كابوس قديم يتجدد بالنسبة لموظفي القطاع العام في العراق، بعد إعلان اللجنة المالية في البرلمان العراقي، أن الحكومة لن تكون قادرة على دفع أجور الموظفين لشهر تشرين الأول، وذلك في أزمة هي الثانية من نوعها خلال أقل من شهرين.
وكانت الحكومة العراقية قد عجزت عن دفع أجور الموظفين خلال شهر أيلول الماضي، ما أدى إلى تأخرها لمدة 45 يوماً عن موعد تسليمها، الأمر الذي أثار موجة عضب عارمة بين العراقين.
بين القروض والفساد .. ثروات ضائعة وموظفين بلا أجور
حديث اللجنة المالية حول أزمة الأجور، لم يخل من الحل المثير للجدل، مشيرةً إلى أن الحكومة يمكنها الحصول على قرض قريب الأجل، ما يمكنها من دفع الأجور حتى نهاية العام، لا سيما وأن قيمة القرض لن تكون كبيرة مقارنة بالدخل الوطني، على حد قولها.
تعليقاً على مقترح اللجنة بالاقتراض، يعتبر الباحث والمحلل المالي، “أمين الجلبي” أن العراق لا يمكن أن ينتعش بالحلول الإسعافية أو الوقتية، لافتاً إلى أن الحصول على القرض سيحل المشكلة لمدة شهرين أو ثلاثة، لكنها ستعود مجدداً فيما بعد.
إلى جانب ذلك، يضيف “الجلبي” في تصريحات لمرصد مينا: “المشكلة ليست في توفر الثروة أو الأموال وإنما في سوء الإدارة، العراق واحد من أكبر الدول المنتجة للنفط على مستوى العالم، وتراجع أسعار النفط عالمياً لا يؤدي إلى الأزمة الحاصلة اليوم، والتي تمس كافة جوانب الحياة”، مشيراً إلى أن مشاكل العراق، خاصةً المالية منها لا يمكن أن تحل بالقروض وإنما في مكافحة الفساد وفك الارتباط السياسي بالنواحي الاقتصادية والمالية.
تأكيداً على حديث “الجلبي”، يلفت مصدر خاص بمرصد مينا، إلى أن الإدارة المالية في العراق لا تخضع من الناحية الفعلية لسلطة الحكومة المطلقة، حتى وإن كانت شكلياً تبدو هكذا، مشيراً إلى أن مجموعة من المنتفذين والمدعومين من الميليشيات هم من يتحكمون بالسياسة المالية، عبر المصرف المركزي، بما يمكنهم من تهريب مئات الملايين من الدولارات يومياً.
وكانت تسريبات سابقة قد كشفت عن تورط مسؤولين في البنك المركزي العراقي، بتمويل صفقات استيراد وهمية بقيمة 200 مليون دولار من عائدات النفط بشكل يومي، مشيرةً إلى أن تلك الأموال كان تودع عبر مستوردين وهميين في المصارف الإيرانية، على الرغم من أن القانون العراقي، لا يسمح بتمويل المستوردات يومياً بأكثر من 75 مليون دولار.
في السياق ذاته أكد المصدر أن الحكومة لن يكون لديها القدرة على ضمان عدم تعرض القرض المزمع الحصول عليه، لعمليات فساد، لافتاً أن كافة الخطوات الإصلاحية مهما كانت جديتها؛ لا يمكن أن تأتي بأي نتائج طالما بقيت منظومة الفساد واستمر تسلط الميليشيات على مقدرات العراق المالية.
كما يؤكد المصدر الخاص، أن أزمة أجور الموظفين في القطاع العام وارتفاع المديونية والعجز في الموزانة وتصاعد معدلات الفقر والبطالة وتدني الخدمات، كلها إفرازات لمنظومة حاكمة وإدارة فاشلة، مشدداً على ضرورة أن تكون الحكومة أكثر قوة وصرامة تجاه الممسكين بزمام العملية الاقتصادية في العراق.
أزمات متراكمة وعراقيون جائعون قد يفترشون الشوارع
نظراً لسوء الحالة الاقتصادية عموماً وارتفاع الأسعار وتحول الكثير من أساسيات الحياة إلى كماليات أو رفاهيات، يشير الموظف في إحدى وزارات الدولة، “أحمد رسول” إلى أن كل تفكيره بات محصوراً في كيفية تأمين الأجار الشهري لمنزله والفواتير الشهرية في ظل عدم استلامه لمرتبه، مضيفاً: “الجوع بات شيئاً عادياً بالنسبة لنا، قد نأكل أي شيء لنسد رمقنا، ولكن أصحاب المنازل، التي نستأجرها والفواتير، التي أثقلت كاهلنا كيف لنا أن نتدبر أمرها، لا عمل إضافي متوفر ولا قطاع خاص يؤمن وظائف بأجور جيدة”.
تحت رحى الضغوط الاقتصادية والمعيشية، يؤكد “رسول” أن عشرات الآلاف من الموظفين في القطاع الحكومي، مهددين بالطرد من منازلهم خلال الأشهر القليلة القادمة، مشيراً إلى أن مظهر المشردين في الشوارع العراقية سيتحول خلال الفترة المقبلة إلى مشهد اعتيادي كما هو حال مظاهر التسول والجوع والفقر، إن لم تتمكن الحكومة من وضح حد لهذا التدهور الاقتصادي على حد قوله.
وبحسب البيانات الرسمية للحكومة العراقية، فإن إجمالي أجور الموظفين والمتعاقدين في العراق يصل إلى 5 مليارات دولار شهرياً، في حين أن دخل النفط خلال الأشهر الماضية، لم يتجاوز 3.5 مليار دولار على أساس شهري.
ليس بعيداً عن “رسول”، تقول “سارة” الموظفة في وزارة التربية العراقية، لمرصد مينا: “أجري الشهري لا يتجاوز 400 دولار، وعلى الرغم من ذلك أنا لا أتقاضاه في موعده، كذلك هو حال زوجي، الذي يعمل معي، لدينا 4 أطفال، لا أدري من أين لنا أن نسدد تكاليف الحياة من مأكل وغذاء وأدوية وتعليم، في ظل هذه الظروف”، مشيرةً إلى أن زوجها اضطر إلى العمل سائق أجرة لفترة من الزمان، ولكنه اضطر بعدها للتوقف عن العمل، بسبب الحالة الاقتصادية للعراقيين عموماً، والتي تجبرهم على تجنب استخدام سيارات التاكسي قدر الإمكان.
إحصائيات صادمة وخيال الطائفية يلوح في الأفق
معضلة أجور الموظفين، تفتح الباب أمام الحديث عن نفقات القطاع العام العراقي عموماً، وفقاً لما يقوله الخبير في الشؤون المالية والتنمية البشرية، “كرار النجيفي”، مشدداً على أن القطاع العام في العراق يعاني من إهدار كبير في الأموال سواء من جهة الانفاق الحكومي العام أو سياسات التوظيف بشكل خاص.
كما يبين “النجيفي” أن نفقات القطاع العام منذ عام 2003 وحتى 2020، تستهلك ما نسبته 75 إلى 80 في المئة من إجمالي نفقات الدولة العراقية، لافتاً إلى أنها نسبة عالية جداً، خاصة في ظل غياب أي مشاريع إنمائية أو اقتصادية أو إنتاجية يديرها القطاع العام، بالإضافة إلى انعدام الخدمات في معظم مناطق العراق.
وسبق للبرلماني العراقي وعضو اللجنة المالية في البرلمان، “محمد الدراجي” أن وصف الوضع الاقتصادي في العراق بأنه “خطير جداً”، وهو ما جاء تزامناً مع إعلان اللجنة عن عجز الحكومة عن تأمين الرواتب.
الإصلاح الكفيل بحلحلة أزمات القطاع العام العراقي، من وجهة نظر “النجيفي”، لا يقتصر فقط على مكافحة الفساد فقط، وإنما يرتبط أيضاً بضرورة إصلاح آليات التوظيف، لافتاً إلى أن تدخل المحاصصة الطائفية في عمليات التوظيف، أدت إلى تضخم في عدد الموظفين غير اللازمين، والذين جاء توظفيهم فقط لمجرد تحقيق التوازن الطائفي ضمن وظائف الدولة.
ويضيف “النجيفي”: “تلك السياسة أدت إلى إرهاق ميزانية الحكومة وإنفاق مليارات على وظائف غير لازمة، والأهم هنا هو التأكيد على أن الاستمرار في التفكير بالتوازن الطائفي سيواصل استنزاف العراق وثرواته، وهدر مليارات الدولارات التي من الممكن استخدامها في مشاريع إنمائية تؤمن المزيد من فرص لعمل”، مشدداً على أن الثروة العراقية تستنزف بين فكي ثنائية الفساد والطائفية.
يشار إلى أن إحصائيات رسمية عراقية أظهرت ارتفاع اعداد العاملين في القطاع العام العراقي ثلاثة أضعاف منذ عام 2004 وحتى مطلع 2020، وأن قيمة الأجور الشهرية التي تدفعها الحكومة حالياً زادت بمقدار 400 بالمئة مقارنة لما كانت عليه عام 2003.