العاصمة التاريخية للطائفة الإسماعيلية
بعد أن تعرفنا في الدراسة السابقة إلى مدينة سلمية من خلال بحث بانورامي لهذه المدينة التاريخية تناول التاريخ والجغرافية. وأجبنا عن سؤال: لماذا تعتبر سلمية العاصمة التاريخية للإسماعيليين؟ . يتابع هذا البحث الحديث عن مدينة سلمية والثقافة في المجتمع (السلموني) والسياسة وروادها وأحزابها؛ والمعارضة السياسية في تلك المدينة؛ ثم يتحدث عن دور السَّلَمية في الثورة السورية؛ وأسباب انكفائها ثورياً. تناقش هذه الدراسة الوضع في مدينة سلمية من خلال المحاور التالية:
- عوامل تميز أبناء سلمية.
- سلمية الأدب والسياسة.
- الأحزاب السياسية في سلمية
- أبناء سلمية في الجيش السوري.
- سلمية والمعارضة.
- سلمية والثورة السورية.
- العمل المسلح.
- عوامل توقف الثورة في سلمية.
تمهيد
دراسات كثيرة تناولت ما يمكن اعتباره تميّزاً في أبناء مدينة سلمية معظمهم، ووسم المدينة به، ويتعلق الأمر بـ: منسوب الثقافة. الإقبال على العمل السياسي. مستوى الوعي والالتزام والصدقية. كثرة الأدباء على اختلاف تخصصاتهم.
سألني أكثر من باحث كان يعدّ بحثاً يتعلق بأهل السلمية، ويحاول الوصول إلى حقيقة هذا الذي يعدّونه تمايزاً يكاد يكون استثنائياً في سوريا، وكنت من خلال معايشتي للبلدة، واهتمامي بهذه الخصائص أحاول إيجاد الإجابة الموضوعية التي تتعاطى الأمر واقعياً لمنح هذه الظاهرة حقها بعيداً من التضخيم والتعميم والتقزيم.
لقد تضافرت عوامل عدّة كان لها فعلها في تركيبة هذا السلموني الحامل أحلامه، المهاجر من قراه وذكرياته إلى مدينة مهدّمة تماماً، زاده الكبير عاطفي فهو يعود إلى عاصمة طائفته ويشكل حالة شبه مستقلة، خارجاً من إسار القرى الجبلية وطبيعتها القاسية، وأرضها المحدودة، والوجود بين أبناء طوائف أخرى لا تحمل الود، وعرضة لنزاعات وصراعات دموية أحياناً، وإرادة تحدي تشحنها مرجعية إيمانية بتنفيذ (وصايا الإمام)، والنجاح في إعادة سلمية مدينة يفتخر بها.
عوامل تميز أبناء سلمية
يجب أن نعلم بداية أن أغلب المهاجرين من طبيعة ريفية، وكثيرون منهم كانوا أميّين لم يتلقَوا أي نوع من التعليم سوى بعض التعليم القرآني في الكتاتيب التي كانت موجودة في بعض القرى، لكن هناك ذخيرة، أو مرجعية ثقافية، شكلت ذلك المخزون المعرفي المتمايز للحركة الإسماعيلية في العقلانية، ومناقشات العقل والنقل، والفلسفة، وخاصة رسائل إخوان الصفا التي كتبها مجموعة من الدعاة في سلمية قبل قيام الدولة الفاطمية التي كان لها تأثيرها العام عند أغلب المنتمين إلى الطائفة ولو بالسرد الشفاهي. لذلك هناك مجموعة عوامل سنتناولها وأهمها:
1 ـ الافتخار بالخزين المعرفي، والسياسي للحركة الإسماعيلية، والدولة الفاطمية التي تشكل مرجعية في الوعي واللاوعي، تهيّئ عدداً من الناس للاهتمام بالجوانب الفلسفية، والتمايزية عن الآخرين. ونعرف هنا، من دون الخوض في مساحات الصراع والخلاف مع المذاهب الأخرى، والأحقية وغيرها، أن كل مذهب يعمل جاهداً لتكريس نوع من التمايز من غيره، ليحظى بخصوصية تمنحه مشروعية وتوفر له عوامل الاستمرار، وتسوّغ وجوده، بل صحة ما يؤمن به، ولمَ لا؟ ما دام يحقق كسْب مؤيدين جدد، ويسجل نقاطاً على المذهب الآخر.
اهتمّت الإسماعيلية، منذ بدئها، وخلافها حول مصير الإمام إسماعيل بن جعفر الصادق، بتغليب العقل، والغنوص، والتفسير الباطني، والإيلاج العميق في الفلسفة وقصة وجود الله، علائم ذلك، وموقع الأئمة منه، فأحدثت نوعاً من التمايز يمكن وصفه بالانفتاح والقابلية للمناقشة والمعارضة.
2 ـ لقد أرست مراحل العمل السري والمطاردات الطويلة تشكيل طقوس خاصة صارت جزءاً من العقيدة حتى بات يصعب فصلها عنها، وعلى سبيل المثال، كان يستحيل على مجموعات سرية جداً أن تؤذّن وتعلن وجودها في أثناء مواعيد الصلاة، فقد أُلغِي وجود المآذن في مساجد الإسماعيليين، وتكرّس ذلك حتى في المراحل اللاحقة التي توقفت فيها المطاردات بوصفه نوعاً من التمايز، وتحويل اسم الجامع إلى جمعة، إضافة إلى طقوس الصلاة وما يتبعها من شيء أشبه بالمزار، إذ غالباً ما يقدّم المصلون أفضل منتوجاتهم الزراعية وما لديهم من منتجات، ليشتريها الآخرون في ما يعرف بـ(فكّها) وفق ثمن يجري المزاد فيه لترسو على أعلى الأثمان، وهذا الأمر يتوسع جداً ليشمل تركة الميت، وإقامة (مجلس) على روحه عبارة عن صدر كبير مملوء بفاخر الحلويات، أو في حالات الزواج والمناسبات كالنجاح والتخرج وسواه، وتقديم (ملبس) بعد الصلاة مقابل مبلغ زهيد، بينما يضاف إليه ليلة الإثنين والجمعة الراحة وما يسمى بماء الشفا مقابل مبلغ أكبر من اليومي، وتعود هذه المبالغ جميعها إلى صندوق المجلس الأعلى للطائفة الذي يُعدّ هو نفسه القيادة الدينية والاجتماعية، وهذه العملية التي فرضتها قرون العمل السري والمطاردة قدّمت دخلاً كبيراً إلى الطائفة وأتاحت تحقيق الاستقلال وعدم الحاجة إلى أي مساعدات من أي جهة كانت، والقدرة على تنفيذ عدد من المشروعات الخدمية والتعليمة وسواهما، وعمقت التمايز، وخصوصاً أن هناك رتباً دينية تراتبية يجري احترامها.
3 ـ يجب الاعتراف بالدور البارز (للآغاخان الثالث) سلطان محمد، الذي كان شخصية عالمية بارزة، وما أنجزه في ميادين التعليم وتحرير المرأة والمساواة بين البشر على صعيد الهند والباكستان ومناطق وجود الإسماعيليين الذي لعب دوراً سياسياً بارزا في الهند ودولياً.
لقد حضّ كثيراً على التعليم بوصفه سبيلاً للعلم والحضارة والتقدّم، وعلى تحرر المرأة ومساواتها بالرجل، وكان لهذه التعليمات آثارها في انتشار المدارس في وقت مبكر في سلمية، وإقبال عدد من الإناث على التعليم، وكانت المدرسة الزراعية التي أنشئت عام 1910 من أموال زكاة الأهالي، وهي الأولى في سوريا، والثانية على الصعيد العربي، واحدة من الإنجازات الكبيرة للطائفة التي حدثت بتشجيع زعيمها ودعمه.
ويجب أن نضيف عاملاً آخر في هذا الشأن، ذلك أن زعيم الطائفة يعيش في أرقى الدول الأوروبية، وهو عصري العقل واللباس والأفكار، ومثل ذلك يكون له شأنه في التأثير في بنية العقل وفتح نوافذ التطور فيه، والتخلص من سجون الماضوية الرهيبة. ووجود شخص مثله مثل بقية البشر يجعل الإيمان به يسهل تحرر العقل من ثوابت المقدّس، والغوص الجريء في مفهوم الله، والدين، والنصّ، والقدسي، وكان ذلك حال مثقفي سلمية وإقبالهم على الأفكار والأحزاب اليسارية والتقدمية.
4 – سلمية التي جرى إعمارها زراعية بعموم منتجاتها وحِرفة سكانها، ولا توجد فيها حركة صناعية أو تجارية، وليست مدينة سياحية، بما يعني أن اهتمامات الناس وميولهم تتجه نحو سدّ الفراغ بالممكن، وما دامت تلك الممكنات التجارية والصناعية والسياحية غير متوافرة يبقى ميدان الأدب، والحلم، والسياسة هو اتجاه أغلب الشباب واهتمامهم، وتعويضهم.
سيضاف إلى ذلك وجود سلمية على تخوم البلعاس: جبالاً وودياناً وشجراً من نوع خاص، وهو ما شكّل إلهاماً عند كثيرين، واستناداً أدبياً يصل إلى حد الفخر والتضخيم الكبير لمفعول البلعاس بكل ما فيه من تفاصيل.
5 ـ- هناك عامل مهم آخر قد يبدو غير مرئي، أو مباشر، في بحث (الأقليات المذهبية) عن إطار جامع لها مع الآخرين: المجتمع، يساهم في تحقيق الاندماج، وإذابة الفوارق، وتجاوز الخلافات المذهبية، ونظرة الآخر إلى ابن الأقليات.
يجب الإشارة هنا إلى أن تاريخ سوريا الحديث كان يمور بالتفاعلات السياسية، والتحولات الكبيرة، بدءاً من أواخر عهد السلطنة العثمانية وأمراضها، وصعود الحركات القومية العربية، فالثورة العربية الكبرى، فتقسيم بلاد الشام في اتفاقات (سايكس – بيكو) والاحتلال الفرنسي لسوريا، واغتصاب فلسطين وثورات التحرر الوطني والقومي.
هذه الأوضاع كانت تساهم بقوة في تشكيل شخصية السوري، ووعيه، وتعزز انتماءه القومي بدلاً من أي انتماءات فرعية، أو جانبية أخرى، فضعفت المذهبية، وصعدت الوطنية والقومية، ففي معارك فلسطين جنّد الأمير عبد الله تامر 600 من أهالي البلدة متطوعين في جيش الإنقاذ بقيادة فوزي القاوقجي، وفي المساهمة في جوانب الحراك السياسي والأحزاب المختلفة التي نهضت في تلك المرحلة.
سلمية الأدب والسياسة
تلك العوامل المتداخلة هي التي شكّلت بنية (السلموني) وثقافته، وفتحت له ميادين واسعة في الأدب والسياسة، والثقافة، فبرز عدد كبير من الأدباء الشعراء لدرجة لافتة، وبعضهم سجل بصمته الخاصة على الصعيد السوري، والعربي، وحتى العالمي درجة أن الذين يتعاطون الشعر، والأدب لا تحصى أعدادهم وهم ظاهرة بارزة في المدينة.
أما السياسية فكانت الميدان الرحب للتنافس والانخراط وبروز قيادات فاعلة في الحياة السياسية السورية. لقد شارك (الأُمّار) وعدد من المقربين منهم في (الكتلة الوطنية) التي قادت مرحلة جلاء المستعمر الفرنسي، وحين انقسموا بقي رموز منهم في (حزب الشعب) ووصل بعضهم إلى البرلمان، وإلى مقاعد الوزارة؛ لكن شيئاً آخر كان يجري في ميادين شعبية أوسع، باستقبال الأحزاب الجديدة التي عدّت نفسها بديلاً لحزب الشعب وغيره من القوى (التقليدية).
الأحزاب السياسية في سلمية
في مراحل متقاربة انتشرت ثلاثة أحزاب بقوة: القومي السوري الاجتماعي، الشيوعي، البعث.
كان القومي السوري أكثرها سرعة في الانتشار، وقد داعبت شعاراته وطقوسه حماس عدد من الشباب، وفي رأيي كان الحزب القومي متأثراً بالحزب النازي، والفاشي أيضاً، فجند مئات الشباب في صفوفه، وبات قوة بارزة في الحياة السياسية وحتى الاجتماعية، وحتى حين تعرّض للحل والملاحقة ظلت بعض عناصره مؤمنة به، وظهرت في المراحل اللاحقة.
ـوبخطى بطيئة في البداية، وبدعم واضح من موسكو وثقلها أخذ الحزب الشيوعي بالانتشار وقد ضمّ نخباً مهمة، إضافة إلى بعض المزارعين والعمال، وبعض العائلات التي تأثرت بأحد أبنائها.
لكن البعث، وبخاصة بعد اندماجه مع العربي الاشتراكي، اكتسح الساحة بقوة، مستفيداً من المدّ القومي، ومن أخطاء الحزب الشيوعي في المسألة القومية، والوحدة، وحالة التبعية لموسكو التي لا تترك مجالاً للاجتهاد. وحين لوحق أفراد الحزب القومي السوري أصبح البعث القوة الضاربة المنتشرة ليس فقط لدى المتعلمين والنخب بل في الأرياف والقرى، والمنافس الخطر لموقع الأمّار وسلطتهم لدرجة أن منافس مرشّح البعث/ من آل المير/ كاد يسقط، وقيل إن تزويراً حدث لإسقاط مرشح البعث الدكتور سامي الجندي، وفي الانفصال نجح البعث في إيصال مرشح علوي من قرية صبورة إلى البرلمان، وعُدَّ ذلك تطوراً نوعيا.
أبناء سلمية في الجيش السوري
على صعيد المؤسسة العسكرية، وبعد توسع الجيش بعد (نكبة فلسطين)، ودخول عدد من أبناء السلمية إلى الكلية الحربية، برز عدد منهم بجرأتهم وصلابتهم ووعيهم، وكانت نسبة البعثيين فيهم كبيرة، ويلاحظ ذلك في تشكيل اللجنة العسكرية في القاهرة التي شارك فيها كلّ من عبد الكريم الجندي، وأحمد المير/ابن مصياف المحسوب على الإسماعيليين/ وكانت خماسية في البداية ثم وُسّعت، وفي انقلاب 8 آذار 1963، ثم انفراد البعث بالحكم برز ضباط سلمية بقوة فاعلة. ثم حدثت سلسلة التصفيات التي جرت في حركة 23 شباط 1966 وبعد قيام الحركة التصحيحية التي قادها حافظ الأسد ضد البعث وأعلى مؤسسة فيه/ 16/ تشرين الثاني 1970، وقبلها انتحار عبد الكريم الجندي رئيس مكتب الأمن القومي أو مقتله في مطلع عام 1969.
سلمية والمعارضة
قبل الحديث عن المعارضة السلمونية يجب التنبيه إلى أن الانتماء السلموني كان هو الأقوى والأعم، وأن كثيرين ممن حسبوا على الطائفة الإسماعيلية كعبد الكريم الجندي وغيره، هم من المحسوبين على المذهب السني، وفق عائلاتهم، ونعلم أن السمة العامة لمن يبدّل مذهبه هي التشدد لإثبات صدقيته مع نفسه وأمام الآخرين، ومع ذلك، وعلى الرغم من حدوث بعض الصراعات والمشاجرات داخل الأسرة والعائلة الواحدة، وعلى الرغم من وجود بعض الإسلاميين المنظمين في حركة الإخوان المسلمين، ولكنهم ظلوا قلة، وبقي التعايش هو الغالب، وظلّت العلاقة السلمونية الأقوى في التعامل، وحتى في الزواج، علاوة على أن أبناء الأحزاب الجديدة كانوا، غالباً، فوق مذهبيين، ولا يقبلون أن يتعاملوا على هذا الأساس بل وفق خياراتهم الفكرية والسياسية.
الأمّار كانوا في العموم مسالمين، واستقبلوا التغييرات بنوع من الرضا الظاهري، أو الصمت، لذلك لم يشكلوا معارضة، حتى بالنسبة إلى الناصريين وبعد محاولتهم الانقلابية في 18 تموز 1963 لم يكونوا قوة مسيطرة، لكن الاعتقالات والملاحقات تناولت أؤلئك الذين عارضوا حركة 23 شباط 1966، وكان بينهم عدد من الضباط الذين سرّحوا، واعتقلوا، إلى جانب عدد من المدنيين، غير أن السجن لم يستمر طويلاً فعقب هزيمة حزيران 1967 جرى الإفراج عن الجميع، وقد غادر كثيرون منهم سلمية إلى مناطق أخرى، وإلى العراق بعد وصول البعث القومي للحكم /18 ـ 30 تموز 1968/ ومارسوا فعل المعارضة من هناك، وتعرّض عدد ممن جرى تنظيمهم وتجنيدهم للاعتقال ضمن الصراع الشديد بين النظامين في سوريا والعراق.
يمكن القول إن المعارضة الأوسع، والأشمل بدأت بعد انقلاب الأسد حين اتخذ عدد مهم من البعثيين موقفاً معارضاً، وصلباً ضدّ الانقلاب، وكان على رأس هؤلاء المعتقلين المناضل المعروف مصطفى رستم، وعدد من قيادات الفرع والشعبة والإطارات، في حين كان التنظيم السري المعارض يعمل على الانتشار، وكان في قيادته وصفوفه عدد مهم من سلمية.
اتسعت قاعدة المعارضة بانشقاق الحزب الشيوعي إلى أكثرية في (المكتب السياسي) وخط بكداش، وعلى الرغم من تأخر الانفكاك عن النظام إلا أن تمايز مواقفهم كان يمد المعارضة بالدعم الإيجابي، ومعهم تنظيم الاتحاد الاشتراكي العربي، وبعض الخلايا الماركسية التي أخذت في التكوّن ضمن مسمّى (الحلقات الماركسية) التي كانت الأب الروحي لولادة رابطة العمل الشيوعي، فحزب العمل الشيوعي.
وعلى امتداد السنوات كانت نسبة المعتقلين من سلمية هي الأعلى على الصعيد السوري قياساً بعدد السكان، ومن أحزاب جلّها محسوب على اليسار، وبعض الإسلاميين.
وحتى نختمّ هذه الفقرة التي تثير التفكير عند عدد من المهتمين، يمكن القول: إن عاملين متراكبين تداخلا في وجود هذه المعارضة الواسعة:
1 ـ قوة الأحزاب المعارضة وصلابة مواقفها، وبلورة الخط الديمقراطي فيها، وطبيعة النظام الأحادية، الشمولية، القمعية الطائفية التي تفتح المجال لمواجهته، وعدم السكوت على ممارساته، وبخاصة إثر تدخله في لبنان وضربه للثورة الفلسطينية المتحالفة مع الحركة الوطنية اللبنانية، ومقايضته بالقضايا الوطنية والقومية كلها.
2 ـ البيئة الملائمة التي تمتدّ إلى جذور الخلاف المذهبي والصراعات التي حدثت، وهذه البيئة تجد مفاعلاتها في ممارسات الأسد الطائفية، وما قام به من تموضعات واضحة، وإهمال سلمية المتعمّد في مشروعات الإعمار والتنمية، لذلك يتسع مناخ المعارضة، وتلقى قبولاً شعبياً يمدها بالمؤيدين.
سلمية والثورة السورية
كان طبيعياً أن تلتحق سلمية بالثورة منذ البدايات، وهذا ما حصل فعلاً، وقبل انطلاقتها في سلمية كان عدد من شباب سلمية حاضراً في يوم 15 /3/ 2011 عند بدء أولى التظاهرات، وهناك تأكيد أن أول من أطلق شعار: (واحد واحد واحد الشعب السوري واحد)، هو أحد الشباب/ صبر درويش/ ابن المناضل الشهير علي صبر درويش الذي توفي قبل عامين، بل يمكن القول إن المشاركة في ثورات الربيع العربي كانت متعددة الأشكال في سلمية، ببعض التظاهرات والندوات التي حصلت تأييداً لها، وتأكيد القناعة بأنها ستكون شاملة، وستنفجر في سوريا، على الرغم من توقعات كثيرين أن سوريا (مضبوطة أمنياً) فكانت التظاهرة الأولى في 25/3/ 2011، أي مدينة ثانية بعد درعا، وتواصلت التظاهرات حتى وصلت أوجها حين بلغ عدد المتظاهرين نحو عشرين ألفاً، معظمهم من الشباب، وبوجود نسائي كبير إذ شاركت المرأة السلمونية بقوة في التظاهرات كلها وكانت بصمتها واضحة فيها.
إلى جانب التظاهرات في سلمية، كان عدد من شباب سلمية ينتقل إلى حمص للمشاركة في تظاهرات الثورة في مختلف الأحياء، وإلى حماة، وحتى دوما والغوطتين الغربية والشرقية، ومناطق مختلفة من سوريا وكان لتلك المشاركات رمزيتها البالغة في كسر خطط النظام ودعاياته بأن (الأقليات) تقف معه وكانت تلك المشاركات تلقى الترحيب الكبير في ما يمكن اعتباره العرس الثوري الذي دام أشهراً.
أما النازحون، فكانت سلمية الصدر والقلب المفتوح لنازحي مدينتي حمص وحماة بوجه الخصوص، وقد بلغ العدد نحو 120000 نازحاً قوبلوا بأحسن معاملة، وما يزال عشرات آلاف من هؤلاء في سلمية، وكانت مساهمات غذائية تقدّم إلى المدن والمناطق المحاصرة، ويجري إيصالها بالوسائل المتاحة كلها.
كتب مصعب الجندي في 17/2/2013 شيئاً موضحاً عن سلمية والثورة، قال فيه:
((لا يمكن لأي سوري يعرف طبيعة مدينة السلمية، أن يتخيل أن أي ثورة ستندلع في سوريا في أي لحظة بعد عقود من الاستبداد والدكتاتورية والإلغاء، لن تكون السلمية حاضرة فيها بقلبها وعقلها وروحها، أياً كان شكل هذا الحضور ودوره. ففي السلمية التي يتجاور فيها الفقر والفكر، المثقفون المعارضون والناس البسطاء المتذمرون الساخطون بالفطرة، المعتقلون القدماء الذين أكل السجن أعمارهم، مع المراجعين المزمنين لفروع الأمن من شباب المدينة الطالع في كل جيل، سوف لن تجد أحداً يرضى على نظام الأسد أو يعلن انتماءه إليه، سواء التزم الصمت في سره، أم أطلق للسانه العنان في سهرات السمر السياسي التي كثيراً ما استحالت جدلاً لا ينتهي في ليالي السلمية الطويلة((.
فالمدينة التي تشكل المعقل الأساسي للطائفة الإسماعيلية في سوريا، استطاعت أن تجد نمطاً فريداً من التعايش بين مكونها السني والإسماعيلي وأطياف مسيحية في قرى متاخمة لها أو وجود علوي محدود فيها، لم تبن ذلك على مقاس (شعارات الوحدة الوطنية) التي دأب النظام على تسويقها بالإكراه فيما الجمر يشتعل في رماد المظالم والتمييز، بل بنته من خلال ثقافة أهلية متوارثة، عارضت النظام في كل شيء، فحولت كذب الشعار إلى حقيقة من صدق وألفة وعفوية ربما نكاية به، وربما نكاية بالجغرافيا التي رمتها في مفترق طرق كي تحرس الصحراء، فراحت تحرس التاريخ وترقب ثوراته مهما تباطأ زمنها، أو غالت في ركونها.
فمشاركة أبناء سلمية في الثورة السِّلمية بدأت مع أولى الاعتصامات التي جرت في دمشق دعماً لشعوب دول الربيع العربي الثائرة، وذلك قبيل تفجر ثورة الحرية والكرامة السورية، وبعد الثورة كانت مشاركتهم متنوعة شملت جوانب الحراك الثوري السلمي كافة؛ من تظاهرات وإسعاف وأعمال إغاثة وإيصال معونات إلى المنكوبين والمحاصرين في المناطق المستهدفة، ولهذا بدا الدور الذي قامت به تجاه جارتها الكبرى (حماه) التي لاتبعد عنها أكثر من ثلاثين كيلو متراً، حين احتضنت أكثر من ستة وعشرين ألف نازح لجؤوا إليها حين اقتحم النظام مدينة النواعير بدباباته في مطلع رمضان/ آب من عام 2011 تعبيراً عن الاستعداد الفطري للقيام بدور إغاثي فاعل في الثورة التي انتظرتها السلمية عقوداً، وهي تلوك أشعار الماغوط وأهجياته المرة، وتمرد سامي الجندي وانقلابه المبكر على البعث، وعنفوان علي الجندي في شعر كأنه صرخة زمن طويل، وأخبار مصطفى رستم الذي أمضى (23) عاماً في سجون الأسد الأب، وترجمات الشعر والتية والغياب في وجدان شباب لا يرون في السلطة حلماً ومجداً أمام سلطة العصيان المتأصلة في المدينة.
لكن مسار الحوادث في السملية بدا غريباً ومفاجئاً، حين راحت الثورة تتأرجح تارة على وقع محاولات الفتنة الطائفية التي فشل النظام في إذكائها فشلاً ذريعاً، وأخرى على وقع تصريحات صادمة، كتصريح العقيد رياض الأسعد في مطلع تموز يوليو (2012) الذي اعتبر السلمية (مدينة موالية للنظام) فأثار ردات فعل غاضبة جعلت كثيرين من أبناء المدينة وناشطيها ينبرون لدرء (اتهام) لم تقبله السلمية في زمن الصمت، كي ترحب به في زمن الثورة، ثم تفجيرات صادمة كانت تصيب مثقفيها بالذهول، والبحث عن المعنى والمصدر.
لقد تعرّض مئات الشباب للاعتقال والتعذيب، وتجاوز عدد المعتقلين الألف، وهناك عدد من المفقودين حتى الآن، بينما كانت قائمة المطلوبين تتجاوز الـ400، وفي تشييع جنازة الشهيد الأول جمال الفاخوري واجه النظام المشيعين بالرصاص فاستشهد علي القطريب وجرح عشرات، وقد اغتال النظام عدداً من الناشطين كاغتيال كريم نصرة، وعند استشهاد ملهم رستم في الرستن وهو ينقل الأدوية خرجت أكبر تظاهرة لتشييعه فجرح عدد كبير من الحضور، والتهبت المدينة بأكملها في تظاهرات لا تتوقف، وحين حاصرها النظام وشبيحته لجأ الشباب إلى التظاهرات الليلية، ثم التظاهرات الطيارة.
العمل المسلح
يجب الاعتراف أن الانتقال إلى العمل المسلح لم يلقَ قبولاً واسعاً من ثوار سلمية حين أبدى كثيرون تخوفهم من خطر التسلح، ونقل الثورة من السلمية والشعبية إلى المواجهات العسكرية كما يخطط النظام ويريد. وقد أعلن عدد مهم من ضباط سلمية وصف ضباطها وجنودها انشقاقهم ومنهم من هو برتبة عقيد، أو مقدم أو رائد أو نقيب أو ملازم. وحين فرض استخدام الثورة للسلاح دفاعاً عن المدنيين، بدأت بعض الكتائب المسلحة في سلمية بالتشكل فبرزت كتيبتان منذ البداية: كتيبة الفاروق التي كانت جزءاً من لواء الفاروق، وفيها نسبة كبيرة من السنة، إلى جانب بعض الإسماعيليين، وكتيبة شهداء سلمية التي تتكون في أغلبها من الشباب الإسماعيليين، إلى جانب بعض السنة، ثم تشكلت (كتائب الوحدة الوطنية) لمدّة قصيرة فشارك فيها عدد من أبناء سلمية، إلى جانب بعض العلويين من منطقة سلمية.
ـكتيبة الفاروق تبعثرت مع نهاية لواء الفاروق، ووزع أعضاؤها في بقية الفصائل، بينما استمرت كتيبة شهداء سلمية حتى الآن، وواجهت حصاراً كبيراً في الدعم والإسناد، وهي حالة من وضع عام مسّ الثورة في سلمية. وعلى الرغم من تشكيل غرفة عمليات مهمة قبل عامين من سياسيين معروفين في المدينة، وعسكريين ضباط، ووضع مخططات لبناء لواء قد يتجاوز تعداده الـ 1500 والقيام بعدد من الاتصالات لتوسيع هذا اللواء، وأخرى لتأمين الدعم المالي واللوجستي له، وحين لم يجد المشروع الدعم اللازم أخذ يتأكل.
عوامل توقف الثورة في سلمية
كثيرة هي الأسباب التي تحتاج إلى دراسة خاصة، بعضها يتعلق بخبث النظام ومحاولاته إشعال فتنة طائفية بين الإسماعيليين والسنة، فخاف كثيرون من وقوعها، وثانيها يتعلق بمسار الثورة حين سيطرت العَسكرة عليها، وقد سحقت العَسكرة الجانب السلمي، وحتى السياسي، وحين طغت الأسلمة على الثورة، شعر كثيرون ممن ثاروا لانتزاع الحرية والكرامة أن لا مكان له في ثورة تجنح بعيداً عن أهدافها وتتبنى خطاباً إسلاموياً مغايراً لما قامت من أجله، وقد ترافق ذلك مع بعض التصريحات المؤذية من قيادات محسوبة على الثورة، كتصريح رياض الأسعد، قائد الأركان حينها، بأن سلمية من المدن الموالية للنظام، وتصريحات غيره من قادة فصائل وضعوا سلمية في قائمة الموالين، والأقليات، شأنها شأن بقية مناطق الأقليات.
وأظن أن من أهم الأسباب ليس الخطاب البارز وحده، بل طرائق التعامل مع ثوار سلمية، وتنسيقيتها من هيئات الثورة: المجلس الوطني، ثم الائتلاف، ومنسوب المساعدة في المبالغ المالية الكبيرة التي كانت تصل إلى مدينة حماة، ولم يصل منها إلى سلمية إلا النزر اليسير والتافه، في حين كانت الالتزامات كبيرة ومحرجة، ثم الإصرار إعلامياً على حذف مدينة سلمية في الشبكات الإعلامية الخاصة بالثورة، والإصرار على تسمية المنطقة بـ (ريف حماة الشرقي) الذي يغيّب اسم سلمية نهائياً وكأنه فعل مقصود، ولا شكّ في أن وجود سلمية بوصفها منطقة وليست محافظة كان يعني كثيراً من الظلم، وعدم المساواة. ثم عامل الهجرة الذي فتح الباب واسعاً لمغادرة عشرات آلاف الشباب والعائلات معظمهم من المحسوبين على الثورة، وبخاصة بعد حصار سلمية من الجهات كلها: بقوات النظام التي راحت تستعيد المبادرة وتتسع بتشكيل قوات الدفاع الوطني، وتطلق اليد لعصابات الشبيحة قتلاً وتصفية واختطافاً وبلطجة يومية، وداعش التي وصلت تخوم المدينة واحتلت عدداً من القرى التابعة للمنطقة في الجهة الشرقية والشمالية والتي ارتكبت عدداً من المجازر، بينما توجد (جبهة النصرة) / جبهة تحرير الشام/ في المنطقة الجنوبية الغربية، وذلك كله يمنح النظام أوراقاً لمصلحته، وبخاصة أن حرب الإشاعات باقتحام المدينة من داعش وارتكاب مجزرة شاملة فيها كانت عامل خوف معمم اضطر الناس إلى السكوت لوجود النظام، وهم يعرفون أنه ضدهم، وأنه يخادعهم لكسبهم إلى صفّه.
مع ذلك فجذوة الثورة ما تزال موجودة، وعدد من المناضلين والثوار يتابعون التطورات، ويبحثون عن سبل ممكنة للتعبير عن آرائهم، وعن رفضهم لهذا النظام، وتمسكهم بالحرية نظاماً ديمقراطياً مدنياً تعددياً شاملاً.
هذه الدراسة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي.