يوم الأحد الفائت، قرابة الرابعة والنصف فجراً بتوقيت كابول.. رجل كهل سبعيني يقف على شرفة منزله في العاصمة التي كانت يوماً ما مُلكاً له. وفي النصف الآخر من الكرة الأرضية، بالتحديد في قاعة “سيتويشن روم” في البيت الأبيض، يُلقي الرئيس الأمريكي جو بايدن نظرة الوداع عليه عبر الأقمار الإصطناعية، قبل أن يعطي الضوء الأخضر لتصفيته. تُطلِق طائرة مسيّرة صاروخين من طراز هلفاير المجهزة بست شفرات حادة لتخترق جسد الهدف وتقتل الطبيب المصري الأشهر، ليس في تخصّصه، وإنما لِكَونِه زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري.
الحيثيات..
قُتل أيمن الظواهري -المطلوب رقم 1 في واشنطن- وسط العاصمة الأفغانية كابل في غارة جوية -نفذتها المخابرات الأميركية- تعد الأولى من نوعها بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان الصيف الفائت.
وقال الرئيس الأمريكي جو بايدن مساء الإثنين إنّ ثاني زعيم لتنظيم القاعدة وخليفة أسامة بن لادن، قُتل في ضربة أمريكية بأفغانستان في مطلع الأسبوع، معتبراً أنّ “العدالة قد تحققت”.
واستطاع الظواهري (71 عام) أن يتوارى عن أنظار القوات الأميركية طوال 11 عاما، رغم وجود القوات الأميركية على الشريط الحدودي بين أفغانستان وباكستان.
وأوضح بايدن أن أجهزة المخابرات حدّدت مكان الظواهري في وقت سابق هذا العام، مشيرا إلى عدم إصابة أي أحد من عائلة الظواهري أو مدنيين آخرين في الغارة.
ووفقاً للمعلومات المتداولة فإنّ المنزل المستهدف يقع في حي شيربور بالعاصمة الأفغانية، ويطلق عليه سكان كابول اسم “حي اللصوص” باعتبارها معقلا لأمراء الحرب والمسؤولين الفاسدين. و تقع سفارة المملكة المتحدة في كابول على بعد أقل من 1000 قدم إلى الجنوب الشرقي من المنزل.
وأكدت التقارير الأولية لتقييم العملية أن أثر الضربة كان محدوداً للغاية ولم تحدث أي انفجارات ولم يقع أي ضحايا على ما يبدو.
وقال مسؤول أمريكي كبير إنّ “الضربة نفذت بطائرة مسيرة، وأطلق صاروخان من طراز هلفاير على أيمن الظواهري”.
والصاروخ Hellfire R9X لا يحتوي على أي عبوة ناسفة، لكنه مزود بست شفرات حادة تنبثق من الصاروخ لتقطيع الهدف وتمزيقه إرباً. وغالباً مايستخدم في تصفية قادة الجماعات الجهادية، تفادياً لوقوع إصابات بين المدنيين.
وأثار مقتل الظواهري في كابول الشكوك بشأن الضمانات التي قدمتها حركة طالبان للولايات المتحدة عام 2020 بعدم التسامح مع إيواء قادة القاعدة في أفغانستان.
الزعيم القادم؟
وفجّر مقتل الظواهري كثيراً من التكهنات بشأن هوية من سيخلفه على رأس التنظيم الذي تأسّس خلال الجهاد الأفغاني في الفترة بين أغسطس/ آب 1988 وأواخر 1989.
ويبدو أن الجهادي المصري محمد صلاح زيدان الشهير بـ “سيف العدل” هو الأوفر حظاً لخلافة الظواهري، على اعتبار أنه أحد مؤسسي التنظيم وساهم خلال التسعينيات من القرن العشرين إنشاء البنية التحتية للقاعدة في القرن الإفريقي، وبخاصة الصومال. كما شارك في التخطيط لاعتداءات 11 سبتمبر.
ومن المعروف أنّ علاقة قوية تجمع بين سيف العدل وإيران التي بقي فيها لفترة إلى جانب عدة أعضاء من مجلس شورى تنظيم القاعدة.
ورصدت بريطانيا والولايات المتحدة من قبل مكافآت مالية بقيمة 7.5 مليون جنيه إسترليني، و10 ملايين دولار، لمن يدلي بمعلومات عنه عقب مشاركته في تفجيرات السفارتين الأميركيتين في نيروبي ودار السلام، عام 1998، التي خلفت 224 قتيلاً.
وتضم قائمة المرشحين للمنصب أيضاً شخصيات مؤثرة أخرى، منها “صهر الظواهري” ورئيس الشؤون الإعلامية في التنظيم، محمد آباتي المعروف أيضاً بإسم عبدالرحمن المغربي، وهو ما يعتبر تصعيد أمير جديد للتنظيم من خارج مؤسسي القاعدة المتبقين المعروفين بـ”حراس القاعدة”، وفق متابعين للشأن الجهادي.
من جهته يشير مركز (ICCT) لمكافحة الإرهاب، إلى مرشحين آخرين، مثل أبو إخلاص المصري، قائد عمليات في القاعدة، ومحمد أمين الحق، أفغاني الجنسية، مسؤول أمن زعيم التنظيم السابق أسامة بن لادن، وعلي البكري، المعروف باسم عبد العزيز المصري، عضو مجلس شورى القاعدة، وهو خبير المتفجرات والأسلحة الكيميائية، ووضعت واشنطن مكافأة 5 ملايين دولار للإدلاء بمعلومة عنه.
ويرجح آخرون إمكانية تولي زعماء موالين للتنظيم في إفريقيا مما سيشكل “سابقة”. ومن الأسماء المرشحة، الجزائري أبو عبيدة يوسف العنابي (المعروف باسم يزيد مبراك)، وهو زعيم “تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي”، وأحمد ديري، المعروف أيضا باسم أحمد عمر، وأبو عبيد، وهو زعيم “حركة الشباب” الصومالية.
الواقع الراهن للتنظيم
ويرى البعض أنّ الظواهري لم يكن يتمتع بكاريزما سلفه بن لادن، لكنه كان مرجعية تاريخية للجماعات الجهادية، وربما كان هو من أطلق مصطلح الجهاد العالمي ضد الأمريكيين ومن قبلهم السوفييت، وعليه استحقّ لقب مفتي “الجهاد العالمي”.
وتتفق معظم التحليلات على أنّ التنظيم شهد خلال مرحلة زعامة الظواهري (2011-2022)، تراجعاً شديداً على مستوبات عديدة، حيث انتقل من حالة المركزية الصارمة التي كان عليها خلال فترة بن لادن إلى حالة من حالات التشظي، كما خرجت بعض المجموعات على قيادته كما حصل حين رفض فرع القاعدة في العراق الإلتزام بالولاء للقيادة المركزية، مما أدى إلى إنفصال الفرع الذي تحول الى ما عرف لاحقاً باسم “الدولة الإسلامية”. والأمر ذاته حصل مع جبهة النصرة (هيئة تحرير الشام حالياً) في سوريا.
كما شهد تنظيم القاعدة خلال ولاية الظواهري تراجعاً على صعيد عمليات تجنيد المتطرفين ودفعهم للانضواء تحت لوائه، وتنفيذ الهجمات الدموية لحسابه، لاسيّما مع تصاعد نفوذ تنظيم “داعش” منذ نهاية عام 2014.
على الأرض، لايزال تنظيم القاعدة يمتلك عدداً من الأذرع حول العالم، وإن تراجعت من أكثر من 10 أفرع بداية تولي الظواهري إلى أربعة في الوقت الراهن.
ويمثل “تنظيم القاعدة في جزيرة العرب” المتشكل عام 2009 من اتحاد الفرعين السعودي واليمني، أحد القوى الفاعلة على الأرض في اليمن. رغم أنّه قلص من نشاطه بشكل واضح خلال العامين الماضيين تحت ضغط أزماته الداخلية ونقص التمويل واضطراره لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الذي ينشط في مناطقه في مدينة أبين، فضلاً عن انتقال زعامة التنظيم إلى خالد باطرفي، بعد مقتل قاسم الريمي في غارة أميركية في فبراير/ شباط 2020.
أما في سوريا، فيكافح فرع التنظيم؛ “حرّاس الدين” الذي يتكون في مجمله من مقاتلين أجانب وعرب (غير سوريين) للبقاء في الشمال السوري. ويضم الفرع السوري كلًا من مجموعات “جيش الملاحم، جيش الساحل، جيش البادية، سرايا الساحل، سرية كابل، جند الشريعة”، فلول “جند الأقصى”، إضافة إلى عدد من الفصائل الصغيرة التي لها تاريخ من العلاقات الأيديولوجية والقيادية مع “القاعدة”.
وتضاعفت خلال الأعوام الماضية عمليات تصفية واغتيال قادة وعناصر نشطة في حرّاس الدين نتيجة استهدافات التحالف الدولي، وحملات التضييق والملاحقة التي تنفّذها “هيئة تحرير الشام”، صاحبة النفوذ في محافظة إدلب وريف حلب الغربي وسهل الغاب شمالي حماة، وتلال وريف اللاذقية الشرقي.
وينشط في غربي إفريقيا تنظيم القاعدة في الساحل (جماعة نصرة الإسلام والمسلمين)، الذي يعتبره البعض امتداداً لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي.
ويعتبر هذا الفرع أحد أكثر فروع التنظيم العالمي نشاطا وقيمة عبر تنفيذ عمليات اختطاف لرهائن غربيين وشن هجمات عبر مساحات شاسعة من الأراضي، كان آخرها قبل أسابيع قليلة حين استهدف مسلحو التنظيم، بالتعاون مع جماعة محلية تدعى ماسينا، هجمات منسقة ومتسلسلة وغير مسبوقة منذ 2012، عدة معسكرات للجيش المالي، وسط البلاد، وعلى رأسها معسكر كاتي، القريب من العاصمة باماكو، ومقر إقامة الرئيس الانتقالي العقيد عاصيمي غويتا.
أما في شرق إفريقيا، فتنشط منذ مطلع 2004 حركة الشباب المجاهدين، وهي جماعة مسلحة تتبع فكريا لتنظيم القاعدة وتبنت عمليات عديدة أودت بحياة المئات، ويقودها حالياً “أحمد ديري أبو عبيدة” الذي خلف أحمد عبدي غودني (تزعم الحركة من 2008 إلى 2014).
مستقبل التنظيم
ومع إسدال الستار على صفحة الجهادي الشهير، أثيرت العديد من التساؤلات حول مستقبل تنظيم “القاعدة” في مرحلة ما بعد الظواهري.
وتنوعت آراء الخبراء والمعلقين بين من يرى أن القيادة الجديدة قد تسعى لإعادة الزخم إلى التنظيم المتهالك، عبر عملية إعادة هيكلة تنظيمية تعيد للجماعة المشتتة والمنقسمة لُحمتها السابقة، وتدفع التنظيم إلى الإمعان في سفك الدماء، من أجل مواجهة التنظيمات الأخرى الأكثر وحشية مثل “داعش”. فيما اعتبر آخرون أن التنظيم يلفظ أنفاسه وأن القيادة الجديدة قد تكون هي الأخيرة ليتحلل بعدها التنظيم تماماً وينتهي.
وفي ورقة تحليلة صدر مؤخراً عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، اعتبر الباحث المتخصص في شؤون الإرهاب أحمد كامل البحيري، أنه على الرغم من أن التداعيات التنظيمية لمقتل الظواهري تبدو ضعيفة، إلا أن ذلك لا ينفي أن التنظيم يمكن أن يشهد العديد من التحولات اعتماداً على مَن سيخلف الظواهري، سواء على مستوى الاستراتيجية العملياتية للتنظيم وتبنى تكتيكات المواجهة المنطلقة من القاعدة الفقهية (العدو القريب والعدو البعيد)، وهى القاعدة التي حكمت أداء واستراتيجية وتكتيك التنظيم منذ النشأة وحتى مقتل الظواهري، أو على مستوى العلاقة مع حركة “طالبان”، والأفرع المتبقية للتنظيم. ويعني ذلك في النهاية أن مدى قدرة خليفة الظواهري على احتواء بعض الإشكاليات القائمة ستحدد مسار التنظيم بشكل نهائي خلال المرحلة القادمة.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مركز أبحاث ودراسات مينا.