تقدير موقف
منذ عشر سنوات إلا أشهر، تنحى الرئيس التونسي الأسبق، زين العابدين بن علي، وبدأ الربيع العربي، هذا العقد الزمني يشبه الجحيم من وجهة نظر بعضم، حتى أن شاعراً سورياً (منذر مصري) كتب مقال عنوانه “ليتها لم تكن”، في حين أن هناك من اعتبره “مخاضاً صعباً وطويلا”.
مشاهدات للربيع العربي
الملاحظ بين وجهات النظر تجاه هذا الحدث التاريخي، غياب التفاؤل “الثوري” الذي طبع بدايات ما عُرف باسم الربيع العربي، هذا التفاؤل الذي كان يمني النفس “بنصر قريب” على الدكتاتوريات، يليه عصر الحداثة العربي بمفرداته: الديمقراطية والحرية والتنمية والكرامة والعدالة الاجتماعية وغيرها من الشعارات التي حلمت الشوارع العربية بتحقيقها، فاستحالت شوارعها خراباً، أصبحت معه الحربان الأهليتان اللبنانية والعراقية، وهما اللتان كانا يضرب بهما المثل سابقاً، باعتبارهما مثالين سيئين للفوضى التي تخيف الجماهير من الوصول لمصائرهما، فأصبحتا حلماً صعب المنال لبلدان مثل سورية واليمن وليبيا، في حين عادت مصر إلى دكتاتورية أشد من دكتاتورية مبارك؟! وتبقى تونس اليوم تمشي على ألغام لا يُعرف مصيرها. دون أن ننسى بطبيعة الحال فلسطين التي كانت هي الأخرى مثالاً تخشى الجماهير العربية من الانزلاق له، سواء على مستوى الحرب الدائمة والمفتوحة ضد الشعب الفلسطيني، أو من ناحية كونها آخر استعمار مباشر في العالم.
في حين أن بعض الشعوب، باتت وهي تقارن بين مستوى العنف الذي تتعرض له من أنظمتها والعنف الإسرائيلي، وبين “الديمقراطية الإسرائيلية” وممانعة الدكتاتوريات العربية أمام أية انتخابات مهما كانت شكلية، لتصبح المقارنة لصالح إسرائيل، لينكسر بذلك واحد من أبرز المحرمات في الوعي العربي، وهو ذو حدين إيجابي وسلبي، يتمثل الإيجابي فيه بكسر احتكار السلطات العربية للقضية الفلسطينية، وكسر سردية الأنظمة تجاه هذه القضية أيضاً بعد اكتشاف مدى النفاق والكذب التي مورس باسم القضية والذي تعبر عنه مقولة حافظ الأسد لبيير الجميل، مؤسس حزب الكتائب اللبنانية، “ضع فلسطين على لسانك وعلّق المشانق“، في حين يتمثل السلبي فيه، في الخوف من أن تكون هذه السرديات مقدمة لكسر في الوعي العربي تجاه إسرائيل عبر السعي لقبولها كوضع طبيعي في المنطقة على حساب الحق الفلسطيني التاريخي، بما يعني الذهاب أبعد من ذلك، بحيث يكون قبول إسرائيل مقدمة لقبول احتلالات كثيرة باتت تجد في أرض “الربيع العربي” مستقرا لها.
دون أن ننسى أيضاً أن المسارات السودانية والجزائرية لم تصل إلى مستقر بعد، في حين نجح المغرب في إجهاض ربيعه، ويبدو أن السلطات الأردنية تتجه نحو خيار مماثل بعد قرارها الأخير بإجهاض حراك نقابة المعلمين بحجة أنها تتحرك من وحي الإخوان المسلمين، الذين اتخذت السلطات بحقهم قرارات قاسية، ما يجعل من لغة القوة والسلطة هي اللغة السائدة في علاقة السلطة مع جماهيرها عربياً.
