عام 2016 فاجأت حركة النهضة الإسلامية التونسية الرأي العام الداخلي والخارجي بخاصة، عندما أعلنت التخصص في العمل السياسي وترك النشاط الدعوي للمنظمات المدنية، والفصل التنظيمي بين الجانب الدعوي والسياسي يصب في خانة المراجعات، في خطوة اعتبرها بعضهم ”تاريخية”. اليوم وبعد أكثر من سنتين على ذلك الإعلان وما تبعه من احتفاء، تعالج هذه الورقة، إلى أين وصلت هذه المراجعات؟ هل تحققت فعلاً أم بقيت محض إعلان؟ وهل تأسست على تحولات مبدئية أم كانت محض انحناءة أمام عاصفة المتغيرات المحلية والإقليمية العاصفة حينذاك؟
حركة النهضة: «من الجماعة الإسلامية» إلى الحزب السياسي
إن السرية التي طبعت تاريخ الحركة الإسلامية في تونس منذ نشأتها، تجعل من الصعب القبض على لحظة تأسيسها الفعلي. والمؤكد أن هذه الحركة لم تتأسس دفعةً واحدةً في مكان محدد وزمان دقيق أو في مؤتمر معلوم. غير أن أغلب المؤرخين والفاعلين في هذه الحركة يجمعون على نهاية ستينات وبداية سبعينات القرن الماضي كحقبة تاريخية بدأ فيها تيار الإسلام السياسي بالنشاط والوجود في البلاد. خلال هذه المدّة نشأت الحركة الإسلامية في شكل تنظيمي سمي حينذاك بالجماعة الإسلامية، وبدأت تنظم عناصرها الفتية في حلقات وأسر صغيرة حول جمعيات المحافظة على القرآن التابعة للدولة، وفي بعض مساجد العاصمة وتنهل من مراجع جماعة الإخوان المسلمين المصرية وكتابات مؤسسها حسن البناء أحد أبرز منظريها، وسيد قطب وزعيم الجماعة الإسلامية الباكستانية أبي الأعلى المودودي في مراحل لاحقة، ينادي أغلبها بضرورة إقامة الدولة الإسلامية الحاكمة بالشريعة وأسلمة المجتمع جذرياً.
ضمت الحركة الإسلامية منذ تأسيسها بداية السبعينات طيفاً واسعاً من المؤمنين بأن «الإسلام دين ودولة» على اختلاف توجهاتهم المذهبية والطائفية وتصوراتهم لــ«منهج التغير». فالحركة الإسلامية التونسية كانت خليطاً بين: مجموعة إخوانية تقليدية تتبع منهج جماعة الإخوان عقيدةً وسياسةً، بما فيها أفكار سيد قطب عن الحاكمية والجاهلية. ومجموعة سلفية صغيرة متأثرة بحركة المد السلفي الذي ظهرت في بداية السبعينات في مصر والخليج على يد الشيخ ناصر الألباني والجمعية الشرعية المصرية ومجموعة إسلامية عقلانية انشقت في أواخر السبعينات بقيادة صلاح الدين الجورشي وحميدة النيفر، وبعض العناصر ذوو التوجه الصوفي ولاحقاً ظهر تيار شيعي داخل الحركة في عقب انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية بقيادة آية الله الخميني عرف بــ«خط الإمام». هذا المزيج جعل من الصعب على الحركة تحديد منهج التغير في مواجهة الدولة والمجتمع. لكن التيار الغالب فيها كان متأثراً بأفكار الجناح القطبي في جماعة الإخوان المسلمين القائل بــ«الحاكمية»، وتكفير الحُكام و«الجهاد ضدهم من أجل إقامة الدولة الإسلامية».(1)
ويشير مؤسس الجماعة راشد الغنوشي بوضوح إلى ذلك، في شرحه للعناصر الفكرية المكونة للحركة الإسلامية عند تأسيسها، مانحاً ما سماه بالـ «التدين السلفي الإخواني، الوارد من المشرق»، المنزلة الأبرز، قائلاً في هذا السياق : «إن هذا التدين بدوره تألف بين العناصر الآتية: المنهجية السلفية التي تقوم على محاربة البدع في مجال العقائد ورفض التقليد المذهبي في المجال الفقهي والعودة في ذلك كله إلى الأصل: الكتاب والسنة، وتقوم هذه المنهجية أساساً على أولوية النص المطلقة على العقل والفكر السياسي والاجتماعي الإخواني القائم على تأكيد شمولية الإسلام ومبدأ حاكمية الله سبحانه مبدأ العدالة الاجتماعية، ومنهج تربوي يركز على التقوى والتوكل والذكر والجهاد والجماعية والاستعلاء الإيماني. منهج فكري يضم الجانب العقائدي الأخلاقي على حساب الجوانب السياسية والاجتماعية ويقيس الأوضاع والجماعات بمقياس عقيدي ما ينتهي معه الأمر إلى تقسيم الناس إلى إخوة وأعداء ويغلب جانب الرفض في تعامله مع الواقع والثقافات الأخرى وحتى مع المدارس الإسلامية فهو أحادي النظرة ويكاد يشكل منظومة مغلقة».(2)
لكن الجماعة الإسلامية، ذات المنهج الإخواني والاعتقاد السلفي، ما لبثت أن تحولت إلى حزب سياسي عام 1981، عندما فتح النظام الباب أمام تأسيس الأحزاب. فقد تقدم قادة الجماعة بطلب لتأسيس حزب حركة الاتجاه الإسلامي، لكن النظام رفض ذلك الطلب، لتدخل الحركة الجديدة في نوع من ازدواجية التنظيم، بين حزب سياسي علني لا يحمل تأشيرة قانونية، وتنظيم إسلامي سري، في حالة أقرب إلى التنظيمات اليسارية.
وعلى الرغم من الحركة أعلنت في بيانها التأسيسي، في يونيو/ حزيران 1981، نبذ العنف واختارت النضال السياسي منهجاً لعملها، لكنها عملت بشكل موازٍ على المُضي في منهجها الجهادي سبيلاً للوصول إلى السلطة، من خلال تكوين جهاز خاص مهمته العمل السري الأمني والعسكري لإسقاط النظام وإقامة الدولة الإسلامية. فقد فصلت الحركة عملها العلني والشعبي عن العمل السري وعملت على اختراق المؤسسة العسكرية والمؤسسة الأمنية وقد تعاظم هذا التنظيم السري داخل الجيش والأمن حتى حاول القيام بانقلاب عسكري لإطاحة الرئيس الحبيب بورقيبة ونظامه وإنشاء «دولة إسلامية» في 8 نوفمبر/ تشرين الثاني 1987، إلا أن هذه المحاولة فشلت وكان زين العابدين بن علي الأسرع إلى السلطة فأفرج عن المجموعة التي خططت للانقلاب التي عرفت آنذاك بالمجموعة الأمنية، وقد كشف القيادي الراحل في الحركة، منصف بن سالم، عن تفاصيل العملية والمشاركين فيها في مذكراته.(3)
ومع وصول زين العابدين بن علي إلى السلطة دخلت حركة الاتجاه الإسلامي في نوع من الوفاق معه، وغيرت اسمها إلى حركة النهضة، استجاب بن علي لمطالب النهضة بالتخفيف من علمانية الدولة، واتجه إلى بعض التعديلات الشكلية كإحداث وزارة للشؤون الدينية وإذاعة الإذن في التلفزيون الرسمي. لكن الصراع ما لبث أن تجدد بين الحركة والنظام، عندما اكتشف بن علي أن للحركة تنظيماً سرياً عام 1991. خلال هذه المدّة كلها بين بداية السبعينات وبداية التسعينات، كانت المنهج الصدامي تجاه الدولة مهيمنناً على فكر الحركة الإسلامية ومنهجها في تونس، إذ كانت تريد تغيراً جذرياً للدولة القائمة وللمجتمع وفقاً لنظرتها إلى الإسلام. لكن سنوات المحنة في السجون والمنافي، قد نجحت في تغير كثير من القناعات التي كان الغنوشي ورفاقه يحملونها تجاه النظام وبددت كثيراً من الأوهام. بعد أن وجدوا أنفسهم في عقب رحيل بن علي وجهاً لوجه أمام استحقاقات السلطة والدولة والمحيط الإقليمي.
«فصل الدعوي عن السياسي» وسؤال المراجعات التنظيمية
في مؤتمرها العاشر الذي عقد في مايو/ أيار 2016 أعلنت حركة النهضة التخصص في العمل السياسي وترك النشاط الدعوي للمنظمات المدنية، والفصل التام بين جهازها السياسي وأذرعها الدعوية. وحينذاك قال رئيسها، راشد الغنوشي: “نريد أن يكون النشاط الديني مستقلاً تماما ًعن النشاط السياسي. هذا أمر جيد للسياسيين لأنهم لن يكونوا مستقبلاً متهمين بتوظيف الدين لغايات سياسية. وهو جيد أيضاً للدين حتى لا يكون رهين السياسة وموظفاً من السياسيين”.(4)
وقول الغنوشي هذا يكشف عن أن دوافع الفصل لم تكن نابعةً من إرادة داخلية في الحزب، بقدر ما هي رد على القوى العلمانية المخالفة للحركة التي تتهم النهضة دائماً بتوظيف الخطاب الدعوي والمساجد والمرجعية الدينية لكسب أصوات الناخبين ولتحقيق رأس مال سياسي، باحتكار المشترك الديني وتوظيفه. وهذا التوجه بالفصل بين الدعوي والسياسي داخل الجسم التنظيمي للحركة الإسلامية في تونس، يكشف بوضوح وجود خلط بين المجالين، كانت الحركة منذ سنوات تنفي وجوده.
وعلى الرغم من ذلك، فإن الحركة بعد حوالى السنتين والنصف من ذلك الإعلان، لم تقدم حتى اليوم المنهجية ولا الصيغة الفكرية والسياسية لتوضيح الفصل التنظيمي بين الجانبيين الدعوي والسياسي. واللافت أن وثائق المؤتمر العاشر الذي أعلن فيه الفصل، قد نشرت لاحقاً، على الموقع الرسمي للحركة على شبكة الإنترنت، ومن بينها اللائحة الهيكلية والتنظيمية(5) التي تضمنت نقداً للتنظيم الداخلي للحركة عبر السنوات ومقترحات بإصلاحها، لكنها لم توضح، بل لم تشر حتى إشارة إلى موقع القسم الدعوي والديني في الحركة مستقبلاً وكيف سيجري فصله وإبعاده عن دائرة السياسة، ليبقى الإعلان محض إعلان للاستهلاك الإعلام من دون خطوات عملية.
وإن كانت الحركة ستسعى مستقبلاً في عملية الفصل تنظيمياً فستجد نفسها بالضرورة محكومة بنموذجيين:(6)
- النموذج الأول، وهو تنظيمان مستقلان يجمعهما مشروع واحد، على الشاكلة التركية. فالحركة النورسية (جماعة الخدمة) كانت تنظيماً دعوياً متحالفاً مع حزب العدالة والتنمية -حتى عام 2013- في خدمة مشروع واحد، وهو أسلمة تركيا والوقوف في وجه القوى العلمانية. يجمعهما المشروع لكنهما تنظيمياً مستقلان كل واحد في قراره وقيادته.
- النموذج الثاني، وهو تحرير الحركة الدعوية تماماً من أي هم أو هدف سياسي، على الطريقة المغربية عندما فصلت حركة التوحيد والإصلاح عن حزب العدالة والتنمية، وتحولت الحركة إلى أشبه بمؤسسة مجتمع مدني ذات أهداف دينية خالصة فيما سلك الحزب طريق السياسة، وفصلت سلطة القرار والتمويل والبرنامج نهائياً بين الجانبيين.
لو فرضنا تجاوزاً أن حركة النهضة قد نجحت في النهاية في إيجاد صيغة تنظيمية جديدة تفصل فيها عملها السياسي الحزبي عن ذراعها الدعوي بشكل تام في القرار والتمويل والمشروع والأهداف، فإنها ستبقى دائماً أسيرة قاعدتها الجماهيرية التي لا تفصل بين عمل الحركة الحزبي السياسي والدعوي الديني. فهذه القاعدة الجماهيرية ذات التوجهات المحافظة تذهب إلى صندوق الاقتراع وتختار حركة النهضة لأن في وعيها وفي لا وعيها، هذه الحركة متماهية مع الإسلام، لذلك فإن حركة تحاول ألا تخسر هذه القاعدة الانتخابية العريضة من خلال العودة دائماً إلى الخطاب الديني واستعمال المرجعية الدينية وبخاصة خلال الاستحقاقات الانتخابية التي يشتد فيها الاستقطاب بينها وبين القوى العلمانية، اليسارية منها والليبرالية.
وعملياً، فإن الفصل بين الدعوي والسياسي، هو توجه نحو مزيد من علمنة الحركة، لأن جوهر العلمانية هو فصل الدين عن السياسة، إلا أن النهضة تخشى من قول ذلك بصراحة ووضوح، لاعتبارات تتعلق بقواعدها الجماهيرية أولاً وبالمحافظة على تماسكها الداخلي، لأن الشق المتشدد داخل الحركة يرفض هذا الفصل ويعتبره تنازلاً من الحركة لخصومها وتراجعاً عن مبادئها. حتى أن رئيسها الغنوشي دائماً ما يتحاشى توصيف عملية الفصل بوصفها فعل “علمنة” ويعبر ذلك بقوله: “النهضة حزب سياسي، ديمقراطي ومدني له مرجعية قيم حضارية مُسْلمة وحداثية (..). نحن نتجه نحو حزب يختص فقط في النشاط السياسي”. ويضيف “نخرج من الإسلام السياسي لندخل في الديمقراطية المُسْلمة. نحن مسلمون ديمقراطيون ولا نعرّف أنفسنا بأننا جزء من الإسلام السياسي”(7). أي إن الغنوشي يضع حركته في منزلة بين المنزلتين، فلا هي حركة إسلامية سياسية ولا هي حزب علماني، ويجترح مفهوماً جديداً وغامضاً هو “الإسلام الديمقراطي” من دون أن يقدم خصائصه ولا كيفية التحول إليه قدوماً من الإسلام السياسي ولا الفوارق بينهما.
لكن القصور الحاصل من طرف حركة النهضة في توضيح عملية الفصل بين الدعوي والسياسي، لا ينفي وجود تحولات شهدتها الحركة في مستوى التنظيم والمشروع. فالحركة التي انطلقت منذ السبعينات في مشروع تقويض الدولة القائمة واستبدال الدولة الإسلامية بها، وصولاً إلى الاستيعاب الكامل لمشروع الدولة القُطرية الوطنية، من جماعة دينية سياسية كامتداد لتيار إخواني إلى حزب سياسي ذي هموم محلية، ومن جماعة مغلقة تعتمد على النقاء الأيديولوجي إلى حزب مفتوح يبحث عن مكاسب انتخابية. ويقبل في عضويته نساء غير محجبات ومواطنين من غير الديانة الإسلامية وأعضاء كانوا ناشطين في أحزاب ذات مرجعيات يسارية وعلمانية.
تحولات جذرية أم التفاف على مصاعب المرحلة؟
هذه التحولات التنظيمية والفكرية التي شهدتها حركة النهضة، أو بعبارة أوضح، التي أعلنت عنها. ليست بدعاً جديداً لدى الجماعات الإسلامية في السنوات الأخيرة. فمنذ أواخر تسعينات القرن الماضي انطلقت الجماعات الإسلامية الجهادية في مصر في سلوك طريق المراجعات التي شملت منهج التغيير الذي تتبناه. فبعد أن أعلنت الجماعة الإسلامية المصرية وقفاً لإطلاق النار من جانب واحد في تموز/ يوليو 1997، أصدرت عام 2002 مراجعات عقدية وفقهية موثقة تراجعت فيها عن منهج تغير النظام بقوة السلاح. ثم لحق بها تنظيم الجهاد المصري الذي قدم مراجعات فكرية وعقدية حررها المنظر الجهادي السابق سيد إمام الشريف، المعروف بالدكتور فضل وعبد القادر بن عبد العزيز، ونشرت بعنوان “وثيقة ترشيد العمل الجهادي في مصر والعالم الإسلامي”.
وقبل ذلك راجع الجناح المسلح للجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر منهجه التغيري، عام 1997، وقرر إعادة دمج عناصره في المجتمع الجزائري والتراجع عن رفع السلاح في وجه الدولة والاندماج فيها. وعام 2009 أصدرت الجماعة الليبية المقاتلة مراجعات جذرية لمنهجها الجهادي وأعلنت الاندماج في الدولة الليبية وأعلن أميرها عبد الحكيم بلحاج عن المصالحة مع النظام الليبي، وقد دعم هذه المراجعات التي صدرت بعنوان “دراسات تصحيحية في مفاهيم الجهاد والحسبة والحكم على الناس” عدد من علماء الدين من ذوي التوجه الإخواني، أشهرهم يوسف القرضاوي وسلمان العودة وعلي الصلابي.
لا يمكن مقارنة موقع حركة النهضة الحالي، فكريا وتنظيماً، بالجماعات الإسلامية الجهادية، لكن المراجعات التي تقدم عليها الحركات الإسلامية عموماً تكون دائماً رهينة بالسياق العام، الداخلي والإقليمي، ونتيجة متغيرات موضوعية وليست وليدة استعداد ذاتي، ويمكن أن نوجز بعض خصائص هذه المراجعات في:
- إن أغلب المراجعات التي أقدمت عليها جماعات إسلامية سواء كانت سياسية أم جهادية، قد حدث وهذه الجماعات في أزمات ومحن أمنية وسياسية وقياداتها في السجون، لذلك فهي محاولة للخروج من الأزمة أكثر منها محاولة جادة للمراجعة. أي إنها تقع في حيز التكتيكي وليست تغيرات استراتيجية جذرية.
- أثبتت دروس التجربة التاريخية أن هذه المراجعات شديدة الهشاشة ولم تصمد أمام المتغيرات السياسية. فعلى السبيل المثال نشرت الجماعة الليبية المقاتلة عام 2009 مراجعات اعترفت فيها بشرعية النظام الليبي وقالت إن معمر القذافي ولي أمر شرعي لا يجوز الخروج عليه. وبعد أقل من عام واحد من هذه المراجعات عاد أعضاء الجماعة إلى رفع السلاح في وجه النظام، وذهبت المراجعات أدراج الرياح.
وعليه، فإن السياق التاريخي الذي أعلنت فيه حركة النهضة مراجعاتها الفكرية والتنظيمية، يكشف أن هذه المراجعات ليست مبدئية بقدر ماهي محاولة منها للالتفاف على مصاعب المرحلة التي تعيشها وهي:
- خروج الحركة من السلطة وخسارتها لانتخابات عام 2014 وصعود غريمها “نداء تونس”.
- التغيرات الجذرية التي وقعت في مصر بعد عام 2013 وسقوط مشروع جماعة الإخوان المصرية وخوف النهضة من تكرار السيناريو المصري في تونس.
- التغيرات التي وقعت في مستوى الإدارة الأمريكية وصعود إدارة الرئيس ترامب، غير المنسجمة مع الجماعات الإسلامية، بعكس إدارة أوباما التي شجعت صعود جماعات إسلامية إلى السلطة في أعقاب موج ثورات الربيع العربي.
- موازين قوى مختلة سياسياً واجتماعياً ضد الحركة، وبخاصة في مستوى النخب. فالحركة على الرغم من أن لها قواعد جماهيرية كبيرة إلا أنها ضعيفة جداً في مستوى النخب الثقافية والإدارية والسياسية والإعلامية.
والشاهد على أن هذه المراجعات هي محض انحناءة أمام العاصفة ولا تعبر عن نسق فكري جديد داخل حركة النهضة، هو الموقف العدائي الذي كشفته لجنة الحريات والمساواة التي قدمت تقريراً إلى رئاسة الجمهورية يدعو إلى مراجعات عدد من القوانين التي تتعلق بالمرأة، ما اعتبرته النهضة مخالفاً للنص القرآني وتمسكاً بظاهرة النص من دون النظر في مقاصد التشريع، مع أن اللجنة قد وضعت مقدمات وحججاً وبراهين من النصوص الإسلامية لإثبات دعوتها.
خاتمة
قصارى القول، مرت الحركة الإسلامية في تونس بعدد من التحولات التنظيمية والفكرية منذ نشأتها في نهاية ستينات القرن الماضي. من الجماعة الدينية إلى الحزب السياسي، ومن المشروعات الكبرى في إقامة الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي إلى استيعاب الدولة الوطنية القطرية والمشاركة في إدارتها، لكن العقل الحاكم للحركة بقي دائماً ينظر إلى الإسلام بوصفه ديناً ودولة، ولا ينظر إلى السياسة إلا بوصفها امتداداً للدين، الأمر الذي أوقع الخصومة بينها وبين بقية الفرقاء الذين اعتبروها محتكرة لمشترك ثقافي يهم المجتمع كله وتجيره لحسابها كي تجني به مكاسب سياسية وسلطوية.
لكن الحركة مع حلول عام 2016 قررت أن تضع حداً لهذه الاتهامات كلها وأعلنت عن فصلها بين الجانب الدعوي والسياسي وخروجها من “الإسلام السياسي إلى الإسلام الديمقراطي”. هذا الإعلان لم يزد الوضع إلا مزيداً من عدم الوضوح. فبقي محض إعلان ولم يتبلور في الواقع. حتى بدا أن الحركة استعلمت إعلانها الفصل لمحض الدعاية بأنها تغيرت، ولم يكن إلا إعلان نيات للاستهلاك الإعلامي في الداخل والخارج، والتفافاً على مصاعب المرحلة التي تعيشها، داخلياً وخارجياً.
الهوامش
- – في مقالة له منشورة ضمن كتاب “الحركات الإسلامية المعاصرة في الوطن العربي” -منشورات مركز دراسات الوحدة العربية، ط 5، بيروت 2004، ص 300، يشرح راشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة، بأكثر تفصيل ومن موقع المعايش، الخليط الفكري الذي كان موجوداً داخل الحركة الإسلامية التونسية.
- – راشد الغنوشي، من تجربة الحركة الإسلامية في تونس، ص 82، المركز المغاربي للبحوث والترجمة، الطبعة الأولى، لندن 2000.
- – مذكرات منصف بن سالم، سنوات الجمر شهادات حية عن الاضطهاد الفكري واستهداف الإسلام في تونس ص 45، طبعة خاصة، الكويت 2014.
- – الغنوشي: حركة النهضة الإسلامية “تخرج من الإسلام السياسي”، الرابط: gl/arGPHz
- – اللائحة الهيكلية والتنظيمية لحركة النهضة، الموقع الرسمي للحركة، الرابط: gl/WQ7yrn
- – بلال التليدي، مراجعات الإسلاميين: دراسة في تحولات النسق السياسي والمعرفي، ص (187 -193)، مركز نماء للبحوث والدراسات، بيروت 2013.
- – الغنوشي: حركة النهضة الإسلامية “تخرج من الإسلام السياسي”، الرابط: gl/arGPHz
هذه المادّة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي.