ملخص تنفيذي:
ما تزال كيفية ولادة الصحوة الإسلامية غامضة لكثير منا! وكذلك الدور الموضوعي المساهم في ذلك! وكيف استغل الإسلام السياسي هزيمة الـ 67؟ ليتمدد اجتماعياً!
ومَنْ هُم أعلامها ومفكروها في تلك الحقبة الخطيرة من تاريخ الشرق البائس؟ وماهي تداعيات ذلك التمدد اجتماعياً وسياسياً؟ خصوصاً في الربيع العربي الذي تحول إلى كارثة! هذا كله نناقشه في المحاور التالية:
المحاور:
- المدخل
- المسُاهِم الموضوعي في ولادة الصحوة!
- تمدد الإسلام السياسي بعد الهزيمة!
- كيف استغل الإسلام السياسي هزيمة الـ 67؟
- الصحوة تؤدلج الشارع إسلاموياً بعد الهزيمة!
- دور وسائل الإعلام في انتشار الإسلاموية
- كيف نجح الإسلام السياسي بتمرير مشروعه؟
- الآثار الكارثية للإسلام السياسي بعد تمدده اجتماعياً!
- الخلاصة والنتائج
المدخل
تعدُّ هزيمة الـ 67 لحظة الولادة الحقيقة المُؤرِّخة للصحوة الإسلامية؛ بعد أن شكلت ارتداداً وصدمةً لمجتمعاتنا كلها بمختلف مشاربها وانتماءاتها الإيديولوجية، حيث انقلب المجتمع إيديولوجياً باتجاه ديني! وصعد الإسلام السياسي بمدارسه المختلفة بشكل غريب وسريع، وبدأ سيطرته على مظاهر المجتمع؛ يقابل هذا الصعود انكفاء للتيارين القومي واليساري؛ وساهمت الولايات المتحدة الأمريكية بذلك الصعود بصفقة تمت في الخفاء مع كل من السعودية ومصر والباكستان؛ لم تُكشف إلا بعد تصريح ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لصحيفة الواشنطن بوست؛ ونشرته وسائل الإعلام السعودية. ثم جاءت بعض الدراسات الأمريكية والتصريحات؛ لتوضح بأن نشر الوهابية ليس إلا أداة من أدوات الحرب الباردة. ([1]) ([2])
فضربت أمريكا عصفورين بحجر! ضربت التيار القومي اجتماعياً وسياسياً؛ من خلال تحميله هزيمة الـ 67 وتبعاتها؛ كما ضربت التيار اليساري بكل تلاوينه بتهمة نشر الإلحاد بدعم من الاتحاد السوفيتي آنذاك!
فجاء الدعم الأمريكي من تحت الطاولة للإسلام السياسي لمصلحة أمريكية؛ حتى تُوقِف تمددَ الشيوعية والقومية في شرقنا البائس، وعندما بات التيار الإسلاموي قوياً؛ وبدأ بالتمرد على المصالح الأمريكية في المنطقة؛ ويهددها؛ كان التخلي عن شاه إيران شرطي أمريكا بالمنطقة، والمجيء بالخميني ونظام الملالي الذي يمثل الإسلام السياسي بنسخته الشيعية ليحكم إيران؛ ويَشْغَل المنطقة بنزاعات طائفية حتى يومنا هذا. ([3])
المسُاهِم الموضوعي في ولادة الصحوة!
إذا كانت الهزيمة أصابت التيارين القومي واليساري بصدمة؛ فإنها أحيت الإسلام السياسي؛ وجعلت له صوتاً مؤثراً في الشارع، لأن من نتائج الهزيمة سقوط القدس والمسجد الأقصى بيد إسرائيل، والقدس والأقصى لهما اعتبارية دينية في الوجدان المسلم، فباتت كقميص عثمان يحمله الإسلام السياسي لمحاربة التيارين القومي والشيوعي؛ فحمّل الأنظمةَ القوميةَ واليساريةَ تلك الهزيمة وضياعَ القدس والأقصى!
بدأت فكرة الانبعاث الإسلامي آنذاك من الخارج؛ لضرب التيارين القومي واليساري؛ وساهمت ثلاث شخصيات غربية بذلك؛ كان لها أثر كبير بدعم عودة الإسلاموية؛ حيث ظهرت داعمة له بوقت واحد تقريباً، فكانوا حجة الإسلامويين على من يعارض التبشير بعودة الإسلاموية:
- الشخصية الأولى: الدبلوماسي الألماني “مراد هوفمان”، كان سفيراً بالمغرب؛ وأعلن إسلامه وكتب كتابه “الإسلام كبديل” الذي بشَّر بعودة الإسلاموية للسلطة طريقاً لتحقيق النصر، وانتشر الكتاب بشكل غريب في شرقنا البائس. ([4])
- الشخصية الثانية: الفيلسوف الفرنسي “روجيه غارودي”، آمن بالإسلام وبَشَّرَ بأنه “دين المستقبل”؛ وانتقد “الإرهاب الغربي”، وأعلن إسلامه على يد مفتي سوريا “أحمد كفتارو”؛ وكتب كتابه الشهير “المستقبل للإسلام”. ([5])
- الشخصية الثالثة: الفرنسي “موريس بوكاي” كان الطبيب الشخصي للملك فيصل ومع عملهِ في المملكة العربية السعودية، وبعد دراسة للكتب المقدسة الثلاثة ومقارنة قصة فرعون، كتب كتابه الشهير “التوراة والإنجيل والقران الكريم” بمقياس العلم الحديث الذي ترجم لسبع عشرة لغة منها العربية. وكان عرَّاب فكرة الإعجاز العلمي بالقرآن؛ والمرجع لأشهر لدعاته في هذا الباب آنذاك كـ”عبد المجيد الزنداني” و”زغلول نجار” وغيرهما. ([6])
فبدأت فكرة انبعاث الإسلام كما أطلق عليها “مراد هوفمان”؛ وفيما بعد “فوكوياما” في مشروعه “نهاية التاريخ” التي التقطها أولاً الشيخ يوسف القرضاوي المنفي إلى قطر، ليعربها إلى مصطلح “الصحوة الإسلامية” وكتب تحت ذلك العنوان كتباً عدة. ([7])
هنا بدأت أدلجة المجتمع حتى يعود الإسلام السياسي للقيادة كبديل عن تلك الأنظمة، من خلال أدلجة الهزيمة دينياً بتفسير مطلع سورة الإسراء وإسقاط ذلك التفسير على الصراع العربي/الإسرائيلي! وأن الجيل الذي سيحرر القدس ويدحر الصهاينة هو جيل إسلامي ــ كما ادعت تفاسير تلك المرحلة ــ فإنْ أردنا استعادة القدس والأقصى، يجب أن ندعم الإسلام السياسي المُبشر به مطلع سورة لإسراء! هنا فقد الشارع ثقته بالأنظمة الحاكمة نتيجة هول الهزيمة، لا سيما نظام عبد الناصر صاحب الشعبية الجارفة آنذاك، وكذا حزب البعث الذي يحكم سوريا والعراق.
وبدأ الحديث عن بشارة إلهية تحقق النصر على الصهاينة بيد جيل مسلم لا علماني ولا بعثي ولا يساري؛ حتى كتب الشيخ القرضاوي عرّاب الصحوة ومرشدها كتابه الشهير “الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا” ([8])
تمدد الإسلام السياسي بعد الهزيمة!
بدأ الإسلام السياسي بطرح أفكاره بطريقة شعبوية عاطفية، لتقضي على ما تبقى من شعبية الأنظمة الحاكمة، خصوصاً أن الهزيمة جاءت بُعيد القضاء على الإخوان المسلمين في مصر؛ وإنهاء تنظيم 65 وإعدام زعيمه سيد قطب، وجاء في أدبيات الصحوة:
إن الهزيمة المنكرة يتحملها التيار القومي العربي والتيار العلماني والليبرالي؛ لأنهم ابتعدوا عن الإسلام، فعاقبهم الله بالهزيمة. كما خرّ الشعراوي ساجداً لله؛ سجدة شكر على هذه الهزيمة. وبالتالي فإن تجاوز الهزيمة وتحقيق النصر المنشود؛ يحتاج إلى جيل النصر المنشود، وكتب القرضاوي كتاباً بهذا العنوان! فتحقيق النصر من خلال صحوة سلامية راشدة، تتبنى خلالها شعار (الإسلام هو الحل). ([9]) ([10])
واستمر تمدد التيار الإسلامي شعبوياً؛ خصوصاً بعد العفو من “أنور السادات” عن المتطرفين الإسلامويين؛ وإخراجهم من المعتقلات؛ ومنحهم حرية العمل في الجامعات والنقابات؛ حتى سيطروا عليها، ثم انتهى شهر العسل بين السادات والإسلامويين بعد رحلته إلى إسرائيل؛ فاغتالوه.
ترافق ذلك بصعود صاروخي للسلفية المعاصرة المدعومة رسمياً من الحكومة السعودية آنذاك؛ ليقع الإسلامويون بخطيئتهم الكبرى؛ إذ بدأوا فيما بينهم صراعاً على الإسلام؛ لا من أجل الإسلام؛ فكانت المعركة بين السلفية المعاصرة والإخوان المسلمين من جهة، والإخوان وحزب التحرير الإسلامي من جهة أخرى؛ وانتهت بنصر إعلامي وشعبوي للسلفية المعاصرة بقيادة ابن باز والألباني، فتحقق للإدارة الأمريكية ما تريده من ذلك؛ وتمثل بالقضاء على التيار القومي، وتحميله الهزيمة، ووقف المد الشيوعي بالمنطقة، ولما بلغت الصحوة أوجها؛ تم إشغال المنطقة كلها بحرب الخليج الأولى، التي استمرت ثمان سنوات، خرج الفريقان منهاــ العراقي والإيراني ــ دون نصر. ([11])
الصحوة تؤدلج الشارع إسلاموياً بعد الهزيمة!
بشكل ما حمّلت جميع المدارس الإسلامية بتنوعاتها من الإخوان حتى الصوفية الأنظمة هزيمة الـ 67، لأن الأفكار الغربية التي تبنتها ـــ كما ادعت ـــ كانت السبب في الهزيمة، وأكرهت الشارع على الإيمان بها؛ واستطاع عرّاب الصحوة “يوسف القرضاوي” أن يؤدلج الشارع إسلاموياً، فكتب حتى وفاته في هذا الأمر نحو (300) كتاباً، ليعود شعار (الإسلام هو الحل) الذي طُرح في مؤتمر تونس 1925 للظهور بقوة في الشارع المسلم؛ وبدأت الفكرة القائلة:
إن صلاح الأمة لا يتم إلا بما صَلُحَ به أولها. تتمكن من عقول الشباب المسلم. ليظهر كتاب القرضاوي الشهير “الحل الإسلامي فريضة وضرورة”.
ورغم أنّ الشيخ محمد الغزالي كان آنذاك في خصومه مع تنظيم الإخوان؛ أدت إلى انشقاقه عنه بعد اغتيال حسن البنا؛ واختيار “حسن الهضيبي” خلفاً له، فانشق معه الشيخ الشعراوي لينظم إلى حزب الوفد؛ كما انشق الشيخ الباقوري وانظم لعبد الناصر، وانشق الشيخ سيد سابق وغيرهم، إلا أنّ الغزالي كتب ما يخدمهم بشكل أو آخر من خلال كتبه (معركة المصحف) و(قذائف الحق) و(سر تأخر العرب والمسلمين) و(ظلام من الغرب) وغيرها.
وفي الأردن ساهمت كتب “سعيد جمعة” عن الهزيمة بأدلجة الإسلاموية اجتماعياً، فكتب كتابه الخطير (الله أو الدمار) و(المؤامرة ومعركة المصير) و(مجتمع الكراهية).
وفي لبنان ساهم الشيخ “فتحي يكن” في رسائله ومقالاته وكتبه الصغيرة في ذلك كثيراً. وتبنت مجلة “المسلم المعاصر” مقالات جمال عطية الداعمة للأدلجة إسلاموياً.
هنا ظهر أخطر ما في التوجه الإسلاموي متمثلاً بإعادة إحياء أفكار سيد قطب؛ التي نتج عنها مصرياً ولادة جماعة التكفير والهجرة ([12]) ثم الجماعة الإسلامية ([13]) التي بدأت آنذاك بترويج ظاهرة الحجاب الإسلامي لأول مرة، وهما جماعتان متطرفتان؛ تتبنى العنف سبيلاً للتغير السياسي؛ والتي نتج عنها فيما بعد تنظيم القاعدة ثم داعش وجبهة النصرة وبوكو حرام.
وساهم كذلك بشكل كبير الشيخ “سعيد حوى” في إحياء الفكر القطبي؛ فكان سيد قطب سوريا بامتياز، حيث أدلج إخوان سوريا قطبياً! فكتب كتابه الشهير (جند الله ثقافة وأخلاقاً) عام 1969، وكان لهذا الكتاب تأثير كبير في الحركات الإسلاموية الراديكالية، وما يزال تنظيم القاعدة وداعش والنصرة يتبنون أفكار قطب وحوى والمودودي حتى اليوم، كما كتب كتباً أخرى مشهورة مثل (جند الله أخلاقاً) و(دروس في العمل الإسلامي) و(فصول في الإمرة والأمير) وغيرها. ([14])
والشيخ حوى هو أحد القيادات الخمسة الإخوانية التي اتخذت قرار المواجهة مع نظام حافظ الأسد 1979 وأحداث حماه فيما بعد. ولكنه ندم كثيراً أواخر حياته على ذهابه بهذا الاتجاه، وانتهى متصوفاً كما حدثني الشيخ محمود مشوح مفتي مدينة الميادين الذي التقاه أواخر حياته في المدينة المنورة.
ولا ننسى في هذا المقام الشيخ “عبد الحميد كشك” الذي أفرج عنه السادات في السبعينات؛ وتولى منبرياً اسقاط ما تبقى من شعبية عبد الناصر بمخيلة الناشئة، لتنتشر خطبه كالنار في الهشيم؛ وهي خطب انفعالية عاطفية؛ ليس فيها موضوع إلا الهجوم على عبد الناصر وعهده.
وبعد وفاة الكشك كانت شعبية الشيخ الشعراوي قد بدأت تتألق مع بث دروسه في تفسير القرآن تلفزيونياً، فسيطر على الوجدان المتدين بشكل كبير. وهكذا تمت أدلجة المجتمعات إسلاموياً.
ولعبت فيما بعد المناظرتان الشهيرتان بين فرج فودة ومحمد خلف الله من جهة مع الشيخ محمد الغزالي ومرشد الإخوان مأمون الهضيبي، والمفكر محمد عمارة. وكذلك المناظرتان الشهيرتان بين الشيخ البوطي والطيب التيزيني دوراً كبيراً في الأدلجة.
دور وسائل الإعلام في انتشار الإسلاموية
بعد ظهور التلفزيون وانتشاره في الستينات؛ وكذلك ظهور وانتشار أيديولوجيات غير دينية مختلفة؛ حصل عزوف عن الذهاب إلى الكنيسة؛ فكانت الفكرة المسيحية الإنجيلية بأمريكا استغلال التلفزيون؛ من خلال ذهاب الكنيسة إلى المنزل بواسطة رجال دين؛ يتحدثون وعظياً عن قرب نهاية العالم؛ وضرورة العودة إلى الإيمان؛ وساهم كتاب الرئيس الأمريكي “ريتشارد نيكسون” “نصر بلا حرب” في أدلجة الفكرة؛ فظهر الوعاظ التلفزيونيون؛ وحققوا نجاحاً كبيراً في العودة إلى التدين.
تم استعارة الفكرة الإنجيلية الأمريكية باستغلال التلفزيون إسلاموياً؛ فكانت مرحلة الدعاة الإعلاميين الجدد؛ ففي مصر منح الرئيس السادات ثم مبارك مساحة تلفزيونية كبيرة للشعراوي؛ بعد أن تم تقديمه لأول مرة من خلال البرنامج الديني (نور على نور)؛ الذي يقدمه المذيع أحمد فراج؛ وقيل إن ذلك تم بإيعاز من السادات؛ ليتأسس التحالف بين السلفية المعاصرة والإخوان المسلمين؛ وبات الشعراوي أحد أهم وسائل نشر الأسلمة والسيطرة على العوام والفنانين.
وفي الجزائر مُنح الشيخ محمد الغزالي حصة أسبوعية بالتلفزيون الجزائري؛ وفي السعودية سيطر دعاة السلفية الجدد (سفر الحوالي ــ سلمان العودة ــ سعد البريك ــ وغيرهم) فكان الإعلام المرئي وسيلة مهمة للوصول إلى البيوت وشرائح مختلفة؛ ناهيك عن ظاهرة “الكاسيت الإسلامي” قبلها؛ ثم جاء عصر الفضائيات متوجاً بقناة “اقرأ” ليصل الدعاة إلى كل مكان من شرقنا البائس.
“مانويل كاستيلز” عالم اجتماع مشهور في جامعة “بيريكللي”، في كتابه “فجر عصر المعلومات” اهتم بالتأثيرات الاجتماعية لثورة المعلومات. ففي منتصف التسعينات كان هناك القليل جداً من الدراسات التي تناولت علاقة الدين بوسائل الإعلام الجماهيري، خصوصاً فيما يتعلق بمجتمعات ما بعد الاستعمار. وزاد الاهتمام بدراسة تلك العلاقة مع الارتفاع العالمي للحركات الدينية مثل جماعات الإسلام السياسي، وحركة القومية الهندوسية، كمحاولة لفهم تأثيرات تلك الجماعات على المجتمع العالمي. وحاولت الدراسات الإجابة عن سؤال: ما هي مكانة الدين في عصر الميديا أو وسائل الإعلام الجماهيري؟ ([15])
كيف نجح الإسلام السياسي بتمرير مشروعه؟
طرح الإسلام السياسي بمختلف مدراسه بديهيات بسيطة؛ جعلت الشارع ينحاز له؛ ليغدو حاضنه الاجتماعي، فقد أقنع بخطابه الشارع بأن القوميين والعلمانيين؛ عزلوا الإسلام عن قيادة المجتمع، وأن الحلول المستوردة غربياً؛ ساهمت بتفسخ المجتمع أخلاقياً، وبالتالي وقعت الهزيمة. وأي نظام ليس إسلاموياً؛ غير قادر على تحرير فلسطين بدليل سورة الإسراء والأحاديث الداعمة للفكرة.
وإنّ ظاهرة الفقر والحاجة المعاشية سببها فساد الأنظمة الحاكمة، كما أنّ هذه الأنظمة الدكتاتورية تمنع الرأي الآخر، وتُلقي بأصحابها في المعتقلات! وما محنة الإخوان مع نظام عبد الناصر إلا دليل على ذلك! وبذلك عاش الإسلام السياسي على المظلومية؛ التي جعلت حاضنه الاجتماعي يتمدد أكثر.
وأضاف إلى “ببروجندته” بأن الحدود الناشئة بعد اتفاقية (سياكس/بيكو) لا قيمة لها إسلامياً؛ فالمسلمون أمة واحدة، حيثما كانوا في أية جغرافية، ولا بد من مناصرة المسلمين المستضعفين حيثما كانوا، ومن هنا جاء دعمهم لطالبان ضد نظام نجيب الله الشيوعي. وهذا كله يستدعي بناءاً تشريعياً حديثاً ينص فيه دستور البلاد على أن مرجعية القوانين هي الشريعة الإسلامية؛ وإبطال أي قانون يخالفها.
الآثار الكارثية للإسلام السياسي بعد تمدده اجتماعياً!
الأطروحات الفكرية التي قدمها دعاة ومفكرو الإسلام السياسي آنذاك؛ أدت إلى كوارث اجتماعية وسياسة فيما بعد؛ إذ اعتبروا أنفسهم أصحاب الصواب المطلق بصفتهم يتحدثون باسم الله، وأحدثت أفكارهم شرخاً عمودياً في المجتمع بين الإسلاميين والعلمانيين.
الخطيئة الكبرى للحركات الإسلاموية أنها كانت ترفض النقد الذاتي لمسارها، فهم صوروا أنفسهم على أساس ملائكي طاهر، والآخر إبليسي يتحمل أوزار الشرق البائس كلها، دون دراسة حقيقة لأسباب النهضة والتحضر والنصر، فرفضوا أفكار الفيلسوف “مالك بن نبي” في حياته بتهمة تَقَرُّبه من مشروع عبدالناصر القومي، وبقوا على خلاف مع الفيلسوف “جودت سعيد” المنشق عنهم، حتى وفاته، لأنه رفض العنف بكل أشكاله؛ وطرح المفهوم السُنني للنهضة والتقدم.
وأدلج فكرة رفض النقد والانفتاح على الآخر الشيخ “فتحي يكن” في كتابه (المتساقطون على طريق الدعوة؛ كيف ولماذا) الذي عدَّ كل من يطَّلع على أفكار الآخرين غير الإخوانية؛ متساقطاً ومنحرفاً عن الطريق؛ فما عندهم من فكر يكفيهم للنهضة والنصر!
وبما أن الأنظمة الحاكمة ترفض الرأي الإسلامي والعمل به؛ فإن التغيير الراديكالي هو أقصر الطرق للنصر ومحو عار هزيمة الـ67! فبدأت تنشأ الجماعات المتطرفة كالتكفير والهجرة والجماعة الإسلامي بمصر، وتنظيم الطليعة بسوريا وغيرها.
ليوصلنا الانغلاق الإسلاموي إلى المواجهة والكارثة الكبرى مع حافظ الأسد بأحداث الثمانينات، الذي انتهى بمأساة مدينة “حماه”، ومن ثَمَّ أحداث الجبهة الإسلامية للإنقاذ بالعشرية السوداء في الجزائر التي بدأت بعد انتخابات 1990، حتى السطو على الربيع العربي وتحويله إلى كارثة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
وبعد أن توالت الإخفاقات الإخوانية هنا وهناك في شرقنا البائس؛ استطاعت السلفية المعاصرة بقيادة عبد الله بن باز مفتي السعودية؛ والشيخ ناصر الدين الألباني؛ أن تسيطر على الشارع في شرقنا البائس؛ لتصبغ حتى جماعة الإخوان بشكل كبير بأيديولوجيتها؛ وتستعير منها الحركية القطبية ــ نسبةً إلى فكر سيد قطب ــ مما أدى إلى انشقاقها على نفسها؛ فتظهر السلفية الجهادية المتمردة على الحاكم؛ التي أخذت منهج الألباني من حيث المظهر العام والعبادات؛ ومنهج قطب في تكفير الآخرين! والحكم بجاهليتهم! ليكون ردُّ الفعل داخل السلفية المعاصرة بولادة السلفية المدخلية التي تؤمن بأن الخروج عن الحاكم أكبر الكبائر في أدبياتها. ثم كانت السلفية العلمية القريبة نوعاً ما من السلفية المدخلية.
الخلاصة
ما وصلنا إليه اليوم من كوارث في الربيع العربي؛ والإساءة لسمعة الإسلام عالمياً، وانتشار التنظيمات المتطرفة، هو نتيجة لذلك التمدد الإسلاموي الذي حدث عند ولادة الصحوة الإسلامية بعد هزيمة الـ 67؛ وما سيطرة السلفية المعاصرة على عقول الشباب المتدين؛ وتحول العقل الإخواني إلى الاتجاه السلفي إلا نتيجة أفكار المودودي وسيد قطب والألباني وسعيد حوى والقرضاوي الذين كانوا بجدارة المرجعية الأولى للإسلام السياسي وتنظيماته المتخلفة.
وبذلك يتبين لنا أن الزرع الأمريكي للإسلام السياسي بعد حرب الـ 67، كان حصاده مراً ودماراً على انتفاضة الشعوب في الربيع العربي؛ فقد سطوا عليه؛ وعسكروه؛ وأفشلوه، وجعلوا بعض المنتفضين يندمون على ربيعهم الذي خلّف دماراً وخراباً لبلادهم؛ وهجرة لأبنائهم، وفشلاً لثوراتهم؛ دون أن نتناسى الدور المهم للاستبداد الحاكم في ما حصل؛ والذي كان علة العلل.
مراجع
[1] ـ بن سلمان لـ”واشنطن بوست” 22 مارس/آذار 2018: نشرنا الوهابية بطلب من الحلفاء لمواجهة الاتحاد السوفييتي.
www.alaraby.co.uk/بن-سلمان-لـ”واشنطن-بوست”-نشرنا-الوهابية-بطلب-من-الحلفاء
[2] ـ تمت أسلمة الباكستان على يد الجنرال ضياء الحق الذي دعم التنظيمات الإسلاموية.
[3] ـ شهادة معمم شيعي حول عودة الخميني بمخطط عالمي:
https://www.youtube.com/watch?v=lKa6L-fCW-c
[4] ـ مراد هوفمان: 1931 /2020، كان محامياً ودبلوماسياً وكاتباً ألمانياً. اعتنق الإسلام عام 1980. قام بتأليف العديد من الكتب عن الإسلام، منها رحلة إلى مكة المكرمة، والإسلام كبديل. تركزت العديد من كتبه ومقالاته على وضع الإسلام في الغرب.
[5] ـ روجيه غارودي: 1913/2012. فيلسوف فرنسي أنشأته والدته على المسيحية الكاثوليكية وكان أبوه ملحداً، آمن بالإسلام وقال إنه “دين المستقبل”. انتقد “الإرهاب الغربي”، وواجه الفكر الصهيوني بكتابه “الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية”. ولد بمدينة مرسيليا الفرنسية لأم كاثوليكية وأب ملحد، واعتنق البروتستانتية وهو في الرابعة عشرة من العمر. عَمِلَ على إظهار الإشراق الروحي في الإسلام وحاجة المجتمع الغربي له؛ شنّ عليه علماء السعودية حملة شعواء؛ فاعتزل المشاركة في مؤتمرات المسلمين؛ واسـتأجر قصراً في قرطبة الإسبانية حوله إلى منتدى عالمي يشرح فيها تجربته ورؤيته الإسلام.
[6] ـ موريس بوكاي: 1920 – 1998. كان طبيباً فرنسياً؛ نشأ على المسيحية الكاثوليكية، وكان الطبيب الشخصي للملك فيصل بن عبد العزيز ومع عملهِ في المملكة العربية السعودية، وبعد دراسة للكتب المقدسة عند اليهود والمسلمين ومقارنة قصة فرعون، ألف كتاب التوراة والأناجيل والقران الكريم بمقياس العلم الحديث الذي ترجم لسبع عشرة لغة منها العربية.
[7] ـ راجع كتب الشيخ القرضاوي تحت هذا العنوان: الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف. والصحوة الإسلامية بين الآمال والمحاذير. والصحوة الإسلامية مِن المراهقة إلى الرشد. وغيرهم كثير من الكتب في هذا الباب.
[8] ـ https://foulabook.com/ar/book/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%84%D9%88%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D8%AA%D9%88%D8%B1%D8%AF%D8%A9-%D9%88%D9%83%D9%8A%D9%81-%D8%AC%D9%86%D8%AA-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A3%D9%85%D8%AA%D9%86%D8%A7-pdf
[9] ـ الشيخ الشعراوي يفسر لماذا سجد بعد هزيمة حرب 1967؟ (فيديو):
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1221217
الشعراوي حين سجد لله شكراً بعد نكسة 1967!:
[10] ـ راجع كتاب الشيخ يوسف القرضاوي: جيل النصر المنشود.
[11] ـ انتهت الحرب بلا انتصار لطرفي الصراع وقبولهما بوقف إطلاق النار، رغم ذلك خلّفت الحرب نحو مليون قتيل وخسائر مالية بلغت 400 مليار دولار أمريكي، ودامت لثماني سنوات؛ لتكون بذلك أطول نزاع عسكري في القرن العشرين، وواحدة من أكثر الصراعات العسكرية دموية
[12] ـ مؤسسها شكري مصطفى؛ وهي جماعة نشأت داخل سجن طرة في مصر في بادئ الأمر وبعد إطلاق سراح أفرادها تبلورت أفكارها وكثر أتباعها في صعيد مصر وبين طلبة الجامعات خاصة، كما انتشرت في العديد من الدول الأخرى كالمغرب والسودان واليمن والأردن والجزائر حيث شاركت في العشرية السوداء في التسعينيات. ويؤمنون بتكفير الحكام بإطلاق لعدم حكمهم بشرع الله؛ وتكفر المحكومين لرضاهم بهم، وتكفر العلماء لعدم تكفيرهم أولئك الحكام، كما يكفرون كل من أرتكب كبيرة وأصر عليها، كما أن الهجرة هي العنصر الثاني في تفكير الجماعة؛ ويقصد بها اعتزال المجتمع الجاهلي عزلة مكانية وعزلة شعورية وتتمثل في اعتزال معابد الجاهلية ويقصد بها المساجد تحت حكم العلمانيين.
[13] ـ جماعة إسلامية دعوية نشأت في الجامعات المصرية أوائل السبعينيات من القرن الماضي؛ وسُميت بهذا الاسم تيمنًا بالجماعة الإسلامية في باكستان التي أسسها أبو الأعلى المودودي، اتخذت جامعة أسيوط معقلًا لها ومع مرور الوقت بدأت تتغلغل في كل الصعيد، وكان لها تأثير كبير بين شباب الجامعات، وقامت بنشر العلم الشرعي والحجاب واللحية ودعت للالتزام بالإسلام، وكانت تدعو لإعادة «الخلافة الإسلامية من جديد» إلا أنها تختلف عن جماعات الجهاد من حيث الهيكل التنظيمي وأسلوب الدعوة والعمل بالإضافة إلى بعض الأفكار والمعتقدات. مؤسسها ناجح إبراهيم؛ ومنظرها وزعيمها عمر عبد الرحمن.
[14] ـ من المفارقات العجيبة أثناء ولادة الصحوة الإسلامية ورغم الخلافات بين جماعة الإخوان المسلمين والسلفية المعاصرة؛ ولكن نتفاجأ برسالة من الشيخ عبد الله بن باز مفتي السعودية إلى الرئيس عبد الناصر يُكَفّره فيها لإعدامه سيد قطب، وهذا يُظْهر الدور الموضوعي والذاتي لتعاونٍ ما بين التيارات الإسلاموية المختلفة.
https://www.ksanews365.org/48330
[15] ـ الدين ووسائل الاعلام: أحمد محمد صالح.
www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=46987
جميع حقوق النشر محفوظة لصالح مركز أبحاث مينا.