هل التغيير بات مستحيلاً؟
إن تأمل الخراب العربي واليأس الساكن في النفوس من إمكانية التغيير، ليس لدى سكان أهل المنطقة فحسب، بل أيضا لدى الأخرين من خارج المنطقة، من دول وسلطات وحكومات ومختصين، يؤكد لنا أن الوصول إلى تلك اللحظة بات حلماً، إذ بتنا محاصرين بين عودة الاستعمار أو الانتداب أو الحروب الأهلية المتنقلة أو عودة الدكتاتوريات، بل أبعد من ذلك، باتت تجارب مثل التجربة التونسية في موقع لا تحسد عليه، وهو ما يعكسه عموماً الانسداد التاريخي والحلقة المفرغة الذي تجد تونس نفسها محشورة به بين استقطابات متعددة (الصراع الطبقي الحاد، صراع المحاور الإقليمية، الصراع العلماني الإسلامي، الهجرة والبقاء، صعود الشعبوية السياسية..) تبعدها عن طريق الانتقال الديمقراطي الذي تسعى القوى الدولية والمحاور الإقليمية لإجهاضه، وهو الأمر الذي يتلاقى مع تراجع الديمقراطية إقليمياً ودولياً، حيث ينحط النموذج التركي الذي طالما كان واعداً نحو دكتاتورية أردوغانية تقترب من النموذج الإيراني بنسخة سنية، في حين أن النموذجين الصيني والروسي يسعيان للتمدد عالمياً بكل تركتهما الشمولية الثقيلة في سعي واضح لملئ الفراغ الأميركي، ليس على مستوى الاقتصاد فحسب، بل أيضاً على مستوى الأفكار ونماذج الحكم.
محاولة لتفسير ما حدث!
الأسئلة المطروحة اليوم، لم تعد تتعلق بالخلاص الذي بات بعيداً، ولا بدحر الدكتاتوريات ولا باستعادة العدالة الاجتماعية والحرية والكرامة، بل تتعلق بالأمن والأمان بالحد الأدنى (هل هذا ما سعت له الدكتاتوريات العربية ومن يدعمها ونجحت في ذلك؟)، وبمحاولة فهم ما حصل ولماذا حصل؟ فليس أمامنا سوى محاولة تفسير ما حدث وفهمه أولاً، ومحاولة تلمس معنى وطبيعة وممكنات اللحظة التي نقف فيها اليوم عربياً وعالمياً بعد سنوات من “الربيع العربي”. هذه المحاولات للفهم منها:
أولاً: سلطات متوحشة
كشفت مسارات الربيع العربي، مدى توحش السلطة العربية وقوتها من جهة، ومدى غربتها عن مجتمعاتها التي باتت تتعامل معها كرعايا عليهم الطاعة فقط لا غير. كما كشفت أننا نعاني فواتاً تاريخياً وحضارياً، فنحن عملياً أمام سلطات لم تغادر وعي القرون الوسطى، فما شهدناه من عنف وتوحش فاق التصور والحدود، إلى حدّ بات التساؤل معه مشروعاً: أين كان يختفي كل هذا العنف؟ كيف تمكنت السلطات التي قدمت نفسها، باعتبارها “تقدمية” و”علمانية” و”تحديثية” من التغطية على جوهرها؟ كيف أصبحت سلطاتنا بمثل هذا التوحش الذي لم نره موهمة إيانا بعكسه؟ وهنا ما عاد تبرير الأمر بتوحش السلطة واستبدادها وطبيعتها كافياً، إذ لا بد من الغوص عميقاً في معنى ومبنى السلطة في العالم العربي: كيف تأسست؟ ومتى تشكلت؟ وهل تختلف في العمق عن المعنى العميق لمفردة السلطنة والمملكة والإمارة التي كانت مفردات لعصر سبق، بكل ما تحمله رمزياً من غياب عن الحداثة ومفرداتها؟
ثانياً: دور النخب العربية في الحدث!
ما كان للسلطة العربية أن تقدر على تسويق نفسها وإخفاء ما تحت حجابها، لولا سقوط وهزال وخواء النخب العربية، سواء كانت نخب تنتمي إلى الحقل المعارض للسلطات العربية أم الحقل الثقافي، حيث بينت مجريات السنوات العشر الماضية أننا أمام نخب عاجزة متناحرة ومفوّتة تاريخياً، إلى درجة أنها لا تعرف الأرض التي تعيش عليها، ولا تعرف ممكنات الواقع العربي واستحالاته، فجعلت من المستحيل واقعاً ومن الواقع خراباً بسوء سياساتها وتقديراتها التي لم تغادر الحقل الإيديولوجي الرث نحو حقل الواقعية السياسية التي عملت السلطة على تدمير إمكانية حدوثها واقعاً كي نكون منصفين.
النخب أيضاً وجدت نفسها بين براثن الاستبداد وداخل مرمى السلطة التي عملت على تكوين العقل الجمعي، ليس لمجتمعاتها فحسب، بل أيضا لنخبها التي باتت، حتى وهي من موقع معارضتها السلطة، تفكر بعقل السلطة نفسه، بما يعني أن المعارضة كانت سياسوية فقط، دون أن تطال العمق الذي تستند له السلطة من جهة، ودون أن تطال الأبعاد الاجتماعية والثقافية والدينية للمجتمع الذي آثرت المداهنة والنفاق له، في حين عملت السلطة على مدى عقود على تفخيخها وهندستها وفق ما أرادت، بحيث حولتها لأداة في يدها حتى وهو تثور عليها، فكان من عارضها مساعداً لها في تحقيق مآربها، دون أن تكسبه النخب المعارضة التي وجدت نفسها في نهاية المطاف بين شارع لا تعرفه وليس لها أدنى صلات معه وبين سلطة ممسكة بكل مفاتيح اللعبة العسكرية والسياسية، فخسرت معركتها، إما لصالح السلطة كما في مصر مثلاً أو في الحرب العسكرية التي حيّدتها لصالح قوى إقليمية ودولية لها مصالحها التي ليس لهذه المعارضات مكاناً فيها، فكان أن استغلت المعارضة مرتين، مرة من قبل السلطة ومرة من قبل القوى الدولية والإقليمية التي حققت مآربها على حساب هذه النخب، الأمر الذي يعكس لنا حجم المأزق العربي، فبعد عشر سنوات من الدمار والخراب، نحن أمام خواء فادح، فلا راكمنا تقاليد سياسية في شيء ولا امتلكنا حتى سلطة لها من الاسم معناه، حيث انحطت سلطاتنا إلى ما هو أدنى من مفهوم القبيلة والعشيرة، حيث أصبحنا أمام حرب عائلات بالمعنى الحرفي للكلمة (صراع الأسد/ مخلوف) بما يعكس مدى انحطاطنا وتراجعنا، وهذا ناجم عن غياب التفريق لدينا بين الدولة والسلطة.
ثالثاً: غياب الدولة لصالح السلطة
إن دراسة تاريخ السلطة العربية وتاريخ الدولة العربية، يبين لنا أن النماذج العربية التي كانت واعدة بعد رحيل الاستعمار وفي مرحلة الاستقلال العربية لجهة بناء الدولة قد تراجعت وانحطت بالتدريج منذ لحظة سقوط الليبرالية العربية في خمسينات القرن الماضي، وهي الليبرالية التي نشأت ونمت في شكل من الأشكال في ظل الاستعمار، حيث تم العمل على إجهاض كل المكتسبات والتراكمات التي حصلت في المرحلة الليبرالية العربية التي سقطت تحت تأثير عدة عوامل منها: الموجة الثورية التي أطلقتها ثورة أكتوبر في العالم، الجهل والتخلف السائد عربياً، وعدم وعي النخب الليبرالية لحاجات مجتمعاتها من جهة وممكناتها من جهة أخرى، بحيث أن الحرية دون بعد اقتصادي اجتماعي لا تعني للجماهير المفقرة شيئا.
هذا ما نراه ماثلاً في التجربة التونسية التي حققت انتقالاً ديمقراطياً وسياسياً بشكل ما، وجزئياً في التجربة السودانية، في حين أن عدم قدرة السلطات الجديدة على تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية وفرص العمل يهدد هذا الانتقال في العمق، لصالح ظهور الشعبويات التي بدأت تطل برأسها وتهدد عمل المؤسسات والحياة السياسية، مستفيدة بذلك من دعم الخارج الذي شكل أحد أهم محطات عدم ولادة الدولة العربية، فهذا الخارج (المستعمر السابق) كان مدركاً أن تخليه عن مناطق استعماره السابقة، يعني موته، لذا عمل منذ لحظة خروجه على البقاء بطرقه غير المباشرة، والتي كان منها، منع تشكل الدولة القوية لصالح نظم تحكم بالوكالة، وهكذا تم العمل تدريجياً على إجهاض مفهوم الدولة لصالح مفهوم السلطة الذي ابتلع الدولة وأجهض مؤسساتها، وبما يجعل من السلطة العربية تحت رحمة الخارج وحمايته.
ولعل ما يؤكد هذه الفرضية (دور الخارج في منع تشكل الدولة) توّحد طرفي الحرب الباردة، رغم اختلاف رؤيتهما السياسية للاقتصاد والعالم على منع ولادة الدولة العربية التي لم تجد طريقاً لها، لا في البلدان التي وقفت مع المعسكر الاشتراكي ولا في البلدان التي وقفت مع المعسكر الغربي، بما يعني أن الدولة العربية الحديثة لم تولد أساساً، بل نمت نماذج مشوّهة انتهت إلى سلطات مشوّهة بدورها، عادت لتستدعي الخارج مجدداً حين تعرضت عروشها للتهديد، وقد هرع هذا الخارج مجدداً لحماية مصالحه، ولكن هذه المرة، ويا لمفارقات القدر، عبر حضوره المباشر، أي عودة الاستعمار، إنما بطريقة “حداثية” و”قانونية”!
رابعاً: عودة الاستعمار
لو تأملنا خريطة العالم العربي اليوم، لرأينا التالي: قوات أمريكية في سورية والعراق وليبيا والأردن ومنطقة الخليج، قوات روسية في سورية وليبيا، قوات تركية في سورية والعراق وليبيا وقطر والصومال والسودان، ميليشيات إيرانية في كامل البلاد العربية، قوات فرنسية ذات حضور جزئي هنا وهناك… بما يعني أن الاستعمار عاد مجدداً إلى البلاد العربية، وبالصيغة التقليدية، وبطرق “مشرعنة قانونياً”، تأخذ من الاتفاقات العسكرية (روسيا في سوريا، تركيا في ليبيا…) أو من محاربة الإرهاب (أمريكا في سورية) أو بسط الأمن حجة لها.
وقد توازت عودة الاستعمار هذه مع عملية “ملشنة” الدولة، فمنذ تفكيك الجيش العراقي على يد “بول بريمر” والجيوش العربية تتفكك واحداً تلو الأخر، على يد هذا الاستعمار والخارج، وما تبقى منها تحوّل إلى ميليشيات بالمعنى المباشر للكلمة، بما يعني أن لحظة الربيع العربي انتهت في كثير من محطاتها إلى عودة الاستعمار، وهذا ناجم عن تحول وانحطاط في السياق العالمي، فما نراه اليوم من تحولات عالمية ليست إلا نكوصاً عن الحداثة التي عرفها العالم، وكأن العالم يعتذر عن حداثته التي تبدو استثناء في تاريخه إذا نظرنا إلى موقع فترة الحداثة ضمن تاريخ العالم على المدة الطويلة وفق ما يقول الراحل، محمد أركون.
خامساً: التخلف الاجتماعي!
مما يميز الراهن العربي الآن، هو تعاظم وقوة الممانعة الداخلية للحداثة ومفرادتها، فما جرى، والنتائج التي وصلنا لها، لا يمكن فهمها بدلائل قوة السلطة وغياب الدولة وعودة الاستعمار وحدها، إذ لا بد من معرفة تقادم وسقوط وتخلف الثقافة السائدة عربياً، والتي شكت ممانعات داخلية بوجه غياب التغيير الحقيقي حتى وهي تنادي بالتغيير.
فالمطالبات والشعارات المرفوعة تتوقف عند الشق السياسي عربياً، وإذا غامرت، فإنها تتقدم نحو الشق الاقتصادي، في حين أن الحقل الاجتماعي يبقى كما هو مستعصياً على الحداثة ومفرادتها، فهو حقل لا يزال محتلاً من قبل السلطة الدينية التي تتحكم به بمساعدة السلطة السياسية، وأيضاً من قبل التقاليد العشائرية والعائلية والقبلية التي تقف بوجه الحداثة ومفرداتها.
ولكي نعرف حجم التخلف هنا، لم نجد طوال السنوات العشر الأخيرة، وفي خضم الربيع العربي، مطالب واضحة وذات دلالة عميقة بشأن تحديث القاع الاجتماعي العربي، بل على العكس وجدنا انحطاطاً وتراجعاً نحو مستويات غير مسبوقة، حيث سادت المحاكم الشرعية في سورية في ظل هيمنة الإسلاميين، وطبّق حزب الاتحاد الديمقراطي قوانينه القومية التي لا تخلو من شوفينية ما في شمال شرق سورية.
وهذا كله في نهاية المطاف يشكل ممانعة أمام التغيير الحقيقي الذي بات بعيداً، إضافة إلى غرق العالم العربي في مماحكات تبدو أحياناً استئصالية أكثر منها حوارية، فلا مكان هنا للحوار والتلاقي بين الخصوم السياسيين، بل الاستئصال هو الخيار الوحيد، وذلك في الوقت الذي يتحدث فيه الجميع عن الديمقراطية.
ولعل من يتأمل الصراع العلمانوي الإسلاموي عربياً، وفي أكثر من ساحة يدرك معنى ما نتحدث عنه، إذ لم يتمكن الطرفان منذ نصف قرن تقريباً من إيجاد حلول تدفع كل منهما لقبول الأخر ضمن اللعبة السياسية، فما إن يصل أحدهما السلطة، حتى يفكر باحتكارها، ليس مقصياً الطرف الأخر فقط، بل متهماً إياه بالإرهاب دفعة واحدة، ومن ثم إرساله للمنافي والسجون.
سادساً: الدور الإسرائيلي والخارج الإقليمي
في بداية الربيع العربي كان العقل العربي الشعبي والنخبوي أيضاً، يسخر من علاقة إسرائيل بالربيع العربي أو دورها به، حين كانت السلطات العربية تتحدث عن “مؤامرة إسرائيلية أميركية”، وهي في حقيقة الأمر سخرية في مكانها، فقط إذا كانت موجهة ضد نوايا السلطات من استخدام هذه السردية التي لا تنفي حقيقة وقوف إسرائيل ضد الربيع العربي، ولعبها دور مركزياً في إجهاض آمال الحراك العربية، فالدور الذي لعبته سواء بشكل مباشر أو عبر الوساطة، يوضح أنه لا يمكن أن ينجح أي حراك في المنطقة دون أخذ العامل الإسرائيلي بعين الاعتبار، وبالتالي دون وجود آليات لتحييده أو موافقته على شكل ونوع الانتقال وأثره على القضايا العالقة في الصراع العربي الإسرائيلي، خاصة فيما يتعلق بدول الطوق والحدود الثالثة لإسرائيل.
هذه حقيقة تغيب عن السجال السياسي العربي الراهن فيما يتعلق بفشل الربيع العربي، والأسوأ أنه غياب متعمّد لعدم جرأة أحد في الحديث عنها علنا وبصراحة وعبر لعبة المصالح والممكنات، وذلك لتخوف الجميع من رد الفعل الشعبي تجاه أي رأي يطرح هنا.
يضاف إلى المسألة الإسرائيلية دون شك دور الخارج الإقليمي الذي لعب دورا بارزاً في سياق فشل الربيع العربي، إذ كما يستوجب الأمر أخذ العامل الإسرائيلي بعين الاعتبار، فإن ما جرى عربياً، يؤكد أن لا إمكان لنجاح ربيع عربي في المنطقة دون أخذ مواقف ثلاث قوى منه بعين الاعتبار، هي منطقة الخليج وتركيا وإيران، فنحن أمام قوى (مضافاً لها إسرائيل) تتنافس على موقع القوة الإقليمية الأقوى من جهة، وعلى منع نشوء مركز عربي قوي ينافسها، ناهيك عن كونها كلها نماذج معادية للديمقراطية التي تخشى تمددها إلى بلدانها حال نجحت واستقرت عربيا، الأمر الذي يشكل انسداد إقليميا لا يمكن تخطيه مهما بلغت الآمال والتضحيات.
سابعاً: تراجع أمريكا وانحطاط نموذجها وضعف الاتحاد الأوروبي!
طالما شكلت واشنطن كرافعة للعالم الغربي وقائدة للمعسكر الديمقراطي، ولهذا ارتبط النموذج الأميركي ومعه الأوروبي تاريخياً بمسألة الديمقراطية في أذهان الكثير منا على هذا الكوكب. ولكن مع وصول ترامب وتذبذب السياسة الأميركية الخارجية وانسحابها من أكثر من منظمة دولية وإعلانها عدم رغبتها بلعب دور شرطي العالم بعد اليوم، إضافة إلى انكشاف حجم العنصرية والتفاوت الطبقي وترهل النظام الصحي وارتفاع مستويات الفقر داخل أمريكا، ما شكل تراجعا للنموذج الأميركي.
ما سبق ذكره يسمح لنا بالقول بأننا نعيش حاليا لحظة تراجع وانكفاء للإمبراطورية الأميركية، وهذا انعكس سلباً على كل العالم، خاصة في ظل عدم تحول الاتحاد الأوربي بعد إلى قوة مستقلة بذاته لتملأ هذا الغياب الأميركي الذي يجري التنافس على ملئه.
ولسوء حظنا أن التنافس على أشده في منطقتنا، ولهذا فإن منطقتنا تدفع حالياً ثمن الانكفاء الأميركي من جهة، وثمن تراجع المسألة الديمقراطية عالمياً، حتى داخل أميركا، حيث رأينا كيف أن “ديمقراطية البيض” هي الفاعلة فقط، بما يفرغ الديمقراطية من محتواها، هذه الديمقراطية التي لم تستطع حماية السود والملونين والأقليات والمهاجرين والنساء. والمفزع في الأمر أن الأمر تزامن مع صعود عالمي للشعبوية، حيث بتنا نرى تنافساً حاداً بين الشعبويات بدل أن نجد تنافساً بين الديمقراطيات، يوازيه صعود حاد للخطابات الهوياتي الديني والذي تمثل مسألة إعادة أيا صوفيا في تركيا مسجداً أحد أبرز وجوهها.
أخيــــراً
هل وصل الربيع العربي إلى طريق مسدود؟ وهذا ليس وليد “المؤامرة” أو القدر، فما جرى هو أمر تاريخي بحت، يقرأ في سياق أحداث التاريخ وتفاعلاتها، حيث ثمة قوى متنافسة وبنى سياسية واقتصادية واجتماعية وواقع جيوسياسي لا يمكن القفز فوقه.
وقد جاءت اليوم جائحة كورونا، لتزيد الطين بلة، حيث منحت السلطات المستبدة عربياً والسلطات المتحكمة بمصير العالم أداة جديدة للهيمنة على البشر وتطويعهم، بما يعقد ويصعب الطريق العربي الطويل نحو الديمقراطية، هذه الديموقراطية التي لن تولد؛ ما لم يتم قراءة الحدث جيداً والاستفادة منه، فهل نفعل؟
تجاربنا في القراءة منذ عصر النهضة حتى اليوم، أثبت فشلها مرارا للأسف، وهذا أمر يضع عقبة أخرى تكمن في العقل العربي ذاته، فهل يوجد عقل عربي أساساً؟ هذا ما يحتاج لوقفة أخرى.