يبدو أننا، الأستاذ حسن النيفي وأنا، لم نكن على موجة واحدة؛ فقد ركز كل منا على جانب من الأفكار المطروحة في نصي الدراسة والتعقيب وأراد من الآخر النظر إليها من زاويته هو، لذا لم ننجح في خلق حالة تفاعل وتكامل. هنا رد ومحاولة لإزالة سوء التفاهم.
عندما علقت على ما جاء في فقرة “تبلور الفكر القومي” التي قال فيها: “لم يكن مفهوم القومية العربية– شأنه في ذلك شأن سواه من الأيديولوجيات- نتاجاً علمياً أو خلاصة لجهد فلسفي محدد، بل هو جملة من العوامل والمحددات العرقية والثقافية والاجتماعية والدينية اجتمعت لتعمل – في سياق تاريخي محدد– على بلورة عقيدة جماعية كانت ضرورية –آنذاك– لمواجهة تحدّيات عدة كانت تواجهها الأمة العربية”، لم اعلق على تمييزه بين العلم والايديولوجيا، لان الفكرة وجهة نظر وهو حر في وجهة نظره، بل على قوله:”هو جملة من العوامل والمحددات العرقية والثقافية والاجتماعية والدينية”، فالعبارة مرسلة وتصلح لتوصيف كل الظواهر الاجتماعية دون الارتباط بزمان أو مكان، وهذا دفعني للقول “يكشف عن نقص معرفي وتاريخي في آن”، وإلى التعريج على ما حكم تجربة الفكر القومي العربي (نقل النظريات القومية الأوروبية ومنطلقاتها)، وكذلك إلى إيراد ما قالته “الجمعية الثورية العربية” في بيانها (إن المسلمين والمسيحيين واليهود سواء في العروبة والوطنية) وما جاء في وصية عبدالغني العريسي (التمس منكم أن لا تفترقوا فرقا وطوائف. فاليوم لا مسيحي ولا مسلم ولا يهودي ولا درزي ولا وثني، بل الجميع عرب ومن العرب للعرب) تعبيرا عن أولوية القومية والوطنية على الدين، ردا على ورود العامل الديني في العبارة سالفة الذكر. هل كانت صياغتي ملتبسة أو غامضة، ربما.
لم يكتف الأستاذ حسن في رده على تعقيبي بإبراز فكرته وتمييزه بين العلم والايديولوجيا لكنه ذهب بعيدا في “علميته” حين اعتبر “محددات عرقية واجتماعية وتاريخية ودينية” تؤكد على المحتوى (اللاعلمي) للإيديولوجيا”، وهو قول مستغرب لان لا شيء يمنع أن تُعتمد العوامل العرقية والاجتماعية والتاريخية والدينية بعد بحث علمي، فالعلم ليس “لاكتشاف الكون وأسرار الطبيعة” فقط بل هناك علوم لدراسة المجتمعات والحضارات القديمة، من خلال الآثار، والنفس والسياسة، تسمى علوم إنسانية، ليست اقل علمية من علوم الطبيعة والفضاء. فالفرق بين النظرة العلمية وغير العلمية يحددها أسلوب البحث وأدواته لا موضوعه.
قال في رده على ملاحظتي حول عدم دقة العوامل التاريخية التي ذكرها في عرضه لتبلور الفكر القومي “يصر على أن يجعل الغرض من الدراسة عرضاً تاريخياً لنشوء القومية العربية”، رد لا يستقيم مع هدف الدراسة: نقد التجربة القومية، لان لكل سياق ومرحلة نقاط قوتها وضعفها؛ ولا يجوز إدغام المراحل والقول إن العبرة بالمحصلة، فلكل مرحلة سياقها؛ ولكل سياق محصلته التي يجب أن تقوم.
قال ردا على ملاحظتي حول قوله عن ولادة الدولة القومية في الغرب “يقفز على معطيات تاريخية تأسيسية وذات دور جوهري في ذلك النشوء: انتقال الدولة من الشكل الإمبراطوري إلى الشكل القبلي(الوطني) في العصور الوسطى؛ وتوقيع اتفاقية وستفاليا 1648 التي كرست الحدود الوطنية في أوروبا التي ترتبت على تطور الاقتصاد من اقتصاد مدينة إلى اقتصاد دولة ما استدعى حمايته بتحديد الحدود وفرض الرسوم الجمركية، والتي تشكل بداية ظهور الأمة التي غدت قاعدة لقيام الدولة القومية فيما بعد، بفعل قيم الثورة الفرنسية وبخاصة في ما يتعلق بالحرية والعدالة وحقوق الإنسان”، كما ذكر الكاتب، والتي لم يكن لاقتصاد السوق دور في تشكلها لأنه تأخر قرونا عن هذا التاريخ”، قال “ليس المقصود من وراء هذه الإشارة إجراء مقارنة بين نشوء القوميات في الغرب ونشوئها في الوطن العربي، فهذا سياقه العام خارج نطاق هذه الدراسة، إنما أردتُ التمييز بين تصورين اثنين لبناء الدولة القومية”، وكأن ذلك يعفيه من تقديم عرض دقيق ومحدد ويسمح له بالقفز على الحقائق والعوامل التاريخية، عدا عن أن قوله “الأول غربي اتجه نحو البناء العمودي للدولة، وآخر عربي اتجهت أنظاره نحو الأطياف الأفقية للبلاد العربية” غير دقيق لان المقارنة على هذا النحو ليست منطقية فالغربي لم يكن يعاني من تجزئة وطنه بينما العربي، وفق القوميين، مشكلته الرئيسة التجزئة وسعيه لإقامة الوحدة هو إقامة للدولة الموضوعية بنظره.
أقر الأستاذ حسن انه أخطأ عندما نسب كتاب (من التجزئة إلى الوحدة) لعصمت سيف الدولة، قال “بدر مني سهواً”، لا مشكلة مع أن سهوا بهذه الحجم غير مقبول، وأضاف “ولكن هذا الخطأ لا يعطي حكم الأول للثاني لأن نديم البيطار مفكر معروف وأطروحته حول الإقليم القاعدة والشخصية الكارزماتية كانت محور كتاب كامل وليست مجرد رأي في مقال أو دراسة”. قول لم افهم مقصده، وان كان يرد فيه على قولي “هنا خلط الكاتب بين الدكتور عصمت سيف الدولة والدكتور نديم البيطار بنسبة كتاب وأفكار الثاني للأول، فكتاب من “التجزئة إلى الوحدة” من تأليف الدكتور نديم البيطار، وهو صاحب نظرية الإقليم القاعدة والقائد الكارزمي وليس الدكتور عصمت سيف الدولة”، أم ماذا؟.
في الختام لن أقف عند بعض الوخزات الشخصية. اكتفي بما ختمت به ملاحظاتي في ردي الأول “ملاحظات لابد منها كي تأخذ المراجعة النقدية التي حاول الكاتب طرحها مكانها في خلق وعي سياسي منطقي وموضوعي في آن” لأنني لا أميل للسجال والمناكفة.
هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي.