تعدّ بلجيكا الوجهة الرئيسية للحركات والجماعات السياسية بمختلف مشاربها وأجنداتها في العالم، وذلك على اعتبار أنّ المملكة الصغيرة هي معقل الإتحاد الأوروبي، وتستضيف عاصمتها، بروكسل، المقرات الرسمية للمفوضية الأوروبية، والمجلس الأوروبي ومنظمة حلف شمال الأطلسي، ناهيك عن اجتماعات لجان البرلمان في البرلمان الأوروبي، وهي بالتالي ثاني أكبر مركز لجماعات الضغط في العالم بعد العاصمة الأمريكية واشنطن.
وقد تداركت جماعة الإخوان المسلمين مبكراً أهمية التواجد في الدولة الأوروبية الواقعة بين أكثر دول أوروبا الغربية تحضراً وتأثيراً؛ ألمانيا، فرنسا، هولندا، وبريطانيا التي يفصلها عن بلجيكا بحر الشمال. فحطت بعضٌ من موجات الهجرة الإخوانية الأولى، خلال ستينيات القرن الماضي، رحالها مباشرة في بلجيكا، قادمة من مصر وسوريا وغيرها من الدول لاعتبارات داخلية خاصة بتلك الدول، وأخرى متعلقة بفكرة “عالمية الدعوة” التي بدأت تتبلور في أدبيات الجماعة خلال تلك الفترة. وسرعان ما تغلغل هؤلاء ضمن نطاق إسلامي أوسع يشمل الجاليات التركية والمغربية المتأصلة في بلدان “الأراضي المنخفضة”. بينما امتدت لاحقاً أذرع الإخوان الأكثر مركزية، بشكل خاص من فرنسا وألمانيا، إلى بلجيكا، لعوامل مختلفة أهمها اللغة، حيث تعد اللغتين الفرنسية والألمانية من اللغات الرسمية الثلاث في بلجيكا، إلى جانب الهولندية، بالإضافة إلى عوامل القرب الجغرافي والتداخل الثقافي في البلدان الأوروبية سابقة الذكر. بالتزامن مع ذلك، حصل اتصال بين أنشطة هذه الشبكات مع منظمات تركية ذات أجندات إسلامية معروفة، مثل حركة الرؤية القومية “ميللي جوروش”، وهو ما أدى في المحصلة إلى ازدياد نفوذ الجماعة في بلجيكا، وتصاعد التحديات الأمنية الناتجة عن ذلك.
وبينما يروّج الإسلاميون إلى أنّ ربع سكان بلجيكا هم من المسلمين اليوم، تشير إحصائيات صادرة عن مراكز رصينة إلى أنه يوجد حوالي مليون مواطن مسلم في بلجيكا التي يبلغ تعداد سكانها 11 مليون و 400 ألف نسمة. وينحدر نحو 450 ألف من مسلمي البلاد من أصول مغربية و300 ألف من أصول تركية، الأمر الذي يشكّل بيئة مؤاتية لنشاطات الجماعة.
ماهي أذرع الجماعة في بلجيكا؟
وفي مؤشر على مكانة بلجيكا ضمن المشروع العالمي لتنظيم الإخوان، تقع مقرات ثلاث من أهم المنظمات الإخوانية العاملة في أوربا ضمن أراضي المملكة. والمنظمات هي؛ “منتدى المنظمات الشبابية والطلابية في أوروبا” (FEMYSO)، “المنتدى الأوروبي للمرأة المسلمة” EFOMW))، و”الشبكة الإسلامية الأوروبية” (EMN)، الأمر الذي يشير إلى جدية الاحتمالات القائمة بشأن مساعي جماعة الإخوان لتحويل بروكسل إلى “منطقة تمكين” وبؤرة لإعادة تنظيم الصفوف في أوروبا، خاصة بعد التضييق الأمني والحكومي الذي تواجهه الجماعة في عدة دول أوروبية، منها فرنسا وألمانيا، خلال المرحلة الحالية.
يضاف إلى المنظمات المظليّة سابقة الذكر، منظمات أخرى محلية الطابع، يأتي في مقدمتها “رابطة مسلمي بلجيكا” (LMB)، التي تشغل عضوية “مجلس مسلمي أوروبا” (اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا سابقاً)، الكيان الرئيسي لجماعة الإخوان في القارة العجوز، ويقع مقر الرابطة في العاصمة بروكسل وتحتفظ بروابط وثيقة مع شبكات الإخوان في فرنسا، وخاصة اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا (UOIF)، الذي أصبح يسمي بمسلمي فرنسا (MF).
كما يندرج ضمن خانة المراكز الإخوانية محلية الطابع؛ “المجمع التربوي والثقافي الإسلامي” (CECIV)، الذي تأسّس في مدينة فيرفيرز عام 2004، بدعم من “الرابطة الإسلامية متعددة الثقافات في بلجيكا” (LIIB)، وكان المجمع ينظم بشكل دائم محاضرات لكبار أعضاء الإخوان المسلمين مثل “طارق رمضان”، حفيد مؤسس الجماعة حسن البنا.
وتضم القائمة أيضاً العديد من الجمعيات التي تتوارى خلف ستار “منظمات المجتمع المدني”، وترفع شعارات جاذبة للجاليات المسلمة، من قبيل المساواة ومحاربة التمييز، وأبرز هذه الجمعيات؛ “مجموعة الإدماج ومناهضة الإسلاموفوبيا في بلجيكا” (CCIB)، ومقرها بروكسل ويرأسها مصطفى شيري، ومنظمة EmBem التي ترفع شعار “تمكين المسلمين البلجيكيين”، وتقودها الأكاديمية البلجيكية من أصول مغربية فاطمة زيبوح.
وفي تصنيف آخر، اعتبرت دراسة صادرة عن “مركز بروكسل الدولي للأبحاث” تحت عنوان “الإسلاموية وجماعة الاخوان المسلمين في أوروبا الجديدة.. الإطار الاجتماعي”، أنّ جماعة الإخوان المسلمين في بلجيكا تتكون من ستة خطوط أو دوائر رئيسية وهي: الخط المصري عبر الرابطة الإسلامية البلجيكية LMB))، الخط السوري ويتخذ من مسجد الخليل- أحد أكبر المساجد في مدينة بروكسل- مركزاً لنشاطاته. والخط التونسي من خلال حزب النهضة، والتركي عبر حزب العدالة والتنمية ومؤسسة “ديانت”، إضافة إلى الخط المغربي عبر حزب العدالة والتنمية وجماعة العدل والإحسان، وأخيراً الخط الكويتي الذي تمثله العديد من الجهات كجمعية الإصلاح الاجتماعي.
وحول حصول هذه المنظمات على التمويل الأوروبي، رأت مجلة لوبوان (Le Point) الفرنسية -في تحقيق بقلم كليمان بيترو- مطلع العام الجاري، أن جماعة الإخوان تنظم نفوذها في بروكسل وتحاول “خدمة قضيتها ورؤيتها الإصلاحية والأصولية للإسلام الأوروبي”، وذلك عبر مجموعة من الهياكل، تعطي الانطباع بأنها نابعة من المجتمع المدني، وتقدم من خلالها المواضيع المفضلة لدى الجماعة بنجاح، إلى موظفي الخدمة المدنية والبرلمانيين الأوروبيين، ليتم قبول التنظيمات الإخوانية من قبل المؤسسات، إن لم تكن ممولة في إطار المشاريع الأوروبية.
وقال الكاتب إن الأرقام تبدو مذهلة، بحيث يكشف النظام الصارم للشفافية المالية لدى المفوضية الأوروبية، أن الجمعيات التابعة لجماعة الإخوان أو تلك التي تدور في فلكهم من قريب، قد خصص لها أكثر من 52 مليون يورو من الأموال العامة بشكل مباشر أو غير مباشر بين عامي 2007 و2020.
ماهو موقف السلطات؟
يبدو أن الحكومة البلجيكية تسير على خطى نظيراتها في ألمانيا وفرنسا وغيرها من الدول الأوروبية التي بدأت تتخذ مواقف متشددة من جماعة الإخوان. وطلبت حكومة بروكسل في 26 مارس الفائت من (لجنة مراجعة وكالات الاستخبارات الدائمة) التحقيق في وجود الإخوان المسلمين في بلجيكا، وإعداد تقرير بعد الجدل الذي أحاط بترشيح إحسان حواش العام الماضي من قبل حزب الخضر السياسي Ecolo لعضوية البرلمان، واضطرار حواش إلى الإستقالة من الحزب آنذاك بعد الكشف عن صلات مختلفة مباشرة وغير مباشرة بجماعة الإخوان المسلمين.
وبحسب تقرير لمجلة “بروكسل تايمز” فقد دعت اللجنة البلجيكية المسؤولة عن مراقبة مختلف أجهزة الشرطة والأمن والاستخبارات في بلجيكا إلى ضرورة مراقبة أنشطة جماعة الاخوان المسلمين في البلاد.
وتشير الاستنتاجات الرئيسية للتقرير إلى عدم وجود تعاون بين أجهزة المخابرات والأمن في البلاد لمراقبة أنشطة جماعة الاخوان المسلمين وتشمل هذه الأجهزة المخابرات العامة والأمن (GISS) وهي الخدمة العسكرية البلجيكية الخاضعة لمسؤولية وزارة الدفاع ، وجهاز أمن الدولة البلجيكي المدني (VSSE) ،ومنظمة تنسيق تحليل التهديدات OCAM))، وهو مركز مستقل لتقييم الإرهابيين والتهديد المتطرف في بلجيكا.
ويعتقد التقرير الصادر في مارس الفائت أنه لا يوجد تهديد مباشر مرتبط بالحركة ضد أي مؤسسة بلجيكية، ومع ذلك، فإن جهاز المخابرات (GISS) يعتبرهم “خطراً”. أما بالنسبة لجهاز أمن الدولة البلجيكي (VSSE)، فهو يرى أنّ الجماعة تشكل “تهديدًا ذا أولوية قصوى فيما يتعلق بالتطرف لأن استراتيجيتها قصيرة المدى يمكن أن تخلق مناخًا من الاستقطاب والفصل العنصري داخل المجتمع البلجيكي، وبالتالي تشكل عاملًا موجهًا لنشر التطرف”.
وبحسب تقرير صادر عن المخابرات البلجيكية في العام الماضي، يوجد في بلجيكا حوالي 40 جمعية تنتمي إلى جماعة الإخوان، تعمل في مجالات مختلفة، اجتماعية وتعليمية ودينية وإنسانية ومدنية، ويديرها غالبا شباب مؤهلون ومتعددو اللغات، ولا يتصرفون أبدا بعيدا عن المديرين التنفيذيين المحليين أو الوطنيين أو الأوروبيين، وبالتالي فإن بضع مئات من الأفراد يشكلون الموظفين النشطين لهذه الشبكة من الاتحادات البلجيكية الأوروبية، وهم يتبادلون بانتظام المواقع ويخلقون باستمرار هياكل جديدة.
وكانت الحكومة الفدرالية البلجيكية أعلنت في فبراير الفائت بدء إجراءات سحب الاعتراف بالهيئة التمثيلية للديانة الإسلامية في البلاد، والمعروفة بالسلطة التنفيذية لمسلمي بلجيكا، مما يعني وقف الإعانات المالية لهذه الهيئة ونهاية دورها التمثيلي.
وقال وزير العدل البلجيكي فنسنت فان كويكنبورن -في مقابلة مع إذاعة فلمنكية- إنه بدأ إجراءات لسحب الاعتراف بالسلطة التنفيذية لمسلمي بلجيكا، مما يعني وقف قرابة 600 ألف يورو من الإعانات ونهاية الدور التمثيلي للهيئة، في بادرة رأت صحيفة لاكروا (La Croix) الفرنسية أنها صدى لحل فرنسا المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية في يناير من العام الجاري.
وفي مؤشر آخر على مدى الترابط الأيديولوجي والتنظيمي بين الإسلاميين في بلجيكا وفرنسا، تعتقد السلطات الفرنسية أن الإمام المغربي حسن ايكويوسن الذي صدر بحقه قرار بالطرد من أراضيها مؤخراً بسبب التصريحات التي أدلى بها ضد النساء واليهود والمثليين وقيم الجمهورية الفرنسية، متوارٍ عن الأنظار في مدينة فالنسيان، وأنّ لديه شبكة دعم من الأصدقاء والمؤيدين في بلجيكا، ولا سيما إمام فيرفيرز، الذي سبق له أن دعم إيكويوسن علنًا على صفحته على فيسبوك.
المراجع:
https://global-watch-analysis.com/en/belgique-bruxelles-capitale-islamiste-europeenne/
https://www.facebook.com/European-Muslim-Network-EMN-128498273835676/
https://www.brusselstimes.com/282052/french-fundamentalist-imam-believed-to-have-fled-to-belgium
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مركز أبحاث ودراسات مينا.