من عجائب القدر أن يجتمع الخصوم والأعداء، وأن يتفرق الإخوة والشركاء في شمال سوريا، فما الذي تخبئه الأرض هناك؟
تعوم المنطقة الشمالية والشرقية من سوريا فوق آبار من النفط والغاز، العديد منها توقف أو أصابته أضرار جراء الحرب التي شهدتها المنطقة هناك، لكن تغيراً ديمغرافياً شهدته المنطقة منذ سبعينات القرن الماضي بدأه الأسد الأب وما زالت آثاره الانتقامية تجري حتى اليوم، جعل المنطقة ميدان معركة تحمل أبعاداً ثلاثة؛ بعداً اقتصادياً، بعداً قومياً، بعداً جغرافياً، من الصعب فصل أي من الأبعاد الثلاثة عن بعض، لكن يمكننا وضع شرح مبسط ومجتزأ.
البعد القومي
تقع المنطقة الشمالية والشمالية الشرقية لسوريا في منطقة غنية بالنفط والغاز ما يعني أنها جزء من أمن العالم في مجال الطاقة ولهذا السبب اتجهت إليها أعين الدول الكبار منذ بداية الأزمة السورية.
كان الأسد الابن يعول على المنطقة الشمالية بشكل كبير في بداية الأزمة حتى أنه خاطب الشعب السوري من مدينة الرقة –التي أصبحت فيما بعد عاصمة تنظيم الدولة الإرهابي- وتقول مصادر خاصة لمينا رفضت الكشف عن هويتها لدواع أمنية، من داخل البنك المركزي في دمشق أن بشار الأسد كان يخبئ أمواله وكل ما هو مهم له في أحد سراديب قصره في الرقة وذلك قبل الأزمة، مما يعني أن الرقة كانت ضمن الحسابات الآمنة لآل الأسد.
وبدأت القصة منذ أن قام “حافظ الأسد والد بشار الأسد رئيس سوريا الحالي والمؤسس لما يعرف بسوريا الحديثة” بتغير ديمغرافي في شمال وشمال شرق سوريا، حيث تزامن وصول “حافظ الأسد” إلى سدة السلطة في دمشق مع الوقت الذي تعاظم فيه الفكر القومي من جهة واتضحت قيمة المكان نفطياً من جهة ثانية، كما أن الأسد الأب كان يسعى لإيجاد خط حماية أولي على الحدود الشمالية، لكن ما الذي فعله حافظ الأسد؟
عندما استلم “حافظ” السلطة بدأ توطين بعض من العرب “المغمورين” حول القرى الكردية، يتسم تأريخ تلك الفترة بكثير من الغموض كما أنه يفتقر إلى الأدلة التي تثبت الحقيقة، لكن الثابت أن حافظ الأسد عمد إلى زيادة عدد العرب المتوطنين غير المتنقلين والعاملين في الرعي، لذلك بنى قرى صغيرة ليساعد الرعاة المتنقلين على الثبات والاستقرار، فهم بذلك سيكونون له دريئة لأي خطر خارجي، كما أنهم سيساهمون في ثبات عدد العرب في المنطقة.
عامل الأسد الأب الأكراد بعنصرية مقيتة، حرمهم من استصدار هويات وأرقام وطنية، فصاروا مواطنين دون قيود ويطلق عليهم تسمية “المكتومون” لم يتمكن الأكراد المكتومون ونسبتهم كبيرة –لا يوجد إحصاء رسمي واقعي لعددهم- من تسجيل أحوالهم المدنية، كما عانى الطلبة الأكراد بشكل كبير أثناء استصدار وثائق التخرج والتسجيل الجامعي.
تركت أحداث 2004 لدى الأكراد جرحاً كبيراً لم يندمل، لكنهم توقعوا أنهم عالجوه عندما ردوا عنصرية حافظ الأسد على أخوتهم في الأرض من العرب، يمارس اليوم أكراد ما يسمى بالإدارة الذاتية التي تشرف على أجزاء من المنطقة الشمالية والشمالية الشرقية سياسة عنصرية ضد المكون العربي في هذه المنطقة، بحجة أنهم “مستوطنون” على أن التاريخ يؤكد أنهم عرب رعاة في شبه الجزيرة السورية لم يأت بهم حافظ الأسد من خارج هذه البقعة الجغرافية، فهم شركاء في الوطن.
تنسب الإدارة الذاتية لنفسها شرف القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” لأنها وضعت المجندين العرب في صفوفها في المقدمة، لعلمهم بجغرافية المكان من جهة، ولكون عناصر داعش في تلك المنطقة هم بعض أبناء العشائر، من ثم أنكرت أهمية مشاركة المكون العربي في النصر، وعاملته على أنه مواطن من مرتبة ثالثة، طردت الكثير من العوائل من أراضيها لإقامة معسكرات عليها، ومنعت التلاميذ من التعلم بلغتهم الأم “العربية” نوعاً من رد الاعتبار حيث حولت لغة العلم إلى الكردية فنشأ جيل عربي لا يتكلم بلغته في أرضه.
صادقت مليشيات الإدارة الذاتية “إسرائيل” واستضافت مجندين إسرائيليين رفعوا العلم الإسرائيلي على مقربة من نهر الفرات تسفيهاً للقضية العربية “القضية الفلسطينية” ولإعلان الخروج من العباءة العربية.
