المبحث الأول:
- إمكان اللجنة الدستورية في دفع مسار العملية السياسية.
- أولاً: مرحلة النزاع وصناعة التوافق.
- ثانياً: المبادئ الدستورية العامة وإصلاح المؤسسات.
المبحث الثاني:
- خيارات شكل النظام السياسي.
- أولاً: خيارات النظام الرئاسي.
- ثانياً: خيارات النظام البرلماني.
- ثالثاً: خيارات النظام شبه الرئاسي.
مقدمة
يحق للسوريين أن يتساءلوا: ما الذي يمكن أن تقدمه اللجنة الدستورية التي أصبحت “واقعاً” لا بد منه، بعد أن توافقت عليها الأطراف المتصارعة جميعها؛ المحلية منها والإقليمية والدولية، لا سيما أنها حملت معها دلالات مؤداها: ألا علاقة للأطراف السورية (نظاماً ومعارضة) بمجريات ما يجري، في خضم صراع دولي وإقليمي على النفوذ الذي أصبحت معه الجغرافيا السورية مكسراً لعصا التجاذبات الدولية والإقليمية. فالنظام الذي رفض حتى مخرجات سوتشي وتمترس بأحقيته في تشكيل اللجنة بعيداً عن الأمم المتحدة، معتبراً ذلك “حقاً سيادياً” انصاع إلى الرؤية الأممية بعد ضغط روسي واضح. وكذلك المعارضة الرسمية -التي استأثرت بالتفاوض سنوات- فقد هرولت مسرعة نحو حجز مقاعدها في اللجنة، بعد أن كانت منذ أشهر قليلة تعتبر سوتشي خيانة، ولا تقبل بأقل من رحيل رأس النظام قبل بدء المرحلة الانتقالية.
ولدت اللجنة الدستورية من رحم مفاوضات عقيمة دامت ما يقارب ثلاث سنوات (منذ صدور القرار 2254 في 18 كانون أول 2015)، وتركزت على فكرة إطاحة رأس النظام قبل بدء “المرحلة الانتقالية”، في الوقت الذي كان فيه الحديث عن الدستور “خيانة”، فالشعب السوري هو من يقرر كتابة دستوره في بلده.
مع الاتفاق على تشكيل اللجنة الدستورية، يحق لأي سوري أن يتساءل: إلى أين تسير العملية السياسية، وكيف تحول -بسرعة خيالية- من نصبوا أنفسهم “صقوراً للمعارضة” إلى “حمائم”، تبحث عن مقعد لها في هذه اللجنة، في تجاهل واضح لأبسط المواقف الوطنية، وأبسط بديهيات العمل السياسي، التي تستدعي إقرار الطرف الذي لم يحقق رؤيته الاستقالة والاعتذار من الشعب السوري، لا لشيء فقط احتراماً لملايين المشردين والشهداء والمهجرين واللاجئين الذين وضعتهم المعارضة الرسمية في أتون حراكها، فكانوا محض وقود لخطابات شعبوية، استفاد منها النظام بدءاً من الرهانات الخاسرة سلفاً على جماعات إسلاموية عابرة للوطنية، والترحيب بها، على الرغم من كونها مصنفة إرهابياً في إطار القرار الذي قبلوا التفاوض على أساسه.
لقد عانى السوريون خلال هذه المرحلة، ما لم يعانِه شعب في التاريخ المعاصر. إذ خسرت المعارضة الرسمية مكتسباتها كلها على الأرض بدءاً من حلب وانتهاء بما يوحي بسيطرة كاملة للنظام السوري، في إطار رؤية جديدة للقوى الدولية والإقليمية، ترى في ذلك مقدمة للعملية السياسية، أمام معارضة أثبتت تبعيتها وارتهانها وشللها، أمام كل ما يُرسم لها في إطار المصالح الذاتية للدول وحسب.
في إطار فقه القانون الدولي، المتتبع لتاريخ الصراعات الداخلية منذ نهاية الحرب الباردة، يلاحظ أنّ عمليات بناء السلام التي أُجريت في إطار الأمم المتحدة، كانت تقوم على موجة من الإصلاحات الدستورية، التي ترتكز على ديناميات إزالة تركيز السلطة، إما بشكل أفقي عن طريق المشاركة التي تحدد شكل النظام السياسي رئاسياً كان أم برلمانياً أم شبه رئاسي (مختلط)، أو بشكل عمودي عبر توزيعها في مستويات أدنى من خلال اللامركزية في إطار ما يعرف بـ “الدسترة” أو “بناء الدساتير كعملية ذات التزام طويل”، تبدأ بالأخذ بالمتغيرات العيانية الماثلة، عندما تصبح الحلول المباشرة أمراً مستعصياً، بسبب التجاذبات الحادة بين الأطراف المتصارعة.
في إطار العملية السياسية في سوريا، ومنذ قبول الأطراف المحلية السورية جميعها بتشكيل اللجنة الدستورية في إطار الأمم المتحدة، يمكن القول إن العملية السياسية أصبحت –في إطارها العام- تمتلك الأدوات التي تمكنها من البدء في حل عقدة التفاوض، التي ارتكزت على فكرة الحكم، كفكرة اختصرت العملية السياسية في سوريا لسنوات من الاستعصاء، لتعود من جديد في إطار عملية قانونية تدريجية، في ما يعرف بـ “عمليات بناء الدستور”، التي تقوم على فكرة دستورية أساسية، تعمل على عدم تركيز السلطة وتوزيعها بين مؤسسات الحكم، وفي مقدمتها دراسة الخيارات الممكنة لإزالة تركيز صلاحيات السلطة التنفيذية عبر التفاوض وبشكل ديمقراطي، في عملية تسيرها الأمم المتحدة، والفاعلون الدوليون لتمكين القوى المحلية التغلب على حالة الانقسام الحاد، بدءاً من تأسيس مؤسسات مستقلة قادرة على تذليل الأسباب التي أدت إلى نشوب الصراع؛ والبدء بعملية السلام عبر عملية بناء الدستور التي أصبحت المسار الأساس للعملية السياسية.
المبحث الأول: إمكانات اللجنة الدستورية في دفع مسار العملية السياسية.
لا يمكن القول بقدرة اللجنة الدستورية على إحداث أي أثر في العملية السياسية من دون تأطيرها بالحالة الوطنية، فعملية مناقشة الدستور أو إصلاحه أو كتابته هي عملية سيادية، تقتصر على مفاوضات الأطراف السورية، ولا تتعداها إلى تدخل القوى الإقليمية والدولية في محتوى الدستور، من دون أن يعني ذلك تجاهل الأدوار التي تقدمها الأطراف الخارجية في دعم عمل اللجنة الدستورية ومؤازرتها.
تمثل الدساتير عقداً اجتماعياً يعمل على قصر استخدام الحكومة للسلطة(1). ويعني مصطلح الدستورية فكرة السلطة المحدودة. وتزداد صعوبة صوغ الدساتير في مراحل الصراع، إذ يعوّل عليها بأن تكون المدخل إلى السلام والديمقراطية، لا سيما في عصرنا الحالي إذ تنتشر مبادئ الحكم الرشيد في العالم.
وعليه، ترتبط العملية السياسية في سوريا في إطار بناء الدستور بمرحلتين، أحدهما مرحلة النزاع وصناعة التوافق، وثانيهما مرحلة صوغ المبادئ الدستورية العامة وإصلاح المؤسسات (بناء الدولة).
أولاً: مرحلة النزاع وصناعة التوافق
تنطلق عملية بناء الدستور من التوافق والاتفاق على إجراء إصلاح دستوري، الأمر الذي يسبغ على هذه العملية شرعية يمكن البناء عليها لرسم ملامح شكل الدستور النهائي وتطبيقه. ولا تقتصر شرعية الدستور على آليات وضع محدداته نظرياً، بل تتعزز بمعرفة ماهية بناء الدساتير في معرض صراع عنيف، والتفريق بين عمليتي البناء والمحتوى، بوصفهما عمليتين تسيران بالتوازي لإضفاء الشرعية على الدستور.
إنّ مرحلة النزاع في العملية السياسية في سوريا، ما زالت حالة عيانية ماثلة، على الرغم من أنها أصبحت منذ أيام قليلة، تمتلك أدوات صناعة التوافق عبر قبول الأطراف المتصارعة كلها باللجنة الدستورية، ما يعني أنّ تجاهل فكرة “الحكم المشترك” بمفهومها العام، أصبحت أكثر وضوحاً، وأقرب إلى التفسير القانوني للبيانات والقرارات الدولية التي قبلتها أطراف الصراع جميعها، وظلت فكرة مترافقة ومتزامنة مع العملية السياسية، من دون تحقيق أي تقدم يُذكر في العملية السياسية.
ولدت فكرة الحكم المشترك، منذ بيان جنيف1 في 30 /6/2012، تحت بند “خطوات واضحة في العملية الانتقالية”، إذ تضمنت الفقرة (أ): “هيئة الحكم الانتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية، يمكن أن تضم أعضاء من الحكومة الحالية، والمعارضة، ومن المجموعات الأخرى”. الحال ذاتها تضمنتها المادة 8 من بيان جنيف 2 في 22/1/2014. وكذلك بيان فيينا1 في 30/10/ 2015، الذي تضمن في المادة 7 منه “عملية سياسية تؤدي إلى حكم ذي صدقية شامل وغير طائفي”، وكذلك القرار 2254 في 18/12/ 2015، الذي تضمن في المادة 4 “حكماً ذا صدقية يشمل الجميع، ولا يقوم على الطائفية”. ما يعني قبول الأطراف المحلية المتصارعة جميعها بفكرة تقاسم الحكم، لتحقيق التوافق والاتفاق على المبادئ العامة للدستور.
من حيث المبدأ، المرجعيات آنفة الذكر، قبلها كل من النظام والمعارضة بوصفها مساراً للتفاوض، لكن واقع الحال كان يفرز في كل مرة مفاوضات عقيمة، الأمر الذي وضع العملية السياسية في حالة من الاستعصاء، الذي لا يمكن معه القول بأن السلة الدستورية أحد مولداته، بقدر ما أعاد الأمور إلى نصابها، وما كان يفترض أن يكون منذ صدور القرار 2254، الذي حسم في مادته الرابعة فكرة الحكم المشترك، ما يعني انتقالاً تدريجياً تفرضه ضرورات إصلاح المؤسسات عبر عمليات بناء الدستور. وفي هذا الخصوص تطرح العملية السياسية في سوري كثيراً من الأسئلة المتعلقة بالقضايا والقرارات الواجب اتخاذها أثناء مرحلة النزاع وبناء التوافق، ومنها: اتفاق الأطراف على الحاجة إلى إجراء تغيير أو إصلاح دستوري وتحديد نطاق ذلك، وكيفية ربط التدابير أو الترتيبات المؤقتة والترتيبات الدستورية الدائمة، وتحييد دور الفواعل السياسية الخارجية لمصلحة القواعد الدستورية العالمية، وآليات توزيع السلطة وعدم تركيزها، كما سنعرض تباعاً:
- اتفاق الأطراف على الحاجة إلى إجراء تغيير أو إصلاح دستوري، وتحديد نطاق ذلك: وتمثل هذه المرحلة أحد عناصر عمليات أشمل لتغيير تدريجي وتاريخي(2) من خلال إصلاح المؤسسات وتأسيسها. وبالنظر إلى الحالة الراهنة للعملية السياسية في سوريا، يبدو أن التوافق على هذا الإصلاح أصبح يمتلك أهم أدواته، بسبب الاتفاق على تشكيل اللجنة الدستورية، مقدمة للتوافق على آليات هذا الإصلاح الدستوري ومحله ونطاقه مدخلاً لتغيير متواصل ومتدرج.
- كيفية الربط بين التدابير أو الترتيبات المؤقتة، والترتيبات الدستورية الدائمة: فالتسلسل الزمني السليم له أهمية كبيرة تسمح بإتاحة الفرصة للأطراف الوطنية للتركيز -في المدى البعيد- على شكل الدولة السورية المستقبلية، والبدء بإرساء ثقافة دستورية بعد حقبة الصراع والانقسام المجتمعي العميق. وهنا تبدو أدوار المفاوضين والقائمين على عمليات بناء الدستور في معالجة الانقسامات بين السلطة وضحايا حقوق الإنسان(3).
- تحييد دور الفواعل السياسية الخارجية لمصلحة القواعد الدستورية العالمية: لموازين القوى بين الأطراف السياسية دوراً في صوغ الدساتير، وغالباً ما يجري التوفيق بين الاتجاهات المختلفة. وينبغي ألا تأتي على حساب القواعد الدستورية المعتمدة في الدساتير جميعها المتعارف عليها عالمياً. لذلك فإطاحة هذه القواعد ستؤدي إلى خلل في تركيبة السلطة، ومن ثم في أداء المؤسسات الدستورية والتوازن في ما بينها، ويأتي في طليعة هذه القواعد مبدأ الفصل بين السلطات(4).
وعلى الرغم من أن عملية بناء الدستور هي عملية سيادية، إلا أنّها بالأساس القانوني تكون مدعومة بعمليات السلام التي ترعاها الأمم المتحدة والقرارات الدولية ذات الصلة. ويبرر ذلك أن دور الأمم المتحدة ليس دوراً فوق الدول، بقدر ما هو امتداد لسيادتها ودفاع عنها. كذلك تبرز عملية التوفيق بين الأطراف التي يضطلع بها المتبرعون الذين يقدمون المشاركة الشعبية في الحوارات الوطنية من الجهات والهيئات الدولية، التي تتبنى المبادئ والمعايير والإعلانات الدولية لإلزام الأطراف الوطنية بمسار عمل معين، ولا يخفى دور منظمات المجتمع المدني، التي بمقدورها أن تقدم مراقبة مستقلة.
توزيع السلطة وعدم تركيزها: تحتاج الديمقراطية في مراحل ما بعد الصراع إلى التعددية سواء على صعيد الأفكار السياسية أم على صعيد توازن العلاقات بين مؤسسات الدولة. لذلك تبدو المركزية في هذه الأوضاع تقويضاً للديمقراطية والاندماج المنشود في إطار الدولة الواحدة. الأمر الذي يفرض على واضعي الدستور تصميماً مؤسساتياً بإنشاء مراكز قوى في المستوى الوطني، سواء أكانت خيارات أفقية (الفصل بين السلطات، زيادة أجهزة المراقبة الدستورية)، أم خيارات رأسية (كأشكال اللامركزية). ويمكن والحال هذه توزيع السلطة وإنشاء مؤسسات وطنية قوية، إذ تقوم الهيئات التنفيذية والتشريعية والقضائية وغيرها من أجهزة المراقبة بتفقد أوضاع بعضها. ويمكن توزيع السلطة في مستوى الهيئات التنفيذية العليا، بحيث تجري مشاركتها في ما بين الرئيس ورئيس الوزراء ومجلس الوزراء، وكذلك من خلال التأسيس لمجلس دستوري قادر على فرض إرادته على الهيئة التنفيذية، وتحقيق سيادة القانون. إذ يتمثل الغرض الرئيس من بناء الدستور بتقنين الاتفاقات في نص قانوني تقوم المحاكم بإنفاذه باعتباره القانون الأعلى، وهذا جزء من بناء سيادة القانون. التي تضطلع بمهمات التأكد من أن عمليات بناء الدستور، ليست محض تقاسم للغنائم بين الأطراف السياسية المختلفة، إنما تعني أولاً وأخيراً جعل الدستور هو القانون الأعلى.
ثانياً: مرحلة صوغ المبادئ الدستورية العامة وإصلاح المؤسسات (بناء الدولة): تشكل ديناميات بناء الدستور مجموعة الخيارات المتاحة والملائمة للسياق الخاص لكل مرحلة من مراحل بناء الدستور، ويشكل إصلاح المؤسسات وتصميمها مقدمة فعلية لإنفاذ مرحلة التوافق على إجراء الإصلاح أو التغيير الدستوري. إذ ترتكز هذه المرحلة على إرادة للعمل المشترك وبشكل تدريجي. ويشارك واضعو الدستور في تحقيق نتائج دستورية شرعية، وعدم الاكتفاء فقط بوضع نص دستوري مجرد، سواء كانت تلك النتائج قانونية (الامتثال للقواعد والمبادئ والأعراف القانونية ذات الصلة)، أم سياسية (السيادة)، أم أخلاقية (المصالحة الاجتماعية والعفو وتجديد منظومة القيم). وفي سبيل ذلك يلجأ واضعو الدستور إلى اتخاذ نوعين من العمليات، أحدهما يتعلق بالبدء بعملية بناء الدستور من خلال إصلاح المؤسسات، وثانيهما يتعلق بمحتوى الدستور، وتتلخص الأخيرة في معرض نزاع قائم بوضع المبادئ العامة للدستور:
العمليات المتعلقة ببدء عملية بناء الدستور (المبادئ العامة وإصلاح المؤسسات): وهي الإجراءات التي تقابلها عملية كتابة الدستور في الأوضاع العادية. أما في مرحلة النزاع وانفراط العقد الاجتماعي (كما هو مائل في العملية السياسية في سوريا)، فإنّ هذه العملية تتعلق بإصلاح أو إنشاء المؤسسات والقواعد الناظمة لها، للشروع في تأسيس عقد اجتماعي جديد عن طريق الاتفاق على المبادئ العامة للدستور.
يختلف الفقه في القيمة القانونية للمبادئ العامة للدستور، فقد اعتبرها بعضهم ذات قيمة قانونية أعلى من قيمة القواعد الدستورية العادية، حتى أن بعضهم اعتبرها دستور الدساتير، وأنها إعلان دستوري. ولكن بعضهم أنكر أي قيمة لها، واعتبرها محض مبادئ فلسفية ذات قيمة معنوية وأدبية. ولتذليل هذه الإشكالية يمكن تضمين الدساتير عبارات تفيد بأنها جزء لا يتجزأ من الدستور(5).
تركز المبادئ العامة على الموضوعات المهمة التي يتبناها الدستور تحت بند الديباجة، أو التوطئة، أو المبادئ الأساسية، أو الأحكام العامة. وتعتبر ثوابت لمرتكزات النظام السياسي والدستوري في الدولة. ويجب أن تصدر باقي مواد الدستور والقوانين العادية متوافقة مع هذه الثوابت، التي يتقدمها مبدأ سمو الدستور، والمبادئ العامة الأخرى، كمبدأ فصل السلطات، ومبدأ السيادة الشعبية، وحقوق المواطنين والأقليات وحرياتهم، وشكل الدولة، ونوع النظام السياسي المعتمد، والشكل الإداري للدولة، واللغات الرسمية، وعلم الدولة، ونشيدها ووظيفة القوات المسلحة(6). وفي معرض نزاع قائم كما هو الحال في الحالة السورية، فإن مسألة دستور جديد أو دستور مؤقت تبدو غير متحققة في معرض الحديث عن إصلاح دستوري، وبذلك تصبح عملية وضع المبادئ العامة محكومة بالتوافق والمفاوضات، التي ينتج عنها اتفاق حول القيم التي ينبغي تعزيزها في الدستور القائم. فالعملية السياسية في سوريا لا يمكن قياسها بتجارب مثل حالة جنوب أفريقيا أو ليبيا، على اعتبار أن النظام السياسي ما زال قائماً، لكنه يحتاج إلى نزع تركيز السلطة بحسب المعايير الدولية للدساتير، وبحسب مقتضيات مسار العملية السياسية، سواء أفقياً ومن داخل مؤسسة الرئاسة، أم عمودياً من خلال اللامركزية. والمؤسسات الدستورية -على هشاشتها- ما زالت قائمة أيضاً كهيكل تقف وراءه تجاذبات الصراع، وليس مسألة التوازن أو توزيع الصلاحيات، وهو ما تحتاج إليه الآن في معرض تطوير العملية السياسية، لصوغ عقد اجتماعي قادر على إنشاء مؤسسات فاعلة، تضمن المحافظة على الدولة السورية في مراحل ما بعد الصراع، فالعقد الاجتماعي في سوريا بات منفرطاً، ويهدد بتداعيات أخطر على الدولة ومؤسساتها، في حال عدم إصلاحها.
العمليات المتعلقة بمحتوى الدستور: وهي العمليات التي تأخذ بالحسبان ما يتسق والسياقات التي فرضتها وتفرضها حالة الصراع. إذ تتجه عمليات بناء الدستور نحو كيفية وضع المبادئ الدستورية عن طريق التفاوض وإدراجها بصراحة ووضوح في الدستور، كونها تشكل القيم والغايات للدولة المنشودة التي يمكنها تحقيق التوافق بين الجماعات المنقسمة، ومن ثم تحديد معنى الدستور، وتحديد الأساس اللازم لإقامة حكم مشترك فاعل يتناول آلية وضع المبادئ الدستورية وإنفاذها، وتضمينها في الأحكام التأسيسية، أو الديباجة، أو المبادئ التوجيهية، لتكون المبادئ الدستورية دليلاً تهتدي بها السلطة، وتتولى إنفاذها المحاكم، من خلال تحديد الضمانات القانونية والسياسية لحماية الحكم الديمقراطي وتعزيز حكم القانون، والمبادئ المرتبطة بحماية التنوع، والمبادئ المرتبطة أيضاً بحماية النوع وتعزيز المساواة بين الجنسين، والضمانات القانونية والسياسية لحماية هذا المبدأ، وعلاقة الدستور بالدين، والكيفية التي تمكن الدستور المحافظة على حرية الأديان، وتكريس المبادئ المرتبطة بالقانون الدولي، وآليات إدماج الالتزامات الدولية في النظام القانوني الداخلي.
يتضمن القانون الدولي عدداً من المبادئ العامة التي تُلهم الدساتير الحديثة بثقافة حقوق الإنسان، وكي تكتسب الدول شرعية في المجتمع الدولي، يجب أن تلتزم دساتيرها بالقواعد الأساسية للقانون الدولي، إذ تعتبر حقوق الإنسان في القانون الدولي حقوقاً عالمية وغير قابلة للتجزئة، وحال تضمينها في الدساتير فإنها تنتقل من صفتها الأدبية غير الملزمة إلى صفتها الإلزامية. ومن ثم فإن إدراج حقوق الإنسان يشكل تحدياً للسلطات الحكومية، لأنها تشكل حجر الأساس في بناء الديمقراطية، وهي مكملة لشرعية الدستور، مع الأخذ بالحسبان توفير ثقافة حقوق الإنسان للأفراد العاديين، ليتمكنوا الطعن في قرارات مسؤولي الحكومة ومؤسسات الدولة، من خلال تفعيل محاكم القضاء الإداري ومجلس الدولة.
لذلك تضطلع ديناميات بناء الدستور بالتوفيق بين مختلف المتنافسين، وصولاً إلى تسوية دستورية قابلة للتطبيق من خلال طرح الخيارات الدستورية التي تتعلق أولاً بشكل الدولة وطبيعة النظام السياسي، وثانياً بوضع الخيارات الدستورية التي من شأنها الحد من تركيز السلطة التنفيذية، لا سيما أنّ التجارب التاريخية تنبئنا بأن أغلب الصراعات الداخلية تعود في جذورها إلى مركزية مفرطة تمارسها السلطة التنفيذية. لذلك فإنّ الحد من تركيز السلطة التنفيذية يهدف في نهاية المطاف إلى السماح بمشاركة جهات أكثر في عملية صناعة القرار، سواء كان ذلك من داخل السلطة التنفيذية نفسها، أم عن طريق الضوابط والتوازنات في علاقتها مع باقي السلطات.
تجارب تاريخية (جنوب أفريقيا أنموذجاً): لعبت المبادئ الدستورية دوراً مهماً في صوغ دستور جنوب أفريقيا وتطبيقه، وتمخضت المفاوضات السياسية الأولى عن اتفاق على 34 مبدءاً أساسياً وملزماً، بينها الالتزام بوحدة البلاد والمواطنة المشتركة، والمساواة العرقية وسيادة الدستور. ولم تكن هذه المبادئ أساساً للدستور المؤقت فحسب، بل شكلت أيضاً إطاراً للتفاوض على دستور 1996 وصوغه. وقبل أن يدخل دستور 1996 حيز التنفيذ، اقتضى الدستور المؤقت أن تقوم المحكمة الدستورية المشكلة حديثاً بالإقرار أن الدستور يتوافق مع المبادئ الأساسية الـ 34 المحددة في الدستور المؤقت، وهكذا جرى تضمين الضمانات القانونية في النظام الدستوري، واستطاعت أن توجه نطاق التفاوض وتحدده بشأن النص النهائي للدستور. فقد استطاعت المحكمة الدستورية في جنوب أفريقيا رفض المسودة الأولى لدستور 1996 نظراً إلى عدم إقراره الكامل بالمبادئ الـ34، وفشلت مسودة الدستور في تفويض سلطات كافية للحكومات الإقليمية، واحتدم الخلاف بين الأحزاب خلال الصياغة، بين مؤيد لفكرة اللامركزية (الحزب الديمقراطي وحزب الحرية)، ورافض لها بوصفه حزب الأغلبية (حزب المؤتمر الوطني الأفريقي)، وجاءت مسودة الدستور التي قُدمت للمحكمة الدستورية في مايو 1996 مؤيدة للمركزية، بما يخدم مصالح حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، في حين أكدت المبادئ الـ34 ضرورة الحكم الذاتي الإقليمي”، إذ نصت صراحة على أن “سلطات ومهمات الأقاليم المعرفة ضمن الدستور، يجب ألا تكون أقل أو أدنى بدرجة كبيرة من تلك المحددة في الدستور المؤقت”. وهكذا أسقطت المحكمة الدستورية تأييد المركزية، ومن خلال إقرار اللامركزية وفرت المحكمة الدستورية ضمانة قانونية للحماية من حكم الأغلبية(7).
المبحث الثاني: خيارات شكل النظام السياسي.
يعد تصميم النظام السياسي في معرض بناء الدستور أمراً مهماً، لأنه يشكل الفيصل في توزيع الصلاحيات بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية، على اعتبار أن الخيارات المتاحة لتصميم السلطة التنفيذية عند كتابة دستور جديد أو إصلاح دستور قائم، تفترض تحديد العلاقة بينها وبين باقي السلطات، بما يتيح التوازن المؤسسي بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، الأمر الذي يدفع القائمين على بناء الدساتير ومناقشتها إلى دراسة خيارات تصميم السلطة التنفيذية بحسب نوع النظام السياسي، برلمانياً كان أم رئاسياً أم شبه رئاسي. ومن ثمّ غالباً ما يترافق السعي إلى اختيار نظام حكم ملائم إلى تقويم المزايا النسبية لكل نظام.
لا تفصح الدساتير صراحة عن نظام الحكم الذي تتبناه الدولة، بل يُصمم كل دستور توازناً يتفق مع الوضع الخاص. لذلك فإن حسم خيارات هيكلية الدولة من الموضوعات الجوهرية في بناء أي دستور ديمقراطي، وسنعرض لهذه الخيارات بالشكل الآتي:
أولاً: خيارات النظام الرئاسي (أحادية السلطة التنفيذية)
يجمع النظام الرئاسي بين منصب رئيس الحكومة ومنصب رئيس الجمهورية الذي ينتخب عن طريق الاقتراع العام. لذلك لا يخضع الرئيس للمساءلة السياسية أمام السلطة التشريعية، ولا يعتمد على دعم حزبه للاحتفاظ بمنصبه، ويأخذ مجلس الوزراء سلطاته عموماً من الرئيس حصرياً، وغالباً ما يكون للرئيس بعض التأثير السياسي في عملية سن القوانين. ويبدو في النظام الرئاسي الفصل الجامد بين السلطات، إذ تظهر السلطتان التشريعية والتنفيذية مؤسستين متوازيتين، ما يتيح لكل منهما مراقبة الأخرى، ويوفر مساحة أكبر لممارسة حرية المناقشة بشأن الخيارات السياسية البديلة، لأن المعارضة لا تشكل خطراً على بقاء الحكومة، أو تهدد بالدعوة لإجراء انتخابات جديدة. ويرى بعضهم أن في النظام الرئاسي ميلاً للاستبداد، لأن الانتخابات الرئاسية ذات طبيعة تتيح للرابح الفوز بكل شيء، كما يبدو شعور رئيس الدولة بأنه يمثل الأمة، شعوراً يدفعه إلى عدم تقبل المعارضة، ما يؤدي في أغلب الأحيان إلى إساءة استعمال السلطة واستعمال الصلاحيات التنفيذية لضمان إعادة انتخابه.
في الحالة السورية: يبدو النظام السياسي الحالي في سوريا نظاماً شبه رئاسي من حيث الشكل، لأن السلطة التنفيذية تتولاها كل من مؤسسة الرئاسة ومؤسسة الحكومة، أما من حيث الصلاحيات فهو نظام رئاسي، فرئيس الجمهورية يُنتخب مباشرة من الشعب مدة سبع سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة، على أنّ تدخل المادة المتعلقة بالولايتين التنفيذ عام 2014، ثم إن الحكومة يختارها الرئيس من دون الرجوع إلى البرلمان. وتمثل المحكمة الدستورية العليا السلطة القضائية في البلاد، ويجري اختيارها من الرئيس، ما يعني أنّ النظام السياسي الحالي هو نظام رئاسي شديد المركزية من الناحية العملية.
تبدو العملية السياسية في سوريا، تنطلق من إصلاح الدستور بالاستناد إلى معايير تفترضها راهنية وصول العملية السياسية إلى مرحلة امتلاك أدوات التوافق عبر اللجنة الدستورية، وتطبيقاً للبيانات والقرارات الدولية وفي مقدمتها القرار 2254 الذي تضمن فكرة الحكم المشترك عبر عملية سياسية تسيرها الأمم المتحدة بقيادة سوريا، وقد يساعد ذلك في تذليل كثير من التحديات، التي تبدو ماثلة بالإبقاء على شكل النظام الرئاسي، ويبدو دور المتفاوضين في العملية الدستورية، في قدرتهم على الاستفادة من ذلك بالعمل على نظام رئاسي لا مركزي بنموذج عالمي. وقد توفر رعاية الأمم المتحدة والقرار2254، فرصة إصلاح المؤسسات عبر الحكم المشترك الذي قد يساهم في منع تفكك البلاد، أو تحويلها إلى دولة فاشلة منقسمة مجتمعياً.
وعليه، لا يمكن التعميم بالقول بشمولية النظام الرئاسي واستبداده، إذا ما أحسن القائمون على عملية بناء الدستور وإصلاح المؤسسات تطبيقه كنموذج عالمي من نماذج الأنظمة السياسية. خصوصاً إذا ما جرى التوافق على إزالة تركيز السلطة بيد الرئيس بشكل أفقي عن طريق فكرة السلطة التنفيذية الجماعية التي تقوم على رئيس، ونائب أول للرئيس، ونائب رئيس، أو عن طريق تحديد مدة ولاية الرئيس دستورياً، أو إزالة تركيز هذه السلطة عمودياً بإنشاء مستويات إضافية للحكم من خلال اللامركزية.
يعزز ذلك أن الأوضاع العيانية للعملية السياسية في سوريا بوصفها أحد مرتكزات بناء الدستور، لا تشير في السنوات القليلة المقبلة إلى تغير فعلي في مؤسسة الرئاسة. وفي هذه الحالة يمكن للمعارضة والنظام، الاستفادة من تأكيد ما يعلنانه من تأكيد وحدة سوريا مبدأ دستورياً عاماً، في الوقت الذي أصبحت فيه العملية السياسية في سوريا، العملية الأكثر استقطاباً بين القوى المتصارعة، سواء منها المحلية أم الإقليمية أم الدولية. لذلك قد يوفر النظام الرئاسي مع لامركزية إدارية عميقة وجوهرية، حل إشكالية نزع السلطة وتركيزها، لاسيما أن الأوضاع على الأرض ما زالت تشير إلى مناطق نفوذ وصراع على رسم خطوط التماس هذا من جهة.
من جهة أخرى ما زالت المعارضة السورية، تفتقر إلى وجود أحزاب سياسية فاعلة تؤهلها لطرح فكرة النظام البرلماني، الذي يعد من الناحية الأكاديمية الأكثر ملاءمة لمراحل ما بعد الصراع، إلا أنه يحتاج إلى الاستقرار أكثر والتبلور أكثر لممارسة الديمقراطية، وهو ما لا يمكن توافره في مرحلة التوافق وبناء الدستور. وعليه يصبح التركيز على تصميم السلطتين التشريعية والقضائية أولوية تتقدم تحديد نظام حكم جديد سواء برلماني أم شبه رئاسي.
وفي النظام الرئاسي، يتمثل التحدي الرئيس أمام تصميم سلطة تنفيذية قوية في منع هيكليتها من الانتقال إلى حكم فردي أو غير ديمقراطي. وذلك عن طريق إخضاع السلطة التنفيذية لدرجة كبيرة من الإشراف القضائي، وعدم إفساح المجال من وجود تواطؤ، أو علاقات قوية بين قضاة المحكمة الأعلى والسلطة التنفيذية، لأن إجراءات التعيين تكون بيد الأخيرة.
ولتحقيق ذلك، تبدو خاصتي الرقابة والتوازن مهمتان في الحد من استبداد أي سلطة أو تعسفها من خلال ضوابط دستورية تقوم على عدم امتلاك الرئيس حق اقتراح القوانين على السلطة التشريعية، وحقه في الاعتراض فقط، والصلاحيات التي تُعطى للمحكمة الدستورية في مراقبة دستورية القوانين، ومراقبتها لأعمال السلطتين التشريعية والتنفيذية، ما يحقق نوعاً من التعاون والتفاعل والتوازن بين السلطات الثلاث.
والأهم من ذلك أن هذه الضمانات تهدف إلى إحداث نوع من التوازن والرقابة(8) بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. ولا يحق للسلطة التشريعية إقالة الرئيس، ولا الرئيس يحق له حل البرلمان، لا سيما أن السلطتين منتخبتين من الشعب، ومن ثم لهما القوة والشرعية نفسيهما، كما هو الحال في النظام السياسي الأمريكي(9).
قد يخامر بعضهم الشك في أن شكلاً ما من النظام السياسي ذو أهمية في تحقيق التوافق أو الديمقراطية، علماً أن أشكال الحكم جميعها قد تكون ديمقراطية وقد تكون استبدادية، وكل ما في الأمر أن الاختلاف يتعلق ببنية المجتمع وثقافته التي تلائم شكل الحكم الذي يعد مفرزاً لهذه البنى والثقافات. وعلى هذا الأساس يتحدد شكل النظام السياسي في الحالة السورية على أهمية التصميم المؤسسي. وذلك عبر مجموعة من الحلول، يمكن أن تعمل على إزالة تركيز السلطة التنفيذية، غاية نهائية وجوهرية في العملية السياسية.
ربما يحتاج واضعو الدستور السوري في معرض العملية السياسية الماثلة إلى توزيع الصلاحيات التنفيذية بطريقتين: إما بشكل عمودي، وذلك بوضع مستويات إضافية من الحكم عبر اللامركزية (كما سنرى لاحقاً). أو بشكل أفقي عن طريق السلطة التنفيذية الجماعية التي تضم فاعلين عدّة في مؤسسة الرئاسة، بحيث تتكون من رئيس ونائب أول للرئيس ونائب رئيس، أو بتحديد المدة الرئاسية بضمانات دستورية في إطار المعايير الدولية للدساتير. أو عن طريق السلطة التنفيذية المزدوجة (النظام شبه الرئاسي).
تجارب تاريخية:
- السودان: عقب بروتوكول السلام عام 2004 أرست السودان هذه الصيغة، فرئيس السودان هو رئيس الدولة، لكن هناك قرارات تتطلب إجراء تشاور داخل الهيئة الرئاسية أو تستلزم موافقة النائب الأول للرئيس، ولم يكن بقاء النائب الأول في منصبه رهناً بإدارة الرئيس، بل الدستور يحدد مسبقاً مدة خدمة كل منهما. ويكون النائب الأول للرئيس ونائب الرئيس أحدهما مرشح الحزب الحاصل على أغلبية مقاعد الشمال في المجلس الوطني، ورئيس جنوب السودان.
- البوسنة والهرسك: صمم واضعو دستور البوسنة شكلاً أقوى من السلطة التنفيذية تتوزع فيه الصلاحيات بالتساوي بين الرؤساء التنفيذيين الثلاثة، وكانت الإثنية هي التي تحدد العضوية في الرئاسة، إذ ينتخب كل إقليم ممثلاً عنه (صربياً وبوسنياً وكرواتياً)، يتولون منصب الرئاسة بالتناوب، وتتخذ قرارات السلطة التنفيذية بالتوافق إن أمكن وإلا بالأغلبية، ويفصل بالإجماع، لأن الرئيس المعارض لقرار ما، قد يعلن أنه يضر بمصالح إقليمه، فيحيله على أعضاء المجلس التشريعي في ذلك الإقليم للتصويت عليه وإقراره بأغلبية الثلثين.
- سويسرا: حيث يعتبر المجلس الاتحادي أعلى مؤسسة تنفيذية في البلاد، ويلعب دور رئيس جماعي للدولة، ويتألف من سبعة أعضاء من ولايات مختلفة مع تمثيل ملائم للمجتمعات مختلفة اللغة. وينتخب أعضاء المجلس الاتحادي من قبل الجمعية الاتحادية (المشرع) لمدة أربع سنوات من دون إمكان التصويت لحجب الثقة. وهم متساوون ولكن في كل عام يعين واحد منهم لتولي منصب الرئيس لأغراض التمثيل والمراسم الرسمية(10) .
ثانياً: خيارات النظام البرلماني (ثنائية السلطة التنفيذية)
ينتخب رئيس الحكومة في النظام البرلماني بوساطة السلطة التشريعية، ويخضع للمساءلة أمام البرلمان، وتتبع السلطة التنفيذية هرمياً للسلطة التشريعية. ومن ثم يعتمد منشؤها وبقاؤها عليها، أما رئيس الجمهورية فلا يؤدي إلا وظائف اسمية. ويفسح النظام البرلماني المجال لتشكيل حكومة واسعة النطاق وشاملة، ويتمتع أيضاً بمرونة يمكن من خلالها إقالة رئيس الحكومة في أي وقت، إذا لم ينجح ببرنامج سياسي يعكس إرادة الأغلبية.
في الحالة السورية –في المدى المنظور- لا يمكن القول بإنتاج رئيس جمهورية بوظائف اسمية أو شرفية، وقد تستغرق العملية بحسب المتغيرات العيانية سنوات. بالمقابل لا يمكن إنتاج حكومة بأغلبية نيابية لتتمكن من ممارسة عملها. وبذلك لا يمكن إنتاج سلطة تشريعية قادرة على تحقيق أهم خصائص النظام البرلماني، وهي تبعية السلطة التنفيذية للسلطة التشريعية، لعدم وجود بيئة حاضنة لإنتاج سلطة تشريعية فعلية عبر الانتخابات.
وعليه، تبدو تحديات النظام البرلماني في الحالة السورية، بعدم إمكان إجراء انتخابات برلمانية، لتغيير شكل النظام السياسي والركون إلى خيار النظام البرلماني. لا سيما أن الانتخابات تشكل ركناً مهماً في هذا الخصوص، كون “العملية الانتخابية هي الآلية التي تحدد تداول السلطة بين الفرقاء السياسيين(11)”. ومن سلبيات النظام البرلماني عدم الاستقرار، إذ تنهار الحكومة بفعل تصويت الأغلبية، وقد تواجه الحكومات الائتلافية على وجه الخصوص صعوبة في الاحتفاظ بمجالس وزراء قادرة على الاستمرار. وفي الحالة السورية ولأسباب تاريخية ما زالت سوريا من دون أحزاب فاعلة، والمعارضة ما زالت لا تملك أحزاباً فاعلة على الأرض ولا تمتلك رصيداً يؤهلها تشكيل حكومة ائتلافية.
ثالثاً: خيارات النظام شبه الرئاسي: (النظام المختلط) ازداد في العقدين الأخيرين نموذج أكثر توازناً من السلطة التنفيذية المزدوجة، بما يعرف بـ “النظام شبه الرئاسي”، وفيه تنقسم السلطة التنفيذية إلى مؤسستين تنالان الشرعية بشكل مستقل ومتمايزتين دستورياً، بحيث يكون كل من رئيس الدولة ورئيس الحكومة شريكين في الحكم، وفيه رئيس حكومة يُختار مباشرة من الأغلبية في البرلمان ويكون مسؤولاً أمامها ويمكنها محاسبته وعزله، ورئيس دولة ينتخب من الشعب.
وكلما كان الرئيس يتمتع بمساندة الأغلبية البرلمانية فإن موقف الحكومة سيكون قوياً لأنه هو من يعينها، وبذلك يكتسب قوة كبيرة تتجاوز أحياناً سلطة الرئيس في النظام الرئاسي.
في الحالة السورية، قد يصعب الركون إلى النظام شبه الرئاسي، لأن من أهم ميزاته أنه يحتاج إلى حالة من الانسجام بين رئيس الدولة ورئيس الحكومة لتحقيق الاستقرار في البلاد، وهو ما لا يمكن تحققه في الحالة السورية خلال مدّة التوافق أو الحكم المشترك، لا سيما أن حالة عدم التوافق ستؤدي إلى الشلل والتعطيل، خصوصاً عندما يكون رئيس الوزراء منتمياً إلى حرب معارض لسياسة رئيس الدولة، الأمر الذي قد يعيد البلاد إلى عدم الاستقرار من جديد.
وفي هذه الحالة قد تصبح الوظيفة الأساسية للحكومة مساعدة الرئاسة في تنفيذ سياساتها، فيقع على عاتق الرئيس في نهاية المطاف اتخاذ القرارات المتعلقة بالقضايا السياسية المهمة جميعها (أعمال السيادة)، بينما تكون الحكومة السلطة التنفيذية العليا والجهاز الإداري للدولة التي يكون على رأسها رئيس الوزراء. ويفصل القضاء الإداري ممثلاً بمجلس الدولة في حدود وصلاحيات كل سلطة بما يعرف بنظرية الأعمال المنفصلة أو نظرية أعمال السيادة.
-تجارب تاريخية: كينيا وزمبابوي 2008: نظراً إلى قدرة السلطة التنفيذية المزدوجة على توزيع السلطات، فقد اعتمدتها بعض الدول حلاً مؤقتاً لنزع فتيل النزاع بعد انتخابات متنازع عليها ولتشكيل حكومة ائتلافية. ففي حالتي كينيا وزمبابوي 2008 شهدت حالة النظام المختلط كتدبير مؤقت تعيين زعماء المعارضة كرؤساء للوزارة مع احتفاظ الرئيس بمهمات رئيس الدولة ورئيس الحكومة معاً، وهذا ما أدى إلى تحجيم رؤساء الوزارة ضمن الهيكلية الرئاسية، وتقليص صلاحياتهم التنفيذية(12).
يحتوي النظام شبه الرئاسي على هيئتين تنفيذيتين، لأنه يجمع بعلاقة تبادلية بين السلطة التنفيذية والهيئة التشريعية مع علاقة تسلسل هرمي. فالنظام شبه الرئاسي يأخذ من النظام الرئاسي مؤسسة الرئاسة، ويأخذ من النظام البرلماني مؤسسة الحكومة، وتنتخب المؤسستان من الشعب إذ ينتخب رئيس الدولة من الشعب مباشرة، ورئيس الحكومة يُختار بدعم من الأغلبية في البرلمان.
ويتيح هذا النظام قدراً من مشاركة السلطة بين القوى المعارضة، ويمكن لأحد الأحزاب أن يشغل منصب الرئاسة، بيمنا يشغل الحزب الآخر منصب رئاسة الوزراء، وهكذا يشترك الطرفان في النظام المؤسسي. إلا أنه يتميز بالجمود السياسي، بسبب احتمال اندلاع نزاع داخل السلطة التنفيذية بين الرئيس ورئيس الوزراء، لا سيما في مراحل التعايش عندما يكونان منتميين إلى حزبين مختلفين. ففي حالة التعايش يمكن لأي منهما الزعم شرعاً بامتلاك صلاحية التحدث باسم الشعب، تماماً كما يفعل الرئيس في النظام الرئاسي. (وفي الحالة السورية، يبدو اختيار النظام شبه الرئاسي معرضاً لكثير من الهزات التي قد تؤدي إلى عودة النزاع، لا سيما في ما يتعلق بعدم القدرة على تشكيل أغلبية داخل البرلمان في المدى المنظور، حتى في حال إجراء انتخابات نيابية، وهذه الأخيرة ستكون عرضة أيضاً لتأثير السلطة التنفيذية القائمة. إضافة إلى ذلك، تبدو مسألة تبلور تعددية فعلية للأحزاب السياسية في سوريا بعيدة المنال في المدى المنظور، بسبب عدم وجود أحزاب معارضة تاريخية أو تمتلك رصيداً شعبياً، إذ ما زالت ثقافة السوريين تنظر إلى النظام والمعارضة كوجهين لعملة واحدة. لذلك تبدو خاصية الجمود السياسي أكثر عرضة لاندلاع خلافات بين مؤسسة الرئاسة ومؤسسة الحكومة. ويعد تحديد المدّة الرئاسية عاملاً جوهرياً في نزع تركيز السلطة التنفيذية بيد فرد واحد بتحديد مدة ولاية الرئيس دستورياً، ومن أهم آليات عملية التحول الديمقراطي في الأنظمة الاستبدادية أو الديمقراطيات الحديثة. وتساعد عملية تحديد المدّة الرئاسية في الحيلولة دون انتخاب رئيس السلطة التنفيذية إلى أجل غير مسمى.
تجارب تاريخية: هناك نوعان لحدود المدة الرئاسية، أولهما تحديد عدد المدد المتتالية المسموح بها للبقاء في الحكم (فعلى سبيل المثال: لا تسمح روسيا والنمسا إلا بمدتين متتاليتين، غير أنهما لا يمنعان ترشح الرئيس السابق مجدداً بعد البقاء خارج الحكم مدّة انتخابية واحدة أو مدّتين كما في بنما).
وثانيهما تقييد عدد مرات تولي الرئيس للحكم بشكل قطعي، فقد حددت بعض الدول المدّة بولاية واحدة (البارغواي وجنوب أفريقيا)، بينما حددت دول أخرى الولاية بمدّتين (جنوب أفريقيا وتركيا).
وللحد من تعديل الدستور من قبل الرؤساء، أضاف بعض واضعي الدساتير نصوصاً تكفل ضمانات إضافية، فغدت الأحكام الدستورية الخاصة بالتعديلات الدستورية غير قابلة للتعديل (السلفادور وهندوراس والنيجر)، أما كوريا الجنوبية فقد نصت على أن التعديلات الدستورية الخاصة بتمديد مدّة ولاية الرئيس لا تسري على الرئيس الذي كان في الحكم عند اقتراحها(13).
خاتمة
إن عملية تطوير العملية السياسية في سوريا، ستبقى مرهونة بديناميات بناء الدستور. وبذلك تتراجع فكرة النظر في نظام سياسي جديد في مرحلة النزاع وصناعة التوافق لمصلحة النظام السياسي القائم، لاعتبار وحيد مؤداه المتغيرات العيانية المائلة في العملية السياسية السورية، وخاصية عمليات بناء الدستور كعملية تدريجية تبدأ بإصلاح المؤسسات وتأهيلها من أجل بناء السلام المنشود.
بذلك يصبح اختيار شكل النظام السياسي محكوماً بتجاذبات الصراع السوري خارجياً ومحلياً، الأمر الذي يدفع إلى البدء مما هو قائم. لذلك تبدو آليات تطوير العملية السياسية، مرهونة بقدرة واضعي الدستور على إحداث توازن بين هذه المعطيات العيانية جميعها والقدرة على عدم تركيز السلطة وتشتيتها ديمقراطياً عن طريق النظر في عمق اللامركزية، في إطار الهدف النهائي لهذه العملية، بما يحفظ وحدة البلاد، والقدرة على إحداث أي تقدم في إطار عملية بناء الدستور طويلة الأمد. بالتركيز على تصميم مؤسسات الحكم الأساسية، بما يعكس التفاعل بين هذه المؤسسات داخل النظام السياسي أياً كان شكله، وشكل العلاقة بين المؤسسات ذاتها من خلال إيلاء الأهمية أكثر للأدوات الدستورية، التي يمكنها تذليل كثير من الصعوبات في الطريق إلى صناعة السلام، كتلك التي تتعلق بالمبادئ العامة، واستقلال القضاء، وإحداث المحكمة الدستورية، ومجلس القضاء الأعلى، ومجلس الدولة، والتطرق إلى عمق اللامركزية، كمعادل موضوعي، وشكل من أشكال نزع صلاحيات الحكم في وعدم تركيزه في السلطة المركزية.
وعلى هذا الأساس: تبدو اللجنة الدستورية التي اتفقت الأطراف جميعها على تشكيلها مساراً للعملية السياسية، مقدمة حقيقة للشروع بفكرة إصلاح مؤسسات الحكم، وبناء الدولة السورية المستقبلية، وبذلك تصبح المادة 4 من القرار 2254 التي نصت على “عملية سياسية تؤسس لحكم مشترك ذي صدقية شامل وغير طائفي” مدخلاً لخلق حالة من التوازن داخل مؤسسات الحكم الأساسية، وفي مقدمة ذلك إجراءات التعيين والمشاركة داخل هذه المؤسسات التي سيجري إصلاحها، وفي مقدمتها المحكمة الدستورية، التي ستقوم –في مراحل لاحقة- بمهمات التحقق من تطبيق المبادئ العامة والتعديلات الدستورية، وهو ما تضطلع به عمليات تصميم السلطة القضائية.
الهوامش:
- قسام أوتيم، عمليات بناء الدستور، المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات (IDA ) ، مقدمة ، 2011، بدون رقم صفحة.
- انظر: كارلوس داوود، “الانتقال الديمقراطي وبناء الدساتير”، وقائع الندوة التي عقدتها المؤسسة اللبنانية للسلم الأهلي ومؤسسة كونراد اديناور، بيروت 13-14 /12/ 2013، ص 96.
- المرجع ذاته، ص 14.
- انظر: عصام سليمان، “الضمانات الحقوقية الأساسية في صوغ الدساتير”، الخبرات العربية والدولية، وقائع الندوة التي عقدتها المؤسسة اللبنانية للسلم الأهلي الدائم، ومؤسسة كونراد اديناور، بيروت 13- 14 /12/ 2013، منشورات المؤسسة اللبنانية للسلم الأهلي الدائم، المكتبة الشرقية، بيروت 2014، ص12.
- ورد في حيثيات قرار المجلس الدستوري اللبناني رقم 2/7/1997: “بما أنّ المبادئ الواردة في مقدمة الدستور تعتبر جزءاً لا يتجزأ منه، وتتمتع بقيمة دستورية، شأنها في ذلك شأن الدستور نفسه. للاستفاضة انظر: صياغة الدساتير في التحولات الديمقراطية، الخبرات العربية والدولية، وقائع الندوة التي عقدتها المؤسسة اللبنانية للسلم الأهلي الدائم، ومؤسسة كونراد اديناور، مرجع سابق، ص 199.
- Huntington, the third wave: Democratization in the late Twenty century Oklahoma press, Norman,1991,pp35-48.
- عمليات بناء الدساتير، دليل عملي لبناء الدساتير، المرجع السابق.
- – Karen O . Connor, Larry j.Sabto, The Essentials of American Government, Continuity and Change, (New York, London , 2007), p 207.
- – Emes Tiofful, The American System of Government,(New York: Fredrick Appraiser, 1965), p.38.-
- عمليات بناء الدستور، تصميم السلطة التنفيذية، مرجع سابق ص 19-20.
- Seymour Martin Lipset, “The Centrality of Political Culture”, Journal of Democracy, Washington 1 (4):p 80-83.
- المرجع ذاته، ص 21.
- عمليات بناء الدستور، دليل عملي لصياغة الدساتير، تصميم السلطة التنفيذية، المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات، 2011، ص 22.
هذه المادّة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي.