وحدة الرصد والتحليل السياسي في مرصد مينا الإعلامي
ما خرج به إسماعيل هنية في تصريحاته الأخيرة لوكالة سبوتنيك الروسية، قد يبدو مفاجأة غير متوقعة، خصوصاً من حيث التوقيت، فالحركة عودتنا على استغلال المناسبات الدينية بقصد جمع المال، ومع نهاية شهر رمضان، تبدأ مخططات الحركة بالسير نحو موسم الحج، وهو الموسم الذي تحرص القيادة الحمساوية على الالتحاق به كل عام، بوصفه فرصة لعقد اللقاءات الجانبية، والصفقات المربحة التي تكون في أغلبها للحصول على التبرعات، خصوصاً تلك التي تحاول حماس إدخالها إلى غزة في صورة (مساعدات إنسانية) أو مشروعات تتعلق بالإعمار، بعد الدمار الذي طال آلاف المنازل في الحرب الأخيرة على غزة وخصوصاً في هذا العام.
ينشط كثيرون في أقسام تبرعات الحركة، مثل الجمعيات الخيرية التي تأتي بمسميات عدة، أو غيرها مثل (هيئة علماء فلسطين) وهي هيئة خاصة بحركة حماس، ولكنها عندما تخاطب الآخرين، تتكلم باسم فلسطين بكاملها، أما ما تحصل عليه من دعم مادي لقاء نشاطها فهو في النهاية يصب في خدمة حركة حماس وحدها، بما في ذلك الجانب الدعوي، يضاف إليه أن ما ينتج من الهيئة من إصدارات ونشاط، يصب كله في خدمة برنامج الحركة، وليس عموم الوقف الفلسطيني.
تعودنا أيضاً على بعض سفراء المال من أبناء القادة، مثل عبد السلام هنية، مدير قناة أمواج الفضائية، ومسؤول ملف الرياضة في غزة، وهو ما حصل عليه بوصفه ابن الزعيم هنية، فمؤهلاته تخوله ليحصل على وظيفة متواضعة، ولكنه رقي سريعاً كابن أي أمير أو زعيم في دول العالم الثالث، غير أن المفارقة أن ابن الزعيم هنية لم يحصل على التعليم الملائم الذي يؤهله لينافس عشرات آلاف الخريجين الذين لم يحصلوا على وظيفة بعد.
نجح بالفعل عبد السلام هنية بالحصول على ملايين الدولارات، كان آخرها ما أعلنه بنفسه من حصوله على ثمانية ملايين دولار، قرر صرفها على بناء ملعب لكرة القدم، في الوقت الذي ما تزال فيه آلاف العائلات التي فقدت منازلها في الحرب تعيش في أماكن مزرية، وبعضهم ينام في الطرقات، بحسب ما وثقوه بأنفسهم على وسائل التواصل الاجتماعي.
باختصار، حماس هي تلك المؤسسة السياسية والدينية، والاجتماعية التي كانت تفتح أبوابها على الجميع، وكانت دائما تدخل في الصفقات السياسية الرابحة، مستغلة الأوضاع التي تحوط بها. باتت هذه الحركة اليوم وبكل بساطة، تتخلى عن ذلك كله، وتأخذ منحى جديداً في سياستها الخارجية، فإلى أين تذهب حماس؟ هل هو موسم الحج إلى قم بدلاً من مكة؟
تراجعات في الملف السوري
من ينسى إسماعيل هنية في شباط 2012 عندما كان محمولاً على الأكتاف في جامعة الأزهر في القاهرة، وسط سيل الهتافات القوية التي تنادي بنهاية النظام السوري وخروج إيران من المنطقة العربية، يومها أعلن هنية دعمه للشعب السوري، في أول إعلان رسمي للحركة التي كانت قد غادرت دمشق، إذ قال مخاطباً الشعب السوري: (أنا أحيي شعب سوريا الذي يسعى نحو الحرية والديمقراطية والإصلاح)[1].
ولكن، من يشاهد تصريحات إسماعيل هنية لوكالة سبوتنيك الروسية منذ أيام، يلاحظ ذلك الفرق الكبير، وهو علامة فارقة في الخطاب السياسي لم يصدر حتى عن نظام سياسي براغماتي، يعيش المتغيرات والوقائع السياسية بحسب مقتضى الضرورة، ولكنه خطاب حركة حماس، التي أكدت في بيانها الذي تلاه خالد مشعل في قطر[2] في الأول من أيار 2017 وعرض فيه ما عرف في حينه بوثيقة المراجعات أن ثوابت الحركة لم تتغير، حتى أخذتنا الحيرة، ما هي هذه المراجعات إذاً؟
وعلى الرغم من حديثه عن دولة بحدود 1967 إلا أنه بقي مصراً، على أن الحركة لم تتبدل، درجة أن الصحافة الإسلامية تاهت في اليوم التالي، بين عناوين المراجعات، ومحافظة الحركة على برنامجها.
عموماً، رحل رئيس المكتب السياسي القديم لحماس، وجاءت الرسائل التي أطلقها رئيس المكتب السياسي الجديد للحركة، لتعصف رياح التغيرات في برامج حماس التي يبدو أنها باتت كبيرة، وسوف نترك الأمر للأيام المقبلة كي تجيب عن سؤال مهم، فهل هذه التغيرات السياسية نتجت لأن المكتب السياسي للحركة بات في غزة؟، وباتت المعادلة مختلفة عما كانت عليه الحركة، عندما كان مكتبها السياسي محمولاً داخل حقيبة خالد مشعل، ويتجول به بين دولة ومؤتمر ومناسبة.
اليوم يقول السيد هنية في مفارقته الجديدة للوكالة الروسية (نحن لم نقطع العلاقة مع سوريا ولكن كثير من المتغيرات الموضوعية أدت إلى شكل العلاقة الحالي، ونحن نعدّ سوريا دولة شقيقة وقف شعبها ونظامها دوماً إلى جانب الحق الفلسطيني وكل ما أردناه أن ننأى بأنفسنا عن الإشكالات الداخلية، التي تجري في سوريا، ونأمل أن يعود الأمن والاستقرار والسلم الأهلي إلى سوريا وأن تعود إلى دورها الإقليمي القومي).
ويضيف هنية: (نحن وقفنا إلى جانب الشعب السوري، ولكن لم نكن يوماً في حالة عداء مع النظام السوري الذي وقف إلى جانبنا في محطات مهمة وقدم لنا كثيراً كما الشعب السوري العظيم، وإن ما يجري في سوريا تجاوز الفتنة إلى تصفية حسابات دولية وإقليمية).
الملاحظ في هذه الرسالة أن هناك انقلاباً كاملاً قد حدث في مفهومات حركة حماس، فالحركة هي (مع الشعب السوري) ولكن هناك استثناء مهم، والاستثناء هو النظام السوري، الذي قدم كثيراً لحماس، ثم يعود هنية مجدداً ليستدرك أن هناك (شعب سوري) ثم يكتشف أن ما يحدث في سوريا هو أمر (تجاوز الفتنة) إلى ما وصفه بتصفية الحسابات الإقليمية والدولية.
وبالطبع هنا نلاحظ أن فكرة انتفاضة الشعب السوري السلمية وعشرات آلاف الضحايا ومئات آلاف المعتقلين، ذلك كله حدث قبل انطلاق رصاصة واحدة ضد النظام، وبالطبع أيضاً قبل وجود داعش وأمثالها، فهذا المشهد كله هو محض فتنة، وهذا بالطبع ليس مصطلحاً سياسياً جديداً، فكلمة الفتنة[3] وردت مراراً على لسان حسن نصر الله أمين عام حزب الله الذي كان يربطها في أغلب الأوقات بالسعودية، جزءاً من سياسته واستراتيجيته، في تحويل المشهد السوري برمته نحو أيادٍ خارجية.