كما وصف قال أحد قادة مجلس سوريا الديمقراطي في اتصال هاتفي مع مرصد الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، يتحفظ المرصد عن ذكر اسمه وصف الثوار بـ “الخونة” لأنهم من رجالات البعث على حد تعبيره، ولأنهم شاركوا في قتل الأكراد، متناسياً هيمنة البعث على كل مفاصل الدولة والخوف الذي كان سائداً بين الناس، حتى كثير من الأكراد أنفسهم كانوا فيما مضى من عناصر البعث، ومتجاهلاً التضحيات التي قدمها الثوار السوريون منذ 2011 وحتى اليوم.
فالشرخ المجتمعي بدأه حافظ الأسد وأتمه من بعده أولاده بشار وماهر معتمدين على المبدأ القائل “فرق تسد”.
البعد الاقتصادي
تسيطر الآن مليشيا قوات سوريا الديمقراطية الكردية المعروفة اختصاراً بقسد على ثلث مساحة سوريا، وتحت سيطرتها 90% من مخزون النفط السوري، و45% من مخزون الغاز السوري، وكان ينتج هذا المخزون ما يقارب 18% من الطاقة العالمية قبل الثورة السورية.
وبلغ إنتاج سوريا من النفط عام 2010 حوالي 400 ألف برميل يومياً، كان يتم استهلاك 250 ألف برميل محليا ويصدر الباقي. أما حالياً فتتوزع الثورات النفطية بين قوات الحكومة وقوات سوريا الديمقراطية.
حقول النفط في محافظة دير الزور التي تسيطر عليها مليشيا قسد
حقل “العمر” كان ينتج 80 ألف برميل ويقع تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية منذ تشرين الأول 2017.
حقل “التنك” استولت عليه قوات سوريا الديمقراطية بعد أن طردت منه تنظيم “الدولة الإسلامية”، وهو الحقل الثاني من حيث الأهمية في دير الزور بعد حقل “عمر”، وقُدر إنتاجه بحوالي 40 ألف برميل يوميا، تُستخرج من 150 بئر نفطي . ولكن يُقدر إنتاجه حالياً بين 5-10 آلاف برميل يومياً فقط، بالإضافة إلى حقول الجفرة، وكونيكو.
بينما تقع حقول التيم والورد والخراطة جنوب المحافظة تنتج 50 ألف برميل وتخضع لسيطرة نظام الأسد.
أما في محافظة الحسكة، تقع جميع حقول النفط والغاز تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية وهي؛ حقول الرميلان تنتج 90 ألف برميل يومياً، ويقدر بعض الخبراء عدد الآبار النفطية التابعة لها بحوالي 1322 بئراً.
حقول السويدية تنتج 116 ألف برميل يومياً، ويُقدر وجود ما يقارب 25 بئرا من الغاز في هذه الحقول، حقول الشدادي والجبسة والهول تصل إلى 30 ألف برميل في اليوم.
حقول اليوسفية تنتج 1200 برميل يومياً، كما يوجد حقلان للغاز في المحافظة وهما رميلان الذي ينتج مليوني متر مكعب يوميا والجبسة الذي ينتج 1.6 مليون متر مكعب يوميا.
يوجد حقلان نفطيان في محافظة حمص التي يسيطر عليها نظام الأسد، وهما حيان وجزل اللذان ينتجان على التوالي 6 ألاف و3 آلاف برميل في اليوم الواحد.
وحقول الغاز الموجودة في حمص، تقع جميعها تحت سيطرة نظام الأسد وهي؛ الشاعر 3ملايين متر مكعب يوميا، الهيل مليوني متر مكعب يوميا، آراك 750 ألف متر مكعب يوميا، حيان 650 ألف متر مكعب يوميا، جحار 350 ألف متر مكعب يوميا، المهر 400 ألف متر مكعب يوميا، أبو رباح 300 ألف متر مكعب يوميا.
ويقع في تلك البقعة الجغرافية على نهر الفرات ثلاثة سدود تولد الطاقة الكهربائية؛ سد البعث، سد الفرات، سد تشرين، وتنتج المنطقة أفضل أنواع القمح العالمي، إضافة للقطن من النوع المتميز.
كل هذه الميزات الاقتصادية تجعل الدول الكبار تتسابق لشمال سوريا، ما يعني أن مسألة الخروج لن تكون بهذه السهولة ولا السذاجة التي يتخيلها البعض.
البعد الجغرافي
تعتبر المنطقة التي تتموضع الآن تحت مجهر التكبير العالمي، نافذة عالمية، ومعبراً تجارياً هام منذ قديم الزمان عندما استخدمها التجار القدماء لتكون الطريق التجاري الأولي الذي ربط آسيا القصوى بآسيا الوسطى وأوربا “طريق الحرير”.
تربط المنطقة الشمالية الشرقية الحسكة والرقة، الشمالية الغربية دير الزور والبادية السورية، بين إيران وسورية –جنوباً وصولاً لحدود الكيان الإسرائيلي، وغرباً نحو لبنان مقر حزب الله- عبر العراق جالبة منه قوات دعم ومساندة، فهي محطة هامة لتمرير مخططات إيران التوسعية لتكون عنصر مشارك في هندسة الشرق الأوسط الجديد.
كما تربط جنوب تركيا بشمال سوريا الأمر الذي يعتبر مطلباً قومياً للأكراد الطامحين بالوصول إلى البحر الأبيض المتوسط، وتأمين منفذ بحري لهم يكون بمثابة مطرقة على الأتراك.
تتصل المنطقة بالأردن وجنوب العراق فهي منطقة جيوسياسية بامتياز، تمكنت عبر تضاريسها المفتوحة والصعبة “داعش” من التمدد لتهدد “ظاهراً” دمشق من الجنوب والغرب.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي.