تعاني دراسة الأستاذ حسن النيفي “الأيديولوجيا القومية ومآلاتها؛ مراجعة أولية” من عدة نقاط ضعف وأحكام لا تستند إلى معرفة صحيحة بالواقع، موضوع البحث، ناهيك عن إنشاء سياسي غائم؛ عمومي ومجرد.
ففي فقرة “تبلور الفكر القومي” قال إن “مفهوم القومية العربية لم يكن– شأنه في ذلك شأن سواه من الأيديولوجيات- نتاجاً علمياً أو خلاصة لجهد فلسفي محدد، بل هو جملة من العوامل والمحددات العرقية والثقافية والاجتماعية والدينية اجتمعت لتعمل – في سياق تاريخي محدد– على بلورة عقيدة جماعية كانت ضرورية –آنذاك– لمواجهة تحدّيات عدة كانت تواجهها الأمة العربية”.
قول يكشف عن نقص معرفي وتاريخي في آن. ذلك أن الفكر القومي انتقل إلى المنطقة العربية من أوروبا، وفي أوروبا نظريات، الفرنسية والألمانية، … الخ، تتحدث عن القومية بالاستناد إلى الإرادة أو التاريخ واللغة، أو وحدة المصير، وقد استقبلها العرب لحاجتهم إليها في صراعهم مع السلطنة العثمانية ولمواجهة عمليات التتريك، وعمل مفكرون عربا(عبدالرحمن الكواكبي 1849- 1903 في كتابيه “طبائع الاستبداد” و “أم القرى”، دعا فيهما إلى أن يتولى العرب إدارة بلادهم والى نزع الخلافة من الأتراك وإعادتها إلى العرب، ونجيب عازوري في كتابه “يقظة الأمة العربية”، صدر 1905، دعا فيه إلى انفصال العرب عن الأتراك وإنشاء دولة عربية تضم شبه الجزيرة العربية والهلال الخصيب)، وقد تابع تعميق الفكرة لاحقا ساطع الحصري وزكي الارسوزي وآخرون، وبدأ تشكيل الجمعيات الأدبية، مثل المنتدى الأدبي في استانبول 1910، وتشكيل فروع لها في البلاد العربية، التي أعادت الاهتمام بالتاريخ والثقافة العربيين، والسياسية، مثل جمعية العربية الفتاة 1911 في باريس، انتقلت عام 1913 إلى بيروت، وجمعية العهد 1913، وحزب اللامركزية الإدارية العثماني الذي تأسس في القاهرة عام 1912، المؤتمر العربي الأول في باريس 1913، كانت “الجمعية الثورية العربية” قد أصدرت بيانا قالت فيه:” إن المسلمين والمسيحيين واليهود سواء في العروبة والوطنية”، وجاء في وصية عبدالغني العريسي لأبناء الأمة العربية:” التمس منكم أن لا تفترقوا فرقا وطوائف. فاليوم لا مسيحي ولا مسلم ولا يهودي ولا درزي ولا وثني، بل الجميع عرب ومن العرب للعرب”.
لذا لم يكن إبراز المعطى التاريخي، الذي أشار إليه الكاتب حين قال:”من هنا يمكن إبراز الدور المهم للمعطى التاريخي الذي وسم مفهوم العروبة بطابعه”، غريبا أو نافلا لان النظريات الأوروبية التي انتشرت بين العرب ارتكزت على المعطى التاريخي في تبرير ذاتها: التاريخ المشترك، اللغة، وحدة الإرادة، وحدة المصير.
في تعداده لما اعتبره العوامل التاريخية التي واكبت نشوء الفكر القومي وتبلوره، يبدأ من نقطة متأخرة نسبيا عن ذلك النشوء حيث يبدأ من خسارة تركيا الحرب العالمية الأولى وتفكك إمبراطوريتها، وسايكس بيكو .. الخ. حيث بينا في ما سبق البدايات المبكرة للدعوة القومية العربية.
عند حديثه عما اسماه “اللحظة التاريخية التي شهدت ولادة الدولة القومية في الغرب”، يقفز على معطيات تاريخية تأسيسية وذات دور جوهري في ذلك النشوء: انتقال الدولة من الشكل الإمبراطوري إلى الشكل القبلي(الوطني) في العصور الوسطى وتوقيع اتفاقية وستفاليا 1648 التي كرست الحدود الوطنية في أوروبا التي ترتبت على تطور الاقتصاد من اقتصاد مدينة إلى اقتصاد دولة ما استدعى حمايته بتحديد الحدود وفرض الرسوم الجمركية، والتي تشكل بداية ظهور الأمة التي غدت قاعدة لقيام الدولة القومية فيما بعد، بفعل قيم الثورة الفرنسية “وبخاصة في ما يتعلق بالحرية والعدالة وحقوق الإنسان”، كما ذكر الكاتب، والتي لم يكن لاقتصاد السوق دور في تشكلها لأنه تأخر قرونا عن هذا التاريخ.
في عرضه لمنطلقات الفكر القومي العربي قال:”ولعلّ خير من جسّد هذا التصور في الإرث النظري للقوميين هو الدكتور(عصمت سيف الدولة) في كتابه (من التجزئة إلى الوحدة)، إذ يشيد الدكتور عصمت نظريته في بناء دولة الوحدة على ركيزتين اثنتين هما: (الإقليم القاعدة – الشخصية الكارزماتية)، وقد وجد الرجل لركيزتيه قرينتين تؤيدان طرحه الوحدوي آنذاك، وهما (مصر – الإقليم القاعدة)، (جمال عبد الناصر- الشخصية الكارزماتية).
هنا خلط الكاتب بين الدكتور عصمت سيف الدولة والدكتور نديم البيطار بنسبة كتاب وأفكار الثاني للأول، فكتاب من “التجزئة إلى الوحدة” من تأليف الدكتور نديم البيطار، وهو صاحب نظرية الإقليم القاعدة والقائد الكارزمي وليس الدكتور عصمت سيف الدولة.
يعود الكاتب إلى القفز على التاريخ بقوله:” لقد أخفق الخطاب القومي الرسمي (السلطوي) في ترجمته لشواغله الثلاث (الوحدة العربية، المفهوم الإمبراطوري للدولة، القضية الفلسطينية) التي جعلها شعارات كبرى له منذ مطلع القرن الفائت”. حيث لم يكن ثمة خطاب رسمي(سلطوي) في هذا التاريخ: مطلع القرن الفائت(القرن العشرين)، ولا تصور إمبراطوري للدولة، فقد اكتفت الدعوة القومية، وتطلعات الشريف حسين، بإقامة دولة في شبه الجزيرة العربية والهلال الخصيب، اقل بكثير مما كان للعرب في دولتهم الإمبراطورية في العصرين الأموي والعباسي.
ملاحظات لابد منها كي تأخذ المراجعة النقدية التي حاول الكاتب طرحها مكانها في خلق وعي سياسي منطقي وموضوعي في آن.
هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي.