاد
تلك القوات الميليشياوية التي كان يرأسها نائب رئيس مجلس السيادة الفريق محمد حمدان دقلو “حمدتي”، والمكونة من مجموعات الجنجويد المتهمة بجرائم ضد الإنسانية في إقليم دارفور إبان عهد المخلوع “عمر البشير” وأزمات غرب البلاد.
قتل واختطاف
قُتل السوداني “بهاء الدين نوري” قبل أيام بعد أن خُطف خلال جلوسه في مقهى.. حيث أكدت أسرة المقتول صاحب الـ 45 عامًا، أن رجال يرتدون ملابس مدنية، يستقلون سيارة بدون لوحات، اختطفوه يوم الـ 16 كانون أول ديسمبر الجاري، في حي الكلاكلة جنوب العاصمة الخرطوم. وكان المغدور عضوًا في “لجنة المقاومة” في حيه، وهي جمعية نشطت في التنديد بنظام الرئيس المعزول عمر البشير.
بعد مرور خمسة أيام، كانت جثة “بهاء الدين” في مشرحة مستشفى في مدينة أم درمان، خارج حي الكلاكلة مباشرة.. لترفض الأسرة استلام الجثمان، والقيام بالدفن، بعد رؤية آثار الضرب والتعذيب على ما يبدو، وفق ما نقلته وسائل إعلام عن شقيق المقتول، ياسر.
ليثير مقتله جدلًا حول هامش ما تتمتع به قوات أمن شبه عسكرية في السودان كان أعضاؤها يشكلون ذات يوم العمود الفقري لميليشيا الجنجويد، التي تتهمها منظمات حقوقية بارتكابها جرائم حرب في دارفور..
كما تسبب الحادث بتوتر الأوضاع في ضاحية الكلاكلة، فقام الأهالي بإغلاق الطرقات الرئيسية بالأحجار مطالبين بالكشف عن الجناة وتوضيح ملابسات مقتل الشاب، بحسب ما نقله موقع سودان تربيون السوداني.
تصريحات ومواقف
أكد وزير الثقافة والإعلام السوداني والمتحدث الرسمي باسم الحكومة، فيصل محمد صالح، اجتماع أسرة “نوري” مع النائب العام الأسبوع الماضي.. حيث طلبت العائلة تشريح الجثة للكشف عن سبب الوفاة.
ليوضح المتحدث الحكومي، أن التحقيقات الأولية بينت أن المغدور توفي أثناء استجوابه على يد قوات الدعم السريع.
من جهة ثانية، أشار تقرير لموقع “مونتي كاروو” الإخباري السوداني، الذي يركز في مجمل تقاريره عل أنشطة قوات الدعم السريع، أن “بهاء الدين” خضع للاستجواب بشأن مزاعم الانتماء إلى جماعة إرهابية تتاجر في المتفجرات.. ليبقي التقرير بقية التفاصيل غامضة.
أما الناطق باسم قوات الدعم السريع، جمال جمعة، فقال في بيان إعلامي، إن قائد وحدة الاستخبارات بالقوة وضباطًا آخرين متورطين في اعتقال نوري والتحقيق معه، تم تعليق عملهم أو اعتقالهم لحين الانتهاء من التحقيق في مقتل نوري.. دون إفصاح عن بقية التفاصيل، بحسب ما نقلته “أسوشيتد برس” حول القضية.
لكن موقع “أخبار السودان” ذكر أن الناطق بإسم قوات الدعم السريع، أكد إحالة كل من رئيس دائرة الاستخبارات بقوات الدعم السريع وضباطٍ، إلى التحقيق.
حيث أوضح جمعة أنه سيتم التحفظ على جميع هؤلاء الأفراد “الذين شاركوا في القبض على الراحل بهاء الدين نوري، الذي حدثت وفاته بعد القبض عليه بواسطة استخبارات الدعم السريع، وذلك إلى حين الانتهاء من إجراءات التحقيق في القضية بحسب القانون والعدالة”، وفق ذات المصدر.
سياقًا، أعلن حزب الأمة القومي، أحد الأحزاب الرئيسية في الائتلاف الحاكم “إعلان الحرية والتغيير” في بيان رسمي: “ندين عملية الخطف والاعتقال غير القانوني لأي مواطن سوداني، ونؤكد أن سلطة الاعتقال والتحري هي سلطة مكفولة بالقانون والدستور للأجهزه الأمنية والنيابة”.
أما حزب المؤتمر، أحد أحزاب “إعلان الحرية والتغيير”، فدعا في بيان له، إلى “الإسراع باستكمال التحقيق وتقديم الجناة للعدالة”.
في حين أكد الحزب الشيوعي، أنها “جريمة اغتيال بشعة مكتملة الأركان”، و”تهدد أمن جميع المواطنين”.
حالات سابقة ونفوذ متنام
قضى سوداني آخر يوم السبت الماضي، بعد يوم من إطلاق سراحه من الاحتجاز عند قسم الشرطة في أم درمان في العاصمة الخرطوم، بحسب بيان سابق للشرطة.
حيث تم اعتقال السوداني “عز الدين علي حامد” (22 عاما) يوم الـ 17 من كانون أول ديسمبر الجارب، ضمن تحقيق في تهم بالسرقة.. ليأمر الادعاء بإطلاق سراحه بعدها لحين الانتهاء من التحقيقات.
لكن الشرطة المحلية ذكرت أن حالته الصحية تدهورت بعد إطلاق السراح،حيث جرى نقله إلى المستشفى ليُعلن هناك موته.
بيان الشرطة السودانية، لم يذكر أو يحدد تفاصيل تدهور الحالة الصحية للمعتقل، إلا أنه أشار أن عناصر أمنية متورطة في اعتقال حامد ووفاته يجري اعتقالها والتحقيق معها.
يشار هنا أن بيان الشرطة، أعلن بالتوازي مع غضب شعبي على وفاته الأخير، حيث نظمت عائلته احتجاجًا، السبت الماضي، خارج مستشفى أم درمان، واتهمت الشرطة علانية بضربه وتعذيبه حتى الموت.
ولم تكن حالتا القتل الأخيرة استثناء، حيث سبق أن وجّهت اتهامات لقوات الدعم السريع باغتيال الشاب محمد أزرق نهاية شهر آب أغسطس الماضي بعد احتجازه في معسكر يخص القوة وضربه ثم قتله بالرصاص.. رغم أن النيابة أمرت بالقبض على الجناة لكن لم يحدث ذلك.
في حين اعترفت الشرطة السودانية في وقت سابق بمقتل مواطن تحت تعذيب أفرادها له، وأنها أوقفتهم للتحقيق دون أن يسمع أحد بعد ذلك نتائجه
وباتت قضايا قتل وتعذيب المعتقلين في السودان، محركًا وشغلاً للرأي العام بشكل متصاعد مؤخرًا.. حيث يؤكد ناشطون أن تلك الممارسات أعادت الاتهامات التي كانت توجّه لجهاز الأمن والمخابرات في عهد النظام السابق الذي جرى حلّه عقب الثورة التي أطاحت نظام الرئيس عمر البشير في 11 أبريل نيسان 2019.
لكن صلاحيات جهاز الأمن والمخابرات الذي تحوّل اسمه لاحقا إلى جهاز المخابرات العامة، وتحديدًا فيما يتعلق بسلطات الاعتقال والتحقيق بمعزل عن أجهزة الشرطة، انتقلت إلى قوات الدعم السريع لكن دون أي سند قانوني، بل جرى ذلك بـ “وضع اليد” وفق تصريحات إعلامية مؤخرًا لمصادر متطابقة.
وفي حديث مع وسيلة إعلامية، يؤكد ضابط الشرطة المتقاعد عمر عثمان، عدم وجود أي نص قانوني يمنح الدعم السريع سلطات الاعتقال والتحفظ، لكنها تمددت في فراغ غياب الشرطة وتحجيم دور المخابرات والفشل في تكوين جهاز الأمن الداخلي.
أما الصحفي المحلل السياسي، علاء الدين بشير، فيؤكد من جهته – بحسب حديث إعلامي له – عدم امتلاك الدعم السريع أي صلاحيات للاعتقال، خاصة بعد أن راج عنها أنها باتت تحت إمرة القوات المسلحة التي لا تحقق أو تعتقل المدنيين إلا في حالات الاشتباه القصوى وفي مسارح العمليات العسكرية.
حيث يوضح الصحفي أن الدعم السريع انتزعت تلك الصلاحيات “بوضع اليد” بعد أن أسهمت ملابسات غامضة أدّت فيها أطراف داخلية وإقليمية ودولية دورًا مهمًا في تغيير ميزان القوة بمركز السلطة في العاصمة وبعض المدن الكبرى بعد الثورة التي أطاحت الرئيس البشير، وجعلتها في موقع مواز مع الشرطة النظامية بل تفوقت عليها في بعض التفاصيل.
لينوه “بشير” أن السبب وراء بسط سيطرة هذه القوات التي يقودها محمد حمدان دقلو “حميدتي” نائب رئيس المجلس السيادي هو “خشية الأطراف الداخلية والإقليمية والدولية التي أدارت عملية إطاحة الرئيس السابق ونظامه من ردة فعل مضادة لكتائب النظام السابق وخلاياه العسكرية النائمة، إلى جانب عدم الثقة في القوات النظامية الأخرى للدولة”.
شجب وتنديد
ارتفعت حدة التنديد بقضية اعتقال وتعذيب “بهاء الدين” وسط القوى المدنية ومنظمات المجتمع المدني التي فجرت الثورة ضد نظام المخلوع البشير، حيث طلب تجمع المهنيين السودانيين، الذي ساعد في قيادة الاحتجاجات الجماهيرية ضد الرئيس السابق، إغلاق جميع مراكز الاحتجاز التي تشرف عليها قوات الدعم السريع، وكذلك ضرورة الإفراج عن معتقلي القوات المذكورة أو تسليمهم للشرطة.
كما أمهل التجمع الحكومة وقوات الدعم السريع 15 يومًا لرفع حصانة الضباط الذبن اعتقلوا وعذبوا “نوري” حتى وافته المنية.
وفي بيان رسمي، وقال تجمع المهنيين إن: “حادثة اعتقال واغتيال الشهيد بهاء الدين نوري ليست معزولة، لكننا سنعمل لجعلها الأخيرة”، مطالبًا بـ “تسليمهم فورا إلى النيابة للتحقيق”.
كما وصف تجمع المهنيين، التصريح الأخير للمتحدث بإسم الحكومة، وزير الثقافة الذي أكد وفاة المعتقل على يد قوات الدعم السريع، بأنه “كارثي ويضع الجميع أمام وضع لا يجدي معه سوى التصعيد”.
ليوضح البيان أن “هذا التصريح يعني علم الحكومة بوجود مقار يتم فيها الاعتقال والتحقيق تتبع للدعم السريع، ويعني ضمنيًا إجازتها للممارسة التي تسميها تحقيقًا بلا حياء، ولم تصدر حتى الآن إدانة رسمية لما حدث، رغم وصول البلاغ للسلطات بتاريخ 20 ديسمبر كانون الأول”.
بدوره قام اتحاد الشباب السوداني بـ وقفة احتجاج، أمام رئاسة شرطة جبل أولياء بالعاصمة.. للتنديد بحادثة وفاة الشاب بهاء الدين نوري، ورفع المشاركون لافتات تطالب بالقصاص للمتوفى..
حيث هتف المتجمعون ضد قوات الدعم السريع، وسلّم المحتجون إلى مدير قسم الشرطة مذكرة تطالب بمنع السيارات دون لوحات وقصر سلطة الاعتقال على الشرطة ومطالب أخرى وعد مسؤول الشرطة بمناقشتها في اجتماع أمني مقبل، وتوجه الحشد بعد ذلك صوب منزل أسرة المتوفى وسط أجواء مشحونة وهتافات مناوئة للدعم السريع.
شروط ومطالب
شملت شروط تجمع المهنيين، وفق بيانهم الأخير، إعلان “غلق مقار الاعتقال التابعة للدعم السريع، والإفراج عن أي معتقل فيها أو تحويلهم للشرطة”.
وضرورة أن يسري ذلك القرار على أي مركز اعتقال للمدنيين يتبع أي جهة خلا الشرطة الحكومية، بالإضافة إلى “وضع الضوابط لإنهاء ومنع أي قبض أو اعتقالات إلا بواسطة الشرطة واستيفاء الإجراءات”.
ليؤكد تجمع المهنيين، إلى أن “ممارسات قوات الدعم السريع تتواصل خارج إطار مفهوم دولة القانون التي بذل من أجلها الشعب السوداني عزيز التضحيات”.
مضيفًا: “تأتي هذه التجاوزات لتزيل المساحيق التي يبذلها بعض الساسة والأبواق الإعلامية للتغطية على تاريخ وحاضر هذه القوات الحافل بالجرائم والانتهاكات في دارفور وغيرها”.
كما شدد التجمع على ضرورة “تفكيكها وتوفيق أوضاعها ضمن الجيش القومي، كمهام عاجلة وملحة للتحول الديمقراطي وبناء سودان الحرية والعدالة والسلام”.
ثم توجه التجمع بالنداء للشعب قائلًا: “نكرر نداءنا لجميع السودانيين بعدم التجاوب مع أي محاولة للتوقيف أو الاعتقال من أي جهة خلاف الشرطة السودانية، ومقاومتها بأي شكل متاح”.
ميليشيات شبه نظامية
شُكلت قوات الدعم السريع في عهد نظام البشير المخلوع الذي عين الفريق أول “محمد حمدان دقلو”، لقيادة قوات الدعم السريع، وبات اليوم نائب رئيس مجلس السيادة الحاكم، بالإضافة لقيادة تلك القوات.
وتتألف القوة إلى حد كبير من ميليشيات الجنجويد السابقة التي نفذت حملة قمع وحشية في إقليم دارفور السوداني خلال العقدين الماضيين.
وتعتبر قوات الدعم السريع العمود الفقري لمليشيات “الجنجويد” التي شكلت عام 2003 للقتال في دارفور وكانت تدعمها الحكومة السودانية حينها.. بهدف مواجهة الحركات المسلحة هناك.. حيث تحولت الميليشيات الى قوات حرس الحدود.
قوات الجنجويد مجموعة من القبائل المختلفة غالبها من القبائل العربية، وقامت حكومة البشير في السنوات اللاحقة بتوحيد تلك القوات تحت قيادة واحدة، تتكون من (30 الف) جندي..
وفي تقرير قديم لموقع “عاين” المختص بالشأن السوداني، ذكرت مصادر أن هناك عناصر مما تبقى من عناصر المعارضة التشادية تصل نحو 5 آلاف مقاتل، أصبحوا ضمن صفوف قوات “حمدتي” إلى جانب المئات من الهاربين من قوات معارضة دولة مالي.. يضاف لهم قوات المعارضة في دولة افريقيا الوسطى.
وتم تدريب مجموعات أخرى للحاق بقوات الدعم السريع التي سيتم استخدامها – وفق المخطط حينها – في الصراع داخل النظام بين البشير والمجموعات المناوئة له من الإسلاميين، خصوصًا أن القوات المسلحة قد تبعد القيادات الاسلامية على غرار ما حدث في مصر بعد خلع الرئيس المصري الإخواني “محمد مرسي” في ظل المواجهة الإقليمية لتغلغل جماعة الاخوان المسلمين في سدة الحكم.
(لاحقًا انحازت قوات الدعم السريع “حميدتي” للشارع السوداني المنتفضة ضد الإخوان والبشير، إلى. جانب القوات المسلحة).
ومنذ الإطاحة بالبشير في أبريل 2019، برز “دقلو” مع انتشار قواته في مناطق عبر العاصمة والمدن الرئيسة الأخرى.
وكانت منظمات حقوقية قد اتهمت الجنجويد بارتكاب جرائم حرب، بما في ذلك اغتصاب وقتل المدنيين وإحراق القرى خلال مداهمات مكافحة التمرد في دارفور ومناطق أخرى من غرب السودان أثناء الصراع.
حيث تواجه “الدعم السريع” اتهامات بارتكاب انتهاكات عديدة، على رأسها مقتل عشرات المحتجين خلال فض اعتصام أمام مقر قيادة الجيش بالخرطوم، يوم الـ 3 من يونيو حزيران 2019، رغم نفي القوات لتلك الاتهامات.
مشهد عام متأزم
يعيش السودان، منذ الـ 21 من آب أغسطس 2019 مرحلة انتقالية مدتها 53 شهرًا تنتهي بإجراء انتخابات مطلع 2024.. حيث يتقاسم خلالها السلطة كل من الجيش وائتلاف قوى إعلان الحرية والتغيير، قائد الحراك الشعبي.
وخلال مفاوضات الوثيقة الدستورية عام 2019، كانت هناك نقطتا خلاف رئيسيتان بين الجانبين، هما: دور جهاز المخابرات العامة وقوات الدعم السريع، التي باتت أقوى قوة شبه عسكرية في السودان.
حيث انتهت المفاوضات حينها وفق مسودة الوثيقة الدستورية إلى أن جهاز المخابرات العامة سيكون تحت إشراف مجلس السيادة ومجلس الوزراء، وأن قوات الدعم السريع ستتبع القائد العام للقوات المسلحة في الفترة الانتقالية.