محمد العلي
الخطوة التي اتخذتها المحكمة التركية في تحويل موقع آيا صوفيا التاريخي المثير للجدل؛ بناء على مقترح من الرئيس التركي أردوغان أثارت جدلاً كبيراً إنْ على مواقع التواصل الاجتماعي أو في مراكز اتخاذ القرار.
قبل أن نناقش هذه الخطوة من الناحية الشرعية والسياسية والاستراتيجية وأثرها بين المسلمين والمسيحيين في ظرف تمر المنطقة فيه باضطرابات كبيرة؛ لا تحتمل خطوة كالتي أرادها أردوغان. لا بد أن نوضح أن هذه الخطوة لم تلقَ ترحيباً من الشارع التركي كله؟ بل قسمته إلى نصفين؛ ولا حتى الشارع المسلم.
وقد كتب أمس أورخان باموق، كاتب وروائي تركي، وأول روائي باللغة التركية يفوز بجائزة نوبل للآداب عام 2006 معترضاً على مقترح أردوغان للمحكمة التركية، بحسب بعض وسائل الإعلام قائلاً: هذا القرار قضى على علمانية تركية؛ وربما يعيدنا إلى حروب الهويات والحروب الدينية؛ وتركيا اليوم ليست الطرف الأقوى في هكذا صراعات؛ والنزاعات الدينية تجاوزتها الدول الحديثة.
ونحن نعلم أن تصريحاً بسيطاً لترامب جعل الليرة التركية تتهاوى بنسبة 16%؛ وتركيا بحاجة كبيرة لأوروبا؛ والخلافات التركية الأوربية واستفزاز أردوغان للغرب المسيحي لا يصب في مصلحة الجميع؛ ولا تحتمله المنطقة إطلاقاً؛ بل ليس في صالح الإسلام ولا التعايش السلمي.
مناقشة القرار التركي؟
رغم كل ما قُدم للرأي العام في تبرير تحويل موقع آيا صوفيا إلى مسجد؛ والرأي القانوي والشرعي الذي اعتُمد في القرار ولكن؟
من الناحية الشرعية
معروف أن النهي في تحويل أي مكان للعبادة في الإسلام لأي دين من الأديان السماوية إلى مسجد أمر مرفوض عند الفقهاء؛ حيث لا يجوز تحويل كنيسة مسيحية أو كنيس يهودي إلى مسجد؛ واستدل الفقهاء في ذلك على حادثة عمر بن الخطاب عند فتح بيت المقدس؛ ورفضه للصلاة فيها؛ حتى لا تكون صلاته ذريعة يوماً ما لمتشدد إسلامي بالاستيلاء عليها؛ رغم أن صاحب إيليا (صفرنيوس) سمح له بذلك؛ إلا أن عمر الألمعي رفض الصلاة.
ولكن الفقهاء اختلفوا إلى فريقين في هذا الأمر؛ فريق قال يجوز تحويل الكنيسة إلى مسجد إذا فُتحت عنوةً أما إذا فُتحت سلماً فلا يجوز. وفريق رفض تحويل الكنيسة إلى مسجد سواء فتحت صلحاً أم عنوةً. الفريق الثاني نظر إلى مآل الأمر وأثره السيء على التعايش السلمي بين الأديان؛ ولما يترك من أثر نفسي سيء في نفس الطرف الآخر.
وفي تصريح يعد فتوى شرعية للأزهر لوكيل سابق للأزهر، عباس شومان، يوم الجمعة، أكد فيها أن الاتجاه لتحويل كنيسة آيا صوفيا لمسجد لا يتفق مع الإسلام، ويتنافى مع تعاليمه السمحة التي تحترم دور العبادة لكل الديانات. وقال شومان، في تصريحات حصرية لـ”سبوتنيك”، “الإسلام يحترم دور العبادة لمختلف الديانات ولا يجوز تحويل الكنيسة لمسجد، مثلما لا يجوز تحويل المسجد لكنيسة، هذا المبدأ مرفوض في الفكر الأزهري، ويجب احترام دور العبادة لكل أتباع الديانات”.
من الناحية السياسية والاستراتيجية؟
هذه الخطوة لها أبعاد سياسية خطيرة على النزاع الإسلامي/المسيحي؛ حيث يعتبر (آيا صوفيا) قدس أقداس الأرثوذوكسية المسيحية؛ ولم تتوقف أحلامهم ومطالبتهم فيه؛ لعودته إلى كنيسة قبل أن يستولى عليه السلطان محمد الفاتح ويحوله إلى مسجد أثناء الصراع الإمبراطوري المسيحي/الإسلامي.
ولما آلت السلطة لمؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك؛ اتخذ قراراً فيه من الحكمة الشيء الكثير؛ عندما حوله إلى مكان تاريخي؛ يدخل إليه المسلم والمسيحي؛ دون حرج؛ ويحق للطرفين التعبد رمزياً فيه؛ وهذه الخطوة الأتاتوركية لاقت استحساناً وأوقفت الصراع والجدل الديني حول المكان؛ لما له من رمزية دينية.
المعاملة بالمثل؟!
تذرع أردوغان أثناء دخوله آيا صوفيا بعد قرار المحكمة أن هذا القرار يندرج تحت السيادة الوطنية؛ ولا يحق لأية دولة أن تتدخل في مثل هكذا قرار داخلي وطني؟!.
وهذا الكلام الأردوغاني ليس صحيحاً وإنما يدخل في إطار الشعبوية الدينية لكسب الأنصار في صراعه القادم مع داود أوغلو. ولو فرضنا أن هكذا قرار صحيح وطنياَ؛ ويحق للحكومة التركية أن تتصرف داخلياً كما تشاء؛ هذا يعني أن الدولة المختلفة مع أردوغان حول هذا الأمر ممكن أن تعامل قراره بالمثل؛ وهذا عرف دبلوماسي.
ففي فرنسا التي استاءت من القرار التركي يوجد (5670) مسجداً منها (125) مسجداً تابعة لتركيا؛ والسؤال: ماذا لو اتخذت الحكومة الفرنسية قراراً بمصادرتها وتحويلها إلى كنائس؟
وهناك في ألمانيا (970) مسجداً تابعة لمنظمةDITIB التركية فماذا لو اتخذت الحكومة الألمانية قراراً بالذريعة الأردوغانية ذاتها؛ وحولتها إلى كنائس أو لمصلحة المعابد المسيحية ومؤسساتها؟ أليس مثل هذه الخطوة تؤثر سالباً على التعايش السلمي الإسلامي/المسيحي.
إن مثل هذا القار الخاطئ ـ بحسب وجهة نظري ـ يدخل في إطار تأجيج الخلاف الديني؟ والعالم قد تجاوز ذلك؛ ولا تحتمله المنطقة المتعبة من الصراعات.
كما أن هذا القرار له تبعات اقتصادية سلبية على الاقتصاد التركي حيث إن السياحة الدينية من الغرب باتجاه آيا صوفيا تدر على الخزينة التركية الشيء الكثير؛ وهذا الدخل سيتوقف نتيجة هذا القرار. والعالم الإسلامي لا يريد مساجد اليوم إنما يريد وقف الصراعات فالمنطقة أنهكتها الحروب؛ وتبحث عن سلام يعيدها للتنمية والاستقرار.
المعاملة بالمثل مرة أخرى؟
الجامع الأموي يقع في قلب المدينة القديمة. كان في العهد القديم سوقاً، ثم تحول في العهد الروماني إلى معبد أُنشئ في القرن الأول الميلادي. ثم تحول مع الزمن إلى كنيسة، وبعد سيطرة الرومان على دمشق حيث كانت المدينة من أهم المدن الحضارية، تحول إلى معبد (جوبيتر) الدمشقي وفي عهد الإمبراطور الروماني تيودوس الأول 379- 395 م تحول المعبد مرة ثانية إلى كنيسة باسم كنيسة القديس يوحنا المعمدان الموجود ضريحه داخل الجامع باسم النبي يحيى عليه السلام.
لما دخل المسلمون إلى دمشق، دخل خالد بن الوليد عنوة، ودخل عبيدة بن الجراح صلحاً؛ فصار نصفه مسجد ونصفه كنيسة. ثم قام الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك سنة 86هـ (الموافق ل 705م) بتحويل الكنيسة إلى مسجد، وأعاد بناءه من جديد، وكساه بالفسيفساء.
أما آيا صوفيا فيعتبر قدس أقداس الأرثوذوكسية حوله محمد الفاتح من كنيسة آيا صُوفيا إلى مسجد فالفتح كان اليوم الثلاثاء 29 مايو، ولم يَبْقَ إلَّا ثلاثة أيَّام على يوم الجمعة، وكان الفاتح يُريد أن تكون صلاة الجمعة الأولى في المدينة في هذا المسجد الجديد، لذلك ففور الأمر بهذا التحويل بُنِيَت مئذنةٌ خشبيَّةٌ للمبنى، ووُضِع فيه منبر الخطيب، وحُدِّدت القبلة، وبُنِي فيها محرابٌ ليُصلِّي فيه الإمام، فماذا لو طالبت روسيا الأرثوذكسية بذلك وهي المسيطرة عسكرياً وسياسياً على القرار السوري؟ وكيف ستكون مثل هذه الخطوة في أثرها على المسلمين؟
وكما نعلم أن إيران المسيطرة بشكل كبير على دمشق؛ ولها ثاراتها التاريخية مع الأمويين كما هو معروف! وهي قادرة أن تفعل كل شيء؟ فماذا لو حولته إلى حسينية شيعية ثأراً من الأمويين وأهل السنة من السوريين؟ ويبقى تساؤل أخير في هذا الجانب؛ هل يريد أردوغان نتيجة خلافه مع أهم مركزي قرار في العالم السني الأزهر في مصر وهيئة كبار العلماء بالسعودية؛ هل يريد أن يوجد قبلة جديدة للعالم السُني؛ بعد ضعف المركزين السنيين في القاهرة والرياض؟.
الخاتمة
إن العمل على إحياء ثقافة التسامح الديني مسألة مهمة جداً لكل الأديان؛ ومقاصد الإسلام وهدي النبوة المحمدية تهتم بذلك كثيراً؛ وفي وصايا النبي الكريم وأبي بكر ألا تهدم صومعة لراهب ولا تنتهك حرمة مكان عبادة وأن يؤمن المؤمنون من الأديان الأخرى على معابدهم وشعائرهم دون خوف ولا اعتداء، وأن قيادة بلد بحجم تركيا سياسياً لا يمكن أن تقوم على مبدأ العناد ولا يجوز إدخال الدين فيها.
فماذا فعلت بنا يا أردوغان؟