في منطقة مسلك المالية بإسطنبول، وعلى مكتب زاوية يطل على مضيق البوسفور، يستقر الرجل الذي اتهمه القضاء الأمريكي بلعب دور مهم في واحدة من أكبر القضايا الجنائية الدولية في العقود الأخيرة.
بعد دراسته الاقتصاد في أنقرة، حصل محمد حقان أتيلا البالغ من العمر الآن 50 عاماً في الوقت الحالي، على وظيفة في بنك هالك التركي المملوك للدولة. وفي غضون عقدين من الزمن، ارتقى إلى منصب نائب رئيس البنك، والمسؤول عن التمويل الدولي من بين أمور أخرى. كان أتيلا يعيش حياة هادئة مع زوجته وابنه في أنقرة. وهو أحد الرجال الذين يعملون بجد وصمت.
تغيرت حياة أتيلا فجأة عندما تم اعتقاله من قبل ضباط مكتب التحقيقات الفدرالي في مطار نيويورك في 27 مارس/ آذار 2017. ويُظهر مقطع فيديو كيف التفت إلى الشرطي أثناء الاستجواب قائلاً: “ابذل قصارى جهدك. أنا مسؤول حكومي. ومتأكد من أن الحكومة التركية ستكون مهتمة بهذه القضية.” منذ ذلك الحين، أصبح أتيلا أشهر مدير مالي في تركيا.
رأى القضاء الأمريكي أن الأدلة أثبتت أن أتيلا ساعد إيران للتحايل على العقوبات على نطاق واسع. وحكمت عليه محكمة في نيويورك بالسجن لمدة عامين وثمانية أشهر في 2018. وبعد انقضاء المدة عاد أتيلا إلى تركيا.
اعتبر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أتيلا بطلاً لأنه لم يتهم حكومة بلاده في محكمة نيويورك، كما قام بتعيينه رئيساً لبورصة اسطنبول. من جانبه، يعتقد أتيلا أن هذه المزاعم لها دوافع سياسية، حيث قال: “كنت بريئاً. “مضيفاً “أحاول فقط أن أنسى الفترة التي قضيتها في السجن ظلماً.” بالنسبة إلى أتيلا، تم إغلاق القضية لدى عودته إلى تركيا، إلا أنها ما تزال في بدايتها بالنسبة لبنك هالك والحكومة التركية. ومن المقرر أن تبدأ المحاكمة في نيويورك خلال الأسابيع المقبلة. لم يعد أتيلا قيد المحاكمة، بل بنك هالك بأكمله.
وفقاً للمراقبين، قد يواجه بنك هالك غرامة تصل إلى 20 مليار دولار في حال إدانته في أسوأ الحالات، أو الطرد من نظام سويفت المصرفي الدولي. والتالي لن يعود بإمكان أحد أكبر البنوك التركية المشاركة في معاملات الدفع الدولية، وربما يعني ذلك النهاية بالنسبة له.
يواجه الاقتصاد التركي أزمة بالفعل، وسيكون إفلاس بنك هالك الضربة القاضية له على الأرجح، حيث أن مئات الآلاف من المستثمرين في تركيا سيخسرون مدخراتهم، وسوف تستمر قيمة الليرة في الانخفاض. وقد حذر خبراء اقتصاديون من انهيار الصناعة المالية التركية، كما حدث في عام 2001، عندما أصبح مئات الآلاف من الناس حينها فقراء بين عشية وضحاها.
هذا الإجراء أيضا له بعد عالمي. ويمكن أيضاً أن تتم مناقشة مسألة ما إذا كان السياسيون الأتراك، بمن فيهم الرئيس أردوغان، متورطين في خرق العقوبات، كما زعم أحد الشهود خلال محاكمة أتيلا في نيويورك.
وتعتبر قضية “الولايات المتحدة الأمريكية ضد بنك هالك” جريمة تجارية تمتد عبر عدة قارات، ولديها القدرة على تدمير الوظائف السياسية والمزيد من تحطيم العلاقات الأمريكية التركية. وهي بدأت في إيران حوالي عام 2010.
كيف يخترع رجل أعمال تركي إيراني تهريباً شبه مثالي
في عام 2010، كان محمود أحمدي نجاد رئيساً إيرانياً لمدة خمس سنوات. وقد قام بقمع احتجاجات حاشدة ضد النظام. ولكن كانت لديه مشكلة: فمن أجل إيقاف البرنامج النووي الإيراني، فرض الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة المزيد والمزيد من العقوبات، فبدأت إيران تنفد من المال.
في ذات الفترة، تدخل تاجر ذهب له علاقات جيدة بالسياسة الإيرانية والتركية يدعى رضا ضراب، وكان في أواخر العشرينات من عمره، ووعد بحل مشكلة أحمدي نجاد، من خلال مساعدة النظام في طهران على جمع رأس المال سراً عن طريق صفقات النفط والغاز مع تركيا.
ولد ضراب في تبريز، لكنه عاش في تركيا منذ الثمانينيات. وقد أظهرت سجلات المحكمة أنه عمل كوسيط للأعمال التجارية غير القانونية المزعومة بين إيران وتركيا منذ عام 2010.
وقد اعتمد نظام ضراب على أن تركيا ذات مصادر الطاقة القليلة، سوف تحصل على النفط والغاز الرخيصين نسبياً من إيران، وستحتفظ بالأموال المخصصة لذلك في حساب إيراني في بنك هالك، دون أن يتم سحبها مباشرة. وبسبب العقوبات، توجب على إيران أن تستخدمها فقط لأغراض إنسانية ومدنية مثل شراء الأدوية أو المواد الغذائية.
وبدلاً من ذلك، قام ضراب بسلسلة من الخطوات الوسيطة، حيث استخدم الأموال لشراء الذهب، من بين أشياء أخرى. ثم استخدم الذهب لتسوية الفواتير الإيرانية في الخارج. ووفقاً للمحققين الأمريكيين، فإن ضراب وبنك هالك قاما بغسل حوالي 20 مليار دولار للنظام الإيراني على مر السنين.
وقد حقق ضراب ثروة ضخمة في غضون فترة قصيرة. حيث اشترى قصراً بقيمة 72 مليون دولار في اسطنبول. مع نصف دزينة من اليخوت، مجموعة أسلحة، وطائرة خاصة. وهو متزوج من مغنية البوب التركية المعروفة إبرو غونديش. وكان ضراب يدخل ويخرج من الوزارات التركية، وعلى اتصال وثيق بالرئيس أردوغان.
ومن أجل الحفاظ على النظام، ورّط ضراب العديد من المسؤولين الأتراك بالملايين، بمن فيهم وزير الشؤون الاقتصادية آنذاك ظافر جاغليان ورئيس بنك هالك آنذاك سليمان أصلان، كما اعترف ضراب في وقت لاحق للمحققين الأمريكيين.
سارت عملية الاحتيال بشكل جيد لبضع سنوات حتى اختلف أردوغان الذي كان لا يزال رئيساً للوزراء في ذلك الوقت، مع الداعية الإسلامي فتح الله غولن.
يذكر أن أردوغان وغولن عملا معاً بشكل غير رسمي لفترة طويلة، حيث شغل أردوغان مناصب رئيسية في الدولة مع كوادر غولن، وفي المقابل نظّمت حركة غولن الأصوات لصالحه واضطهد المنتقدين.
لكن بعد ذلك أصبح غولن قوياً للغاية، فأغلق رئيس الوزراء المدارس ومراكز التدريس التابعة للحركة في خريف عام 2013 ، وعندها فتح المسؤولون الحكوميون المرتبطون بغولن تحقيقات فساد ضد أصلان رئيس بنك هالك والعديد من أبناء الوزراء.
لسنوات، قام ضباط غولن في الشرطة والقضاء بالتنصت بشكل منهجي على هواتف السياسيين، الأمر الذي عرّفهم على نظام ضراب. وقد أعلنوا عن النتائج التي توصلوا إليها، حيث ظهر تسجيل يأمر فيه أردوغان ابنه بلال بنقل عدة ملايين من الدولارات خارج المنزل. وفي فيلا أصلان، وجد المحققون 4.5 مليون دولار في علب الأحذية.
قضية الفساد هذه هزت نظام أردوغان، واضطر رئيس الوزراء إلى إعادة تنظيم حكومته، كما احتجز ضراب لمدة شهرين تقريباً.
لكن في نهاية المطاف، نجح أردوغان في تصوير التحقيق على أنه انقلاب متخفي. ووفقاً للملفات الأمريكية، فإن ضراب عاد واستأنف التجارة مع إيران بناء على تعليمات أردوغان. حتى أنه حصل في عام 2015 على جائزة كـ “أفضل مصدّر” بتحريض من قبل رئيس الوزراء.
وعندما أراد ضراب زيارة عالم ديزني مع أسرته في مارس/ آذار 2016، تم اعتقاله في مطار ميامي ونقله إلى سجن شديد الحراسة في نيويورك، حيث قدم لاحقاً شهادة مفصلة أمام محققي مكتب التحقيقات الفيدرالي. قال فيها أن رئيس الوزراء آنذاك وافق على خرق العقوبات منذ البداية.
بعد ذلك بعام، تم اعتقال نائب رئيس بنك خلق محمد حقان أتيلا أثناء رحلة إلى الولايات المتحدة. وتوصلت محكمة نيويورك إلى استنتاج مفاده أنه كان على علم بالنظام، لكنه لم يستفد منه بشكل مباشر على عكس رئيس البنك السابق أصلان، وبالتالي فإن عقوبة السجن الصادرة بحقه كانت مخففة نسبياً.
في هذه الأثناء، قال مستشار الأمن السابق للرئيس الأمريكي جون بولتون في عدة مقابلات أن أردوغان سيطرح قضية بنك هالك في كل محادثة مع ترامب خلال الأشهر القليلة المقبلة.
ووفقاً لبحث أجرته صحيفة نيويورك تايمز، دفعت الحكومة التركية للشركة الأميركية بالارد 4.6 ملايين دولار على الأقل لتكثيف ضغوطها بما يصبّ في مصلحة بنك هالك.
وكانت تركيا قد عرضت على مستشار الأمن السابق في عهد ترامب، مايكل فلين، 15 مليون دولار مقابل تسليم رجل الدين فتح الله غولن الذي يعيش في منفى بالولايات المتحدة، وفقاً للتقرير الذي أصدره المستشار الخاص روبرت مولر الذي أجرى تحقيقات حول التدخل الخارجي في الانتخابات الرئاسية الأميركية في العام 2016. لكن فلين ينكر هذه المزاعم.
على هامش قمة مجموعة العشرين في بوينس آيرس في كانون الأول/ديسمبر 2018، قدّم أردوغان إلى نظيره الأميركي مذكرة من مكتب المحاماة كينغ أند سبولدنغ الذي يعمل لصالح بنك هالك. وقال بولتون إن ترامب تصفح أوراق المذكرة سريعاً دون أن يقرأها بالفعل، لكنه أكد لأردوغان أنه مقتنع ببراءة البنك. وقد أخبر أردوغان بأنه “سيهتم بهذه القضية بنفسه” كما أكد بولتون.
كلف ترامب وزير العدل ويليام بار ووزير الخزانة ستيفن منوشين شخصياً بحل هذه المسألة. وقال لأردوغان عبر الهاتف قبل ذلك بوقت قصير: “نحن قريبون جداً من حل القضية.”
ووفق مصادر مطلعة على القضية، فقد ضغط المدعي العام بار على جيفري بيرمان، خليفة بهارارا المدعي العام في نيويورك، وطلب منه الامتناع عن توجيه اتهامات ضد بنك هالك. لكن بيرمان رفض على ما يبدو تنفيذ ذلك الأمر، فيما لم يعلّق بار على الموضوع.
وحتى يومنا هذا، يشعر الكثير من الناس في محيط ترامب بالحيرة من السبب الذي دفع الرئيس السابق إلى محاولة مساعدة أردوغان. ويظن البعض أن ترامب سعى وراء الحفاظ على مصالح تجارية مع تركيا. فيما يعتقد مستشار الأمن السابق بولتون أن أسباب تورط ترامب أكثر بساطة من ذلك، حيث أنه كان مفتوناً بالقادة المستبدين مثل أردوغان وبوتين، لذا “أراد أن يترك بصمة لدى أردوغان.”
شعر أردوغان بالقلق عندما علم بتحقيق الولايات المتحدة. حيث توضح له على الأرجح أن رفع دعوى قضائية ضد بنك هالك لن يشكل ضغطاً على الاقتصاد التركي فقط، بل سيفضحه أمام العالم، ولن تعود مزاعمه بأن تلك التهم دعاية أطلقتها حركة غولن قابلة للتصديق.
أطلقت حكومة أردوغان بالتعاون مع بنك هالك حملة ضغط كلفت ما يقرب من خمسة ملايين دولار بين عامي 2017 و 2019، كما كلفت أردوغان رصيده السياسي كله تقريباً.
وحتى قبل اعتقال مدير البنك محمد حقان أتيلا في نيويورك، حاول أردوغان التقرب من أوباما ونائبه جو بايدن على أمل أن يقنع السلطات الأميركية بإسقاط القضية. لكنها رفضا هذا الطلب نظراً لقانون فصل السلطات الموجود في الولايات المتحدة.
وعندما أصبح دونالد ترامب في البيت الأبيض في كانون الثاني/يناير 2017 تجددت آمال أردوغان. وبعد بضعة أسابيع على أداء ترامب اليمين، سافر رودي جولياني الذي كان مستشاراً للرئيس حينها، إلى أنقرة لمناقشة قضية بنك هالك مع أردوغان. بعد ذلك بوقت قصير، أقال ترامب بريت بهارارا، المدعي العام في نيويورك والذي كان مسؤولاً القضية حتى ذلك الحين.
يقول بولتون إن التبادل بين الرئيسين أضر في النهاية ببنك هالك، الذي اعتمد كثيراً على ترامب لدفن الإجراءات لدرجة أنه لم يحاول إيجاد تسوية مع السلطات الأمريكية.
العواقب
من المعروف أن المحكمة المحلية في جنوب نيويورك تنظر في القضايا الحساسة. حيث تمت محاكمة محامي ترامب السابق مايكل كوهين فيها بتهمة تقديم بيانات كاذبة، وكذلك المعتدي الجنسي جيفري إبشتاين. ولكن لم تترافق أي دعوى مع عواقب بعيدة المدى مثل قضية “الولايات المتحدة الأمريكية ضد بنك هالك.”
ومن المؤكد أن بنوكاً أخرى، من بينها دويتشه بنك وبنك بي إن بي باريبا، خرقت العقوبات في الماضي. لكن انتهاكاتها كانت أقل بكثير. على سبيل المثال، دويتشه بنك تمكّن من التوصل إلى تسوية مع السلطات. لكن في حالة بنك هالك، لم يعد ذلك ممكناً. وعلى الأغلب أن حكومة بايدن لن تتدخل في القضية، وفق ما قاله مصدر مقرب من الرئيس.
كان من المقرر أن تبدأ المحاكمة في الأول من مارس/ آذار، لكن محكمة الاستئناف وافقت على طلب عاجل من بنك هالك. وفي الوقت الحالي يجب أولاً تحديد ما إذا كانت محكمة نيويورك تتمتع بسلطة قانونية لمقاضاة مؤسسة مالية تركية، إلا أن الخبراء يعتبرون هذا الإجراء شكلياً.
ويبدو أن الإثباتات ضد بنك هالك قوية، حيث أدلى تاجر الذهب ضراب باعتراف شامل، كما حصل المحققون على وثائق هامة أحضرها ضابط شرطة تركي سراً إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 2017.
وعلى الصعيد الرسمي، تؤكد حكومة أردوغان أن بنك هالك كان دائماً ملتزماً بالقانون. كما رفضت الإجابة على القضية عندما طلب منها موقع (شبيجل) الإخباري التعليق عليها. ولكن في محادثات سرية، اعترف المسؤولون الأتراك بأنه لم يعد من الممكن تجنب العقوبات على بنك هالك.
وبسبب تمتع أردوغان بالحصانة بصفته رئيس دولة، لا يمكن محاكمته قانونياً في الولايات المتحدة. ومع ذلك، فإن الضرر الذي لحق بسمعته بسبب قضية بنك هالك كبير. ومن الظاهر أن هذه القضية تؤكد جميع التهم التي يوجهها أعضاء المعارضة لأردوغان منذ سنوات: من حيث أنه يخالف القانون، ويسيء استخدام سلطته لإثراء نفسه. وقد قال وزير الخارجية الأمريكي السابق ريكس تيلرسون لمجلة فورين بوليسي: “لقد توصلت إلى استنتاج مفاده أن أردوغان يُظهر اهتماماً بهذه القضية بشكل شخصي لأنه قلق من أن ينكشف تورطه إلى العلن”.
هزت تحقيقات السلطات الأمريكية ثقة المستثمرين في القطاع المالي التركي، في وقت أصبحت فيه تركيا أكثر اعتماداً من أي وقت مضى على رأس المال الأجنبي بسبب جائحة كورونا وتراجع قيمة الليرة.
ويمكن أن تكون المحاكمة في نيويورك مجرد بداية لسلسلة من الإجراءات الطويلة ضد بنك هالك. وفي هذا السياق، يقول مستشار الأمن السابق بولتون: “لقد سمعنا الكثير عن الفساد المحتمل فيما يتعلق ببنك هالك، وإذا تعامل هذا البنك مع قوانين الدول الأخرى كما هو الحال مع عقوباتنا على إيران، فقد يواجه المزيد من الإجراءات.”