تحظى الاحتجاجات التي اندلعت في إيران منذ منتصف سبتمبر، باهتمام بالغ من المجتمعات الشيعية في دول الجوار، وخاصة العراق ولبنان. إلا أنّ الآراء حولها انقسمت بين فريق مؤيد لطهران يرى أنّ ما يحصل هو “مؤامرة” غربية هدفها “إسقاط الجمهورية الإسلامية”، وفريق معارض لسياسات طهران التوسعية في المنطقة يعتقد أنّ الشيعة دفعوا بالفعل ثمن الهيمنة الإيرانية، وأنه حان الوقت للإطاحة بالنظام الثيوقراطي وتحييد رجال الدين عن المشهد السياسي في دول المنطقة.
وترى ناشطة عراقية سابقة في انتفاضة تشرين، أن إيران تسيطر بشكل كبير على المشهد السياسي في العراق منذ سقوط نظام صدام حسين عام 2003، بالاعتماد على أذرعها العسكرية والسياسية”، بحسب وصفها.
تقول الناشطة التي فضلت عدم ذكر اسمها خلال حديث مع مركز أبحاث ودراسات مينا “إنّ ما يهمني هو حاضر ومستقبل العراق، هذه الجزئية مرتبطة بما ستؤول إليه الأوضاع في إيران بسبب ارتباط رموز النظام والسياسة والميليشيات العراقية بإيران بشكل أو بآخر (..) أيّ هزة في طهران ستكون لها آثار في بغداد، حتى ولو كان ذلك على شكل تنازل بسيط من قبل السلطات الإيرانية للمحتجين”.
واندلعت الانتفاضة الإيرانية إثر وفاة مهسا أميني (22 عاماً)، التي كما بات معلوماً هي من أصول كردية ومن المذهب السني. ويرى مراقبون أنّ هذه الاحتجاجات تشكل أحد أكبر التحديات التي تواجه الجمهورية الإسلامية منذ تأسيسها عام 1979.
الارتدادات
ويعتبر الكثير من الشيعة في لبنان والعراق أنهم دفعوا بالفعل ثمن الهيمنة الإيرانية، ولا يرغبون بعد الآن في أن يكونوا بيدقاً بيد إيران. غير أن للتعبير عن الرأي ثمنه أيضاً. فقد تعرض قطاع عريض من النشطاء المدنيين في العراق، بمن فيهم المحتجين والمهنيين الإعلاميين والمحامين والنساء العاملات في المجال العام وغيرهم من المدافعين عن حقوق الإنسان إلى الاعتقال التعسفي والتعذيب والقتل على يد الميليشيات، ومن بينها تلك الموالية لقوات الحشد الشعبي وقوات الأمن العراقية والشرطة. وفي لبنان الممزق طائفياً يمارس “حزب الله” أبشع أنواع الإغتيال المعنوي والسياسي وحتى الجسدي بحق المناوئين للسياسات الإيرانية، خاصة من المنتمين للطائفة الشيعية، كما حصل مع الناشط السياسي لقمان سليم.
ويرى مراقبون أنّ الاحتجاجات الشعبية التي شهدها العراق خلال السنوات الماضية، وتوّجت بانتفاضة تشرين الأول (أكتوبر) العام 2019، في المناطق ذات الأغلبية الشيعية، ضدّ تردّي الأحوال المعيشية، والانفلات الأمني، وهيمنة طبقة سياسية ميليشياوية على العراق، تشير إلى أنّ الشيعة العراقيين يعيشون اليوم إرهاصات تحولهم من جماعة ذات هويّة طائفية صافية، إلى جماعة أقرب ما تكون إلى الحالة “الوطنية”، الأمر الذي يفسر تأييد شريحة واسعة من العراقيين الشيعة للاحتجاجات الشعبية في إيران. وحول ذلك يقول الناشط العراقي (ح ق) إنّ الأيديولوجيا القائمة على أبوية السلطة وخطابات المقاومة ونظريات المؤامرة التي جسّدت الهوية الجماعية للمجتمعات الشيعية في جميع أنحاء المنطقة بدأت بالتآكل تحت وطأة الظروف الاقتصادية واستشراء الفساد والفقر. في العراق نعاين عن قرب نشوء توجه شعبي عام لتبني مفهوم الدولة الوطنية وهو ما عبّرنا عنه في الساحات خلال أكثر من مناسبة..”.
بناءً عليه، يعتقد الناشط العراقي في حديثه مع مركز أبحاث ودراسات مينا أنّ أية مكاسب للمتظاهرين في إيران سيكون لها ارتداداتها السلبية على الطبقة الحاكمة في العراق؛ “دون شك تحفّز الانتفاضة الإيرانية الشارع العراقي للاحتجاج على حكامه المرتبطين بشكل او بآخر مع طهران، وبالتالي فإنّ نجاح السلطات الإيرانية في قمع الانتفاضة سيؤثر على قدرة الشارع العراقي في مواجهة الطبقة الحاكمة مستقبلاً”.
تتفق حنان مقداد، وهي ناشطة في المجتمع المدني ببيروت ومناصرة سابقة لحركة أمل اللبنانية، مع ما ذكره الناشط العراقي، إلّا أنها تقدّم مقاربة مختلفة تتناسب مع الذهنية السائدة في لبنان؛ “الموضوع إشكالي.. من يناصر الإحتجاجات في إيران هم السّنة في الوطن العربي لاعتبارات مذهبية، أما شعارات هذا الحراك؛ المرأة، الحياة، الحرية، ناهيك عن صور تمزيق الحجاب والتظاهر برؤوسٍ عارية وشعر مقصوص، فهي تثير امتعاضهم! يمكن القول إنّ الموقف هنا يندرج في إطار المكايدة والتشفي بالنظام الإيراني، وليس موقف مبدئي أخلاقي. بناء عليه فإنّ غالبية الشيعة في لبنان تتخذ موقف معارض لهذا الحراك للاعتبارات ذاتها”.
مؤامرة؟
لا تعكس الآراء السابقة موقف غالبية الشيعة في العراق ولبنان، حيث يعتقد الناشط العراقي، حيدر العباسي إن “أي اضطرابات في إيران سيكون لها آثار سلبية على العراق”، مضيفا لمرصد مينا أن “إضعاف إيران سيثير الفوضى في العراق بسبب التحالفات القائمة في المنطقة، لا ننسى أن العراق تخلص من تنظيم داعش الإرهابي بجهود إيران، والتنظيم قادر على العودة في أي وقت”.
بدوره يناصر الإعلامي المقرب من “حزب الله”، باقر كركي، موقف النظام الإيراني ويقلل من تأثير التظاهرات وفعاليتها، ويشدد على إخراج الاحتجاجات الإيرانية من بعدها الحقوقي الاجتماعي، ليضعها في سياق سياسي بأبعاد دولية، كونها مفتعلة من أعداء النظام الإيراني لمحاربته والضغط عليه، حسب زعمه. بينما يصف حساب “فاطمة شوهاني” في تويتر الاحتجاجات الإيرانية بـ “ثورة منحرفين”، وتقول إنها كثورة تشرين في العراق وثورة أكتوبر في لبنان “عملة واحدة”.
وتصرّ السلطات الايرانية وأجهزتها الأمنية في روايتها حول ما يحصل على أنّ القوى الغربية “تحاول النيل من الهوية والثقافة الإسلامية”، وهو ما جعلها تحاول التضخيم من مسألة الحجاب بالدرجة الأولى، وفق مراقبين.
يتبنّى علي زعيتر، وهو لبناني من بعلبك، هذه الرواية، ويقول لمرصد مينا إنّ هذا الحراك “مفتعل من أعداء الجمهورية الإسلامية”. ويتساءل زعيتر (32 عام)، عن سبب اللقاء الذي جمع الفيلسوف الفرنسي المثير للجدل برنار هنري ليفي، الذي وصفه بـ “مهندس الفوضى والحروب في سوريا وليبيا وأفغانستان”، والقيادية في المعارضة الإيرانية مسيح علي نجاد. ويختم حديثه بالقول: “من يعتقد ان النظام الإيراني سيسقط من خلال الثورات الملونة فهو واهم جداً، النظام الإيراني هو ابن الشعب ومناصر للمظلومين”.
دور المرأة
وبينما تتصدّر النساء والشباب الصفوف الأولى للمتظاهرين، يرى الأستاذ في العلوم السياسية علي فتح الله نجاد، بأنّ مقتل مهسا أميني ضرب على وترٍ حسّاس في أوساط الطبقتَين الوسطى والدنيا على السواء، وترافق مع تضامن ملحوظ بين مختلف الإثنيات ومشاركة قوية لطلاب الجامعات، فضلًا عن انضمام العمّال والمشاهير إليهم؛ “أصبحت هذه الاحتجاجات بحق ثورة وطنية تطرح تهديدًا جدّيًا للنظام، ما يفسّر وحشية ردود فعله”، بحسب تعبيره.
وترى حنان مقداد أنّ المرأة في إيران تقدّم نموذجاً يحتذى به لنساء المنطقة، وأنها تضرب بعرض الحائط “الثقافة الذكورية السائدة”، وتضيف: “دور المرأة في الانتفاضة الحاصلة وشعاراتها (المرأة والحياة والحرية)، من شأنه أن يُحدث تغييراً في الوعي والفكر والثقافة السائدة وصولاً إلى الموروث الديني الذي ساهم في تحجيم دور المرأة واختزاله بمجالات محدودة”.
بينما يعتقد الناشط العراقي (ح ق) أنّ من يقود الحراك على الأرض في إيران اليوم هم الشباب والفتيات الذين تعرضوا لحملات ضخ عقائدي وايديولوجي مكثفة منذ نعومة أظفارهم، إلا أنهم أثبتوا أنّ خطابات الأيديولوجيا والإسلام السياسيّ لا تهمهم، بقدر ما يهمهم أن يعيشوا حياة كريمة على الأرض.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مركز أبحاث ودراسات مينا.