إذاً الخطاب السياسي لإسماعيل هنية ليس عبثياً، وهو يحمل دلالة خطرة، فكلمة (فتنة) التي طالما كررها إعلام حزب الله والإعلام الإيراني، بقيت ترتبط بالدرجة الأساسية بتوجيه الاتهامات حول المشهد السوري إلى السعودية، فهل حركة حماس اليوم من خلال تبنيها مفردات خطاب إيران وحزب الله السياسي، لا تريد الذهاب في هذا العام إلى الحج في مكة؟.
ما وراء الأكمة
اللغز في مسيرات العودة التي أطلقتها حماس، أنها جاءت بعد فشل قصة الأنفاق التي روجت لها الحركة كثيراً، وبعد قيام إسرائيل بتدمير القسم الأكبر منها هذا العام، وما نتج منه من خسارات مالية كبيرة، وهي تكلفة تلك الأنفاق التي اقتُطِعت من الإسمنت الذي كان يدخل إلى غزة بقصد إعمارها، غير أن حماس اعتقدت أنها قادرة على بناء مدينة أسفل غزة، يمكنها أن تكون ردعاً معنوياً لإسرائيل، وكان يترافق مع ذلك في بداية كل أسبوع تقريباً، إطلاق حماس تجربة صاروخية صوب البحر، حاولت حماس من خلال هذه المشاهد كلها إبراز قوتها لغاية في نفس يعقوب، وعندما فشلت، وتلاشت فكرة المصالحة، دخلت حماس في خطاب شعبوي جديد، عمدته بلغة الدم، وهكذا أطل السنوار وأطل هنية، وخليل الحية الذي بدوره قال: (هذا اليوم له ما بعده وسيطلق شعبنا الفلسطيني الموجة تلو الموجة حتى نلتقي في القدس)[4].
ولكن تلك المسيرات لم تصل إلى القدس، بل أضافت خمسة عشر ألف جريح إلى غزة، وتجاوز عدد الوفيات 120، وهدأت المسيرات رويداً رويدا، فماذا كانت تلك المسيرات، فهل هي محاولة للتغطية على فشل استعراض القوة اليومي للحركة في غزة، أم إنها رسائل سياسية مهمة، مفادها أن حماس وضعت فكرة المواجهة العسكرية مع إسرائيل وراء ظهرها، وهي الآن ومن خلال فكرة مسيرات العودة، تسعى لترويض الرأي العام العالمي لقبول حركة حماس.
يبدأ إسماعيل هنية مع الوكالة الروسية برسالة مشفرة، لكنها مفهومة، فهو يرى أن المسيرات: (أعادت الاعتبار إلى القضية الفلسطينية بوصفها قضية مركزية للعالم الحر وعادت إلى صدارة الاهتمام العربي والإقليمي والدولي).
وأنها نجحت في (استعادة حركة التضامن مع الشعب الفلسطيني في مستوى العالم).
ثم يتلو تلك الإجابات سؤال صحافي ذكي للغاية، حول سلاح حماس وجدواه ما دام في المستودعات، فتسأل وكالة سبوتنيك:
حماس دافعت بشدة عن شرعية سلاحها بوصفها حركة مقاومة ولكن بعضهم يتساءل ما أهمية السلاح ما دام قد بقي في المخازن حين أهدى ترامب القدس كاملة إلى إسرائيل؟
وهنا بالطبع يظهر خطاب هنية المرتبك، فلا إجابة واضحة، حول السلاح وجدواه، ليبدأ الحديث عن العمل الشعبي، والدفاع عن القدس بالصدور العارية، وهو ما يعيدنا بالأذهان إلى خطاب السنوار المتلفز الذي جاء ما قبل انطلاق مسيرات العودة، عندما هدد وتوعد، معلناً أنه تلقى تأكيدات من قاسم سليماني شخصياً بشأن مسألة القدس، وجاهزية جيش قاسم سليماني ..الخ. ولدى هذه المقارنة في الخطاب ثمة معان مهمة.
سياسة جديدة
هل كانت مسيرات العودة التي انطلقت بها حماس، هي ترجمة للمسيرات الحسينية التي طالما وردت في الخطاب المذهبي من طهران إلى حزب الله؟ أم هي ترجمة خجولة لفكرة التخلي عن السلاح، وفكرة البديل المقبل الذي يختفي وراء هذا التغير الغريب في الخطاب؟ وهل حماس بالفعل باتت مقتنعة بما تسير إليه، أم أن التبدل الحقيقي حصل منذ أمد، عندما بات المكتب السياسي الفاعل موجوداً في قطاع غزة، ومن ثم بات قادة حماس في الخارج محض سفراء جوالين بين العواصم.
أما السؤال الأبرز في ذلك كله، فهو مع من تتكلم إيران اليوم؟
هي بالتأكيد تخاطب غزة مباشرة، ومن ثم إن براغماتية الحركة وتأثيرات العواصم الخارجية في سياستها لم تعد ذات قيمة، ما يعني أننا سنشهد في الأمد القريب وجهاً مختلفاً وسياسة مختلفة لحركة حماس، وستكون تعبيراً عن إرادة من يحكمون غزة حكماً مباشراً، فهم أصحاب كلمة الحركة في المستقبل، علاوة على تاريخ الصراعات بين تيار الدكتور محمود الزهار في غزة وتيار الخارج، ممثلاً آنذاك بخالد مشعل.
أين إيران؟
إذا كانت رسائل إيران تصل مباشرة إلى غزة، فأين تقف إيران اليوم مما يجري في غزة؟
واذا كانت غزة قد سقطت بالكامل في يد إيران، فهذا يعني أن ثمة تحولات خطرة آتية، قد تفضي إلى تبدلات داخل غزة، وقد تسقط نهائياً فكرة المصالحة الفلسطينية، لأن إيران عدو المصالحة الأول، فهي ترى في المصالحة خروج غزة من أيديها.
واذا أردنا أن نشاهد العملية السياسية برمتها، وألقينا نظرة على ما تعيشه إيران من أزمات في سوريا والمطالبة الأمريكية والروسية بخروجها منها، ثم الفشل العسكري في اليمن وفشلها في إدارة لعبة الانتخابات في العراق، هذا كله يضع غزة أمام الملالي ورقة مهمة للمرحلة المقبلة، فهل تفكر إيران الآن بالجلوس أمام ترامب؟ خصوصاً بعد بدء طي الملف النووي لكوريا الشمالية، وإذا كانت إيران تفكر فعلاً في استخدام ورقة غزة، فما هو الثمن الذي ستدفعه غزة؟ وهل هناك لعبة إيرانية تؤدي حماس فيها دوراً ما يصل في نهاية المطاف إلى تغيير قواعد اللعبة في الشرق الأوسط، ولكن من بوابة غزة.
ماذا يحدث في غزة؟ ماذا سيحدث في غزة؟ ومن سيفاوض عن غزة؟ وهل هناك من خطوة سياسية إيرانية أو حمساوية في هذا الصيف وقبل موسم الحج في مكة.؟ وهل كلام هنية عن نظام الأسد هو عنوان تلك المعادلة حيث تتخيل حماس أن نظام الأسد سوف يبقى أمداً طويلاً ويكون جزءاً من اللعبة؛ الأسئلة كثيرة.
مراجع
[1] المصدر الوكالة الفرنسية، تلفزيون DW 24 شباط 2012.
[2] قناة الجزيرة، وكالات.
[3] السورية نت، آذار 2016، نصر الله يصعد ضد السعودية.
[4] موقع عرب 48، 15 نيسان .2018
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي.