ترتكز الاستراتيجية الروسية تجاه أفريقيا على البعد الأمني في ظل التحديات الأمنية التي تواجهها معظم دول القارة، حيث يتصاعد دور شركة فاغنر Wagner Group في أفريقيا ويشهد تطورًا ملحوظًا، ما يعزز الدور الروسي في القارة، وإن كان يدفع في ذات الوقت إلى الدخول في مرحلة جديدة من عسكرة القارة الأفريقية، واشتداد التنافس الدولي وتأثيراته على مستقبل أفريقيا في ضوء التنبؤ بتوسُّع نشاط تلك الشركات في المرحلة المقبلة.
وقد اصبحت الاستعانة بالشركات العسكرية الخاصة خلال العقد الأخير بمثابة أداة رئيسة للسياسة الروسية لتحقيق أهداف جيوسياسية وجيوستراتيجية في بعض مناطق النفوذ الروسي. وما كانت الشركة العسكرية الخاصة الروسية “فاغنر” Wagner الأداة الرئيسة في تعزيز المصالح الروسية في الخارج قبل عام 2013، إلا أن ذلك تغيَّر مع التطورات التي صاحبت الثورة السورية منذ اندلاعها في عام 2011، وعلى الساحة الأوكرانية منذ أوائل عام 2014 مما اضطر موسكو إلى التواجد بقوة على الساحتين. ثم ما لبث أن تمدد نشاط فاغنر ليشمل أفريقيا خلال السنوات الأخيرة في إطار المساعي لتعزيز النفوذ الروسي في القارة.
غزو العالم بهدوء
وتترجم هذه المسالة رغبة الرئيس الروسي في غزو العالم بهدوء، ومن خلال سياسة المصالح المشتركة، حيث تعد القارة الإفريقية، منجما بِكرا للمعادن الخام، كما أن الدول الإفريقية التي تخطو خطوات جادة نحو التنمية والاستقرار، تمثل سوقا مفتوحة وكبيرة كذلك لكل الدول العظمي، وهو ما دفع بوتين للاتجاه نحو جنوب العالم من أجل تقوية نفوذه واستعادة العرش السوفييتي.
وبالفعل أمكن لروسيا أن تمتلك نفوذًا متزايدًا في إفريقيا. وتتنوع المعطيات والادلة التي تشير الى تعاظم هذا الدور الروسي حيث لم يعد يقتصر على المجال العسكري فحسب بل تخطاه الى الابعاد الاخرى الاكثر استراتيجية وحيوية، ونعني بذلك المجالات الثقافية والسياسية والاقتصادية. وهذا المعطى الجيوستراتيجي الهام يضعف النفوذ الغربي في افريقيا. وفي السياق ذاته عملت روسيا على توظيف هذا الدور لتأكيد مكانتها كإحدى القوى الدولية المؤثرة في القارة، بتوسيع نفوذها العسكري في جميع أنحاء أفريقيا من خلال زيادة مبيعات الأسلحة و ابرام الاتفاقيات الأمنية.
وفضلا عن مبيعات الأسلحة والخدمات العسكرية أو الأمنية، فان روسيا قد استفادت في ذلك من معطى تاريخي مهم يتمثل أساسا في دعمها النشط للدول الأفريقية خلال الحقبة السوفياتية وعدم وجود ماض استعماري لديها.
لكن الاحداث المتلاحقة الامنية والسياسية التي عرفتها أجزاء من القارة الافريقية على غرار ليبيا، قدمت لنا مؤشرات واضحة عن عودة موسكو القوية الى واجهة صراع النفوذ الدولي على القارة الافريقية .
وتتجاوز الاستراتيجيات الروسية في هذا النطاق مجرد استخدام القوة الناعمة الى استخدام ما وصفته بعض الأوساط الأكاديمية بالقوة الحادة حيث يبدو أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لديه تطلعات جديدة في أفريقيا. وهذا يتماشى مع رغبته في إعادة روسيا إلى وضع القوة العظمى من قبل الشركات العابرة للقارات وهو جزء من استراتيجيات القوة الروسية التي تراوح بين النعومة والحدة في سعيها الى تعزيز هيمنتها على افريقيا.
التدريب على الاسلحة
وتتعدد المهام التي تضطلع بها شركة فاغنر في أفريقيا ما بين سياسية وعسكرية وأمنية وإعلامية، فإلى جانب المشاركة في عمليات القتال في الخطوط الأمامية، توفر الشركة الروسية التدريب على الأسلحة ودعم الشرطة وأجهزة الاستخبارات المدنية وعمليات التأمين الشخصي لكبار الشخصيات السياسية. ويأتي ذلك في إطار مساعي روسية من خلال انتشار قوات فاغنر واتجاهها نحو التوسُّع في إنشاء بيئة أمنية جديدة في الدول الأفريقية تُمكّن عدداً أكبر من الشركات الروسية من إقامة المزيد من المشاريع الاستثمارية في مجالات مختلفة. أضف إلى ذلك، مساندة فاغنر لبعض الأنظمة الحاكمة الأفريقية في الاستحقاقات الانتخابية عبر وسائل التواصل الاجتماعي والصحف كما هو الحال في مدغشقر، إلى جانب تقديمها استشارات سياسية للحكومات الأفريقية.
وتنشط أيضًا في مجال المعلومات ومحاولة توجيه الرأي العام داخل الدول الأفريقية. وذلك من خلال استغلال تأثير مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تمتلك فاغنر 7 حسابات على Instagram و73 صفحة على Facebook بلغ عدد متابعيها أكثر 1.72 مليون حساب. وبعض تلك الصفحات يستهدف ليبيا، ويستهدف بعضها دولاً أخرى مثل أفريقيا الوسطى والكونغو الديمقراطية ومدغشقر وموزمبيق والسودان. ففي ليبيا بدأ نشاط صفحات Facebook في ديسمبر 2018. وفي السودان بدأ في منتصف عام 2018، واستمر بعد الإطاحة بالبشير، وجاء المحتوى داعمًا للحكومة، ومُنتقدًا المتظاهرين في بعض الأحيان. وفي مدغشقر بدأ النشاط في فبراير 2019 بعد تنصيب الرئيس الجديد، وداعمًا له وللحكومة. أما في موزمبيق فبدأ النشاط في سبتمبر 2019، بحيث قدَّم الدعم للرئيس الحالي، وهاجم المعارضة السياسية.
ويعتبر توسُّع فاغنر في أفريقيا مدفوعًا بمنطق تجاري أكثر منه سياسي، مع أنه يشمله كذلك، فالمكاسب المالية تدفع روسيا إلى تأكيد سياسة خارجية جديدة لها في أفريقيا. وتفيد التقارير بأن شركة فاغنر أضحت تسيطر على المزيد من الحقوق والامتيازات في مجالات متعددة مثل التعدين والنفط، وذلك مقابل الخدمات التي تقدمها للبلدان الأفريقية، ومنها حماية الأنظمة الحاكمة هناك، وهو ما يسوِّغ وجود فاغنر في البلدان الأفريقية التي تتميز بضعف الحكم الديمقراطي، وارتفاع مؤشرات الفساد حتى تستطيع الحصول على الحقوق والامتيازات بأقل قدر من الرقابة في تلك البلدان.
وتنشط فاغنر في عدد من مناطق النزاع في أفريقيا، خاصة في ضوء الطلب الكبير على الأمن فيها. وقد كان لصعودها الكبير في بعض دولها الدافع نحو نشر روسيا لآلاف العناصر التابعة لها في أكثر من 20 دولة أفريقية.
وتتباين درجة وقوة نشاط وانخراط فاغنر في بعض دول القارة بين مستويات خمسة، أعلاها المستوى الخامس ويضم دول السودان ومدغشقر وأفريقيا الوسطى، يليها المستوى الرابع الذي يضم دول جنوب أفريقيا وزيمبابوي وليبيا، بينما يضم المستوى الثالث جنوب السودان، فيما يضم المستوى الثاني دول تشاد والكونغو الديمقراطية وزامبيا، ويشمل المستوى الأول وهو الأقل انخراطًا دول أوغندا وغينيا الاستوائية ومالي ومصر.يذكر ان فاغنر، كانت قد نشرت في سبتمبر 2019 ما يتراوح بين 800-1200 عنصرا من مقاتليها بهدف ترجيح كفة الصراع لصالح الجيش الوطني الليبي، وتعزيز النفوذ الروسي في المنطقة، وضمان لعب روسيا دورًا في أي تسوية مقبلة.ولئن ابدى بعض القادة الأفارقة القبول بمثل هذا النوع من الدعم الذي تقدمه شركة فاغنر من أجل توطيد سلطتهم وإخماد أي حركات للتمرد والمعارضة كما حصل في السودان إبَّان حكم نظام البشير، الا ان الولايات المتحدة الامريكية تضع شركة فاغنر في المرتبة الثانية بعد التنظيمات الإرهابية كتهديد لمصالحها في القارة الأفريقية. بينما تحذر فرنسا من الوجود العسكري الروسي المتزايد في الدول الأفريقية، باعتباره يسهم في تأجيج التوترات والصراعات كما هو الحال في أفريقيا الوسطى. ووجهت باريس اتهامًا لشركة فاغنر في يناير 2019 بسبب ترويجها خطاباً مناهضاً لفرنسا في أفريقيا الوسطى ومنطقة الساحل والصحراء.