أتيحت لنا الفرصة لدراسة علاقات بلغاريا مع الشرق الأوسط من منظور حالي وتاريخي خلال شهر ايلول/سبتمبر. وقد ناقش دينيس كوليسنيك هذا الأمر مع فلاديمير تشوكوف، الأستاذ الجامعي البلغاري والباحث في مجال سياسات الشرق الأوسط والدراسات الإسلامية وخبير النزاعات. حيث أصبح السيد تشوكوف أستاذًا منذ سنة 2007 وقام بالتدريس في العديد من الجامعات البلغارية. أمّا حالياً، فيقوم بالتدريس في جامعة روسه (بلغاريا) والأكاديمية البلغارية للعلوم.
يُعدُّ الشرق الأوسط كمنطقة ديناميكية إلى حد ما، إذ يضم العديد من المصالح المتداخلة إقليميًّا وخارج المنطقة. فما هي التغييرات الرئيسية في المنطقة وكيف يمكن تفسيرها؟
يمثل الشرق الاوسط قبل كل شيء مفهوم رقعة جغرافية، ولكنها عبارة عن مجموعة من عدة مناطق فرعية، تقدم في حد ذاتها صورًا مختلفة من جل النواحي: السياسية والاقتصادية والعسكرية الاستراتيجية والاجتماعية والديموغرافية. وقد أصبحت في السنوات الأخيرة، مرادفة في المقام الأول لدول الخليج الغنية، والتي بدأت تلعب دوراً فوق إقليمي بفضل الأصول المادية الهائلة المتراكمة. وفي نفس الوقت، يشمل فهم الشرق الأوسط أيضًا الدول الفقيرة والتي تعاني غالبًا من الصراعات الداخلية، مثل اليمن وسوريا ولبنان وليبيا والسودان، ما يجعلها على النقيض تمامًا من الدول الغنية المذكورة في المنطقة. وإذا أردنا أن نصف بإيجاز العمليات التي سادت في السنوات الأخيرة، فسنجد استقطاب قوي على طول المحاور التالية “أغنياء – فقراء”، “مستقرون – مزعزعون”، “مراكز إقليمية – أطراف إقليمية”.
يحدد كل هذا تحول الشرق الأوسط إلى عدة مراكز محلية وظائفها متنافية لبعضها البعض. لذا وعلى سبيل المثال، منذ الثمانينيات وحتى عام 2015 تقريبًا، أي عندما أصبح ولي العهد الحالي محمد بن سلمان زعيمًا للمملكة العربية السعودية، أصبحت منطقة الخليج “مضخة النفط في العالم”. حيث يوجد حوالي ثلثي رواسب الذهب الأسود في العالم. وقد أطاح الرئيس الأمريكي السابق رونالد ريغان في الثمانينات، بالكتلة الشيوعية في أوروبا الشرقية، بما في ذلك الاتحاد السوفيتي.
يمكن وصف المنطقة اليوم، بأنها “خزانة أموال ضخمة” حيث أصبحت “الموقع المفضل لصائدي الأموال من جميع أنحاء العالم”. وليس من قبيل الصدفة أن توجد هناك أكبر منصة عقارية إلكترونية في العالم. وقد حدث ذلك بفضل إضافة أداة السياسة الخارجية المرنة إلى سلاح النفط، وهو ما قاسه ووضعه موضع التنفيذ كل من محمد بن سلمان والرئيس الحالي لدولة الإمارات العربية المتحدة محمد بن زايد. وحسب رايي، فإن هذا الأخير يتلاءم بمرونة شديدة مع مبادئ السياسة الخارجية البريطانية التقليدية، بمعنى”لا يوجد أصدقاء أبديون ولا أعداء أبديون، بل هناك مصالح أبدية”.
ورغم ذلك، لا يمكننا أن نتحدث عن الديمقراطية كما نفهمها ونطبقها في العالم الأوروبي. وقد نظم الرئيس الأمريكي جو بايدن على مدار عامين متتاليين 2022/2023، ما يسمى بـ”منتدى الديمقراطية” الذي يطبق المعايير الأمريكية للنظام الديمقراطي. وقد تمت دعوة العراق ودولة إسرائيل فقط من الشرق الاوسط. وحتى الدول التي تكون فيها التعددية الحزبية تقليدية وتجري فيها انتخابات تشريعية دائمة، مثل مصر ولبنان والمغرب وتركيا، لم تتم دعوتها. وفي هذا السياق، ستبقى مقابلة محمد بن سلمان مع صحافي مجلة “أتلانتيك” الأمريكية غرايم وود في أبريل 2022 بارزة. حيث يشرح بطريقة كاملة ومنطقية للغاية لماذا لا تنطبق نماذج الأنظمة السياسية في أوروبا وأمريكا في مجتمعات مثل المملكة العربية السعودية. وقد أدت هذه الاختلافات المبدئية إلى “تضخيم” التوترات بشكل كبير بين الرياض وواشنطن، وخاصة على المستوى الشخصي، بين بن سلمان وجو بايدن.
علاوة على «الدولة المثالية» التي بنتها دول الخليج (بحسب تعبير أرسطو)، نلاحظ أيضًا العمليات المميزة للدول الفاشلة، مثل تلك التي تجري في الدول الطرفية للشرق الأوسط. فالمزج بين التركيبة السكانية المضطربة، الافتقار إلى الموارد الطبيعية، والفساد الساحق، والسلطة الدكتاتورية، جعل الأطراف بركانًا من المهاجرين الباحثين عن السعادة في أوروبا، ولكن أيضًا من المتطرفين الدينيين الذين يرون في أيديولوجية الأصولية الإسلامية أداة للانتقام من الأنظمة الاستبدادية. ويحمل جيل الشباب، الذي يعاني أكثر من غيره من البطالة، الزعماء المحليين المسؤولية عن محنتهم الاجتماعية ويأسهم الشخصي إذ يواجه معضلة “التطرف أو الهجرة”. وتزداد أهمية الشرق الأوسط أيضًا بسبب قربه الجغرافي من أوروبا، التي كانت حلبة السياسة العالمية لأكثر من ألفي عام و تعد حاليًا (بعد إنشاء الاتحاد الأوروبي) أحد المراكز السياسية والاقتصادية الرئيسية في العالم. إن الشرق الأوسط وأوروبا وجهان لعملة واحدة، فالبحر الأبيض المتوسط، باستثناء الحقبة الاستعمارية، مدعو إلى تحفيز خلق الشراكة والتعاون ذو المنفعة المتبادلة.
إثر الغزو الروسي لأوكرانيا، نلاحظ تموضعًا أكثر استقلالية لدول المنطقة وظهور زعيم فعلي: المملكة العربية السعودية. فما هو دور بلغاريا في المنطقة؟ و ما هي أولويات السياسة الخارجية لصوفيا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؟
قطعًا تحتل المملكة العربية السعودية المرتبة الأولى في المنطقة منذ تولي محمد بن سلمان السلطة في الرياض. إذ أخذ بلاده من القرن الإسلامي العشرين إلى القرن الحادي والعشرين من التقدم والتسامح والدفاع الماهر عن المصالح الوطنية. ونحن نرى أن الرياض تشارك بشكل مباشر في كل حدث دولي مهم أو يظهر ظلها هناك. وكانت بلغاريا والدبلوماسية البلغارية في هذه الأثناء بحاجة إلى الوقت الكافي للتكيف مع الحقائق العالمية والإقليمية الجديدة. لا سيّما، أن إصلاح الحكومة البلغارية، ووزارة الخارجية كان أساسيًّا، ومن هنا كان من الضروري تغيير الأولويات ببطء وتدريجيًّا في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. بموجب إملاءات موسكو، ركزت الدبلوماسية البلغارية حتى سقوط النظام الشيوعي على العلاقات النشطة مع ما يسمى بـ “الأنظمة والمنظمات الثورية”.
نتحدث هنا عن ليبيا القذافي، التي أصبحت أكبر سوق عمل في العالم للعمال البلغار، وعن سوريا، وعن العراق، أين حكم حزب البعث، وعن الجزائر، وعن جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وعن منظمة التحرير الفلسطينية. وقد كانت العلاقات في الأساس أيديولوجية، ثم تطورت العلاقات التجارية والاقتصادية على هذا الأساس. كان الأمر بمثابة كارثة على تجارتنا الخارجية بالتوازي، لأن المنظمات البلغارية كانت تعمل بالائتمان ولم يتم إرجاع العديد من القروض الممنوحة أو تم تخفيضها بشكل كبير.
بعد عام 1990، تكيفت صوفيا ببطء مع ما يسمى بـ “الأنظمة المعتدلة” في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والتي أصبحت الأولوية الرئيسية للدبلوماسية البلغارية في المنطقة. وأعيدت العلاقات الدبلوماسية مع دولة إسرائيل خلال السنة ذاتها فقد كان قطعها بمثابة خطأ دبلوماسي فادح. إذ، بناءً على توجيهات موسكو، سحبت بلغاريا موظفيها الدبلوماسيين، وبالتالي قطعت العلاقات التاريخية التي كانت تربطها بالجالية اليهودية البلغارية الصغيرة ولكن ذات النفوذ الكافي. هذه هي حقيقة أن بلغاريا هي الدولة الوحيدة في أوروبا (إلى جانب الدنمارك) التي أنقذت سكانها اليهود من الترحيل المنظم من قبل النازيين أثناء الحرب العالمية الثانية. وببطء أو بالأحرى بشكل خجول، أقامت صوفيا علاقات دبلوماسية مع دول الخليج الفارسي (باستثناء الكويت)، معتمدة على الكليشيهات الإيديولوجية التي فرضها الشيوعيون على دعم هذه البلدان للإسلام الراديكالي. ويرجع ذلك إلى التفسير الأحادي الجانب لغزو الجيش السوفييتي لأفغانستان (1979-1989) حيث تم تفسيره على أنه تعبير عن “الأممية البروليتارية”.
كان يجب أن يتعلق الإصلاح، منطقيًا،بالموظفين أيضًا، نظرًا لأن غالبية الدبلوماسيين البلغار الناطقين بالعربية هم من خريجي الجامعات السوفيتية وكانوا يواجهون صعوبة كبيرة في التخلص من الكليشيهات الأيديولوجية التي يتم تدريسها في الجامعات والأكاديميات الشيوعية.
كيف تصف العلاقات الثنائية مع الأطراف الفاعلة الإقليمية – أنقرة والقاهرة والرياض والدوحة؟
تداول بلغاريا مبدأ التمايز الإجباري في علاقاتها مع مختلف الدول العربية. ولا يقتصر ذلك على التراكمات التاريخية فقط، بل كذلك على العلاقات الاقتصادية التي شكلت المستوى السياسي. وتحتفظ بلغاريا بعلاقات خاصة مع تركيا، لأننا جيران وهناك أقلية تركية كبيرة.
ويشارك حزب حركة الحقوق والحريات (DPS)، المدافع الرئيسي عن مصالح هذه المجموعة العرقية، بنشاط في الحياة السياسية البلغارية. ولا أخفي أن تطور العلاقات مع تركيا خلال العقود الماضية اتسم بمد وجزر. بعد ما يسمى “عملية النهضة”، بدأوا من الصفر تقريبًا، عندما قام زعماء الحزب الشيوعي السابق، بين عامي 1984 و1989، بتغيير أسماء مئات الآلاف من المواطنين البلغار من أصل تركي. وقد أدت هذه الجريمة على سبيل المثال، إلى تعطيل علاقات حسن الجوار لمدة تتراوح بين 10 إلى 15 سنة .
في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ،و مع وصول الحزب الاشتراكي الديمقراطي إلى السلطة (في الحكومات الائتلافية)، تغيرت الأمور، كل هذا أدى إلى دفء العلاقات الثنائية. غير أنه ، لم يتم توحيدها بشكل كامل. ربما كان هناك توتر عابر في السنوات الأولى بعد فوز رجب طيب أردوغان في الانتخابات، عندما حلمت بعض دوائر حزب العدالة والتنمية الحاكم باستعادة العدالة. بل إننا ذهبنا إلى حد طرد الدبلوماسيين من كلا البلدين عندما تجرأ سفير تركي سابق على المشاركة في إنشاء أحزاب سياسية في بلغاريا (حزب دوست السياسي).
وحسب رأيي، تدرك أنقرة جيدًا الآن أن هذه المقاربة تأتي بنتائج عكسية، خاصة عندما نرى أن الحزب الديمقراطي الاشتراكي لا يشاطر الرؤية الإسلامية لحزب العدالة والتنمية. في الوقت الحالي، أود أن أقول إن العلاقات طبيعية، وأن الأشكال الأكثر واقعية مطلوبة على المستوى الاقتصادي والتجاري والتعليمي والثقافي. اسمحوا لي أن أذكركم أن الحدود البلغارية التركية هي الحدود البرية الأكثر ازدحاما في أوروبا. وهي لا تحتل في الواقع سوى المرتبة الثانية على مستوى العالم بعد الولايات المتحدة والمكسيك. وكانت الحرب في أوكرانيا سبباً في التخفيف إلى حد كبير من تصاعد المشاكل الثنائية المحتملة، إلى الحد الذي أصبح معه العدوان الروسي بمثابة اختبار لكل من دولتي البحر الأسود. وتظل المشكلة الرئيسية هي ضغط الهجرة، الذي يأتي بشكل رئيسي من تركيا. نحن نعمل معا لحلها.
ولبلغاريا تقليديا مصالح سياسية واقتصادية جيدة مع مصر. وبدا الأمر كما لو أنها كانت أكثر حدة في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، بيد أن ذلك كان مدفوعا بالعلاقات الإيديولوجية للكتلة الشيوعية السابقة مع القادة المناهضين للغرب مثل عبد الناصر. حليًّا، أصبح لدينا علاقة عملية حيث تتوفر الإمكانات الاقتصادية الكافية لاستغلالها. في رأيي، لا تعكس التجارة الثنائية البالغة 823 مليون دولار هذه الإمكانية، رغم أنها زادت بنسبة 40٪ تقريبًا في عام 2022.
وتتمتع بلغاريا بعلاقات مميزة مع دولة قطر. تأسست هذه العلاقات في وقت مبكر من عام 1990، ولكن الدفع تم إعطاؤه سنة 2009 من قبل الرئيس البلغاري جورجي بارفانوف (الزعيم السابق للحزب الاشتراكي البلغاري). لقد تغلب على الخوف (كشيوعي سابق) من “فتح الباب” للخليج الفارسي. وقد ارتبطت أطروحته السياسية الداخلية حول “الانقلاب الكبير في مجال الطاقة” (خط أنابيب الغاز ساوث ستريم مع روسيا، ومحطة بيليني للطاقة النووية مرة أخرى مع روسيا وتوريد الغاز المسال إلى قطر) في بلغاريا بتطور العلاقات الاقتصادية البلغارية – القطرية. . وفي ما يخص قطر، لعبت العلاقات الرياضية التقليدية بين البلدين دوراً هامًّا. في عام 2001، جلب فريق رفع الأثقال القطري، المكون من الفريق البلغاري “ب”، المجد للدولة الصغيرة على منصة التتويج العالمية. وكانت الدولة الشيوعية السابقة، في خضم أزمة اقتصادية في ذلك الوقت، في حاجة ماسة إلى الأموال القطرية. وقد فضلت بلغاريا علاقاتها مع قطر كممثل لهذه المنطقة الغنية بالنفط والغازلفترة طويلة بما فيه الكفاية . وحتى في أوج الانقسام بين الدوحة وخصومها سنة 2007في الرياض والقاهرة والمنامة وأبو ظبي، بدا أن صوفيا تقف إلى جانب قطر. لكن ذلك مر، وسرعان ما عادت قطر إلى الأسرة العربية.
أما نمط تطور العلاقات مع المملكة العربية السعودية فهو مماثل. وقد تم تأسيسها في وقت مبكر من عام 1995، ولكنها لم تتحقق إلا من خلال افتتاح السفارات في عام 2015. وكانت المملكة العربية السعودية الطرف الأكثر نشاطًا في هذه العملية. حيث منعت الكليشيهات الإيديولوجية للماضي لفترة طويلة بعض المؤسسات البلغارية (باستثناء وزارة الخارجية) من التغلب على التحيزات الشيوعية وإعطاء “الضوء الأخضر” لعلاقات سياسية واقتصادية متبادلة المنفعة. و لا تزال بعض الدوائر في صوفيا تنظر إلى المملكة العربية السعودية على أنها معقل للإسلاميين وليس كدولة نامية نشطة تتمتع بوضع استراتيجي سياسي واقتصادي وعسكري كبير، وتحارب التطرف الديني. ويظهر تردد صوفيا في تطوير العلاقات مع الرياض افتقارها إلى المرونة مقارنة بما أبدته بوخارست، وهو ما نحاول أن ننسجم معه. وعلى عكس بلغاريا، لم تقطع رومانيا علاقاتها مع إسرائيل قط، وفي الوقت نفسه أرسلت سفيرها إلى الرياض قبل صوفيا بنحو 20 عامًا تقريبًا.
تحرص بلغاريا في الوقت الحالي على تطوير علاقات اقتصادية وسياسية ذات أولوية مع هذه المملكة الشرق أوسطية، كما أن مستوى التجارة يتزايد باستمرار. وقد وصل إلى 313 مليون دولار، عام 2021 على الرغم من أنه ارتفع بنسبة 90٪ في عام واحد فقط.
شاركت بلغاريا بنشاط في الشؤون الإقليمية خلال الحقبة السوفياتية. على سبيل المثال، في الستينيات، أرسلت بلغاريا عمالًا ومستشارين إلى العراق، بينما في عام 2003، شاركت الوحدة البلغارية في الغزو الأمريكي للعراق. فهل تستخدم صوفيا روابطها مع المنطقة التي نشأت خلال الحقبة السوفيتية؟ وكيف إذا كان الأمر كذلك؟
سبق و تحدثنا بالفعل عن الحضور الاقتصادي لبلغاريا في دول الشرق الأوسط خلال الفترة الشيوعية. وكان التركيز على ليبيا والعراق، لأن هذين البلدين، بفضل احتياطياتهما النفطية الكبيرة، كانا في أفضل وضع لدفع رواتب البلغار الذين عملوا في شركاتهم. غير أن التداول معهم كان يتم عن طريق الائتمان ولم تتمكن العديد من الشركات البلغارية من الحصول على الأموال المستحقة لها عندما كانت البلاد في أمس الحاجة إليها.
كانت ليبيا، في أواخر التسعينيات، مدينة لبلغاريا بنحو 800 مليون دولار، قامت بسدادها تدريجياً، بحسب طرابلس. وتم خصم الـ 54 مليون المتبقية مما يسمى “ضريبة الدم” للأطباء البلغار، الذين أدانتهم محكمة بنغازي ظلما بتهمة حقن 300 طفل ليبي بمرض الإيدز. وفي عهد صدام حسين بلغت ديون العراق لبلغاريا أكثر من 1.3 مليار دولار. وإثر الإطاحة بالدكتاتور تمكنت بلغاريا، بجهود عديدة، من استرداد نحو 370 مليون دولار.
ويعود الفضل في ذلك إلى حد كبير إلى تأييد السلطات الجديدة في بغداد وبفضل إرسال بلغاريا وحدة عسكرية إلى العراق كجزء من “تحالف الراغبين”. يوجد في العراق عدد كبير جدًا من السكان المحليين الذين تخرجوا من الجامعات البلغارية. وفي عام 1993 وحده، كان هناك أكثر من 1000 طالب عراقي دافعوا عن أطروحاتهم للدكتوراه في بلغاريا. ووفقاً لحساباتي المتواضعة، حتى عام 1989، كان أكثر من 10.000 شاب عربي قد تخرجوا من الجامعات كحاملين للمنح الدراسية الحكومية البلغارية.
رغم ذلك، تظل هذه الوحدة في الاحتياطي السلبي لتنفيذ سياسة نشطة في هذه البلدان. صوفيا، ربما خوفا على سلامة دبلوماسييها، لم ترفع بعد مستوى تمثيلها الدبلوماسي في بغداد منذ ما قبل عام 2003. هناك حاليا مبنى سفارة واحد، ودبلوماسي واحد لا يحمل رتبة سفير والأمن المحلي. وفي مرحلة ما، ومن باب المعاملة بالمثل، خفضت بغداد أيضًا مستوى تمثيلها في صوفيا. ليس لدينا تمثيل دبلوماسي في ليبيالحد الآن. إن مثل هذه السياسة تتعارض تماما مع سياسة شركاء الاتحاد الأوروبي، الذين قاموا منذ فترة طويلة بتطوير علاقات اقتصادية نشطة مع هذه الدول الأعضاء في أوبك.
غالبًا ما تسهل العلاقات الاقتصادية مشاركة سياسية أفضل. كيف تصف التعاون الاقتصادي بين بلغاريا ودول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؟ من هم شركاء صوفيا الرئيسيون في هذه المنطقة؟
لقد سبق وتحدثت عن هذا، أما بشكل عام أود أن أؤكد أن مستوى التعاون الاقتصادي بين بلغاريا ودول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ليس كافيًا. فبعض الخبراء العرب محقون في قولهم إنه من خلال الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ذهب جزء كبير من حركة البضائع ورؤوس الأموال والخدمات والعمال البلغارية إليه، وتم نسيان القنوات التقليدية القديمة والشركاء. حجم التجارة مع الاتحاد الأوروبي مماثل من حيث النسبة المئوية لتلك التي كانت لدى بلغاريا مع الاتحاد السوفييتي والدول العربية قبل التغييرات السياسية. وهذا خطأ آمل أن تصححه حكومة صوفيا بسرعة.
لا يزال الناس في الشرق الأوسط يتذكرون منتجات الألبان البلغارية الرائعة (الجبن والجبن الأصفر وغيرها) معجون الطماطم وغيرها من المنتجات الزراعية. حتى المجر، لفترة من الوقت، حاولت تقليد صفات الجبن البلغاري،عندما إختفت المنتجات البلغارية كليًّا كما حاول التجار الأتراك بيع “الجبن البلغاري”، لكن سرعان ما اكتشف المستهلكون العرب الفرق. الشركاء الرئيسيون في المنطقة هم مصر، الأردن، قطر والإمارات العربية المتحدة (في هذا البلد تعيش أكبر جالية بلغارية في العالم العربي – أكثر من 65000 شخص)، الكويت والجزائر والمغرب. التجارة مع المملكة العربية السعودية آخذة في النمو. و يتم بذل جهود كبيرة لاستعادة الأسواق القديمة.
كانت بلغاريا من أوائل الدول التي واجهت أزمة الهجرة منذ عام 2015. ولا تزال هذه القضية مهمة، على وجه الخصوص مع مرور معظم المهاجرين من الشرق الأوسط عبر تركيا و عبر بلدك إلى دول أخرى في الاتحاد الأوروبي. كيف تدير حكومتك الهجرة غير الشرعية؟ هل هناك أي مبادرات ثنائية أو متعددة الأطراف تهدف إلى مكافحة الهجرة غير الشرعية من الشرق الأوسط؟
هو موضوع حساس للغاية بالنسبة لبلغاريا، حيث أن هولندا، وخاصة النمسا، تستشهد بالهجرة غير الشرعية كسبب للاحتفاظ بحق النقض على عضوية بلدنا في منطقة شنغن. في بلغاريا، نتعامل مع هذا الأمر بشكل سيء للغاية، لأن الاتهامات المتعلقة بعبور الحدود البلغارية التركية بسهولة لا تتوافق مع الحقيقة.
تجدر الإشارة في هذا السياق، إلى أن عدداً من ضباط الشرطة وحرس الحدود البلغاريين قتلوا أثناء قيامهم بواجبهم في اعتقال المهاجرين. منذ عام 2011، استوفت بلغاريا المعايير الفنية، ولكن لأسباب سياسية داخلية بحتة، تستمر الحكومتان. علاوة على ذلك، أكدت أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية في خطابها الأخير عن حالة الاتحاد الذي ألقته، أن “بلغاريا ورومانيا تنتميان إلى منطقة شنغن لأنهما تمثلان نموذجا في مكافحة الهجرة غير الشرعية”. وتعمل بلغاريا مع شركائها الأوروبيين والمؤسسات ذات الصلة، بما في ذلك وكالة فرونتكس، لإيجاد الصيغة الأكثر فعالية لوقف أو تقليل كثافة تدفق المهاجرين.
وقد منح الاتحاد الأوروبي بلغاريا سنة 2022 مساعدة مالية إضافية جديدة لشراء المزيد من الأجهزة التقنية المتقدمة، وكذلك لبناء طرق جديدة حول الجدار على الحدود البلغارية التركية. ولكن تبقى المشكلة الكبرى هي أن الاتحاد الأوروبي في حد ذاته لا يتبنى سياسة موحدة في التعامل مع هذه القضية. تفي بلغاريا بصرامة بالتزاماتها بموجب الاتفاقية التي أبرمتها بروكسل في عام 2016 مع أنقرة بشأن عودة المهاجرين غير الشرعيين من الأراضي الأوروبية.
من جهة أخرى، تعمل بلغاريا بنشاط مكثف مع تركيا المجاورة، وكذلك اليونان المجاورة، من أجل إعادة المهاجرين الذين عبروا الحدود إلى أراضينا بشكل غير قانوني. ويتم تنظيم اجتماعات دورية لممثلي إنفاذ القانون من هذه البلدان الثلاثة من أجل التصدي للمهربين وجميع المشاركين في التجارة الإجرامية مع المهاجرين بأكبر قدر ممكن من الفعالية.
سنة 2023، ارتفع ضغط الهجرة بأكثر من 100% مقارنة بعام 2022. وهو ما يستنزف إلى درجة كبيرة جدًا موارد البلاد المادية والبشرية. إن الأمر الأكثر إهانة لنا نحن البلغار هو أن لا تحترم حكومات مثل تلك الموجودة في أمستردام وفيينا جهودنا ونتائجنا المثبتة. لا أريد الخوض في تفاصيل حول هذا الأمر، ولكن من المرجح أن سلوك رومانيا الحازم هو أفضل وسيلة لحل هذا الوضع غير السار.
جميع حقوق النشر محفوظة لصالح مركز أبحاث مينا.