بعد ساعات من مصادقة الرئيس التونسي، قيس سعيد، على الدستور الجديد للبلاد الذي جرى الاستفتاء عليه يوم 25 تموز (يوليو) الماضي، اعتبرت حركة النهضة، الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين في تونس، الجمعة 19 آب أغسطس، أن “دستور 2022 فاقد للشرعية” وأنه جاء “لإضفاء شرعية على الانقلاب على دستور الثورة ومؤسساتها ومكاسبها”، وأنه “لا يعالج مشاكل البلاد وإنما يكرّس الاستبداد والإفلات من المراقبة والمحاسبة، على حد وصفها”.
وأعلن الرئيس قيس سعيّد مساء الأربعاء 17 أغسطس بدء العمل بالدستور الجديد بعد إعلان النتائج الرسمية للاستفتاء عليه، في “يوم تاريخي من الأيام الخالدة” في البلاد، متعهدا بوضع سياسات جديدة وقوانين مختلفة.
مرحلة جديدة
وقال رئيس تونس في كلمة بثها التلفزيون الرسمي: إنّه ”يوم التطابق بين الشرعية الدستورية والمشروعية الشعبية”، معتبراً أنّ ما قام به هو ”تصحيح لمسار الثورة ومسار التاريخ”، بعد أن ”ساد الظلام، واستفحل الظلم في كل مكان”.
وجاءت مصادقة سعّيد على الدستور الجديد للبلاد بعد إعلان هيئة الانتخابات النتائج النهائية للاستفتاء، وقد بلغت نسبة التصويت بـ “نعم” 94.60%، ما يعادل (2) مليون و(6748) إجابة بـ”نعم”، وبلغت نسبة الإجابة بـ “لا” 5.40%، ما يساوي (148) ألف و(723) إجابة بـ”لا”.
واتهم سعيّد ضمناً “قضاة النهضة” بـ”قلب” الهرم القانوني “رأساً على عقب”، قائلاً: ”بالرغم من أنّ هذا اليوم ليس يوماً للدخول في سجال قانوني، فإنّ الواجب يقتضي التذكير بقرار المحكمة الإدارية المؤرخ في 26 من شهر حزيران 2013 الذي ورد فيه بالحرف الواحد ما يلي: إنّ القرارات الصادرة عن المجلس التأسيسي في إطار مهامه التأسيسية أو التشريعية أو الرقابية أو غيرها من المسائل المتصلة بها تخرج بطبيعتها عن ولاية القاضي الإداري”.
ورداً على الانتقادات بشأن عدم دستورية الاستفتاء على الدستور، أشار سعيّد إلى أنّ “البعض يريد الإصرار على الخطأ، وما يزال يتعلّل بالقانون المتعلق بالانتخابات والاستفتاء”، مؤكداً أنّ “الاستفتاء المنصوص عليه في ذلك القانون يتعلق بالاستفتاء في ظلّ الدستور الذي انتهى”.
وأعلن الرئيس التونسي أنه سيتم في الفترة القادمة وضع قانون انتخابي جديد، كما سيتم إرساء المحكمة الدستورية في أقرب الآجال “للحفاظ على الدستور وخاصة حماية الحقوق والحريات التي نص عليها الدستور الجديد”.
التعديلات الدستورية..
ويحلّ الدستور الجديد محل دستور عام 2014 والذي صيغ بعد مرور ثلاث سنوات على الانتفاضة على حكم الرئيس زين العابدين بن علي. والتي اعتبرت فاتحة ما سميّ ب”الربيع العربي”.
ويمنح رئيس الدولة صلاحيات السلطة التنفيذية الكاملة، والقيادة العليا للجيش والقدرة على تعيين حكومة دون موافقة برلمانية، وهو ما اعتبرته أحزاب المعارضة “إعادة لتونس إلى زمن الدكتاتورية مرة جديدة”.
وتضمن الدستور الجديد إقرار واضح لنظام رئاسي، حيث لم تعد للرئيس فيه صلاحيات الدفاع والخارجية فحسب كما نص عليها دستور 2014، بل توسعت لتشمل أبعد من ذلك اختصاصات تعيين الحكومة والقضاة وتقليص النفوذ السابق البرلمان.
وأنشأ الدستور التونسي الجديد غرفة برلمانية ثانية باسم “المجلس الوطني للجهات والأقاليم” يهتم خصوصا بالمسائل الاقتصادية.
وجاءت أبرز مواد الدستور على الشكل التالي:
- تنص المادة 101 على أن الرئيس هو الذي يعين رئيس الوزراء، وكذلك أعضاء الحكومة، بناء على اقتراح من رئيس الوزراء، في خروج عن النظام الحالي الذي يعطي للبرلمان دورا رئيسيا في اختيار الحكومات.
- تنص المادة 112 على أن الحكومة مسؤولة أمام الرئيس، بينما تنص المادة 87 على أن الرئيس يمارس المهام التنفيذية بمساعدة الحكومة.
- تنص المادة 102 على أن بإمكان الرئيس إقالة الحكومة أو أي من أعضائها.
- نصت المادة 109 على تمتع الرئيس بالحصانة طيلة فترة ولايته، ولا يجوز استجوابه عن تصرفاته أثناء تأدية مهامه.
- البند 95 يسمح للرئيس باتخاذ “تدابير استثنائية” إذا ما رأى أن هناك “حالة خطر داهم مهدد لكيان الجمهورية وأمن البلاد واستقلالها” بعد استشارة رئيس الوزراء والبرلمان.
- البند 106 يمنح الرئيس سلطة تعيين من يشغلون الوظائف العسكرية والمدنية العليا بناء على اقتراحات من رئيس الوزراء.
ومن بين الفصول التي تُثير جدلاً في تونس والتي تنتقدها بشدّة المنظّمات الحقوقيّة، ما يتعلّق بالبندين الخامس، والخامس والخمسين.
وينص الفصل الخامس على أن “تونس جزء من الأمّة الإسلاميّة، وعلى الدولة وحدها أن تعمل، في ظلّ نظام ديمقراطي، على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النّفس والعرض والمال والدين والحرّية”.
وينص الفصل الخامس والخمسون على “ألا توضَع قيود على الحقوق والحرّيات المضمونة بهذا الدستور إلّا بمقتضى قانون ولضرورة يقتضيها نظام ديمقراطي وبهدف حماية حقوق الغير، أو لمقتضيات الأمن العامّ، أو الدفاع الوطني، أو الصحّة العموميّة”.
مستقبل “النهضة”
ويشكّل اعتماد دستور الجمهورية الثالثة انتكاسة جديدة للمعارضة، وفي مقدمتها حركة النهضة الإسلامية التي عملت على إفشاله والتشكيك في نتائجه من خلال الطعن فيه.
وعقب المصادقة عليه، سارعت الحركة إلى رفض الدستور الجديد معتبرة إياه “فاقداً للشرعية”.
ورأت الحركة، في بيان، أن دستور 2022 “لا يُعالج أي مشكلة من مشاكل البلاد وإنما يكرّس الانفراد والاستبداد والإفلات من المراقبة والمحاسبة”، داعية كافة القوى الديمقراطية المناهضة لـ”الانقلاب”، إلى توحيد جهودها “من أجل التصدي لخطر الدكتاتورية الداهم والتعجيل بالتشاور والحوار لصياغة رؤية مشتركة تجنّب البلاد مخاطر الانهيار الاقتصادي والانفجار الاجتماعي وتعبّد الطريق لاستعادة المسار الديمقراطي المغدور”.
ويعتبر الباحث المتخصص في شؤون الحركات الإسلامية فريد بن بلقاسم، أنّ حركة النهضة باعتبارها ممثلة الإسلام السياسي الإخواني من الناحية التنظيمية قد تراجعت مكانتها وتقلص حضورها وفقدت قدرتها التأثيرية والاستقطابية في المجتمع، إضافة إلى استبعادها سياسياً من أجهزة الدولة. وأنّ الدستور الجديد أنهى من الناحية القانونية قواعد المنظومة التي كانت تهيمن عليها وبها توجه سياسات الدولة وتفرض سلطانها على مؤسساتها وتتحكم في المشهد السياسي.
ورأى بلقاسم في ورقة بحثية منشورة على موقع مركز “تريندز” للدراسات والبحوث، أنّ مستقبل حركة النهضة في مرحلة المنظومة السياسية النابعة من الدستور الجديد مفتوح على احتمالات متعددة من الناحية التنظيمية بحسب موازين القوة داخلياً وخارجياً من ناحية، ومآلات القضايا المرفوعة ضدها من ناحية أخرى. معتبراً أنّ أقرب هذه الاحتمالات أن الإسلام السياسي “قد يعمد إلى اتخاذ أشكال تنظيمية بديلة ويعمل على عدم تكرار تجاربه السابقة في مرحلة الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين أو تجربة جماعة الإخوان المصرية بعد انهيار تجربة حكمهم في صيف 2013؛ بمعنى تجنب الدخول في مصادمات مع السلطات القائمة بما يجعل قضيته تتحول إلى ملف أمني وقضائي والسعي إلى أن يحافظ على حضوره في الحقل السياسي، باعتباره مكوناً من مكوناته وممثلاً لفئة من المجتمع، وإن اقتضى الأمر القيام بمراجعات وفق قواعد المنظومة الجديدة في انتظار أن تتهيأ فرص لاستعادة ثوبه الأصلي وهويته القديمة الراسخة، مستفيداً من قدرته على المناورة والمخاتلة”.
أما من الناحية الإيديولوجية، فرأى االباحث أنّ مستقبل الإسلام السياسي في تونس يبقى رهين عدة عوامل أبرزها ثلاثة؛ ويتعلق العامل الأول بمصير شبكة من الجمعيات والمنظمات الناشطة في المجتمع المدني والتي يكمن دورها في الترويج لأيديولوجيا الإسلام السياسي بطريقة ناعمة من خلال الدورات التكوينية والدروس والتدريبات، ومنها على سبيل المثال الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين. وأما العامل الثاني فيتصل بمتابعة مصادر التمويل وتجفيفها، وهو أمر كفيل بالحد من قدرة الإسلام السياسي على التحرك والتمدد، ولاسيما في الطبقات الاجتماعية الفقيرة والمهمشة. وأما العامل الثالث، وهو أكثر العوامل حسماً، فيتعلق بوضع سياسات إصلاحية في البرامج التربوية والتعليمية والثقافية، وبمتابعة الخطابات الدينية وفق رؤية تجديدية وتنويرية في المساجد وفي الوسائط الإعلامية.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مركز أبحاث ودراسات مينا.