إن قدرة النظام السوري على البقاء على الرغم من كثير من الخسارات التي مني بها، بدءاً من فقدانه كثيراً من قوته وعناصر جيشه وسيادته على الأرض إلى فقدانه عدداً من الأوراق التي كان يملكها، تطرح أسئلة كثيرة عن أسباب هذا البقاء أو “الصمود” (بلغة النظام) في الوقت الذي رحل فيه بعض رؤوس النظم الأخرى (تونس، مصر، القذافي..)، من دون أن يمس ذلك طبيعة النظم القائمة في تلك البلدان، إذ تمكنت الثورة المضادة في تونس ومصر من الإمساك بمقاليد السلطة، في حين ذهبت ليبيا واليمن نحو حرب أهلية ضروس أدت أحداثها الدرامية والمتعاقبة إلى رحيل القذافي وعلي عبد الله صالح، وذلك من دون معرفة الوجهة التي يمكن أن تأخذها في المستقبل، فيما احتفظت سوريا بمسار، يمكن وصفه بالخاص حقاً، داخل مسارات الربيع، إذ نحن أمام ثورة تحولت إلى حرب أهلية، يبدو أنها اليوم في طور النهاية لمصلحة النظام السوري الذي تمكن رأسه (الأسد) من البقاء في مفارقة مذهلة، تجعل من الشعار الذي رفعه النظام عام 2011 يذهب أبعد من معناه، في تحول من “الأسد أو نحرق البلد” عام 2011 إلى “الأسد ونحرق البلد” عام 2018.
هذا الواقع، يجعلنا أمام أسئلة، سنحاول الإجابة عنها في بحثنا هذا، أسئلة تبحث في الأسباب التي ساعدت النظام السوري على البقاء حتى اليوم، وفي إمكان أن تساعده لاحقاً على تجديد نفسه كما حدث في ثمانينات القرن الماضي بعد حربه ضد الإخوان المسلمين، إذ خرج آنذاك منهكا وضعيفاً كحاله اليوم.
في بنية النظام السوري وطبيعته
سنتحدث عن أهم الملامح التي تشكل بنية النظام السوري وطبيعته، لأنها تساعدنا جيداً في فهم كيف استخدم هذه الطبيعة أو البنية خلال الثورة ووظفها في خدمة بقائه، أي كيف راكم عناصر القوة التي سمحت له بالبقاء.
وسندرس ضمن كل ملمح أو بند، كيف تفاعلت هذه الأمور خلال الثورة، أو كيف وظفها، ليخرج منتصراً بالتعاون مع القوى الإقليمية والدولية التي سهلت له ذلك، سواء من موقع الضد أم موقع التحالف.
(1): نظام طائفي أم استبدادي؟
كتب كثيراً حول ما إذا كان النظام السوري استبدادياً أم طائفياً، هل يشكل نوعاً من “علوية سياسية” كما قال وجادل المفكر الراحل صادق جلال العظم، أم أنه نظام يستغل الطائفة وكل شيء في خدمة بقائه، كما جادل المفكر سلامة كيلة في كثير من أبحاثه وكتبه ومقالاته أيضاً.
انتمى النظام السوري لحظة تكوّنه، إلى نظم الفاشستية الشعبية التي تشكلت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث كان الصراع بين معسكرين؛ الاشتراكي الذي يمثله النظام السوفياتي بصيغة الديمقراطية الشعبية، والرأسمالي الذي يمثله الغرب بصيغة الديمقراطية الليبرالية، أي إن هذا النظام كان نتاج الصراع العالمي بين قطبين من جهة، ونهاية عصر الاستعمار مع تصاعد موجات التحرر من جهة ثانية، وهزيمة المشروع الليبرالي العربي الذي لم يعطِ المسألة الاجتماعية الاقتصادية حقها، فتكوّن النظام جنينيًا في عهد الوحدة بين سوريا ومصر، إذ أُنهيت الحياة السياسية السورية لمصلحة جمال عبد الناصر الذي ذهب في إجراءات التأميم والإصلاح الزراعي خطوة متقدمة، استكملها لاحقاً حزب البعث العربي الاشتراكي بعد وصوله إلى السلطة عام (1963) بعد الانفصال عام (1961)، وهي الإجراءات التي أخذت بُعدها الكامل بين عامي 1966 و1970، حين كان صلاح جديد أحد رجال سوريا الأقوياء آنذاك، يمسك بمقاليد السلطة، قبل أن يطيحه الأسد عام 1970، ليخفف من الإجراءات اليسارية التي بدأها صلاح جديد، لمصلحة البورجوازية التقليدية التي تذمرت من التأميم، ما يعني أن نظام حافظ الأسد هو نتاج ما سبق كله، مضافاً إليه ما أضافه الأسد المعروف بحنكته ودهائه.
استناداً إلى ما سبق، فإن النظام لم يتشكل في أي وقت من الأوقات بوصفه نظاماً طائفياً أو نظاماً خاصاً بطائفة معينة، بل تشكل بوصفه نظاماً يحمل أيديولوجيا القومية العربية والطبقات الدنيا (حزب العمال والفلاحين) ومناصرة القضايا العربية والعالمية العادلة (المقاومة وتحرير فلسطين وحركة عدم الانحياز والتضامن العربي…)، وهي الأيديولوجيات التي سيحافظ عليها النظام لأن لكل منها وظيفة ما تخدم بقاءه، كما سنرى لاحقاً. إذاً لم يتشكل النظام طائفياً، ولم يكن كذلك، في أي لحظة من لحظاته، إنما هو نظام يمثل مصالح فئة معينة من الناس على حساب فئات أخرى. وطالما عمل النظام على توسيع قاعدة الفئات المستفيدة منه، سعياً لتوسيع قاعدته الشعبية، شرط ألّا يؤثر الأمر في امتلاكه السلطة. وضمن مساعي النظام للاحتفاظ بالسلطة، طوّع كل ما أمكن تطويعه لخدمة بقائه، ومن ذلك الطائفة التي ينتمي إليها رأس النظام، إذ لم تكن الطائفية التي استخدمها النظام طائفية تستهدف خدمة الطائفة، بل هي أداة لخدمة بقائه، يستخدمها كما يستخدم القومية والمقاومة والعروبة والتضامن العربي والوطنية، وكان لكل مفردة من هذه المفردات وظيفة ما.
وسنتحدث عن كل واحدة من هذه الأدوات التي استخدمها النظام بإيجاز:
1- كانت الأيديولوجيا القومية التي استخدمها النظام تستهدف التيارات القومية داخل سوريا وخارجها، ففي سوريا يوجد عدد من الأحزاب ذات التوجه القومي، وفي الخارج عدد من الأحزاب القومية، شكل هؤلاء خندقاً عريضاً يدافع عن النظام ويقف في صفه، ولعل موقف هذه الأحزاب اليوم مما حدث في سوريا، يوضح ذلك. وعليه فإن تبني النظام للأيديولوجية القومية كان يهدف إلى ضمان ولاء هذه التيارات التي توهمت أن النظام يدافع عن الخط نفسه الذي تنتمي إليه، فيما هو لا يهدف إلا إلى تعزيز سيطرته عبر استخدام أيديولوجية القومية ومناهضة الاستعمار والإمبريالية. وهو أمر ليس حكراً على المنطقة العربية فحسب، بل يمتد إلى مساحات كثيرة من العالم، إذ نجد عدداً من التيارات اليسارية في العالم تقف إلى جانب نظام الأسد باعتباره “يناضل” ضد “الإمبريالية”، وهم يعنون الإمبريالية الأمريكية فقط، علماً أن هناك عدد من الإمبرياليات الصاعدة اليوم، منها الروسية كما يؤكد مراراً الكاتب والباحث سلامة كيلة.
2- قدّم النظام السوري نفسه، بوصفه نظاماً مقاوماً، يدعم المقاومة ويقف في صفها، وهو ما تجلّى في دعم حركتي حماس وحزب الله ومناهضة المشروع الوطني الفلسطيني الذي طالما حملته منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة حركة فتح وياسر عرفات الذي طالما كان خصماً للأسد. هنا استغل النظام السوري المساحة التي تحتلها قضية تحرير الجولان (على الرغم من أنه كان السبب في خسارتها حين كان الأسد وزيراً للدفاع خلال حرب يونيو/ حزيران 1967) والقضية الفلسطينية في أذهان السوريين والعرب، بغية حصد الشعبية والمشروعية من خلال إظهار نفسه داعماً للمقاومة، في حين إنه يستغل ذلك للتغطية على جرائمه في الداخل، ولعل مقولته الشهيرة لمؤسس حزب الكتائب اللبنانية بيار الجميل (الجد): “ضع فلسطين على لسانك وعلّق المشانق”، خير دليل على ذلك.
في الوقت الذي كان نظام الأسد يقدم نفسه مناهضاً للمشروع الصهيوني، كان يقيم خطوطاً مفتوحة معه من تحت الطاولة، لإدامة معادلة “لا حرب ولا سلام”، لأنها المعادلة المفضلة التي تخدم الطرفين. فمن جهة نظام الأسد فإن بقاء هذا الصراع مفتوحاً يسمح له بتعليق قضايا الداخل كلها على شماعة إسرائيل، ويضمن بقاء أيديولوجيته باعتباره نظاماً مقاوماً قابلاً للتسويق (وهو ما نراه واضحاً في تسويق مقولة أن الأسد الأب مات ولم يوقع سلاماً مع إسرائيل، وهي تستخدم للإشارة إلى خيانة القادة الذين وقعوا من جهة، ولإظهار الأسد مقاوماً من جهة أخرى، في حين إن الأسد لم يكن في وقت من الأوقات يريد التوقيع على اتفاق سلام مع إسرائيل، لإدراكه أن نهاية نظامه ستبدأ في اللحظة التي يوقع فيها السلام، لأن الأصوات الداخلية التي تسكت على قمع نظامه بحجة إسرائيل وهي راضية بذلك ومقتنعة، لن تسكت بعد ذلك). من جهة إسرائيل فإن حاجتها إلى العدو تبقى قائمة ما دام المناخ العربي بعمومه غير راضٍ ببقائها بعد، وغير معترف بمشروعيتها. ولهذا ضمن النظام سكوت جبهة الجولان وضمان أمن إسرائيل من خلالها، مقابل إبقاء الصراع قائماً عبر حزب الله في لبنان ضمن محور إقليمي يضم طهران التي تستخدم بدورها القضية الفلسطينية أداة في معركة تمددها في الإقليم.
3- تحت ستار اعتباره نظاماً وطنياً وقومياً، حرّم نظام الأسد الحديث بالطائفية والعشائرية والإثنية، إذ حرم المجتمع والمثقفين من الحديث بهذه المسألة محتكراً إياها لنفسه، إذ خلق بخبث معادلة خاصة به، تتمثل في حديث وطني وقومي في مستوى الخطاب السياسي العام، إذ لم يتحدث أي مسؤول سوري بأي خطاب تفوح منه نكهة طائفية أو إثنية قبل عام 2011، في الوقت الذي تقوم فيه الأجهزة الأمنية سراً بدراسة المجتمع وطوائفه وقومياته وبث الفرقة بينها ومنع تلاقي الطوائف، بل منع الحديث العام في الطائفية أيضاً، أي كانت الأجهزة تعمل على الأرض على منع تشكل الوطنية السورية، وإبقاء السوريين في إطار القومية والدين والطائفة والجماعة والقبيلة، عمل النظام على حرق المجتمع السياسي كلياً عبر احتواء الأحزاب السياسية وسجن من لم يقبل الاحتواء واعتقاله، ثم رفع من شأن رؤساء القبائل وزعمائها، وربطهم به عبر لعبة تضمن ولاءهم مقابل محافظتهم على مصالحهم من جهة، وإبقائهم ورقة قابلة للتوظيف ضد الطوائف والأقوام الأخرى حين يحتاج إليها، أي مانعاً إياهم من التلاقي مع الآخرين، عبر العمل على تفرقتهم كلما حاولوا الالتقاء ضده، وبهذا حافظ النظام على المجتمع في مرحلة “تجاور طائفي” كما يقول الكاتب ياسين الحاج صالح، أو طوائف متكارهة وأقوام تتبادل الكراهية بصمت في ما بينها، فيما هو يدير اللعبة ويحافظ عليها لتفجيرها حين تتمرد عليه.
وهذا ما حدث فعلاً عام 2011، إذ لم تكد الثورة تنفجر ضده، حتى عمل النظام على الاستعانة بوجهاء الجماعات والأقوام والقبائل والطوائف لبدء خطة جهنمية، تقوم على ضرب مكونات المجتمع وطوائفه ببعضها، حتى لا تلتقي في مشروع وطني ضده، اتكأ النظام على الوعي ما دون الوطني الذي عمل على ترسيخه، هذا الوعي الذي حملته الفئات الدنيا والعظمى من المجتمع السوري، فكان أن صبغت الثورة بلونها بدلاً من الوعي الوطني، أي إن الطبقة الوسطى التي تتميز بكونها حاملة مشروعات التغيير (لتميّزها بمسألتين اثنتين هما الميسورية الاقتصادية والاستنارة المعرفية وفق ما يقول المفكر السوري الطيب تيزيني) كانت غير موجودة في سوريا. وهذه أيضاً إحدى القضايا التي عمل نظام الأسد عليها، لتكون أحد الأدوات المساعدة على بقائه.
من الاقتصاد المغلق إلى اقتصاد “المئة”؛ انهيار الطبقة الوسطى
عام 1950 انفصل النظام الاقتصادي السوري عن النظام الاقتصادي اللبناني الذي بقي محافظاً على الاقتصاد الحر المفتوح، فيما انحاز النظام السوري نحو النظام الاشتراكي الذي تكرس عمليا مع الوحدة السورية المصرية (1961) وتجذر مع وصول البعث إلى السلطة، حيث سينحو النظام نحو مزيد من التأميم والانغلاق بين عامي 1963 و1970.
الانغلاق وإجراءات التأميم أدت إلى هجرة عدد من الرساميل الاقتصادية وتذمر البورجوازية الوطنية، الأمر الذي تداركه الأسد الأب بعد انقلابه على صلاح جديد، ليكرس معادلة جديدة تقوم على استيلاد طبقة بوراجوازية لا تتدخل في السياسة مع احتكار السوق ضمن إطار الاشتراكية أو ما سمته أدبيات حزب البعث القطاع المشترك، مع إبقاء الأولوية للقطاع العام الذي سيبقى مهيمناً ومسيطراً على الحياة الاقتصادية السورية.
بعد عقد؛ أي عام 1980 كانت إجراءات الأسد الأب قد استنفدت اقتصادياً فتراجعت معدلات النمو، بفعل عوامل عدة، منها تنامي الفساد داخل أبناء الطبقة الحاكمة وتضخم مؤسسة الأمن والجيش وضغط التوترات السياسية والأمنية التي أصابت البلد (حرب الثمانينات ضد الإخوان والحرب الأهلية اللبنانية التي أصبح الجيش السوري طرفاً فاعلاً فيها)، ما اضطر النظام إلى اتخاذ بعض الإجراءات الاقتصادية نحو قليل من الانفتاح عبر مراسيم اقتصادية تنتهج التحرير الاقتصادي الجزئي، من دون أن يتمكن النظام من حل أزمته الاقتصادية، ما دفعه نحو مزيد من التحرير في تسعينات القرن الماضي عبر ما عرف بقانون الاستثمار رقم 10، وهو القانون الذي سن لأجل مصالح الطبقة الحاكمة التي اغتنت خلال عقود من نهب القطاع العام، فأصبحت بحاجة إلى توظيف أموالها المسروقة من خير الشعب بشكل شرعي، وهو ما أتاحه القانون رقم 10، لتصبح هذه الطبقة الأمنية شريكاً للبورجوازية التقليدية التي طالما خصّها الأسد بامتيازات خاصة، فبدأت هذه الطبقة ترى نفسها مقصاة لمصلحة الطبقة الجديدة التي امتلكت السلطة والأمن، وقد عبر بعض رجال الأعمال عن هذا التذمر علناً مع بداية الألفية الجديدة (مأمون الحمصي ورياض سيف)، فكان أن دفعوا أثماناً باهظة لقاء هذا التذمر (الاعتقال)، ليكرس هذا المسار بالتوجه الرسمي نحو اقتصاد السوق الاجتماعي، منهياً بذلك سيطرة القطاع العام على الحياة الاقتصادية، ومن دون أن يكون اقتصاد سوق مفتوح حقاً، بل بتنا أمام معادلة عرجاء تقول بتحرير اقتصادي مع تقييد سياسي، وهي التي أدت إلى الانفجار عام 2011، إلى جانب عوامل أخرى مضافة منها تدفق الاستثمارات الخارجية من دون حماية الاقتصاد الوطني والحرف الصغيرة والزراعة والصناعة الوطنية، فكان أن انضم آلاف العاطلين عن العمل إلى آلاف قبلهم، وأغلقت آلاف الورشات والمصانع الصغيرة.
هذا المسار الاقتصادي ترافق مع انهيار الطبقة الوسطى التي كان يجب أن تحمل مطالب التغيير خلال الثورة، ما يعني أن الثورة حين انفجرت لم يكن هناك طبقة وسطى قادرة على حمل مطالب التنوير، مقابل وجود جيش من العاطلين والناقمين والجاهلين، إضافة إلى السلفية الجديدة التي بدأت تتغذى من هذا الانهيار بإشراف السلطة (وهذا ما سنتحدث عنه بشكل منفصل لاحقاً)، ما يعني أن تدمير الطبقة الوسطى كان فعلاً ممنهجاً من قبل نظام الأسد.
ترادف هذا الأمر أيضاً مع أمر مهم آخر، أن الدولة/ السلطة خلال مرحلة النظام الاقتصادي الاشتراكي تحولت إلى رب عمل، وهذا يعني أن السلطة ربطت وفاء الموظفين لديها بالولاء السياسي، ومن يخرج عن هذا السرب يجد نفسه محاصراً في لقمة عيشه، فكانت إجراءت الفصل من الوظيفة والتضيبق على لقمة العيش تصيب كل من يعارض السلطة، وهذا يعني فقدان أحد شروط الطبقة الوسطى التي تحدث عنها طيب تيزيني، ونعني الميسورية الاقتصادية، ولن يتغير الأمر مع التحول إلى اقتصاد السوق المفتوح، لأن الممسكين بهذا السوق هم رجال الأعمال الجدد أو “المئة الكبار” كما سماهم محمد جمال باروت، وهكذا وجد كل من يعارض السلطة نفسه غير قادر على المحافظة على الاستقلال الاقتصادي.
صناعة الإرهاب وادعاء محاربته
إن انهيار المشروعات القومية واليسارية والليبرالية وانهيار الطبقة الوسطى وسقوط الاتحاد السوفياتي كلها معطيات وأحداث أدت إلى انتعاش التيار الديني الذي بات يجد في أوساط المفقرين والمهمشين أرضاً خصبة للعمل، فانتقلت صفوف من اليساريين والقوميين إلى صفوف المتدينين، ساعد في هذا الأمر أيضاً أن التيارات القومية واليسارية لم تعطِ المسألة الدينية الأهمية التي تستحق، فكانت هذه التيارات في حقيقتها العميقة ذات جذر ديني أو طائفي.
النظام الذي خرج من أزمة الثمانينات منهكاً ومنتصراً، عرف كيف يستغل الأمر، إذ عمد إلى محاربة التيارات الدينية الراديكالية التي تعمل على إسقاطه وهو ما تجلى في القانون الذي يحكم بالإعدام على كل من ينتسب إلى الإخوان والتيارات الجهادية، ولكنه بالمقابل عمد إلى صناعة “إسلام أليف” كما يقول الباحث المتخصص في الشؤون الإسلامية، حمود حمود، وهو ما تمثّل في ظواهر مثل القبيسيات وتيار رجل الدين الراحل البوطي ومدرسة آل كفتارو، هذه المدارس والتيارات التي كان تصبّ سياسياً في خدمة النظام بالولاء له، وتدين المجتمع من جهة ثانية، بإغراقه في مسائل الحلال والحرام والطاعة “والرزق على الله”، ما يعني وجود أرضية قابلة للاستخدام من قبل النظام حين يريد، لأن هذا الأمر يؤدي إلى منع تشكل الوطنية السورية التي طالما عمل النظام على محاربتها.
الحرب العراقية الإيرانية وبعدها حرب العراق (2003)، مثلت فرصاً كبيرة للنظام للاستثمار في هذا الأمر، وبخاصة بعد تحول شعار الحرب على الإرهاب إلى شعار عالمي، فاستغلته النظم العربية لتسوّق نفسها “شريكاً” في الحرب على الإرهاب، عبر مستويين اثنين، الأول وضع خدماتها الأمنية في خدمة المراكز العالمية التي تحارب الإرهاب، والثاني عبر اتهام معارضيها بالإرهاب. إلا أن النظام السوري، كان الأبرع في مسألة استخدام الإرهاب، إذ ذهب باتجاه إنتاجه وتوظيفه في خدمة بقائه عبر مستويات عدة. وقد كان سقوط بغداد مفصلياً في هذا الأمر، إذ سمح النظام السوري بعبور الإرهابيين إلى العراق عبر أراضيه، وأثناء عبورهم كان يجمع المعلومات ويخزنها في البنك الأمني الخاص به، وتوصل من خلال ذلك إلى اختراق عدد من هذه التنظيمات التي أرّقت الأمريكيين الذين كانوا يطالبون حكومة دمشق دوماً بإغلاق حدودها في وجههم، فيما كانت الأخيرة تطالب بالتعاون معها، وهي تعني الاعتراف بدورها وبها شريكاً أساسياً في محاربة الإرهاب، في حين إن واشنطن كانت تصر على جعل التعاون عبر الجانب الأمني فقط، وعبر قنوات مغلقة أي من تحت الطاولة وهو ما كان يحصل، وأدى إلى التوصل إلى تفاهمات مشتركة في نهاية المطاف، أغلقت بموجبها دمشق حدودها كلها واعتقلت الإرهابيين وأدوعتهم في سجونها، بانتظار استخدامهم في لحظة أخرى لن يتأخر قدومها، ونعني الثورة التي انفجرت في وجهه عام 2011، إذ دأب النظام من اللحظة الأولى على اتهامها بالإرهاب والسلفية، مستفيداً من خبرته العريقة في هذا الأمر (الحرب الأهلية اللبنانية، حرب الثمانينات، مخيم نهر البارد في لبنان، الحرب العراقية) وعمل على هذا الأمر عبر اتجاهات عدة:
الأول، إطلاق سراح الجهاديين من سجونه بعد زرع عملائه بينهم، إذ يدرك النظام أنهم سيسعون إلى تشكيل كتائب جهادية، ستصب في خدمته عبر مستويين، الأول تخريب الثورة، والثاني مغازلة الغرب المتخوّف من مسألة الإرهاب من جهة، ومحاكاة بعض الدوائر الغربية والإقليمية التي تعمل على تصدير الإرهابيين من بلدانها إلى سوريا، للتخلص منهم وإبعادهم عن حدودها من جهة، وأيضاً لأن مصلحته تكمن في تخريب الثورة من جهة أخرى، لأن تمدد الربيع يعني وصول الربيع إلى هذه الدول الإقليمية، ويعني ولادة دول ديمقراطية ذات سيادة، وليس للغرب المهتمين مصلحة في ذلك أيضاً.
الثاني، صناعة الإرهاب وتوليده، إذ تحدثنا أعلاه عن أن النظام عمل على نشر التدين بمفهومه السلبي، وسمح بتشكيل بؤر تدين سياسي تعمل ضمن مستوياته، إضافة إلى البؤر التي كان يراقفها من بعيد، وهي البؤر التي كانت قريبة من تنظيم القاعدة والإرهابيين الذين عبروا إلى العراق. هذه الفئات التي جمعت التدين السلبي والفقر المدقع من جراء سياسات النظام الاقتصادي ستجد نفسها مندرجة في إطار الثورة دفاعاً عن مصالحها ولقمة عيشها وطلباً للحرية. في بداية الثورة تمكنت التيارات المدنية والعلمانية من استقطاب هذه الفئات، فعمل النظام على تصعيد عنفه ضد هذه الطبقة المدنية التي كانت تسعى لقيادة الثورة والحراك قتلاً واعتقالاً، بالتوازي مع عنف ممنهج ضد البيئات التي تظاهرت ضده، وهذا أدى تدريجياً إلى غياب الطبقة التي كان من الممكن أن تقود الحراك المدني، وبروز الطبقة المتدينة التقليدية التي أضيف إليها خروج الإرهابيين والسلفيين من السجون، فبات الحراك يتجه نحو مزيد من الأسلمة والإرهاب الذي وجد لنفسه بيئات حاضنة. وهكذا باتت خطة النظام قابلة للنجاح، إذ تمكن من زرع الإرهاب داخل الثورة، فيما تكفل الوعي ما دون الحداثي بالباقي، وهذا ما نشهده بوضوح من تحول شعارات الثورة السورية من “واحد واحد واحد الشعب السوري واحد” و”لا سلفية ولا إخوان الثورة.. ثورة شجعان” إلى “قائدنا محمد رسول الله” و”لا إله إلا الله”، من دون أن نتحدث طبعاً عن التيارات الجهادية التي رفعت شعار “العلمانية كفر” وغيرها من الشعارات.
بالتوزاي مع ما سبق، كان النظام يعمل على فتح حدوده أمام التيارات الجهادية كلها التي تود دخول سوريا للمشاركة في المعركة “الجهادية” ضد “الشيعة الكفار”، وهذا حصل عبر مستويات عدة أيضاً:
الأول: تلاقي مصلحة النظام السوري مع مصالح دول الإقليم في وأد الحراك، إذ أدركت هذه الدول أن نجاح الثورة يعني وصول الربيع إلى دولها، لهذا عملت (وبرضى النظام أو غض بصره) على إغراق الثورة بالجهاديين والسلفيين والسلاح المخصص لهؤلاء بعيداً عن الجيش الحر الذي كان يمكن أن يشكل بديلاً وطنياً لجيش النظام.
الثاني: تلاقي مصلحة النظام السوري مع قوى دولية وإقليمية تعمل على إبعاد الإرهابيين من محيطها أو دولها، وهو ما نراه واضحا في ظاهرة الجهاديين الأوروبيين الذين عبروا إلى سوريا، أو الجهاديين الذين عبروا من روسيا ومحيطها أيضاً، إذ تلاقت مصلحة هؤلاء في كشف الإرهابيين الكامنين مع مصلحة النظام السوري في تخريب الحراك وتشويهه.
الثالث: تلاقي مصلحة النظام السوري مع مصالح دول تعمل على استغلال الإرهاب هي الأخرى لمصالح خاصة بها، بالهيمنة أو التمدد أو وجود قواتها في منطقة ما، وهو ما تجلى في سعي إيران لإيجاد كاريدور بري يصل طهران ببيروت عبر بغداد ودمشق لتحقيق طموح قديم بالوجود على المتوسط، وأيضاً في سعي روسيا للعودة كقطب دولي لا يمكن تجاوزه وفي المحافظة على مصالحها، وفي سعي تركيا لاستعادة دورها العثماني وإبعاد الأكراد عن حدودها، وفي سعي واشنطن لإيجاد موطئ قدم لها في منطقة طالما كانت عصية عليها إبان الحرب الباردة.
كانت داعش بالنسبة إلى هؤلاء كلهم حصان طراوادة الذي يستغلونه لتحقيق ما يريدون، وهكذا تلاقت مصلحتهم مع مصلحة النظام السوري.
الرابع: إن تدخل إيران وحزب الله في سوريا، أدى إلى ارتفاع منسوب الطائفية والحرب الأهلية الإسلامية، وهو أمر كان مقصوداً بوضوح، ويتجلى بقول الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، عام 2012: دعونا نذهب لنتقاتل في سوريا بدلاً من لبنان”، وفي هذا دعوة صريحة إلى التيارات الدينية السلفية للانضمام إلى الحرب “المقدسة”.
حديث البطريرك الروسي (لاحقاً) عن كون الجنود الروس يخوضون “حرباً مقدسة” في سوريا زاد الطين بلة، ليضاف هذا كله إلى أيديولوجيا النظام السوري في حماية الأقليات التي وجدت نفسها معزولة عن هذا الحراك، مع تصاعد المد الجهادي، وأقرب إلى رواية النظام من رواية الثورة.
الخامس: تحول المعتقلات السورية إلى مختبرات لتصنيع الإرهاب، عمل النظام السوري بشكل ممنهج ومدروس على اعتقال عدد من صغار السن وتعذيبهم ثم تركهم في الزنزانات مع دعاة سلفيين وجهاديين يتولون شحنهم وصناعة عقولهم، ليخرج هؤلاء من السجون وينضموا إلى التيارات الجهادية، مدفوعين بعاملين اثنين، الأول الانتقام من الإذلال الذي تعرضوا له، والثاني تلبية “لنداء الله في الجهاد ضد الكفار” كما أقنعهم الدعاة الذين ينشطون في المعتقلات بإشراف المخابرات السورية.
المرونة وانتظار المتغيرات الدولية:
ثمة صفة تميز “سياسة” النظام السوري، يعرفها المتخصصون كلهم في دراسة سوريا، وهي أن النظام يجيد لعبة الانتظار في المدى الطويل، وأنه لا يسلم أوراقه بسهولة، إذ اعتاد النظام السوري على المراوغة والتسويف حيث يكون في وضع ضعيف، منتظراً متغيّرات دولية تصب في مصلحته. وهو لا يعتمد التسويف من فراغ، بل في أغلب الأحيان يكون لديه أوراق يستخدمها في تلك الأوقات بانتظار حصول المتغيرات التي يسعى لها، وهي متغيرات غالباً ما تأتي من الغرب. أمر كهذا حصل خلال أزمات متعددة واجهت النظام السوري، وكان دائماً يخرج منها بفعل سياسة الانتظار. وهذا أمر عبرت عنه الكاتبة ومديرة مكتب هنريش بول في بيروت، بنته شيلر من خلال كتاب لها، حمل اسم “حكمة لعبة الانتظار السورية”، إذ أكدت في أحد الحوارات معها، أنّ لعبة الانتظار هذه ما تزال فاعلة، وهي ما تزال تحمي النظام إذ قالت: “في الواقع أثبتت “لعبة الانتظار” الجديدة نجاحاً منقطع النظير بالنسبة إلى النظام. ولكن الحظ لعب دوره في هذا الأمر. لو لم يكن النظام السوري يحظى بالدعم الدبلوماسي الروسي الذي حماه في مجلس الأمن، ومن ثم التدخل العسكري العارم والمباشر من قبل روسيا، لكان النظام قد سُحق منذ زمن بعيد. ومع ذلك، يمكن للأسد الاعتماد على دعم موسكو، ويمكنه حتى القيام باستفزازات ضد حليفه الرئيس (مثلاً استمرار الهجمات بالأسلحة الكيماوية حتى بعد انضمامه إلى اتفاقية نزع الأسلحة الكيمياوية بالتفاوض مع روسيا). بالنسبة إلى النظام، كان ذلك يعني تشجيعاً على مواصلة هذا المسار.
بالنسبة إلى الولايات المتحدة وأوروبا، فإن غياب الرغبة أو انعدام القدرة على جعل النظام السوري يمتثل لالتزاماته سيجعله محصناً ضد أيّ مطالب غريبة. كل من يظن أن بإمكان استخدام إعادة الإعمار حافزاً للنظام السوري لتقليل وحشيته أو سماحه بعودة اللاجئين؛ وكل من يظن أن بالإمكان فرض شروط على النظام أو توقع إنقاذ أرواح الناس منه هو شخص يعيش في عالم الخيال”.
إن تأمل تاريخ النظام السوري مع الأزمات يشير بوضوح إلى صحة هذه المسألة، ففي ثمانينات القرن الماضي كان النظام مهدداً بالفعل من قبل الإخوان المسلمين المدعومين من بعض دول الجوار، وعلى رأسهم النظام العراقي بقيادة صدام حسين. إلا أن صمود النظام وانتصار الثورة الإيرانية والحرب الأهلية اللبنانية، كلها شكلت عوامل ساعدت النظام على الاستثمار في موقعه، ليخرج منتصراً بعد 15 سنة من الحرب، التي حظي فيها بدور اللاعب الإقليمي الأبرز، وبخاصة أن انهيار الاتحاد السوفياتي دفع النظام إلى ملاقاة العصر الأمريكي الجديد عبر المشاركة في حرب الخليج إلى جانب الأمريكيين، فجرى تفويضه في لبنان.
عام 2003 بعد سقوط نظام العراق كانت المطالب الأمريكية للنظام السوري بوقف دعم حماس وحزب الله ولجم الإرهابيين، ووافق النظام فعلياً على ذلك، إذ أغلق مكاتب كل من حماس والجهاد الإسلامي في دمشق، ولكنه فور رحيل إدارة جورج بوش عاد إلى سابق عهده، إذ يدرك النظام السوري متى ينحني ومتى يتنازل فعلاً، وهو لا يفعل الأخيرة إلا تحت الضغط وحين لا يكون لديه أي ورقة ليستخدمها، كما حصل حين أجبر على الانسحاب من لبنان عام 2005 بعد مقتل رفيق الحريري.
عام 2005 أيضاً، كان النظام مهدداً فناور حتى رحيل جاك شيراك الذي كان يقود حملة الضغط الدولي على النظام السوري، ليأتي نيكولا ساركوزي، ثم بدأت الأمور بالانفراج تدريجياً بعد تدخل كل من تركيا وقطر لتعويم النظام عربياً.
عام 2011 و2012 كان المناخ الدولي كله ضد نظام الأسد، إلا أنه ناور وصمد بدعم أصدقائه (إيران وروسيا في المقام الأول) وعمل على الأرض على تنفيذ الخطة التي تسم الحراك بالإرهاب وتولد العنف والتهجير، فبات العالم أمام مشكلة الإرهاب واللاجئين، وهو الأمر الذي دفع قسماً كبيراً من دول الغرب إلى تغيير مقاربتها للمسألة السورية، فأثببت “حكمة الانتظار السورية” صحتها وفق ما تقول بنته شيلر.
امتلاك الأوراق
ما كان للنظام أن ينجح في تحقيق ما تحدثنا عنه أعلاه كله، لولا عمله لأجل امتلاك أوراق تساعده على تحقيق ذلك، فمن دون هذه الأوراق ما كان بإمكانه الصمود، وهي أوراق يستثمر فيها كي تطيل في عمره بانتظار المتغيرات الدولية التي تحدثنا عنها، ولا يتخلى عن أي منها إلا حين يكون مجبراً على ذلك.
مثّل كل من حزب الله وحزب العمال الكردستاني أحد الأوراق التي استثمر فيها نظام الأسد، إذ دعم مع إيران، حزب الله في حربه ضد إسرائيل، وساعده النظام في الإمساك بمفاصل الدولة اللبنانية قبل خروجه من بيروت، ودرب مقاتليه وزوده بالسلاح، وها هو اليوم يمسك بمفاصل الحياة الداخلية كافة في لبنان ويجيّرها في خدمة النظام (التضييق على المعارضيين، منع السوريين من الدخول إلى لبنان بحرية، الضغط لإعادة اللاجئين)، وقد شكل عاملاً حاسماً في انتصار النظام في حربه السورية، إذ سدّ حزب الله النقص الناجم عن عدم قدرة الجيش السوري على التوزع على ساحات القتال الكثيرة، ولعب مقاتلوه دور النخبة في الهجوم على قوات المعارضة السورية في أكثر من مكان، بل استلم الحزب السيطرة على مساحات شاسعة من سوريا، وأدارها بما يتوافق مع مصالحه ومصالح النظام.
حزب العمال الكردستاني مثال آخر على الأوراق التي استثمر فيها النظام السوري، إذ دعم النظام الحزب من بدايات تشكله في حربه ضد النظام التركي، وقد استمر الأمر إلى حين تهديد تركيا للنظام، فاضطر الأخير إلى الطلب من زعيم الحزب عبد الله أوجلان مغادرة سوريا ليقع في قبضة الأتراك. إلا أن العلاقة بين النظام وحزب العمال الكردستاني بقيت كما أشارت الأحداث لاحقاً، استعان النظام مع بداية عام 2011 بالحزب الذي لعب دوراً بارزاً في الشأن السوري لمصلحة النظام، ويكفي أن نعرف كم حجّم الحزب الموقف التركي المندفع لإسقاط النظام. صحيح أن هذا الأمر لم يكن بفعل دور النظام السوري وحده، بل بمساعدة كل من إيران وروسيا وأمريكا التي تخلت عن تركيا في المسألة السورية. إلا أن الأمر يشير بوضوح إلى كيفية استخدام النظام أوراقه جيداً، وكيف تتشابك هذه الأوراق مع العوامل الأخرى التي تحدثنا عنها لتشكل المركب الذي ينقذ النظام السوري حقاً، فمثلاً حمل حزب العمال الكردستاني مسألة مواجهة التيارات الجهادية التي ساهم النظام في خلقها، ولعب الأمر دوراً في تثبيت موقع النظام السوري بانتظار متغيرات دولية حصلت لاحقاً، وهكذا نجد كيف تتشابك هذه الأمور مع بعضها. في مسألة حزب الله، لعبت قوة الحزب دوراً في العمليات العسكرية، إلى جانب تشجيع الحزب للصراع الطائفي المذهبي من خلال تحويل سوريا إلى ساحة جهاد بعد أن كانت “أرض رباط” (وفق تعبير الجهاديين)، إضافة إلى حشد إعلامي مرافق من قبل الحزب وأنصاره للقول إنهم في حرب ضد الإرهاب، الأمر الذي يوضح لنا كيف تتفاعل هذه العوامل مع بعضها ليكمل كل منها رواية الأخر.
عوامل مساعدة
إلى جانب سلوك النظام السوري وخططه واستراتيجيته، كان هناك عوامل مساعدة لعبت دوراً بارزاً في نجاح النظام، بل كانت في بعض الأحيان المكمل لسياسته، ومنها:
1- أمن إسرائيل: لا شك في أن إسرائيل تحتل أولوية بارزة في السياسة الغربية، وهذا أمر يعرفه قادة المنطقة وسادتها الذين يسعون لشرعنة أنظمة حكمهم الفاسدة من خلال ضمان أمن إسرائيل، وهذا أمر فعله النظام السوري الذي حافظ بشكل جيد على أمن إسرائيل عبر إغلاق جبهة الجولان بعد توقيع اتفاق فصل القوات الذي يقول عنه الكاتب والمفكر “سلامة كيلة” إنه: “اتفاق يضمن “السلام الدائم”، فلم يعد مطروحاً من الجانب السوري خوض حربٍ، ولا كانت القوات الموجودة أو طبيعة المساحة التي تفصل بين وجود القوات السورية والجولان، تسمح بتقدّم عسكري سوري. وذلك كله ضمِن للدولة الصهيونية الاستقرار طويل الأمد، وعدم الخشية من نشوب حربٍ على جبهة الجولان، ومن ثم تصرّفت كأنها تعتبر الجولان جزءاً من “أرض إسرائيل”، لهذا ضمّته من دون خشية أو تردّد. في المقابل، ضمنت لحافظ الأسد انتفاء احتمالات حربٍ مع الدولة الصهيونية مدّة طويلة الأمد كذلك. وهذا ما كان يريده، لكي يضمن سيطرة مطلقة على الدولة السورية. إذ أعاد بناء الجيش والأجهزة الأمنية، ليس انطلاقاً من وجود عدو صهيوني، بل انطلاقاً من كيفية بقائها خاضعةً لسلطته، وعاجزةً عن التغيير والانقلاب. وبهذا ضمِن سلطة “إلى الأبد” وراثية. وضمن دوراً إقليمياً يتحقّق بالتوافق مع أمريكا (كما جرى في لبنان)، ومع الدولة الصهيونية. وذلك كله من دون أن يكون هناك توقيع اتفاقات، ومن دون أن يحتاج إلى ذلك كله. وقد كان يتجنّب ذلك في اللحظات كلها التي جرت فيها مفاوضات”.
وهكذا عمل نظام الأسد على ضمان أمن إسرائيل، عبر ربط أمنها بضرورة بقائه، وهذا ما رأيناه بوضوح من خلال تصريح قريب الأسد، رامي مخلوف (أحد المئة الكبار) في بداية الثورة، حين قال إن رحيل النظام يعني تهديد أمن إسرائيل، وقد وجه النظام لهذا الغرض رسائل عدة، منها السماح للفلسطينيين بمحاولة العبور إلى فلسطين المحتلة عبر جبهة الجولان، لتبيان أنه قادر على فعل ذلك. ومن ثم قدّم أوراقاً عدة لكي يعاد تأهيله من جديد، منها تدمير مخيم اليرموك وتشريد الوجود الفلسطيني في سوريا كلها، ما يعني إلغاء حق العودة. وسمح أيضاً للإيرانيين بالوجود بالقرب من الحدود السورية الفلسطينية كورقة ضغط، وهو ما جعل إسرائيل تجد بقاء الأسد أفضل لها من رحيله لمصلحة الثوار المشتتين الذين لم يتمكنوا من بناء قوة منضبطة. وقد أشارت بنته شيلر إلى هذا الأمر أيضاً، حين قالت: “لديّ انطباع بأنّ إسرائيل متجهة نحو تقبّل وجود قوات الأسد هناك مرة أخرى، بدلاً من الثوار المشتّتين والمعرّضين لهجوم وضغط مستمرين. إلا أنّه لم يكن للجانب السياسي والأخلاقي للفظاعات التي ارتكبها الأسد ضد شعبه دور حاسم في الاعتبارات الإسرائيلية في أي وقت من الأوقات، فإسرائيل كانت مأخوذة أكثر بالخشية من التسلل الإيراني ومن تحول سوريا إلى منصة انطلاق للإمدادات والهجمات العسكرية”.
2- الثورة المضادة في الإقليم: أدى الربيع العربي ورحيل زين العابدين بن علي وحسني مبارك ومعمر القذافي إلى تنبّه بعض الأنظمة الاستبدادية إلى أنها في خطر، فبدأت تستعد لتخريب الربيع العربي، ولهذا وضعت خططها وأموالها في خدمة هذا الهدف. وقد صبت نتائج هذا الهدف في سلة النظام، سواء في ما يخص الأنظمة التي حاربته أم وقفت معه. وفي هذا الإطار، يمكن رصد موقف إيران التي أدركت أن ولادة دول ديمقراطية في المنطقة، يعني وصول الربيع إليها اليوم أو غداً، والأمر نفسه في ما يخص السعودية، ما دفع إيران إلى التدخل بقوة إلى جانب نظام الأسد، في حين إن الرياض كان موقفها غائماً وأميل إلى بقاء الأسد في البداية، إلا أن تدخل إيران وتمددها في سوريا والإقليم وتقدم الإخوان لمحاولة قطف الربيع السوري والعربي، دفع الرياض إلى تغيير مقاربتها ومواجهة إيران وتخريب الحراك السوري كي لا يصل أراضيها، وهكذا لعب الطرفان دوراً بارزاً في تحويل الصراع السوري من صراع حرية/ استبداد إلى صراع سني/ علوي، عبر دعم الأطراف الأكثر جهادية وراديكالية وتخلف في المسألة السورية، مع تشجيع هجرة “المجاهدين” (سنة وشيعة) إليها. جرى هذا أيضاً بمساعدة أطراف أخرى مثل قطر وتركيا اللتين لعبتا دوراً بارزاً في هذا السياق.
3- إن تقدم الإخوان المسلمين بدعم من قطر وتركيا لقيادة الثورة، شكل نوعاً آخر من الثورة المضادة التي تسعى لاستبدال استبداد سياسي باستبداد ديني، ما نبّه القوى الإقليمية والدولية التي تخشى من وصول الإسلام السياسي السلطة، فتكاتفت في ما بينها لمنع حدوث الأمر. كما نبّه كثيراً من القوى الداخلية والقطاعات الشعبية المتحمسة للتغيير، فتراجعت وانكفأت على نفسها، فأصبحت الهيمنة في الداخل للقوى الإسلامية الشعبية البسيطة التي تمكن خطاب التطرف، وفي الخارج بدأ صراع إقليمي ودولي حول سوريا، لم ينته حتى اللحظة. وهذا كله صبّ في سلة النظام في نهاية المطاف، لأنّه شتّت الجهد الرامي إلى إسقاطه بينما بقيت جبهته الداخلية والخارجية موحدة وذات هدف واحد: عدم السقوط.
4- إن عدم تمكن المعارضة السورية من التوحد وإيجاد استراتيجية مشتركة واحتواء الشارع وبناء برنامج سياسي قابل للتطبيق وجذبه نحوها ومخاطبة الخارج بأحقية مطالبها، إضافة إلى قدرتها على مواجهة أجندته، هذه كلها عوامل بيّنت ضعف المعارضة وعدم قدرتها على إدارة الأمور، ما بيّن للمجتمع الدولي أن المعارضة عاجزة عن تشكيل بديل عن النظام يحمي المصالح ويدير الدولة، وبخاصة أنّ أطيافاً كثيرة من المعارضة أيّدت جبهة النصرة وجعلت منها شريكاً في الثورة، الأمر الذي صب أيضاً في خدمة النظام وساعد في بقائه.
خاتمة:
منذ تكوّن نظام الأسد كبنية أمنية صلبة، وهو لا يفعل شيئاً إلا وضع الاستراتيجيات التي تضمن بقاءه، كان يعمل على تعديل تلك الاستراتيجيات مع تغير الأوضاع حوله، ليبني مزيداً من الأوراق التي تساعد في بقائه. وقد ساعده سقوط زين العابدين وحسني مبارك قبل وصول الربيع إليه لمزيد من التنبه لذا تفادى عنصر المفاجأة، إذ كان مستعداً حين بدأت الاحتجاجات ضده، ولهذا وجدنا أن عبارات تتهم الحراك بالسلفية والجهادية كانت موجودة منذ الأيام الأولى، أضف إلى سعي النظام منذ البداية لتسليح الثورة، مستفيداً من خبرته في إدارة الحروب التي راكمها عبر تاريخه، بدءاً من الحرب الأهلية اللبنانية إلى حرب الثمانينات إلى حرب العراق، ولهذا وجدنا أنه استدعى عدداً من الجنرالات الذين خدموا في تلك الحروب على الرغم من أنهم خرجوا إلى التقاعد منذ زمن بعيد، وذلك للاستفادة من خبرتهم العملية في هذا الشأن.
وهكذا وظف نظام الأسد أدواته وخبرته وحنكته ضد الثورة التي لم تكن مدركة لهذه الأبعاد كلها فوقعت ضحية جهلها بطبيعة النظام وإمكاناته من جهة، وغدر القوى الإقليمية والدولية لها من جهة ثانية، وضعف إمكاناتها وقدرتها على الاستشراف من جهة أخرى، إذ أصبحت الحلقة الأضعف في الصراع السوري اليوم.
المشكلة اليوم، أن النظام السوري لا يستعد للاحتفال بانتصاره فحسب، بل يعمل على إعادة ترميم نفسه واستعادة أدواته، وثمة إشارات كثيرة تشير إلى ذلك، بدءاً من الرمزي منها، الذي تجلى بإعادة تماثيل حافظ الأسد إلى بعض الساحات، إلى العملي المتمثل بالسعي لإرضاء ما تبقى من السنة السوريين، لإضفاء شرعية شكلية على نظامه، أي يسعى اليوم لإعادة إنتاج “إسلام سني” أليف مرة أخرى، فهل ينجح؟
المراجع
- صادق جلال العظم لـ’المدن’: الحل بسقوط العلوية السياسية https://goo.gl/8yYjac
- سلامة كيلة: العلوية السياسية خزعبلة وليس مصطلحاً سياسياً https://goo.gl/JGpwzq
- 3- رايموند هينبوش، سوريا ثورة من فوق، دار الريس.
- 4- رايموند هينبوش، تشكيل الدولة الشمولية في سوريا البعث، دار الريس.
- 5- كمال ديب، تاريخ سوريا الحديث، بيروت، دار النهار.
- 6- جلبير الأشقر، الشعب يريد، بيروت، دار الساقي.
- 7- جلبير الأشقر، انتكاسة الانتفاضة العربية، بيروت، دار الساقي.
- 8- حسان القالش، قطار العلويين السريع، المؤسسة العربية للدراسات النشر.
- 9- ليون غولد سميث، دائرة الخوف، الدار العربية للعلوم ناشرون.
- 10- محمد جمال باروت، العقد الأخير في تاريخ سوريا، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
- 11- بنته شيلر: الجمع بين التصدي لإيران وإبقاء الأسد ليس سهلاً https://goo.gl/V3H3km
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي.