تتجاذب القوى الدولية السودان، في سباق لإيجاد موطئ قدم في ساحل “البحر الأحمر”، وتعزيز النفوذ في افريقيا من بوابة الخرطوم، بينما تحاول واشنطن قطع الطريق على روسيا والصين وتعزيز نفوذها بعد سقوط نظام البشير، إذ شطبت اسم “السودان” رسميا من قائمة الدول التي تعدها “راعية للإرهاب”.
وبعد صمت السلطة الانتقالية السودانية بشأن تجميد الاتفاقية مع روسيا حول بناء قاعدة لوجستية على “البحر الأحمر”، أعلن رئيس أركان الجيش السوداني، الفريق أول ركن، “محمد عثمان الحسين”، أن بلاده بصدد مراجعة الاتفاقية العسكرية مع روسيا بما فيها القاعدة العسكرية على البحر الأحمر، لافتاً إلى أن “الجيش السوداني إبان العقوبات الأمريكية اتجه لروسيا وارتبطت مصالحه العسكرية بموسكو خلال الأعوام الماضية”.
اتفاقيات “روسية مضرة“..
وكان نائب وزير الدفاع الروسي، “ألكسندر فومين”، قد قال في وقت سابق إن “إنشاء قاعدة القوات البحرية الروسية للإمداد في السودان ينصب في إطار تطوير التعاون العسكري المشترك بين روسيا والسودان، وتعزيز قدرة الدولتين الدفاعية”، مؤكداً أن “روسيا تتصرف إبان إقامة منشآت قواتها البحرية في الخارج من منطلق الحرص على تحقيق مصالحها في المحيط العالمي، ولا تضع نصب عينيها اعتداء على أية دولة”.
إلى جانب ذلك أشار “الحسين” أمس الأربعاء إلى أن” الاتفاقية لم تعرض على المجلس التشريعي ولم تتم إجازتها، ونعتبر أن عدم الاعتماد من البرلمان فرصة لمراجعتها، هي تحت المراجعة ويمكن أن تلغى أو تعدل”، معتبراً أن “الاتفاقية مع روسيا فيها بعض البنود المضرة بالبلاد”.
يذكر أنه في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام 2017، خلال زيارة الرئيس السوداني المخلوع “عمر البشير”، وقّع البلدان اتفاقيات للتعاون العسكري تتعلق بالتدريب، وتبادل الخبرات، ودخول السفن الحربية إلى موانئ البلدين، اذ أعلن البشير حينها أنه ناقش مع الرئيس الروسي ووزير دفاعه إقامة قاعدة عسكرية روسية على ساحل البحر الأحمر شرقي السودان، وطلب تزويد بلاده بأسلحة دفاعية.
وكشفت موسكو في مايو/ أيار 2019، عن بنود اتفاقية مع الخرطوم، لتسهيل دخول السفن الحربية إلى موانئ البلدين، بعد أن دخلت حيز التنفيذ، وتنص الاتفاقية على “السماح بدخول السفن الحربية بعد الإخطار بذلك في موعد لا يتجاوز 7 أيام عمل قبل تاريخ الدخول”.
ووفقا للاتفاقية، فإن “الغرض منها هو تطوير التعاون العسكري بين البلدين وفقا لقوانينهما ومبادئ وقواعد القانون الدولي والمعاهدات الدولية التي تكون روسيا والسودان طرفين فيها”، وجاء الإعلان الروسي عن الاتفاقية بعد شهر واحد من عزل قيادة الجيش السوداني للبشير، في 4 أبريل/ نيسان 2019.
بدوره، أعلن الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، دعم بلاده للسودان من أجل تطبيع الوضع السياسي الداخلي، وذلك خلال لقائه رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان، على هامش القمة الروسية الإفريقية بمدينة سوتشي.
وتسلم السودان، في أكتوبر 2020، سفينة تدريب حربية من روسيا، ضمن التعاون العسكري بين البلدين، وفي 16 نوفمبر 2020، صدّق بوتين على إنشاء قاعدة بحرية روسية في السودان قادرة على استيعاب سفن تعمل بالطاقة النووية.
كما تضم القاعدة نحو 300 فرد من عسكريين ومدنيين، ويمكن استخدامها في عمليات الإصلاح والتموين وإعادة الإمداد لأفراد أطقم السفن الروسية، ويحق للجانب السوداني “استخدام منطقة الإرساء، بالاتفاق مع الجهة المختصة من الجانب الروسي”.
الاتفاقية تحدد إمكانية بقاء 4 سفن حربية كحد أقصى في القاعدة البحرية، ويحق لروسيا أن تنقل عبر مرافئ ومطارات السودان “أسلحة وذخائر ومعدات” ضرورية لتشغيل تلك القاعدة في ميناء بورتسودان الاستراتيجي على البحر الأحمر، لمدة 25 عاما قابلة للتمديد 10 سنوات إضافية، بموافقة الطرفين.
بوابة أمريكا جديدة..
التقارب السوداني – الروسي، الذي كان نتاج علاقة قديمة بين الرئيس “فلاديمير بوتين” والرئيس المخلوع “عمر البشير”، يثير حفيظة الإدارة الأميركية التي ترى في موسكو تهديدا لتواجدها في مناطق النفوذ ولا سيما في أفريقيا، ويحرك مواقف فرنسية ترفض هذا التوسع رغم العلاقات الودية التي تحتفظ بها باريس مع موسكو.
وبشأن العلاقات مع الولايات المتحدة أكد رئيس أركان الجيش السوداني، الفريق أول ركن، “محمد عثمان الحسين”، أنها “بدأت تعود لسابق عهدها ولازال الأمريكان يتلمسون طريقهم مع السودان بعد انقطاع طويل”، مضيفًا “نحن منفتحين على علاقتنا مع واشنطن والتعاون معها”
يشار إلى أنه في 14 ديسمبر/ كانون أول الماضي، أعلنت السفارة الأمريكية لدى الخرطوم بدء سريان قرار إلغاء تصنيف السودان “دولة راعية للإرهاب”، بعد أن أدرجتها الولايات المتحدة، منذ العام 1993، لاستضافتها زعيم لتنظيم “القاعدة”، أسامة بن لادن.
ووصلت المدمرة الأمريكية “ونستون تشرشل” في شهر مارس الماضي، إلى ساحل البحر الأحمر، بعد البارجة “كارسون سيتي” التابعة لقيادة النقل البحري الأمريكي، التي رست في مياه البحر الأحمر في 24 فبراير/شباط الماضي.
وأكدت السفارة الأمريكية في “الخرطوم” حينها أن “القائم بأعمال السفارة وصل إلى ولاية البحر الأحمر للترحيب بسفينة البحرية الأمريكية”. مشيرة إلى أن “زيارة السفينة العسكرية تسلط الضوء على دعم الولايات المتحدة للانتقال الديمقراطي في السودان، وتعزيز الشراكة معه”.
الخطوة الامريكية جاءت بعد زيارة رسمية قام بها قائد القيادة العسكرية الأميركية في إفريقيا “أفريكوم”، “أندرو يونغ”، ومدير المخابرات الأدميرال “هايدي بيرج” إلى الخرطوم في 26 يناير/كانون الثاني، بزيارة للخرطوم، في مسعى لتوسيع نطاق الشراكة بين السودان والولايات المتحدة.
ويرى مراقبون أن الزيارة الأولى للبحرية الأمريكية للموانئ السودانية، تعد استشرافا لعهد جديد يتسم بتعاون عسكري وسياسي بين واشنطن والخرطوم”. مؤكدين أن “هذه الزيارة هي الأولى منذ خمسة وعشرين عاما، وتأتي تعزيزا لعلاقات البلدين في المجالات الأمنية والسياسية”.
الصين والعلاقات الاقتصادية..
التذبذب الحاصل في بنية النظام الدولي وانحسار فكرة الثنائية القطبية أو الثلاثية، جعل السلطة الراهنة في الخرطوم تنحو إلى فتح خطوط متوازية مع الجميع بصورة متوازنة، ولا يعني التوجه نحو الولايات المتحدة التخلي التام عن الصين وروسيا والدخول في صدام معهما.
وعن شكل المنافسة بين بكين وواشنطن على الكعكة السودانية، رأى السفير السابق ومدير إدارة الأميركيتين بوزارة الخارجية السودانية “الرشيد أبوشامة”، أن التقارب الأميركي لن يؤثر على علاقة السودان بالصين، موضحاً أن “الصين لها القدرة على التعامل مع السودان لأنها تقدم شروطا عبر نظام مرن يسمح بالتسديد على فترات طويلة للديون، وليست كالغرب الذي يستنزف الموارد أولا بأول”.
يشار إلى أن الخرطوم اتجهت إلى بكين لاستخراج النفط عقب الحصار الذي فرضته الولايات المتحدة منذ العام 1997، وساعدت الصين السودان في دخوله قائمة الدول النفطية عام 1999.
وفي 20 يناير/كانون الثاني الماضي، قالت وزيرة المالية المكلفة السودانية “هبة محمد علي”، في تصريحات صحفية، إن مديونية السودان لصالح الصين بلغت 2.5 مليار دولار، بينما تقدر استثمارات بكين في البلاد بنحو 15 مليار دولار، بحسب آخر إحصائيات حكومية.
كما تعمل الصين على “مبادرة الحزام والطريق” التي أطلقتها الصين في العام 2013، على فكرة “طريق الحرير” التجاري في القرن التاسع عشر الذي ربط الصين بالعالم، وتهدف إلى توسيع التجارة العالمية من خلال إنشاء شبكات من الطرق والموانئ والمرافق الأخرى عبر بلدان عديدة في آسيا وأفريقيا وأوروبا.
ويملك السودان ساحل مطل على البحر الأحمر يمتد على مسافة تتجاوز 700 كلم، ويقه في منطقة تتسم بالاضطرابات بين القرن الإفريقي والخليج وشمال إفريقيا، الامر الذي يمثل أهمية لمساعي كل من واشنطن وموسكو للحفاظ على مصالحهما في تلك المناطق الحيوية، في ظل رغبة البلدين في تعزيز نفوذهما بالقارة الإفريقية، التي تمثل مصدرا كبيرا للثروات الطبيعية وسوقا ضخما للسلاح.