لم تستطع قوانين العصرنة والمدنية تقليم أظافر العنف الذي يستمدّ استدامته من تعاضد الأعراف والسياسة والتشريعات السماوية، فتتساوى “غرائزية العنف” مع قوننته لتزيد من أشكاله وتنويعاته، وأخطرها “العنف المقدّس” الذي تطور مع مستغليّ “الرسالات السماوية” ليصير الموت باسم “الله” وتحت رداء التديّن الأعمى “حقّاً” تفرضه الأفكار الطوباوية الخاضعة لتفسير “وكلاء الله” على الأرض واجتهادهم؛ هؤلاء الذين أسقطوا حق الله كقوة عليا في “العقاب والثواب”، وجعلوا منه مرتعاً خصباً لشرعنة العنف باسم الدين و”قوته المقدسة”، التي تجذب إليها الباحثين عن التقرب إلى الله برفع راية الموت، وعن رحمته بالقتل.
محاور الدراسة:
- مقدمة
- الأديان والعنف
- الكتب السماوية وجدلية (العنف، واللاعنف)
- العنف الديني (التاريخ المقدس)
- العنف واحتكار الحقيقة المطلقة
- عدم ترسيم الحدود بين الديني والسياسي
- السياسي الديني (إدارة العنف) في الإرهاب(الإسلاموي) المعاصر
- صراع الأصوليات المتطرفة (العنف والعنف المضاد)
- الخاتمة
مقدمة:
منذ بدء الاجتماع البشري أصبح “العنف المقدّس” أخطر أنواع العنف؛ لما يشكله من اختلاف قائم في صميم العنف، فتارة يستعيد الإجماع لينقذ البشر ويبني المجتمع، وطوراً يندفع مدمراً كل ما سبق له تشييده. (1)
وقد أسس الارتباط بقوة غيبية مقدّسة (أساطير الآلهة؛ وبدايات التوحيد) لتصور ديني مفاده أن هذه القوة المتعالية “مُسيِّرة” لبني البشر، وتنطوي على بذور الصراع “الخير والشر” الذي ازداد تمكّناً مع ظهور “الرسالات السماوية” في انصهار التناقضات كلها، لينتقل حسب المعطى البشري “القاصر” من صراع وجداني أخلاقي تعيشه الذات البشرية إلى صراع بين البشر “لإحقاق الحق وإزهاق الباطل”.
فالرسلات السماوية الثلاثة لم ترفع جدران القطيعة الكلية مع عنف “سماوي” صنعته الآلهة، وانصهر في السياق المجتمعي في آلية النظر لما يطلبه الله وسبل هداية البشر، ما مهّد للانتقال نحو صراع عنفي يحرّكه التطرف الأعمى، ويقوده وكلاء الله على الأرض الذين سخّروا “الأديان” لغايات مختلفة ترتبط بالمخلوق لا بالخالق. فالمقدس الديني من أهم الأدوات التي يمكن استخدامها، لإخضاع الجمهور لسلطة الحاكم أو لتثويره أو لاستخدامه في حروب مجانية.
الأديان والعنف
شكَّل ظهور الأديان تأسيساً لإنسان “الخطيئة” الأولى، المخالف لإنسان “الغرائز”، وتمتيناً لتنافس قوتي (الخير والشر) حسب الرواية الدينية لبداية الخلق إلى أن شكلتا في نضجهما حقيقة أخلاقية لدى إظهار الإرادة الصالحة “هابيل” مقابلاً للإرادة السيئة “قابيل”، تأسيساً للانتقال من “القربان البشري” الدموي في قتل الأخ لأخيه إلى “الذبيحة الحيوانية” في “القربان الإبراهيمي” لتكون انزياحاً نسبياً عن “العرف العنفي” السائد في عالم الشرق القديم (الولد البكر يعدُّ مُلكاً للإله)، وتأسيساً لفعل “الإيمان” ولبعد ديني جديد يتبدّى فيه الله وجوداً مميزاً كلياً يطلب ويأمر وينعم وعنده كل شيء ممكن. (2)
حتى ممارسة العنف ضد المخالفين أو تسامحه معهم، وذلك بحسب “الفهم البشري” الذي لم يستطع الانفلات من التناقضات التي تلفّ أخلاقه المترنحة بين الخير كاستعداد، والشر كنزوع. فبدل أن يجهد الإنسان ليصير على “صورة الله ومثاله”، جعل الله “شخصية” تنعكس عليها النوازع البشرية. وبدل تأسيس الإيمان على الأخلاق، إذ الله هو المشرّع الأسمى للقانون الأخلاقي، جعل الدين طقساً مصلحيّاً أنانياً قائماً على طقوس العبادة وتصنّع الابتهالات، والاعتناء بالمظاهر في الصوامع والكنائس والمعابد، لمرضاة الله. (3)
إن ما طال الدين جراء اعتماده من لدن سلطة قيدية، تخضع لسلطان الأحبار والكهنة ورجال اللاهوت والشيوخ والفقهاء جعل الدين مجالاً للصراعات التي تمخّضت عن العقائد الدينية ذات المنحى التاريخي التي تجد الكثير من مبرراتها في عقول المتدينين، وأهمها:
الكتب السماوية وجدلية (العنف، واللاعنف):
لا أحد يستطيع نكران ما قدمته الكتب السماوية الثلاثة من مدلولات على “غضب الله” وإشارات عنفية، وأن جزءاً من “إيمان البشر” اعتمد على مخافة “غضب الله” في مخالفة تعاليمه. ولكنها لم تكن كل شيء، فالرسالات السماوية لم تكن “دعوات عنف”، وما ورد ذكره من آيات العنف كان له ما يناقضه في الأديان نفسها، بهدف الانفكاك من الترابط التاريخي بين (العنف المقدّس/التعددي الوثني) لبلوغ حالة اللاعنف كخيار أخلاقي وتشريع يتبعه البشر. فغضب موسى على شعبه سريع الانحراف وطرح “لوحَي الوصايا”. (4)
ودعواته لحمل السيف وأوامر قتل “الأخ لأخيه والقريب لقريبه”. (5) لتثبيت الإيمان، تقابلها “وصايا الرب” التي حملها موسى في سفر الخروج (لا تَقْتُل.لا تَزْنِ.لا تَسْرِقْ..)(6) كميثاق أخذه “الله” على بني إسرائيل وفضَّلهم بعده على العالمين، أي تشكل العنف في الديانة اليهودية عبر “دين عنيف في مواجهة مجتمع عنيف”.
وجرى تخفيف حِدّته مع المسيحية دون نقضه أو الارتداد عنه، حسب قول المسيح: (مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ) (إنجيل متى 5: 17)، فبقي السيف بديل السلام (7) والسوط بديل الكلام (8)، يقابله قول المسيح (أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ..). (9)
أما في القرآن، فالآيات التي تذكر القتل والقتال ومرادفاتهما، نجدها في العديد من السُور كالتوبة والأنفال وغيرها، يقابلها فتح باب الحكمة والرحمة: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل: آية 125). (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: آية ١٠٧).
وجود “الشيء وضده” في قراءة النصوص الدينية، جعل علاقة البشر مع معتقدهم الديني خاضعة لحسابات مختلفة وخاضعة لأبعاد تتباين في الشرح والتفسير والتأويل تقودها النخبة “المؤمنة” التي أنتجت “اللاهوت اليهودي والمسيحي والإسلامي”. لنكون أمام نص قدسي “حمّال أوجه” يبتعد عن أسباب النزول، وعن غايته الأسمى في الفضيلة، إذ يمكن للعقل البشري أن يؤوِّله حسبما يشاء أو تشاء الرغبة أو المصلحة.
إنَّ العلاقة المركّبة والمرتبكة بين الدين والعنف، جعلت من إمكانية استخدام الدين وتوظيفه في آليات العنف أمراً سهل المنال، تعزّزه تفاعلات ثقافية واجتماعية واقتصادية متخلفة، وبُنى سياسية تسلطية، وتحالفات ارتزاقية، تحيل النص الديني إلى غايات لا علاقة لها بمضمونه الأصلي، وتجاوزاً على الدين كمنظومة متلاحمة من المعتقدات والممارسات المرتبطة بما هو مقدس، تجمع معتنقيها في جماعة أخلاقية واحدة. فالمعطى الديني يفقد أعمق معانيه عندما يُختزل إلى أحد أوجهه الثانوية أو إلى أحد سياقاته، التي تلغي تكامل منظومته القيمية، وتُوزِّعه المبالغات بين (دين سلام أو دين عنف أو دين بين بين)، كما عبّر عنه “ميشيل أونفري”. (10) ففيه نصوص تتضمن هذا وذاك ولا ينفع أبداً أن يفسر هذا الجانب أو ذاك من العنف انطلاقاً من النص.
عموماً، يُرتكب العنف الديني لأسباب متعددة لا علاقة لها بالدين لكنها تستند إليه كقوة مقدسة.
فالمقدس يُكسب ممثليه تفويضاً مسبقاً لاحتكار السلطة، والكلام المقدس يضيف قوته الذاتية “الرمزية” إلى القوة الموجودة لدى الجماعة، فيعطيها الشرعية في استخدام العنف دفاعاً عنه. (11) وهذا ناتج عن رغبة الإنسان المتديّن في الارتباط بالمقدس (الديني)، الذي يعادل في الواقع رغبته بأن يقيم لنفسه حقيقة موضوعية، وألا يترك نفسه ترتبط بزمن دنيوي دون هدف، بحيث يشكل الدفاع عن الدين وعن تاريخ الجماعة الدينية أساساً نظرياً في التأسيس للعنف لدى الكثير من الجماعات البشرية.
العنف الديني والتاريخ المقدس:
غياب “الوعي التاريخي” على أنه “مسار خطي” ينتقل فيه الأفراد والمجتمعات، دون الأخذ بالحسبان أنَّ الإنسان “غير صانع التاريخ” إنما محكوم به عبر التاريخ بشروط وظروف خارجة عن إرادته، إذ يصير الحاضر اجتراراً للماضي وحاملاً لمشكلاته ومعطياته، وتبدو واضحة في الارتداد على مسار الزمن لدى العديد من المجتمعات. (12)
ورغم أن الرسلات السماوية لا تعدُّ الزمن حلقة مقفلة، بل إنَّ الحياة الزمنية دار ابتداء تُعِدُّ للأبدية، وتدعو إلى مفهوم التطور الخطّي للتاريخ، والتقدم لجهة تطلُّع البشر نحو السعادة في الفردوس المستقبلي (عودة المسيح المخلص، يوم الحساب، العالم الآخر). لكن الإنسان التقليدي لا يقيم وزناً للتقدم أو لتطور التاريخ وأحداثه. وحده الزمن المقدس بنزول الرسالات (الوحي)، أو بالتأسيس للدين وتشكيل الجماعة الدينية له معنى، عبر إيمان مطلق بأن قوة الشيء تكمن في “أصله”، فإذا كان الأصل يعادل “القوة” فهو ذو قيمة ومعنى.
وتُعَدّ العصور الأولى لأي دعوة “دينية” زمناً مقدساً وله قيمته إذ التاريخ تجلّياً إلهياً، وما فيه من أحداث تمثل إرادة عليا يجب اتباعها، وتأخذ أكثر تجلياتها في السلوك الديني في حالتي: الانتقال من الاستذكار إلى المشاركة خلال إحياء المناسبات والأحداث المقدسة مثل (صلب المسيح، أو ذكرى عاشوراء) لتثبيت قدسية الرواية التاريخية الدينية. والانعكاس بربط كوارث الحاضر بمصائب الماضي وإيجاد تفسير لا يمكن نقضه رغم اختلاف الزمن وتغيُّر الواقع نجد ذلك لدى أتباع الديانات الثلاث التي تجعل وقائع التاريخ مواقف إنسانية إزاء الله، وتكتسب قيماً دينية مطلقة. (13)
إلى يومنا هذا، خلف كل حدث وكارثة (غزو، حصار، معركة) تَكمن إرادة “يهوه” وعقابه حتى لا ينحرف الشعب اليهودي “المختار” عن مصيره المرسوم ويتخلى عن موروثه الديني الذي عهد له موسى به. (14)
وتستمر الحال مع المسيحية وتضيف عليها. فالمصائب امتحان وتأديب لضلالهم (أسباب نكبة روما في ابتعادها عن الله واقترابها من الشيطان)، جرى اعتماده أساساً “لفلسفة التاريخ”، التي اضطرت المسيحية لتشييدها بدءاً من رؤية القديس أوغسطين (354-430) م الذي عدَّ التاريخ مصدراً لمعرفة الفرق المنحرفة “المعارضة” لسلطة الكنيسة مثل “التيار الدوناتي”. (15) ولإعادة الهراطقة للأصالة المسيحية ومعالجتها بوصفها حدثاً دينياً منحرفاً من أجل تثبيت التاريخ كجزء من اللاهوت المعتمد لاحقاً. (16) إذ جرى توظيف التاريخ لغاية عقائدية، وصارت دعامة المسيحية وتاريخها.
وكذلك معظم أعمال المؤرخين الإسلاميين كالطبري والمسعودي وابن خلدون، تذكر تحوّل الحدث التاريخي إلى حدث “أسطوري/قدسي” كغزوة بدر (حيث تشارك الملائكة والمسلمون في قتال كفّار قريش). (17)
وقد شكل التاريخ المقدّس أساساً فكرياً للتيارات الدينية السياسية الإسلاموية الساعية لاستعادة مجد الأمة الإسلامية التي أظهرت للعلن مفهوم الإرهاب الديني الإسلامي.
إنَّ “متلازمة” قدسية التاريخ، غيرت مسار التاريخ الخطّي، وانتشرت دعوات العودة نحو الأصول تحت مقولات متنوعة “نِعم السلف وبِئس الخلف”، أو “ما ترك الأولون للآخرين شيئاً” وبهذا أصبح التطور هو الزحف إلى ما بشّر به الأولون فيتبنى بعضهم ضرورة العودة والتمسك بالعقائد والجمع بين الإيمان والعدل. حيث يفصل المرء فيها نفسه عن الزمن “الدهري” ويدرج نفسه في الزمن الأكبر المقدس، حين يقلّد الأفعال المثالية لما مرّ في التاريخ الديني. (18)
ما يجعل العنف في النصوص التاريخية “المؤسطرة” أساساً لمختلف تفجيرات العنف الديني المقدس وتجلّياته، فهو يظهر في بنية المجتمعات التقليدية ويتمفصل مع الثقافة زمناً طويلاً.
العنف واحتكار الحقيقة المطلقة:
مشتركات كثيرة تجمع الرسالات التوحيدية الثلاث، لجهة علاقة الإنسان بالله، وبلورة القيم الروحية والإنسانية والأخلاقية في فعل الخير ونبذ الظلم، وعدِّ الإنسان مسؤولاً عن أفعاله، والله مسؤولاً عن الحساب والثواب. لكن هذا التوحيد الخالص في رسالة الأنبياء جميعهم، لم يؤسس لمشترك جامع، فالديانات الثلاث افترقت في أن الله خصّها وحدها بالتوحيد وامتلاكها للحقيقة المطلقة التي لا يأتيها الباطل، فيما تقيم سائر العقائد الأخرى في الباطل، (اليهود شعب الله المختار، المسيحيون ملح الأرض، والمسيحية الطَّريق والحَقّ والحياة، والمسلمون خير أمة أخرجت للناس، والإسلام دين الله الحق).
أنتج احتكار الحقيقة لكل من الديانات الثلاث مأزقاً في العمل على تقاربها وإمكانية تثبيت المشتركات كقيم أخلاقية للبشر. ولأنّ الحقيقة واحدة لا تتجزأ، يستحيل قبول المشاركة فيها من أيِّ دين آخر. وبالتالي الإغراق في العنف الرمزي والنزوع نحو النظرة الإقصائية والاستئصالية أحياناً، ومحاولة “المتدينين” معرفة الدين الآخر من خلال ما يرونه وما يسمعونه (الثقافة الشعبية) البعيدة عن مصدر الدين، والحكم عليه من خلال قيمهم بامتلاك الحقيقة المطلقة وامتلاكه للباطل، فالدين لا يقبل “النقاش”، وهذا ابتعاد عن الحقيقة المعرفية التي تجعل الدين هو أكثر الأمور قابلية للنقاش كونه متعلقاً بالجميع ومرتبطاً بمصير أبدي.
وقد أظهر السياق التاريخي أن الرسالات التوحيدية رغم رفض أتباعها للتعددية، مرّت بمراحل معينة أحالت كلاً منها إلى فرق وطوائف ومذاهب، يسعى كل منها لانتزاع الحقيقة والشرعية عن الفرق الأخرى داخل الدين نفسه، وقد شهد التاريخ صراعات دامية بين أصحاب الدين أنفسهم تحت حجّة عدم الإيمان الصحيح، ومحاولة إلغاء الآخر.
ففي اليهودية تشكلت العديد من الفرق الدينية منها: الإصلاحيون “الهاسكالاه” الرامون إلى تغيير المعتقدات اليهودية لتتماشى مع واقع الحياة، و”الحريديم” الذين يعتمدون التفسير الباطني (القبلاه) للكتب اليهودية المقدسة، ومنهم من يدعو لهدم المسجد الأقصى، وبناء هيكل سليمان فوراً، كي يأتي المسيح. (19)
في المسيحية، اختلفت الآراء بين المسيحيين أنفسهم حول تجسّد المسيح وألوهيته، ليشكلوا أربعة طوائف كبرى (الكاثوليكية، الأرثوذكسية الشرقية، الأرثوذكسية المشرقية، البروتستانتية) إضافة إلى فرق مسيحية مستقلة كالمورمون وشهود يهوه والمسيانيون إضافة للحركات الأكثر تشدداً وأصولية التي تعمل لعودة المخلّص كحقيقة ينتظر حدوثها المسيحيون. (20)
أما الإسلام خاتم الرسالات السماوية، فإنه كغيره من الديانات انقسم إلى طوائف ومذاهب وفرق دينية، وقد بدأت الانشقاقات فيه منذ زمن الخلفاء الراشدين وسجال الخلافة، الذي أسس للانفصال المذهبي الأكبر في تاريخ الإسلام بين (السنّة والشيعة) الذي لم يحلّ بوضع أسس للتعايش معاً، فما يشهده وقتنا الراهن من حجم العنف بين الطائفتين في مناطق “التماس” بينهما كالعراق ولبنان وسورية وغيرها يجعلنا نظن أن سجال سقيفة بني ساعدة حدث في الأمس القريب.
شكل الصراع على امتلاك الحقيقة الجذر الأساسي لظهور مُسمّى العنف الديني وتنويعاته، كعنف الجماعات العقائدية الثلاث الكبرى فيما بينها، أو الصغرى كاثوليك بروتستانت، سنّة شيعة، هندوس ومسلمين، وصولاً إلى الجماعات العنفية المرتبطة بالدين كتعبير عن حالة قصوى من العدوان الحامل لمبررات دفاعية، أو بروز حركات متطرفة طالت الديانات التوحيدية الثلاث، بصرف النظر عن نمط تبلور هذا العنف لدى كل ديانة.
عدم ترسيم الحدود بين الديني والسياسي:
منذ بدء تكون التجمعات البشرية الأولى جرى توثيق التحالف بين السلطتين الزمنية والروحية عبر تكامل قيادة (الحاكم والعرّاف)، فوضع “العرّافون/الكهنة” ما يشبه التشريع لقولبة المجتمعات حسب “رؤية” الحاكم، مستعملين سلاح التحريم (كسلطة أخلاقية)، وبسط الدين حمايته على البنية السياسية، فالأوامر السياسية قانون يحرم على المجتمع تجاوزها. ومع نشوء مجتمع الآلهة اندمجت السلطتان السياسية والدينية، فالملك صار إلهاً والإله صار ملكاً، وكان استخدام العنف يدعِّم ويمتن السلطتين في آن معاً.
شكل ظهور الأديان تأسيساً مختلفاً لعلاقة الديني بالسياسي وارتباطهما بالعنف، يلتحمان حيناً ويسيطر أحدهما على الآخر أحياناً، حسب المسيرة التي تعيشها الجماعة الدينية.
اليهودية (أولى الأديان) استمرت في دمج السلطتين الدينية والسياسية كما كان سائداً قبلها. فما ورد ذكره في “التوراة” لا يفرق بين الدين والسياسة، ولا بين وضع الشرائع والقوانين (الوصايا العشر) كأسس بناء مُجتمع جديد وكيفيَّة الحفاظ على ديمومته (السلطة). وكان العنف راسخاً لتثبيت السلطتين معاً في الحفاظ على مجتمع بدأ مسيرته داخل تاريخ تأسس على العنف البنيوي، فالسلطة السياسية تقود العنف والدينية تعمل على تبرير سلوكياته وأفعاله تبريراً دينياً. لتتراجع السلطة الدينية في ظل الحكم الروماني (30 ق.م-14م)، وتعايش الجميع وفقاً للرؤية السياسية “الرومان مباركون، والآخرون برابرة” لا يحق لهم التدخل في السياسة وشؤون السلطة، لكن انكفاء السلطة الدينية لم يلغِ دورها عبر التمسك بسلاح التحريم وقيوده التي خرجت من بين جدران المعابد وفرضت على الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وهذا يتضح في الرواية التاريخية لمحاكمة يسوع المسيح وفرض تنفيذ الحكم “الديني” على الملك الروماني “بيلاطس”. (21)
لتعود اليهودية إلى احتساب الديني بنية تحتية للسياسي، وكان له أثر بالغ في توثيق مشروعية الاحتلال لتحقيق غايات سياسية بغطاء ديني، وإقامة الدولة اليهودية ككيان سياسي. فمنذ تفجّر المشكلة اليهودية في أوروبا في القرنين التاسع عشر والعشرين، ومحاولة وضع حلّ لمعالجة الوجود اليهودي المدني والقانوني كأقلية غير مندمجة في المجتمع وإمكانية البحث عن وطن بديل، توجهت الحركة الصهيونية نحو “القومية اليهودية” بوصفها خصوصية دينية توراتية وتاريخية، وسعت في سياستها لتحقيق أهدافها في إقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين. فالربط الجدلي “السياسي الديني” لدعاة الصهيونية الأوائل، ودمج الدين والتاريخ، والجغرافيا “أرض الميعاد” فلسطين، إضافة لسيطرة مقولة “يهودية الدولة” على الخطاب السياسي الإسرائيلي منذ العام 1948، كان مؤسساً للعنف القائم ضد الشعب الفلسطيني إلى يومنا هذا.
المسيحية أسست لإمكانية الانفصال بين الديني والسياسي، فالإنجيل لم يتدخل بشكل مباشر بما جرى تأسيسه سياسياً أو مجتمعياً، ولم تحدد شكلاً لتنظيم مجتمعي سياسي، ولكن مقولة المسيح (أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله). (22) أسست للخضوع للحاكم على أنه خضوع لله، ما أدَّى لاحقاً إلى توثيق الرباط بين الدين والسياسة في عهد قسطنطين العظيم للإمبراطورية الرومانية من (306-337م)، ورغبته بحكم العالم المتحضر (من سواحل المتوسط إلى إيران)، تأسيساً لـ: “مملكة المسيح”، الذي يعدُّ “مشرفاً على الشؤون الخارجية للكنيسة”. ولتدخل الكنيسة ذروة العنف الديني، فالمسيح أعطى تلاميذه القوة السماوية والأرضية، والإمبراطور المسيحي جعل هذا واقعاً وحقيقة سياسية.
اتحاد الديني بالسياسي (الكنيسة والإمبراطورية البيزنطية) شكل بداية التأسيس للحروب المقدسة المسيحية، ومشروعية استخدام العنف والاضطهاد باسم الدين بين المسيحيين أنفسهم وبين المسيحيين والممالك الأخرى، وقد بلغ أشده في عهد البابا “أوروبان” والحروب الصليبية (1096–1291م)، لتحرير المسيحيين الشرقيين من اضطهاد المسلمين السلاجقة، وتحرير الأماكن المقدسة في فلسطين، ليُفرض سلام الله على العالم كاستجابة للرؤية “القياماتية” الشعبية في ظهور المخلّص التي سادت منذ العام 1095، فقد اندمجت الأفكار الدينية بالدنيوية التوسعية وحمل “الحجاج” المدججون بالأسلحة، صلبانهم بحثاً عن الثروة والشهرة و”ليعم السلام”.(23)
هذه الحرب تركت أثراً بعيد المدى سياسياً، واقتصادياً، إضافة إلى التأثيرات الاجتماعية التي استمر بعضها في الأوقات المعاصرة. فقد كانت تمثيلاً لانطلاقة “الدولة الدينية” بأعتى صورها في العداء للسامية والإسلام. ليستمر رباط الدين والسياسة وشرعنة العنف حتى نهاية العصور الوسطى المظلمة لأوروبا، وبداية الإصلاح البروتستانتي، على يد الراهب الألماني “مارتن لوثر” وتحدّيه لسلطة الكنيسة.
الإسلام اتضح فيه ارتباط الديني بالسياسي من خلال:
أولاً فكرة الحاكمية:
فالله وحده يمتلك السلطة العليا، والقوانين التي أوردها القرآن الكريم تكتسب صفة القداسة والمصدرية، وبهذا لابد من اتباع أحكامه ووصاياه “رغم تباين الآراء حولها”.
ثانياً: دور الرسول محمد ﷺ:
إذ كان من القادة القلائل الذين تمكنوا من تأسيس إمبراطورية واسعة عبر المفاوضات والتحالفات وأهمها صلح الحديبية. وقد تولى سلطته الدينية المتعلقة بالعبادات والعقيدة بعد أن جاءه الوحي، والسياسية بعد أن بايعه الناس على السمع والطاعة، ليقوم بوظائف رجل الدولة كاملة. كما نجد مفكري الإسلام وعلماءه يستمدّون نظرياتهم وحججهم من سنّة النبي الفعلية أو التقريرية أو القولية، ولا يختلف في هذا سنّة أو شيعة، سلطة أو معارضة، حكام أو محكومون. (24)
الرباط الديني السياسي لم يشكل شرعنة فعلية للعنف، فالقرآن نزل استجابة لحوادث متفرقة ولا يحتوي على تعاليم أحادية المعنى عن العنف في نصوص القتال والحروب. وقد اختلف العلماء حول وجود هذه الآيات كأوامر مؤقتة أم ثابتة وأزلية، فهناك من يعدُّ القتال والجهاد فريضة وآخرون يستشهدون بآيات العفو والصفح. وخلال الفتوحات الأولى اتبع المسلمون سياسة الرسول(ﷺ) في المفاوضات، ولم يفرض الإسلام بالقوة على الرعايا الجدد(أهل الكتاب والزردشتيون) بل صاروا أهل ذمّة، أي استمر “عمر بن الخطاب” بتطبيق نظام كسرى الأول الفارسي في معاملة غير الزردشتيين. كما حفظوا كنائس ومزارات المسيحيين، وهيكل اليهود، الذي أصبح ثالث الأماكن المقدسة. (25)
وتجدر الإشارة إلى أن القرآن لم يشر إلى أن مهمة المسلمين هي فتح العالم، فالحروب التاريخية كانت إما لقتال المرتدين أو لسبب اقتصادي في عهد أبي بكر. ومع توسع الأمة كان اللجوء إلى القوة العسكرية ضرورة للحفاظ عليها، فأصبحت آيات الحرب والسيف أقدر على مجاراة الواقع والأكثر حضوراً. ونتيجة القلاقل التي رافقت التوسع، فإن الجماعات الأكثر ميلاً للعنف قد سادت، وظهرت أحاديث الجهاد كأحاديث محورية، وأنها الطريق لنشر الدين “أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله” مؤسسة للكثير من حركات الجهاد المعاصر، التي لم تفرق بين تصرفات النبي بين “المؤنسن والمقدّس” وجعلتها كلها تشريعاً مقدساً.
السياسي الديني (إدارة العنف) في الإرهاب (الإسلاموي) المعاصر:
رغم الانفصال “الشكلي” بين الديني والسياسي في مراحل متعددة عاشتها المجتمعات الدينية، والتوصل إلى تحديد الأدوار بينهما، إلا أن مسيرة نشر الدعوة للأديان كافة حملت بذور الصدام مع الآخر لتثبيت أركان الدين الجديد وتشكيل الجماعة الدينية. وفي زمننا الحاضر، حيث تتكاثف أشكال العنف، وتُردد فيه مقولة العنف السياسي/ الديني، يأتي السؤال هل يمكن للعنف أن يشكل مطلباً للدين، وهل العنف من طبيعة دينية أم سياسية/دينية؟ فالسياسي والديني يشكّلان معاً لحظة التأسيس التي تتشكل فيها المجتمعات وتأخذ صفاتها وهويتها عن طريق رسم حدود بين الداخل والخارج، (الأعداء والأصدقاء، الكفّار والمؤمنون) بحيث يصير الديني والسياسي وجهين لعملة واحدة، يختلفان بأنّ السياسة تحيل إلى الفعل/العنف، في حين يتصرّف الديني عن طريق الرموز في الحفاظ على الجماعة، وتماسكها وتكوينها الداخلي. وبناءً على الترابط بين الديني والسياسي و”التخادم” بينهما، فإن العنف الرمزي الديني يتحول إلى عنف مادي ينتج ويروَّج جماعياً ويستعاد كضرورة لإعادة صياغة الواقع من جديد؛ وفق رؤية ظاهرها المقدس الديني وباطنها الوصول إلى غاية لا تمت للدين بصلة، فتنتصر السياسة على الدين وتعمل على تسخيره كأداة في عنفها، مؤسسة لعنف قائم على أساس الدين. (26)
وهذا ما يمكن تلمّسه في مسيرة الجماعات الإسلامية وشيوخها انطلاقاً من “الإخوان المسلمين” وأفكار “حسن البنا”، في الانتقال من المجتمعي الدعوي إلى سيطرة السياسي السلطوي عليها، والتوجه من تمثيل الإسلام المستنير إلى تأسيس جماعات الجهاد.
ولدى الانتقال إلى الإرهاب الراهن الذي بدأ يعلو صداه منذ الحادي عشر من أيلول، ويعدّ الأكثر تواتراً وانتشاراً في العقود الأخيرة، ولا يستثني مكاناً في العالم. سيتم التوجه نحو أبرز النقاط في ظاهرة الإرهاب، والتي تتجلى بـ:
أولاً: اختلاف السياسات الدولية في تعاملها مع الإرهاب، فبعضهم يعدُّه “شراً”، بينما يعده آخرون وسيلة من وسائل الحرب، وتجد فيه مصلحة ووسيلة لفرض سيطرتها تارة، وآلية لمحاربة أعدائها تارة أخرى.
ثانياً: التوجه لنقاش ظاهرة الإرهاب التي نراها خاضعة لإيجاد المبرر لا لإيجاد الحلّ. ما يعني التعامي عن حقيقة أن المبررات على اختلافها لا تجد معناها دونما استحضار مستمر لنموذج الدولة المثالية (الخلافة الراشدة)، واستعادة تأسيس المجتمع الإسلامي الأول بوصفه مثال الخير الذي يدغدغ أحلام بعضهم إذ تشكل مواجهة الآخر والعنف ضده مبرراً. (27)
ثالثاً: الهرب الصريح والواضح من مناقشة الإرهاب بعقلانية ما يعني عدم التوجه نحو تفكيكه فكرياً وأدواتياً، فخطورة العنف الإرهابي الإسلاموي تنبع، من جعله البشر قرابين فداء لمصفوفة من التصورات العقائدية لتنظيمات كثيفة العضوية والتمويل، ترتكز على دوافع دينية خالصة، دون التصريح بدوافع غيرها كالدوافع القومية مثل الحروب والمذابح في البوسنة والهرسك “الصرب ضد المسلمين”، والمنظمات الصهيونية في فلسطين وغيرها. فما يمارسه المتطرفون المسلمون من عنف يستقي وجوده من النص الديني والتاريخي المقدس ليجسّد تماهي الديني بالدنيوي، إذ تتأسس الدنيا بتعاليم الدين ومبادئه.
رابعاً: إخراج الدين من دائرة العقل، فالعنف الإرهابي الإسلامي في حالته الراهنة خرج من أسطورة “الماضي المقدس” إلى أسطورة “المستقبل المقدس” في إقامة “الأمة الإسلامية العالمية”، أي “مما هو كائن إلى ما هو ممكن”، وتروَّج كحقيقة ممكنة لمن يتبعهم من الجهلاء الباحثين عن أمان الماضي المقدس في المستقبل الغامض. وهذا الخروج يشكل عودة العنف البدائي بوسائل متطورة.
إيديولوجيات العنف للتنظيمات الدينية كالقاعدة وداعش وغيرها، تحمل سمات مشتركة لجهة دينامية التكوين (الديني) والأهداف: (إعادة تأسيس المجتمع الإسلامي الأول) والاستراتيجية (إقامة الأمة الإسلامية)، وتتبنى العنف وسيلة لتحقيق غاياتها، ما يعني أن حلولها تحتاج إلى حركة فكرية تنويرية تعيد تعريف الدين الإسلامي وهويته من جديد. فهذه التنظيمات جعلت الدين الإسلامي ضبابياً في مقدساته وغاياته “الأخلاقية”، فقد أزاحت القيم التراحمية الإنسانية والإلهية، حتى صرنا أمام إسلامين لا واحد؛ “إسلام حرب” يريد قطع دابر الكافرين، وقتال المشركين والخارجين عن قانونه العنفي من المسلمين أنفسهم، و”إسلام سلام” من يقتل نفساً بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعاً.
لتبقى الحلول لظاهرة “الإرهاب الإسلامي” بيد المسلمين أنفسهم في تحديد أي إسلام يريدون، فالدين كل الدين وجد لأجل الإنسان وسموّه، لا لقتله.
صراع الأصوليات المتطرفة (العنف والعنف المضاد)
لم تكن مقولة الفيلسوف الفرنسي “فولتير” “اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس”. مخالفة للحقيقة، فمراجعة بسيطة لما عاشته البشرية من أشكال العنف، تجعلنا نعتقد بأنَّ البشر كانوا ولا يزالوا يطلبون العنف، فالتاريخ الإنساني الذي شهد ما يقارب 1800 حرب من الحروب الكبرى، بينها 123 حرباً لها علاقة بالدين، جعل السلام واللاعنف هدية مجانية قصيرة الأمد.
رغم التطوّر الحاصل والقفزات الكبرى للبشرية وصولاً إلى مناقشة اقتسام الفضاء أو محاصصته، فإن الدين لا يزال محركاً يمكن استغلاله ليتحول إلى أداة حرب، يقابلها حرب مضادة، هذا ما أشعله الإرهاب والحرب على الإرهاب. لكن الأمور لا تقف عند هذا الحد في عالم اجتاز عتبة العولمة، والعنف المعولم بمصفوفاته المختلفة من العنف الاقتصادي والسياسي، إلى التصادم الثقافي، بما تمثله من منطلقات لتنامي الحركات الأصولية الدينية والقومية التي استلهمت من ظاهرة الهويات صراعها المحموم من أجل فرض كيانها ومسلمات وجودها، والحفاظ على الاختلاف والمغايرة الذي يتمظهر في عنف مضاد، يرفض الهيمنة والتذويب. (28)
متّخذاً في (الشرق الديني) شكلاً دينياً بحتاً بدءاً من (حزب الله وحماس) وحرف الصراع من “وطني استقلالي” إلى “ديني مقاوم”، وصولاً للتنظيمات الجهادية (القاعدة، داعش، النصرة) التي تمارس العنف، وتستقطب المقاتلين من كل أنحاء العالم إليها، حيث أزمات الهوية، وفشل إدماج المسلمين في بلدانهم. وفي (الغرب العلماني) شكلاً يمينياً متطرفاً يتراوح بين القومية والقومية الممزوجة بالدين، ليشكلا معاً (شرقاً وغرباً) مستنقعاً من فوضى العنف المضاد للعنف، وتكاملاً في عودة الأفكار المتطرفة وعدِّ الدين أو القومية بنية تحتية لسياسة العنف المعولم.
حتى في دولة عظمى كأمريكا شهد القرن العشرون صعوداً ملحوظاً للتيار الإنجيلي “الأكثر محافظة وأصوليَّة” داخل الطوائف البروتستانتية ويؤمن بالعصمة الحرفية لكلمات الكتاب المقدس، وخصوصاً الرواية “القياماتية” ونهاية الزمان، التي أدت عام 1978 (في غيانا/أمريكا الجنوبية) إلى انتحار (918) شخصاً من أتباع القس “جيم جونز” وبتوجيهه، وسمي بـ”الانتحار الثوري” للتخلص من شرور العالم. فقد شكلت عودة المسيح المخلّص ومعركة “هرمجدون”، “تل مجدو”، نقطة التقاء بين التوراة والإنجيل، وتبنّت حتميتها طائفة “الإنجيليين الجدد”، ولم تبق هذه الفكرة حكراً على “قساوسة الدين”، فبشّر الرئيس “رونالد ريغان” عام 1980 “إننا قد نكون من الجيل الذي سيشهد معركة هرمجدون”، وأيّد القس”بيلي غراهام” الرئيس جورج بوش في حرب العراق على أنها جزء من حرب “الخلاص”.
أما أوروبا، ورغم فصل الدين عن الدولة، فلم تَخلُ بلدانها من صعود حركات قومية ودينية مسيحية، ازدادت شراسة مع موجات التطرف الإسلامي و”الإسلاموفوبيا”، لتتخذ الإسلام عدواً لها كحركة “بيغيدا” في ألمانيا التي تعني حركة “الأوروبيين الوطنيين ضد أسلمة الغرب”، والنازيين الجدد وحليقي الرؤوس وغيرهم من حركات شعبوية ازدادت حضوراً وحصلت في كل أنحاء أوروبا تقريباً على أرقام قياسية من الأصوات، بل وتمكنت من إجبار الأحزاب في الوسط على التعامل مباشرة مع الهجرة والإسلام، إثر تحميلهم وزر السياسات الخاطئة في دول الغرب. (29)
مأزق العنف المرافق للتطور البشري، لا يقتصر على عنف الحركات الأصولية المتطرفة “الإسلامية”، فجميع الأديان والأيديولوجيات السياسية استبطنت التطرف والعنف ضد الآخر (غرباً وشرقاً). الأيديولوجيا القومية النازية أطلقت شرارة العنف في الحرب العالمية الثانية ومجازر الهولوكست ضد اليهود. وإيديولوجيا اليمين المتطرف اليهودي قدّم مقولته “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، لتكون فلسطين ضحية وعد إلهي للنبي إبراهيم وشعبه، التي أشعلت العنف الإسلامي في حرب مقدسات على أرض مقدسة. والإيديولوجيا الشيوعية والتصادم بين الشرق السوفييتي والغرب الأمريكي في أفغانستان، أنتج القاعدة كحركة مقاومة قبل أن تتجاوز حدود الأهداف التي رسمها عرّابوها، لتتحول إلى قوة أصولية مستقلة ارتدّت على صانعيها وأعلنت حربها المقدسة على وجودهم. أما إيديولوجيا اليمين المسيحي فقد باركت غزو العراق وألهمت الرئيس جورج بوش الابن الذي أطلق عليها اسم “الحرب الصليبية” للقضاء على “يأجوج ومأجوج”.
إنها دائرة الموت المغلقة، فالعمليات الإرهابية التي مارسها بعض المتشددين الإسلامويين قدّمت الدين قرباناً على ساحات الصراع المختلفة، وتطرّف النظرة الغربية تجاه العرب المسلمين، وجمعهم في سلّة واحدة عنوانها التمييز على أساس الدين والربط بين الدين والإرهاب، أدى إلى غرب أكثر تطرفاً وأقل قبولاً للآخر، وحوّل العالم ككل ضحية لكرة نار تشعلها أيدي المتطرفين شرقاً وغرباً الذين يخدمون بعضهم بعضاً رغم اختلاف ساحات القتال.
خاتمة
يقول هيغل: “عندما نتأمل الماضي “التاريخ” فإن أول ما نراه هو الأطلال”.
لكن علينا أن نشيّد من أطلال المدينة هذه رؤية متكاملة ومجسّدة لمستقبل الإنسان، هذه الضرورة التي أكد عليها المفكرون كافة، وهي أسماء كثيرة نقرؤها مثلما تمرّ أصابع المؤمن على حبات المسبحة لكن هل نفقه ما يقولون؟ كلهم يحدثوننا عن مشكلات بعينها وعن تكوين رؤية عن وحدة الإنسان واستقلاليته، لكن ما نشهده اليوم من صراعات تدار باسم “الله” معلَنة أو كامنة، يحيلنا إلى أن البشرية مازالت تعيش مأزقاً وجودياً تحاول الخلاص منه بالغوص أكثر داخل مستنقع العنف وتجلّياته التي تزداد ترسّخاً وعنفوية تحت راية المقدّس الديني ومذبحه البشري. وبعكس مقولة اسبينوزا: “لا تضحك، لا تبك، لكن افهم” معظم هؤلاء يفضّلون الموت على التفكير، ويقدمون أجسادهم وأرواحهم وأفكارهم “المقدسة والدنيوية” فداءً لعرّابي الأديان والساسة، فالفكر ليس كالمادة في سرعة الانقراض، وتأثيرات العنف الكبيرة والصغيرة ستبقى قائمة، ما لم يتجه العالم كله نحو فكر إنساني جامع لا تفتته خصوصية الدين. فالدين كل الدين خلق لأجل حياة البشر لا لإفنائهم.
المراجع
1- PDF العنف والمقدس، تأليف: رينيه جيرار، ترجمة: سميرة ريشا، المنظمة العربية للترجمة، بيروت – الطبعة الأولى 2009 (صفحة 18)
2- PDF أسطورة العود الأبدي، تأليف: مرسيا ألياد، ترجمة: نهاد خياطة- دار طلاس، دمشق – الطبعة الأولى 1987 (صفحة 192- 194)
3- PDF الدين في حدود مجرد العقل، تأليف: إيمانويل كانط، ترجمة: فتحي المسكيني- دار جداول، الكويت، الطبعة الأولى2012 (صفحة 37 )
4- (سفر الخروج 32: 19)
5- (سفر الخروج 32: 27)
6- (سفر الخروج 20: 13-14-15-16)
7- (إنجيل متى 10: 34)
8- (إنجيل يوحنا 2: 13- 14- 15- 16)
9- (متى 5: 44-47)
10- الفيلسوف ميشال أونفري والإسلام على المقاس الفرنسي، بقلم: محسن المحمدي – الشرق الأوسط https://aawsat.com/…/الفيلسوف-ميشال-أونفري-والإسلام-على-المقا…
11- PDF العنف الرمزي، تأليف: بيير بورديو، ترجمة: نظير جاهل- المركز الثقافي العربي، بيروت- الطبعة الأولى 1994 (صفحة 6- 25- 36)
12- نظام إنقاذ قادم من الماضي، بقلم: هوازن خداج- مجلة تحولات العدد (21) – 2015. www.tahawolat.net/ArticleDetails.aspx?Id=6758
13- مرجع سابق: أسطورة العود الأبدي (صفحة 185 -187)
14- (صموئيل الاول 12:10).
15- ويكيبيديا https://ar.wikipedia.org/wiki/دوناتية
16- التأويل اللاهوتي للتاريخ عند أوغسطين مقاربة في فلسفة التاريخ عند أوغسطين، بقلم: ا. د. عامر عبد زيد الوائلي- صحيفة المثقف www.almothaqaf.com/index.php/derasat/60720.html
17- PDF العنف المقدس والجنس في المثيولوجيا الإسلامية، تأليف:تركي علي ربيعو- المركز الثقافي العربي- الطبعة الثانية 1995 (صفحة 11)
18- PDF البحث عن التاريخ والمعنى بالدين، تأليف: مرسيا إلياد، ترجمة: د. سعود المولى، المنظمة العربية للترجمة- الطبعة الأولى 2007 (صفحة 35)
19- الفرق الدينية اليهودية القديمة والمعاصرة، بقلم: عبد الوهاب محمد الجبوري- موقع البداية https://andalusiat.com/…/الفرق-الدينية-اليهودية-القديمة-والمع-2
20- (تمت محاكمة يسوع في المجلس الأعلى للكهنة وأقرت عقوبة الموت باعتباره مجدفاً وخارجاً على الدين، وتم فرضها على القانون السياسي الروماني الذي لا يقرّ بعقوبة التجديف من خلال تهمة سياسية موازية في ادعاء يسوع أنه الملك “وكل من يجعل نفسه ملكاً يعادي القيصر” (انجيل يوحنا19:2) – ويكيبيديا، https://ar.wikipedia.org/wiki/يسوع
21- (إنجيل مرقس 12:12-17)
22- مرجع سابق: حقول الدم- الدين وتاريخ العنف (من صفحة 241 إلى 261)
23- الديني والسياسي في اليهودية والإسلام، بقلم: سميرة بوشلوح –الجزيرة نت https://www.aljazeera.net/…/الديني-والسياسي-في-اليهودية-والإسلام
24- مرجع سابق: حقول الدم وتاريخ العنف (صفحة 285- 286- 287-290)
25- PDF “نظرية التأويل”: الخطاب وفائض المعنى” الكاتب بول ريكور”،ترجمة سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء 2006 المغرب. (صفحة 103)
26- جدل الأديان حول العنف والإرهاب، بقلم: عبد العظيم حماد https://www.shorouknews.com/columns/view.aspx?cdate…id..
27- الهويات الأصولية في زمن التصادم، بقلم: أ.د. علي أسعد وطفة – شبكة النبأ https://annabaa.org/news/maqalat/writeres/aliasaadwatfa.htm
28- التطرف كرة النار الجامعة، بقلم: هوازن خداج – العرب اللندنية https://alarab.co.uk/التطرف-كرة-النار-الجامعة
جميع حقوق النشر محفوظة لصالح مركز أبحاث مينا