تسريبات روسية جديدة، تكشف عن وجود توجه روسي للحد من الوجود العسكري التركي في شمال سوريا، من خلال دفع تركيا لتنفيذ إعادة انتشار لنقاط المراقبة في إدلب وسحب السلاح الثقيل منها باتجاه الأراضي التركية.
وكانت مصادر رسمية روسية، قد كشفت قبل أيام قليلة، عن وصول وفد روسي إلى العاصمة التركية، أنقرة الأسبوع الماضي، لعقد اجتماعات مع مسؤولين أتراك وبحث الخطة الروسية، لافتةً إلى أن الجانب التركي أبدى خلال الاجتماعات مرونة حيال مسألة سحب السلاح الثقيل من سوريا مع الاحتفاظ بنقاط المراقبة.
أستانا بات من الماضي ومعادلة نفوذ جديدة
التسريبات وما رافقها من إظهار نية روسية بطرح معادلة جديدة على الأرض السورية، يرى فيها الباحث في شؤون الشرق الأوسط، “عمر بيرق” مؤشراً على أن روسيا دخلت مرحلة تفكير جديدة في سوريا، أساسها إنهاء الوجود التركي، خاصةً بعد أن تمكن الجيش الروسي من إعادة سيطرة النظام على مناطق واسعة من البلاد خلال السنوات الخمس الماضية.
إلى جانب ذلك، يشير “بيرق” لمرصد مينا، إلى أن الظروف، التي تم خلالها التوقيع على اتفاق أستانا، الذي منح الأتراك فرصة الدخول إلى سوريا عام 2017، قد تغيرت كلياً، وأن الظروف الحالية أصبحت أفضل بالنسبة للروس، الذين تحولوا إلى اللاعب الأكبر في المعادلة السورية.
وكانت كل من روسيا وإيران وتركيا قد وقعتا اتفاق أستانا مطلع العام 2017، والذي منح في أحد بنوده، تركيا الحق في إنشاء نقاط مراقبة عسكرية، فيما أطلق عليه مناطق خفض التصعيد، في إدلب وريفي حماة وحلب، والتي سرعان ما تحولت إلى منطقة وجود عسكري تركي فعلي.
الحديث عن الظروف وتبدلاتها، تقود الباحث “بيرق” إلى التنويه بأن وجود مناطق كثيرة في شمال سوريا وحتى في غوطة دمشق الشرقية، تحت سيطرة فصائل مسلحة مدعومة من تركيا، حتى عام 2017، شكل في ذلك الوقت، ورقة قوية بيد أنقرة لمفاوضة موسكو، على تسليم تلك المناطق للجيش الروسي، الذي كان يبحث عن انتصارات حاسمة دون خسائر بشرية، مقابل دخول الجيش التركي إلى مناطق خفض التصعيد، لافتاً إلى أن سقوط تلك المناطق وتراجع سيطرة المعارضة أفقد تركيا أوراقها ضمن الوضع الراهن، لا سيما وأن روسيا سيطرت فعلياً على المناطق الهامة بالنسبة لها في حلب وإدلب وحماة والشمال السوري ككل.
كما يضيف “بيرق”: “ذات الظروف التي سمحت لتركيا بالدخول إلى سوريا، هي ذاتها التي ستخرجها، وكان الأجدى بالحكومة التركية أن تعلم بأن سيطرة روسيا على مناطق المعارضة يعني تضحيتها بأوراق القوة التي تمسك بها، وبالتالي فإن مصلحة الأتراك كانت باحتفاظ تلك الفصائل بمواقعها وليس الانسحاب منها والاستمرار في لتركيز على مقاومة قوات النظام بدلاً من إشغالها بمعارك تركيا ضد الأكراد ومعارك الجيش التركي في ليبيا”، لافتاً إلى أن حكومة العدالة والتنمية تصرفت بشكل قاصر سياسياً فيما يتعلق بالملف السوري.
ويتهم ناشطون سوريون معارضون، الحكومة التركية بخيانة الثورة السورية من خلال عقد اتفاقيات مع روسيا، تم عبرها تسليم الكثير من المناطق للجيش الروسي دون قتال في الفترة الممتدة من 2017 وحتى 2019، مشيرةً إلى أن تركيا كانت تهدد بقطع الدعم عن أي فصيل لا يرضخ لقراراتها.
خلط الأوراق وتبدل الظروف
تعليقاً على التسريبات والخطة الروسية، يعتبر المحلل السياسي، “حسان أبو فاعور”، أن الأوراق في سوريا تم خلطها بفعل تبدل الخريطة الميدانية، وتراجع قوة المعارضة المسلحة، مشيراً إلى أنه في عام 2017، كانت تركيا تضغط على روسيا من خلال قوات المعارضة، واتساع سيطرتها، أما اليوم في عام 2020، انقلب الآية وباتت روسيا تضغط على الأتراك بعدة أوراق، أولها الحركات المسلحة الكردية المنتشرة في مناطق شرق الفرات وشمال سوريا، بالإضافة إلى بعض الملفات الدولية، كأزمة اليونان والحرب الليبية والعملية العسكرية في العراق، والتي قد تستغلها موسكو على الساحة السورية.
وكانت الأسابيع القليلة الماضية، قد شهدت عدة صدامات بين الجيش التركي والفصائل الموالية له من جهة والقوات الكردية وقوات النظام من جهة أخرى، في مناطق ريف الحسكة والقامشلي، بحسب ما أعلنته مصادر حقوقية سورية، بالإضافة إلى تصاعد عمليات التفجير في مناطق سيطرة القوات التركية في ريف حلب والحسكة.
في السياق ذاته، يعتبر “أبو فاعور” أن السياسة التركية في سوريا أسهمت بشكل كبير في ترسيخ السلطة الروسية، ليس فقط من خلال الاتفاقيات الموقعة مع الروس وإنما في تشتيت الفصائل السورية وشرذمتها من خلال دفعها للتورط في الصراع الليبي وتركيز عملها على مواجهة الفصائل الكردية، بعيداً عن مواجهة قوات النظام السوري، والتي تمثل أساس مهامها، لافتاً إلى أن تركيا أخذت الفصائل المدعومة منها بعيداً عن الثورة السورية.
خيارات محدودة وغنيمة لا تقبل القسمة
أمام التطورات الراهنة وما وصلت إليه الأمور في سوريا، يعتبر الباحث الاستراتيجي، “مهنا عبد السلام” أن الحكومة التركية لا تملك الكثير من الخيارات في سوريا لتحمي تواجدها العسكري هناك، خاصةً في ظل تورطها في العديد من الأزمات السياسية والعسكرية في العراق واليونان وليبيا، مشيراً إلى أن تركيا لن تكون قادرة على مواجهة أي تصعيد روسي ضدها على الأرض السورية، ما سيجبرها على تقديم حد أدنى من التنازلات للروس، لتلافي أي صدامات.
وشهد مطلع العام 2020 مواجهات قوية جداً بين الجيش التركي وقوات النظام في محيط إدلب، بعد استهداف النظام السوري لنقطة عسكرية تركية في المدينة، ما أدى إلى مقتل عدد من الجنود والضباط الأتراك.
كما يشير “عبد السلام” إلى أن روسيا تملك الكثير من أوراق الضغط على تركيا أهمها الورقة الكردية في شمال سوريا والملف الليبي، معتبراً أن الحكومة التركية في نهاية المطاف ستضطر إلى إبداء ليونة ومرونة حتى في أكثر الجوانب حساسية بالنسبة لها في سوريا.
ما يزيد من فرضيات أن تعمل روسيا على إخراج تركيا من الأراضي السورية، بحسب “عبد السلام” هو أن سوريا بوجهة النظر الروسية؛ غنيمة لا تقبل القسمة مع أحد، موضحاً أن إخراج تركيا من سوريا يعني سيطرة روسيا على كامل الأراضي السورية، ما يخلصها من الحاجة إلى وجود الميليشيات الإيرانية، لتكون الخطوة الروسية اللاحقة هي إخراج ما تبقى من القوات الإيرانية.
في السياق ذاته، يؤكد “عبد السلام” لمرصد مينا، أن روسيا تمنح إخراج تركيا من سوريا أولوية لا بد منها للانفراد في حكم سوريا وتثبيت الوضع السياسي، الذي يلائم المشروع الروسي، مشدداً على أن موسكو تشعر بقلق تجاه المشاريع التركية أكثر من قلقها حول المشاريع الإيرانية، على اعتبار أن الأخيرة تقف معها في ذات المعسكر الداعم لنظام “بشار الأسد”.