تقوم هذه الدراسة بتعريف القارئ بمدينة سلمية من خلال بحث بانورامي لهذه المدينة التاريخية في جزءين يتناول الجزء الأول المحاور التالية:
- مدينة سلمية التاريخ والجغرافية؟.
- لماذا تعتبر سلمية العاصمة التاريخية للإسماعيلية؟.
- سلمية المقر السري للدعوة الإسماعيلية تاريخياً؟.
- سلمية اليوم؟.
- السُنة ودعوتهم في مدينة سلمية؟
- سلمية من الحكم العثماني إلى الحكم الوطني؟.
مدخل:
التاريخ والجغرافيا:
هناك شبه إجماع بين المؤرخين على أن (سلمية) مدينة قديمة يعود تاريخها للعصر البرونزي، بينما تؤكد أنواع وأعداد المغر المنتشرة فيها، وفي عدد من القرى التابعة لها أن الإنسان الحجري القديم سكنها، أذكر على سبيل التأكيد أنه كانت يتواجد في أرضنا، وأ راضي كثيرين عددٌ كبيرٌ من المغر متعددة الأحجام، ومصنوعة بطريقة هندسية جيدة، وهناك تنوّع فيها كأنّ بعضها مخصص للعائلات الكبيرة، والصغيرة، ولتخزين المواد الغذائية، وما يزال بعض المزارعين يستخدمونها في تخزين التبن وبعض الأدوات والمنتجات الزراعية، وما يزال الكثير منها موجوداً للآن في الكافات وتل الدرة وضهر المغر وقرى أخرى.
التنقيبات الأثرية التي اكتشفت من أسلحة وأدوات حربية وغيرها تعود للعهد البرونزي، أي نحو 3000 عام قبل الميلاد، وكانت عامرة في العهد السومري(3000 ـ 2400 ق.م)، وفي العهد الأموري(2400ـ 2000 ق.م)، وفي العهد الآرامي وازدهرت في العهد اليوناني السلوقي، وتألقت في العهدين الروماني والبيزنطي. وشكلت سلمية مركزاً للإمامة الإسماعيلية في القرن الثالث الهجري، وتم تدميرها في أواخر ذلك القرن على أيدي القرامطة، وتخربت نهائياً عند غزو تيمورلنك لسورية عام 803 هـ. وقد بقيت هكذا حتى إعادة إعمارها الحالي في منتصف عام 1848م، حين بدأت جموع من الطائفة الإسماعيلية من سكان الجبال الغربية السورية وعكار، بالقدوم إلى مدينة أجدادهم بعد صدور فرمان من السلطان العثماني عبد المجيد بالسماح لهم بالسكن فيها، وسماها “مجيد آباد”، ثم أعيد إليها اسمها التاريخي (سلمية) في عام 1900م.
الجغرافيا والاسم:
تقع وسط سورية في مثلث متساوي الساقين تقريباً بين حماة التي تبعد نحو 33كم، وحمص 45 كم، وهي في الطرف الغربي للبادية السورية، وكانت عبر التاريخ نقطة التواصل بين البادية والحضر، وبين حوض الفرات والمناطق الأخرى التي تستخدمها تحاشياً للمرور بالبادية والمخاطر المحتملة للقوافل من هجومات البدو، ومركزاً تجاريا مهماً باتجاهات مختلفة وخاصة إلى حلب مروراً بقصر ابن وردان، ومعبراً مهماً إلى بلاد الشام ولبنان.
أما اسم سلمية، أو السلمية فالخلاف التاريخي كبير حوله حيث تتواتر روايات ثلاث، فمن قائل أنها سميت بذلك في النصف الثاني من القرن الثامن الميلادي نسبة إلى الأشخاص المئة الذين نجوا من الزلزال الذي حل بمدينة المؤتفكة القريبة منها، والذين عادوا واستقروا في هذا الموقع فدعيت في البداية باسم «سلم مائة» ليحرّف الاسم فيما بعد، ومن قائل أن اسمها مشتق من كلمتي «سيل مياه» بسبب السيول التي كانت تأتيها من الشرق، وهناك من يرى أن اسمها يعود إلى العهد اليوناني تخليداً لذكرى معركة سلاميس البحرية التي وقعت بين اليونانيين والفرس وانتهت بانتصار اليونانيين، بينما يرى آخرون أن اسمها فعلاً سلاميس وسماها بذلك الاسكندر المقدوني تيمناً بمدينة سلاميس الواقعة على بحر إيجه، ويقال أن الاسكندر أقام بها ردحاً وأعجبته بوفرة مياهها، وسهولها المنبسطة، بينما ترك الرومان آثارهم الكبيرة فيها لدرجة الاختلاط حيث تُنسب جميع الآثار القديمة للفترة الرومانية، خاصة الحمام الروماني الذي ما يزال موجوداً، وكنا ونحن صغار نستخدمه والعائلات للاستحمام ثم أصبح ضمن الآثار التابعة للوزارة، وقبابه إسلامية وتبدو أنها أضيفت إليه، وهناك أيضاً مقام الإمام إسماعيل الذي يعدّ مزاراً لمعظم الإسماعليين، بالإضافة إلى بقايا السور في الناحية الجنوبية، وتقول المصادر التاريخية أن سوراً شاملاً كان يحيط بسلمية وبه عدد من القلاع للدفاع، وأنه دمّر مع الدمار الشامل الذي لحق بسلمية.
الرومان شقّوا مجموعة من القنوات التي كانت أنهراً صغيرة لجلب الماء من المناطق البعيدة إلى سهول سلمية، وتجاوز عددها ال 360 قناة، واستمرت بالتدفق حتى الخمسينيات حين كانت المصدر الرئيس لريّ الأراضي الشاسعة، وفقاً لجدول متفق عليه بين الأهالي كان يطلق عليه باللهجة المحلية ” العدّان” وهو يعني منح كل عائلة ساعات معينة لري أرضهم، ثم يستلمها آخر بالتوالي.. وكان مصدر منازعات أحياناً وقد جفّت تلك القنوات بسبب حفر الآبار الارتوازية، وسنوات الجفاف التي عرفتها المدينة سنوات الخمسينيات.
ومن أبرز الآثار الباقية التي تشكل المعلم العام للمدينة قلعة (الشميميس) التي تبعد نحو 3 كم، والتي لعبت دوراً تاريخيا في حماية المدينة حين كان السكان يلجأون إليها وقت الحصار والحروب. إضافة إلى (مزار الخضر) الذي كان قديما كنيسة مسيحية، ووفق المصادر التاريخية فأهم الآثار هي: ((مزار الخضر، الذي يقع في الجهة الشماليّة من المدينة، وقد شيد فوق قمة جرداء، وكان قديماً عبارة عن دير للمسيحيّة، وتحوّل إلى مسجد بعد الفتح الإسلاميّ. (السور)، الذي شيده نور الدين الزنكي والذي أحاط بالمدينة. (معبد زيوس)، المعروف اليوم باسم مقام الإمام إسماعيل، ويتسم بأنه ذو طابع هلنستي. (القنوات الرومانيّة)، ويبلغ عددها ثلاثمئة وستين قناة. (قلعة سلمية)، الذي يعود بناؤها إلى العهد اليونانيّ والروماني، وقد كانت القلعة مركزاً للجند، وتمتاز بالشكل الرباعي ذات الأدراج الثمانية، وقد رمّم نور الدين الزنكي القلعة في العصر الإسلامي، حيث إنّه رفع جدارها وعرضها. (قلعة شميميس)، التي تقع في الجهة الشمالية الغربية من المدينة، وتحديداً على جبل منفرد من جبال العلا، ويعود بناؤها إلى أمراء شميسغرام في حمص في نهاية العهد الهلنستي وأوائل العهد الرومانيّ (. ـ تبلغ مساحة منطقة السلمية 4513 كم2 وتضم 122 قرية و204 مزرعة، ويبلغ عدد سكان المدينة نحو 125 ألفاً حسب إحصاء عام 2010، بينما يتجاوز عدد سكان المنطقة وفق نفس الإحصاء 425 الفاً، أغلبيتهم من الطائفة الإسماعيلية، ومن السنة، والعلويين، وهناك قريتان للشركس، وبعض السكان الذين استوطنوا فيها من عقود طويلة، كبعض الأرمن والمسيحيين، ومن حماة وحمص وبعض المدن السورية الأخرى .
لماذا تُعدُّ العاصمة التاريخية للإسماعيلية؟.
لن ندخل هنا في المجادلات التاريخية عن الانقسام الذي حصل في الشيعة حول الإمام السادس، إسماعيل بن جعفر الصادق الذي يقول البعض أنه توفي في عهد والده، وآلت الخلافة لأخ جعفر الصادق، موسى الكاظم، بينما ذهب فريق آخر إلى وجود الإمام إسماعيل حيّاً، وأن -والده وخوفاً عليه من التصفية- أعلن خبر وفاته، بينما كان يقوم بدوره وهو متخف، وما عرف بالإمام المكتوم، أي المتخفي، وغير المعروف باسمه الحقيقي، وقد تواصلت صفة المكتوم قروناً للأئمة المتعاقبين حتى إعلان الدولة الفاطمية حين جهروا بأسمائهم وشخصياتهم الحقيقية .
من مقالة نشرت في الموسوعة الإيرانية ـ جامعة كلومبيا ـ نيويورك ـ ص 178 ـ 195 نطّلع على الفترة التي أصبحت فيها سلمية العاصمة الإسماعيلية: (( من المؤكد أن مجموعة من القادة الذين كانت لهم مكانة راسخة ضمن الإسماعيلية عملت، ولفترة تقرب من قرن من الزمن بعد الإمام محمد بن إسماعيل، بصورة سرية لإيجاد حركة شيعية موحدة ضد العباسيين. ولم يزعم هؤلاء القادة، طوال فترة أجيال ثلاثة، الإمامة الإسماعيلية علناً لأنفسهم. بل إنهم أخفوا في الواقع هويتهم الحقيقية من أجل تفادي الاضطهاد العباسي. وكان الإمام عبد الله الأكبر، أول هؤلاء القادة المستترين، قد نظـّم حملته حول العقيدة المركزية لأكثرية الإسماعيليين الأوائل، وهي مهدية الإمام محمد بن إسماعيل.
إن تنظيم حركة باسم إمام مستور لا يمكن لعملاء العباسيين مطاردته كان يمثل إستراتيجية جـذّابة. وفي جميع الأحوال، فإن وجود مثل هذه المجموعة من القادة الإسماعيليين الأوائل قد تأكّـد من قبل كلّ من الرواية الرسمية للإسماعيليين من الفترة الفاطمية بخصوص الطور ما قبل الفاطمي من تاريخهم ( إدريس، عيون، 4، ص357 – 367، 390 – 404) إضافة إلى الرواية المعادية للجدليين السنيين ابن رزام وأخي محسن المحفوظة في مصادر متأخرة ( ابن الدواداري، 6، ص 44 – 156؛ مقريزي، اتعاظ،1، ص 151 – 201؛ ـــــ ــــــ، الخطط، 1، ص 391-397؛ نويري، 25، ص 187- 317 ).
وبالفعل، فإننا نجد أن أسماء هؤلاء القادة، أي الإمام عبد الله والإمام أحمد و الإمام الحسين، أو الإمام محمد، والإمام عبد الله المهدي، الذين كانوا من ذات الأسرة وخلف الواحد منهم الآخر على أساس وراثي، نجدها متطابقة تقريباً في روايات الإسماعيليين الفاطميين اللاحقين (ح. ف. الهمداني، 1958، النص ص 10 – 12؛ نيسابوري، ص 95؛ انظر أيضاً همداني و دو بلوا، ص 173 -207) وفي القوائم المنسوبة إلى أخي محسن ومصدره ابن رزام ( ابن النديم، مح. تجـدّد، ص 238؛ تر.دودج، 1، ص 462 – 464؛ ابن الدواداري، 6، ص 17 -20؛ مقريزي، اتعاظ، 1، ص 22 -26؛ نويري، 25، ص 189؛ حمادي يماني، كشف، ص 16 وما بعدها). غير أن المصادر الإسماعيلية تقدم هؤلاء القادة على أنهم علويون ينحدرون من الإمام الصادق بينما ترجع الروايات المعادية للإسماعيليين نسبهم إلى شخص يقرب اسمه من ميمون القداح. وقد أظهر البحث الحديث أن النسب القداحي للقادة الإسماعيليين المبكرين كان من تركيب الجدليين المعادين، وذلك بعد تأسيس الخلافة الفاطمية بفترة قصيرة، من أجل دحض النسب العلوي للأئمة – الخلفاء الفاطميين. وكان ميمون وولده عبد الله قد ارتبطا، في الحقيقة، مع الإمامين الباقر والصادق ولم يكن لهما علاقة لا بقادة الإسماعيلية الأوائل ولا بأئمتهم (انظر ايفانوف،1946، ص 61، 103؛ دفتري، 1990، ص 105 – 116).
السلمية المقر السري للدعوة الإسماعيلية تاريخياً:
كان الإمام عبد الله الأكبر، أول القادة الإسماعيليين الأوائل بعد الإمام محمد بن إسماعيل، قد استقرّ في عسكر مكرم في خوزستان، حيث عاش كتاجر ثري، وبدأ من هناك بتنظيم دعوة إسماعيلية متجددة، فأرسل الدعاة إلى المقاطعات المختلفة المحيطة بخوزستان. وبتاريخ مجهول، لكنه لا يزال في النصف الأول من القرن الثالث هـ/ التاسع م، وجد الإمام عبد الله ملجأً له في سورية، حيث أعاد تأسيس اتصالاته بالنتيجة مع بعض دعاته، واستقر في سلمية مواصلاً الظهور بمظهر التاجر الهاشمي. ومنذ تلك الفترة، أصبحت سلمية، إلى الجنوب الشرقي من حماة بحوالي 35 كيلو متراً، مقراً سرياً لقيادة الدعوة الإسماعيلية.
وبدأت جهود الإمام عبد الله وخلفائه تؤتي أُكلها في ستينييات القرن الثالث هـ/ سبعينيات القرن التاسع م، عندما ظهر الكثير من الدعاة في العراق والمناطق المجاورة. وكان قرابة عام 261هـ/ 874 م أن تحول حمدان قرمط إلى الإسماعيلية على يد الداعي حسين ألأهوازي ( ابن النديم، مح. تجدد، ص 238؛ مسعودي، تنبيه، ص 395). وبدوره، قام حمدان بتنظيم الدعوة في سواد الكوفة ، موطنه الأم، وفي المناطق الأخرى جنوبي العراق. وكان المساعد الرئيسي لحمدان صهره عبدان. وتمتع عبدان، رجل الدين العالم، بدرجة معينة من الاستقلال، وكان مسؤولاً عن تدريب وتعيين الكثير من الدعاة، ومنهم أبو سعيد الجنابي، الذي أسس فيما بعد دولة البحرين القرمطية )). في سلمية رفاة عدد من أئمة الإسماعيلية وكبار الدعاة، ومع الدمار الذي لحقها لم يعد فيها سوى مقام الإمام إسماعيل، بينما اندثرت بقية المقابر مع تلك الهجمات التدميرية . بعد سقوط الدولة، او الخلافة الفاطمية على يد القائد الإسلامي الشهير صلاح الدين الأيوبي، وسقوط القلاع النزارية في آلموت مع الغزو المغولي الكاسح.. تفرّق الإسماعيليون في جهات العالم الإسلامي، وقلّ عددهم كثيراً نتيجة التصفيات والملاحقات، أو التحاق أعداد منهم بالمذهب السني والجعفري، عانوا كثيراً الملاحقة المتواصلة، فلجأ عديدهم للجبال، وكانت سلمية مدمرة تماماً وغير مأهولة، لكنها ظلّت في المخيال العاصمة التاريخية التي انطلقت منها الدعوة الفاطمية وأسست تلك الإمبراطورية التي دامت نحو ثلاثة قرون، بما في ذلك تأسيس مدينة القاهرة التي تعرف بقاهرة المعز، وجامعة الأزهر التي مثلت أكبر وأهم جامعة إسلامية في تاريخ المسلمين .
سلمية المعاصرة؟.
ـفي القرن التاسع عشر، ونتيجة غزوات البدو على حواضر المدن في حماة وحمص، قرر السلطان العثماني عام 1846 إعادة إعمار سلمية، فأصدر مرسوماً سلطانياً (فرماناً) يمنح ساكنيها إعفاءهم من الجندية والضرائب ومن الأحكام السابقة الصادرة بحقهم، وقيل إن إمام الطائفة كان على تواصل مع السطان العثماني وأنه تفاهم معه على السماح لأبناء الطائفة الإسماعيلية بالعودة إليها وإعادة بنائها، فوجّه إليهم قراره وتمّ ذلك مع العام 1848، وكان يطلق عليها آنذاك اسم ” مجيد آباد” تيمناً باسم السلطان، ثم عاد الاسم التاريخي إليها . بناء على قرار الإمام اتجه وفد من المناطق الإسماعيلية، خاصة من نهر الخوابي، ومصياف والقدموس للتعرّف على المنطقة ومدى أهليتها للسكن، ويقال إن الوفد الأول كان من ثمانية أشخاص( للمناسبة كان أحد أجداد العائلة من بينهم) وأنهم عانوا كثيراً أثناء إقامتهم في العراء، لكنهم دهشوا بمساحاتها وسهولها الرحبة، ومياهها الغزيرة وأقنيتها العديدة الجارية، عكس مناطقهم الجبلية الضيّقة المساحة، والمليئة بالصخور، فكتبوا بمشاهداتهم للإمام الذي أوعز لأبناء الطائفة بالتوجه نحو عاصمتهم التاريخية وإعادة بنائها. بدءأ ممن ذلك التاريخ بدأت عائلات بأكملها، أو بمعظمها الهجرة من ديترها في نهر الخوابي وبعض قرى طرطوس من الإسماعيليين، ومصياف والقدموس بالتوجه إلى سلمية وإعادة إعمارها في ظروف صعبة، ووسائل محدود، فكانت القباب سكناهم لفترة، ثم البيوت الحجرية الزرقاء التي كانت أكواماً منتشرة في الأنقاض، وهي بقايا الأسوار والقلاع، والتي انتشرت في عموم المدينة، بينما اتجه قسم من تلك العائلات، أو أفراد منها إلى القرى المجاورة، وعلى امتداد عشرات الكيلومترات لإقامة قرى زراعية اشتهرت بوفرة الإنتاج.
كلهم رؤوس بصل؟
في سلمية مثل شائع يقول” كلهم رؤوس بصل” والبصل إنتاج سلموني غزير ومشهور، وحين بحثت في أصل المثل، وجدت أن له جذوراً طبقية، إضافة إلى السمة العامة للسوريين كفرديين، ويعود إلى أن جميع من سكن سلمية ـ،بداية ، كان يملك قطعة أرض، بغض النظر عن مساحتها، ومدى خصوبتها، لأن تعليمات الإمام كانت تقتضي بالتوزيع العام والشامل للأرض بين المهاجرين، مع بعض التمايزات في التطبيق الذي يعود لفئة الوجهاء، أو “الأمّار”(وهي مشتقة من أمير) والتي كانت تتلوى القيادة السياسية والدينية معاً، وكانت لها الحظوة الأكبر في مساحات الأراضي، وأكثرها خصوبة وقرباً من قنوات المياه الجارية.
بينما الفروق الطبقية الملحوظة حصلت لاحقاً عبر التراكم، ونجاح البعض في الزراعة وفشل البعض، أو إصابته ببعض النكبات الزراعية، أو طبيعة الأرض، وهو ما كان يجعل السلموني يعتز بسلمونيته، وبأنه مالك، ولا يعمل بأرض الغير، وبنوع من الكبرياء والشموخ، رغم أن العقود التالية عمّقت بعض التمايزات الطبقية واضطرت بعض العائلات للعمل في أرض الآخرين، وشملهم حزام الفقر.
من جهة أخرى، فهذا الوضع أدّى إلى استقدام عمالة للأرض كانت في معظمها من قرى الساحل السوري، والريف الذي تسكنه الطائفة العلوية، والتي جاءت بأعداد غفيرة للعمل في حقول الملاكين السلامنة وفق نسبة كان يتفق عليها، وباتت عرفاً شائعاً، وتفصيل النسب في الأرض البعل، والسقي، وكان البستاني لا يقدّم شيئاً مالياً سوى جهده مقابل الحصول على ثلث الإنتاج، ونصف الخضار.. بما حقق لديهم شيئاً من التراكم كان يسمح بالاستقلال والاستقرار، وشراء أرض صغيرة يعمل بها، عدا عن أنه في مواسم الحصاد كان يقدم إلى المدينة آلاف الحصادين معظمهم من أبناء الطائفة العلوية، بعضهم استقر وعاش في سلمية، فتكوّنت مجموعة من القرى المحيطة بسلمية وعاصمتها ـ إن صحّ القول ـ صبورة التي أصبحت ناحية، إضافة إلى مجموعة قرى مختلطة، وبعضها جاء للسكن فيها من القرى العلوية المنتشرة في شرق حمص، كما أن حيّاً بسلمية بات بأغلبيته من العلويين، ومع حكم الطاغية الأسد حصل انتشار أوسع للعلويين في سلمية وداخلها، خاصة في الأطراف الشمالية الغربية، والجنوبية، وبرزت تلك الأحياء الجنوبية في الثورة كمناطق مضادة امتلأت بالتحصينات والمعتقلات وأعمال التشبيح والخطف والتصفية، بقيادة آل سلامة ويونس وغيرهما، وإشراك عدد من السلامنة معهم وفيما يعرف “بالدفاع الوطني” .
أما العلاقة مع العشائر البدوية التي كان إعمار سلمية الراهن يهدف إلى تشكيل حاجز بشري يمنعهم من تهديد المناطق الحضرية وغزوها، فقد شابت العلاقة، في البدايات، عديد الصراعات والاشتباكات، ثم انتهت إلى ما يشبه عقد مصالحة” تاريخية” بعد واحدة من تلك المواجهات، والتي قيل كثير فيها، وإطلاق مصطلح “رعيان العوجا” على جميع أبناء سلمية والتي كانت بمثابة معاهدة عمّت لتسود بعدها علاقات ودية وتعاون بين العشائر البدوية وأهالي السلمية.
تقول الرواية : ((في ربيع عام 1850 م اجتاح سلمية غزو مؤلف من عدد من فرسان قبيلة الفدعان بقيادة ابن شيخ القبيلة ( صميت بن قنيفذ) الملقب براعي العوجا (والعوجا هي فرس عربية أصيلة)، وصادف هذا الغزو مواشي السلميين قرب جبل عين الزرقاء غربي سلمية، و كان رعاة المواشي قلة مؤلفين من سبعة رجال و طفلين فقط، واستطاع الغزو المكوّن من فرسان مهرة أشداء أن يقودوا مواشي السلميين كلها بسهولة باتجاه الشمال مارين في سهل الخصيمية، ومنطقة الصيادة، فسهل تل عدا، عندما عاد بعض الرعاة الى سلمية لاستفار حمية سكانها لاسترجاع مواشيهم فلبى دعوة الرعاة من السلَميين ستة عشر فارسا من فرسان سلمية، واتجهوا خلف الفرسان و أدركوهم في سهل جصين، حيث دارت معركة كبيرة دامت ثلاث ساعات هرب على إثرها الغزاة و قد فقدوا عقيدهم، وعاد فرسان سلمية ومعهم أسير مقيد بكوفيته حاسر الرأس حافي القدمين، وبين الاغاني و الاهازيج و أصوات النخوة من الجموع التي تهزج للمنتصرين و في مقدمتهم الامير اسماعيل .
فاستدعى الامير اسماعيل أسيره على الفور الى غرفته، و حل وثاقه و أجلسه بقربه و أعاد له لباساً محترماً و قال له : من أنت ياضيف الرحمن؟ فغض الرجل الاسير بصره، فقال له الأمير: لا تخف انت ضيفنا و عليك الأمان، فأجابه الاسير انا صميل بن قنيفذ، وبعد صمت لم يطل قال الامير لابن قنيفذ : (( أهكذا تكون حرمة الجوار وعلى جيرانكم تتطاولون سامحكم الله و غفر لكم ) . و كان في ضيافة الامير بعض من عساكر المتصرفية في مهمة أمنية، فطلب قائدهم تسليم ابن قنيفذ للسلطة بحجة أن الدولة تريد أن تقضي على عادات الغزو فكان رد الامير اسماعيل : (( ليس هذا عدوا لنا و ليس غازياً، بل هو ضيف عزيز، بيننا و بينه سوء تفاهم، و نحن العرب لا نسلم أضيافنا)) , وعاد الأمير الأسير الى دياره معجباً بشهامة السلميين و كرمهم بعد وداع حار من الامير اسماعيل , و أرسل في اليوم التالي فرسه (العوجا) و معها قطيع من الابل و ثلاثة قطعان من الاغنام و سبعة عشر حصاناً كهدية صداقة للسلميين)) .
حركة التَسَنن في السلمية؟!.
هناك أسباب مختلطة لانتشار حركة التسسن في سلمية التي كانت –قبل ذلك – ذات أغلبية إسماعيلية ساحقة، حيث إن السكان القادمين الذين قاموا بإعمارها كانوا جميعهم من الإسماعيلية، مع ملاحظة وجود أعداد من مصياف والقدموس التي تدين بالمذهب الجعفري، والتي تركت اتباع مذهب الإمامية نتيجة تباينات وخلافات تفسيرية وفقهية وغيرها، وكان لهم دورهم في إحداث نوع من التمايز. وأثناء ثورة الشيخ صالح العلي على الاحتلال الفرنسي تعرضت القدموس للحرق والمذبحة من قبل مجاميع حاقدة محسوبة على أنها ضمن صفوف الشيخ، مما دفع بالكثير من أهل القدموس للهروب نحو سلمية وسكنوا حيّاً ما زال يعرف بحي القدامسة.
حدث ذلك في العام 1937 و 1938 .. كما أن كثيراً من الإسماعيليين في بعض القرى ونتيجة أعمال القتل والهجوم على أملاكهم اضطروا للهجرة إلى سلمية ملاذاً، وهؤلاء كانوا في أغلبيتهم على المذهب الجعفري. هناك عامل سياسي مباشر يتعلق بزعامة المنطقة، حيث برزت شخصية “الجندي محمد” وهو والد سامي الجندي السياسي والأديب، وأخوته الذين انتموا للبعث ومارسوا أدوارا فيه، كخالد وإنعام وعاصم، والشاعر علي الجندي.
الجندي محمد وجد أفضل وسيلة لإضعاف دور ونفوذ الأمّار قيادة حركة جذرية تتجاوز الخلافات الجزئية لما هو أعمق، فأخذ ينشر فكر أهل السنة والجماعة بين المتعلمين والمثقفين من أبناء السلمية، وينقد ممارسات ودور الأمّار، وكذلك المذهب وعقيدته، وموقع الإمام وتأليهه من قبل البعض، وقد لاقت هذه الحركة قبولاً متسعاً من قبل أؤلئك المتعلمين الذين نجحوا في استقطاب العديد من عائلاتهم وزملائهم، فانتشرت بقوة حتى تكادت تصل نسبتهم إلى الثلث في الوقت الحالي، وهناك من يعدّها أكثر من الثلث، بينما نجد فريقاً ينقص النسبة.
وفي جميع الحالات فهذه الظاهرة تكاد تكون وحيدة بين المذاهب عير السنية التي لم تشهد انتقالاً في المذهب بمثل هذا العدد، كما أنها وخلافاً لطبيعة المذهب السني الذي يظنه الكثير كمذهب محافظ، كانت حركة التسنن ذات طابع تقدمي لانتشارها بين المتعلمين والمثقفين.
من جهة أخرى، ولئن أسهمت تلك الحركة، خاصة في بداياتها ببعض المشاحنات والصراعات، والانقسامات بين أهالي السلمية، وداخل الأسرة، والعائلة الواحدة إلا أنها وقد باتت أمراً واقعاً، تحوّلت إلى تعايش وتناغم، حيث تتغلب السمة السلمونية على غيرها، وهنا تصبح المذهبية بالنسبة إلى السلموني عاملاً جوّانياً، وليس برّانياً، ويبقى الفخر بالانتماء لسلمية هو الأشمل والأقوى.
يتبع الجزء الثاني.
هذه الدراسة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي.