تعد الهند من الدول الرئيسية في آسيا، وتتزايد أهميتها السياسية والاقتصادية في ظل الاستقطاب الدولي بين الولايات المتحدة من جهة وروسيا والصين من جهة أخرى، فبالإضافة إلى موقعها الجغرافي الاستراتيجي على الحدود مع الصين تعتبر مصدراً مهماً للحبوب بعد تأثر صادرات الحبوب القادمة من روسيا وأوكرانيا، إضافة إلى أن الهند من كبار المستوردين للنفط في العالم ويثير شراؤها للمحروقات من روسيا حفيظة الغرب.
وفي ظل الحرب في أوكرانيا والتوترات بين الصين والولايات المتحدة بسبب تايوان، تجد الهند نفسها وسط الصراع، فهي تمتلك علاقات جيدة مع كل روسيا والولايات المتحدة، إلا أن علاقاتها بالصين الحليف الرئيسي لروسيا تشهد توتراً متصاعداً منذ أن فشلت المحادثات بين قائدي الجيشين الهندي والصيني في فك اشتباك القوات في مناطق الاحتكاك الرئيسية على امتداد الحدود المتنازع عليها، حسبما أعلن الطرفان في أوائل شهر أكتوبر 2021.
وفي منتدى لمجلة “إنديا توداي”، اعتبر الوزير أن العلاقات الهندية الصينية “لا يمكن أن تعود إلى طبيعتها قبل حل النزاع الحدودي بما يتماشى مع اتفاق سبتمبر 2020 المبدئي الذي توصل إليه مع نظيره الصيني”.
ونشبت أزمة بين البلدين عام 2020 بسبب منطقة لاداخ الحدودية المتنازع عليها منذ فترة طويلة. كما تمتلك الهند مخاوفاً بشكل متزايد من جهود بكين لزيادة نفوذها في المحيط الهندي. ودفعت ترسانة الصين القوية من الصواريخ نيودلهي إلى تحسين أنظمة أسلحتها في السنوات الماضية، وتعمل الهند على تطوير منظومتها النووية والصاروخية متوسطة وطويلة المدى منذ تسعينيات القرن الماضي، وسط منافسة استراتيجية متزايدة مع الصين.
والنتيجة الطبيعية لحالة النزاع مع الصين، هي أن تسعى الهند إلى المزيد من التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية، التي تمتلك بدورها استراتيجية جديدة ترمي إلى بناء تعاون آسيوى – أمريكى فى مواجهة التهديدات الصينية. لكن يبدو أن الهند لن تكتفي بتعزيز تحالفها مع واشنطن، وإنما ترغب في توسيع التعاون الدفاعي مع موسكو أيضاً، وهو ما قد يشير إلى سياسة مستقلة مبنية على التوازن تريد الهند بناؤها، فالعديد من العواصم باتت لا ترغب في وضع بيضها كله في سلة الولايات المتحدة، خاصة بعد صدمة انسحابها من أفغانستان وتركها لقمة سائغة لطالبان.
وفي العام الماضي، شاركت الهند في كل مناورات روسية الرئيسية، وكان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي والرئيس الروسي فلاديمير بوتن قد اتفقا في أبريل من العام 2022، على إقامة حوار 2 + 2 جديد يشارك فيه كبار الدبلوماسيين ومسؤولي الدفاع. وأشار فارما إلى “الاتجاهات الجديدة التي تؤثر على الاستقرار الاستراتيجي على الصعيدين الإقليمي والعالمي”، بما في ذلك التغيرات الجذرية في أفغانستان والحقائق الجديدة في أماكن أخرى في آسيا الوسطى وخارجها في المحيط الهندي، مما أدى إلى الحاجة إلى مجالات جديدة للعمل المشترك للبلدين.
هذه الدراسة تحاول تسليط الضوء على مجالات التعاون الروسية الهندية، وإمكانية قيام موسكو بدور التهدئة بين الهند والصين؟ وأين تجد نيودلهي نفسها اليوم في خضم التجاذبات السياسية الناتجة عن محاولات واشنطن سحب الهند باتجاه تحالفاتها الجديدة ضد الصين؟ وهل تشهد العلاقات الهندية ـ الأمريكية توترات جديدة على خلفية صفقات أسلحة روسية كبيرة؟ وهل تقدم واشنطن على معاقبة الهند؟
أهم نقاط الالتقاء بين الهند وروسيا
تعتبر نقاط التعاون الأساسية في العلاقات بين الهند وروسيا، هي الدفاع والفضاء إضافة إلى ملفات سياسية مختلفة في مقدمتها أفغانستان، وتم تعزيز هذه النقاط بشكل أكبر خلال السنوات الثلاث الأخيرة، ففي مجال الدفاع تضاعفت العقود بين الهند وروسيا ثلاث مرات تقريبًا من حوالي 2 مليار دولار إلى 3 مليارات دولار سنويًا إلى حوالي 9 مليارات دولار إلى 10 مليارات دولار.
ومن بين العقود الدفاعية الرئيسية الجاري تنفيذها بالفعل، هي استحواذ الهند على نظام صواريخ أرض-جو المتقدم S-400. كما أعلن مدير المركز الروسي للتعاون التقني-العسكري، دميتري شوغاييف، إن الصين والهند وعدد آخر من شركاء روسيا قد يكونوا من الأوائل الذين سيحصلون على منظومات الدفاع الجوي “إس-500” الروسية. وأضاف شوغاييف في مقابلة مع قناة “R P K” الهندية في 2 نوفمبر 2021، إنه تم توقيع عقد حول صفقة صواريخ “إس-400”.
وأوضح أن الهند مهتمة أيضا بمنظومات الدفاع الجوي الروسية الأحدث، “إس-500″، وتسعى لشرائها. وقال إن بيع منظومات الدفاع الجوي “إس-500” سيصبح ممكنا بعد تزويد قوات الجيش الروسي بما يحتاجه منها. وقال المبعوث الهندي في موسكو إن إنتاج أكثر من 700 ألف بندقية من طراز AK-203 سيتم في الهند، وستشتري نيودلهي طائرات إضافية من طراز Su-30-MKI وMiG-29 و400 دبابة أخرى من طراز T-90. وأضاف: “عادت روسيا مرة أخرى لتصبح الشريك الدفاعي الأكبر للهند”.
وشاركت الهند أيضًا في ما يسمى بـ “صيغة موسكو” للمحادثات الأفغانية، جنبًا إلى جنب مع أعضاء منظمة شنغهاي للتعاون الآخرين وتركمانستان وممثلي طالبان. بحسب موقع newsweek في 1 نوفمبر 2021.
وتنظر روسيا إلى العلاقات الأمريكية الهندية المتنامية بحذر، خاصة وسط شكوك بأن واشنطن تتطلع إلى إعادة انتشار وجودها العسكري في المنطقة بعد الانسحاب من أفغانستان. وقال وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف يوم 1 أكتوبر 2021، خلال مقابلة مع قناة Rossiya-24، “أدرك جيدًا تدخل الأمريكيين، لا أستبعد أنهم سيضغطون لتحقيق نفس الهدف من جهات مختلفة”. “سمعت أنهم يحاولون إقناع الهند لمنح البنتاغون بعض الفرص على الأراضي الهندية.
وفي مجال الفضاء، تراقب الهند خصمها الاستراتيجي الصين، وقد حقق تقدما في الحفاظ على وجود بشري مستدام له في المدار “الفضاء”، وبحسب أديتيا باريك، محلل أبحاث في معهد تاكشاشيلا في بنغالور، فإن روسيا قد تكون الطريق الوحيد للهند للحاق بالصين في هذا المجال، حيث ساعدت روسيا الصين أيضا في تطوير نظام إنذار مبكر بمكونات مدارية. يمكن تفسير هذه التحركات من قبل البعض على أنها تمثل الدولتين جبهة شبه مشتركة وبديل لنظام الأمر الواقع الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة في الفضاء الخارجي.
لدى روسيا أيضًا خطط لإطلاق محطة فضائية منفصلة بحلول عام 2025، ومن المحتمل أن يكون الدافع وراء ذلك جزئيًا هو الفشل المتوقع للمعدات على متن محطة الفضاء الدولية، فيما أطلقت الصين بالفعل الوحدة الأساسية، تيانهي، لمحطة تيانجونج الفضائية الخاصة بها، والتي لها العديد من أوجه التشابه مع محطة الفضاء السوفيتية السابقة مير ولكنها أصغر حجمًا.
من الغريب أن روسيا والصين لم يسعيا إلى مشروع محطة فضائية مشتركة. قد يكون أحد الأسباب المحتملة وراء عدم وجود تعاون روسي صيني بشأن محطة فضائية مشتركة هو رغبة روسيا في الحفاظ على بعض الاستقلالية الاستراتيجية وعدم البقاء في مستوى صورة “الشريك الصغير” التي ينسبها إليها الكثير من المراقبين في الغرب، وهذا ما قد يمثل فرصة للهند لتحقيق تعاون مع روسيا في هذا المجال.
لدى روسيا قدراتها الفضائية الكبيرة الخاصة بها ويمكنها تحويل هذا التوازن لصالح الطرف الذي تتماشى معه، مما يجعله لا غنى عنه لبكين في المنافسة ضد الولايات المتحدة. ووفقا لرئيس وكالة الفضاء الهندية (K Sivan) ، فإن الهند تتطلع أيضًا إلى وجود بشري مستدام في الفضاء وأن التكنولوجيا الخاصة بمحطة فضائية هندية قد تنبثق من برنامج رحلات الفضاء البشرية التابع لـ ISRO ، والذي تعتبر روسيا عنصرًا أساسيًا فيه.
وقد يكون السؤال المهم الذي يجب طرحه هو ما إذا كان التعاون بين الهند وروسيا في محطة فضائية مشتركة بمثابة نوع من التوازن للتعاون بين روسيا والصين، لمنح موسكو بعض النفوذ على بكين، ويمكن أن يؤدي تحالف موازٍ بين موسكو والهند للتعاون الفضائي إلى تفاقم مخاوف بكين. أي تعاون هندسي روسي عالي التقنية في المدار على قدم المساواة تقريبًا مع تعاون نظام الإنذار المبكر الخاص بهما مع روسيا سيؤدي إلى تدهور مكانة الصين المتصورة في العالم، مما يوجه ضربة للمعنويات الصينية. يمكن أن يكون أحد المصادر الأقل احتمالًا ولكن المحتمل لقلق بكين هو احتمال استيعاب الهند بشكل غير مباشر للأفكار من الملكية الفكرية الصينية (IP) في أنظمة الفضاء من خلال التعاون مع موسكو.
الهند لديها العديد من الخيارات لنهجها تجاه محطتها الفضائية المتصورة، بما في ذلك نهج أحادي الجانب ، أو نهج ثنائي ، أو نهج متعدد الأطراف مع الولايات المتحدة أو روسيا. يمكن للهند أيضًا إبقاء الباب مفتوحًا للتعاون مع الدول الأخرى التي ترتاد الفضاء أيضًا من خلال التفاوض على مهام تدريب الطاقم على متن محطة الفضاء الدولية عبر الوحدات التي يمتلكها شركاء دوليون مختلفون.
ومع ذلك، إذا التزمت الهند بالهدف غير الواقعي المتمثل في إطلاق البرنامج بأكمله مع القليل من التعاون الأجنبي أو بدونه ، فمن المنطقي أن الطريق إلى النجاح لن يكون سهلاً أو سريعًا. مع سابقة التعاون في العديد من المشاريع عالية التقنية مثل صاروخ كروز BRAHMOS ومهمة Gaganyan Human Space Flight، يمكن للهند أن تتطلع إلى روسيا للحصول على المساعدة. يمكن للهند توفير التمويل اللازم لتنفيذ التقنيات الرئيسية ويمكن لروسيا توفير “المعرفة”. وذلك حسبما ورد في موقع Valdai Discussion Club الروسي في 11 أكتوبر 2021.
لماذا تعزز الهند علاقاتها مع روسيا؟
يقلل البعض من أهمية العلاقات بين روسيا والهند وأيضاً عضوية الهند في منظمة شنغهاي للتعاون، حيث يعتقد أن مشاركة نيودلهي جاءت لمنع روسيا من الانجراف أكثر نحو الصين، وللحفاظ على علاقاتها مع دول آسيا الوسطى. كما أن الهند لا تريد ترك المنظمة لمنافسيها الصين وباكستان. علاوة على ذلك، تشارك الهند لأنها تريد أن يكون لها صوت على الطاولة عند مناقشة قضايا مثل أفغانستان.
كما توفر منظمة شنغهاي للتعاون منبرًا للهند ومنافسيها لمناقشة خلافاتهم. لكن ليس هناك شك في أن تلك التنافسات والتناقضات يمكن أن تمتد وتحد من عمل المجموعة. على سبيل المثال، انسحب مستشار الأمن القومي الهندي من اجتماع بسبب عرض نظيره الباكستاني في الخلفية لخريطة أظهرت كشمير كجزء من باكستان، وانسحبت الهند من مناورة عسكرية روسية مع شركاء منظمة شنغهاي للتعاون في عام 2020 بسبب مشاركة الصين وباكستان.
ويؤكد المراقبون أن الهند اليوم تتخذ خطوات جريئة لم تكن تقدم عليها فيما سبق، بخصوص الانضمام إلى التحالفات الجديدة الناشئة بهدف التصدي للنفوذ الصيني، وليست هذه هي المرة الأولى التي تتخذ فيها الهند خيارات استراتيجية واضحة. على سبيل المثال، قررت التحالف مع الشركاء ذوي التفكير المماثل في 1962-1963 (مع الولايات المتحدة) و1971 (مع الاتحاد السوفيتي). في كلتا الحالتين، كان الهدف هو تحقيق التوازن الداخلي والخارجي مقابل الصين ، والآن هذا هو الحال مرة أخرى.
ويتوقع المراقبون في النهاية تبني الهند لخيارات واقعية، والتي لن تكون شاملة لجميع الأطراف، حيث ستختار نيودلهي التحالف مع الولايات المتحدة لموازنة الصين، ولكن ليس لعزل روسيا حسبما ورد في موقع War on the Rocks في 27 أكتوبر 2021.
أما اقتصادياً، فيعد تعزيز التعاون التجاري والاستثماري بين الهند وروسيا أولوية رئيسية لكلا البلدين؛ إذ تسعيان إلى زيادة حجم التجارة الثنائية إلى 30 مليار دولار، وزيادة الاستثمار الثنائي إلى 50 مليار دولار بحلول عام 2025. وفي ظل ارتفاع أسعار النفط العالمي مع “الغزو الروسي لأوكرانيا”، أصبح متوقّعاً أن تواجه الهند تحدّيات في حصولها على إمدادات الطاقة؛ حيث تعدّ الهند ثالث أكبر مستهلك للنفط، وهي تستورد ما يقارب 85% من احتياجاتها من النفط الخام، لكن شركات النفط الروسية قدّمت للهند حسماً بنسبة تراوح بين 25-30%.
وسعت الهند إلى الاستفادة من الحسومات الكبيرة لزيادة واردات النفط من روسيا. وأكّدت وزيرة المالية الهندية نيرمالا سيثارامان في 7 مايور 2022، أن بلادها ستمضي في ما هو جيد لها، و”إذا كان النفط الروسي الرخيص متاحاً، فسنشتريه”. وقد أظهرت بيانات قدمتها مصادر تجارية، مثل شركات كبلر ورويترز وريفينيتيف إيكون، ومركز أبحاث الطاقة والهواء النظيف، أنّه بينما لم تستورد الهند في شهري يناير وفبراير 2022، أي نفط خام من روسيا على الإطلاق، فإنّ الواردات في مارس ارتفعت لتصل إلى أكثر من 65 مليون برميل (خام الأورال الروسي) حتى شهر يوليو، لتصبح روسيا ثاني أكبر مورد للنفط الخام للهند، بعدما كانت عاشر أكبر مورد في عام 2022. وكذلك اتجهت نيودلهي إلى إحياء آلية جديدة للدفع بالروبية – الروبل، حيث سيسمح بالدفع بالعملة المحلية للمصدرين والمستوردين في كل دولة عبر البنك المركزي الهندي، والبنك الاحتياطي الهندي، والبنوك الروسية الكبيرة التي لها عمليات في الهند.
هل تسعى روسيا إلى التهدئة بين الهند والصين؟
تنافست الولايات المتحدة وروسيا منذ فترة طويلة لبيع الأسلحة للهند، حيث حقق كلا الجانبين مكاسب رئيسية، بما في ذلك روسيا مع S-400 والولايات المتحدة مع طائرة بوينج P-8 Poseidon للتجسس المضادة للغواصات. وبناء على ذلك قد لا تسعى روسيا إلى التهدئة بين الصين والهند، لأنها مستفيدة من بيع الأسلحة للهند، كما أنها تدرك جيداً أن الشرخ بين الدولتين أصبح أبعد ما يكون عن الإصلاح على المدى القريب، إذ أن بكين لن تقم فقط بالاستيلاء على بعض الأراضي على الحدود – بل اختارت انتهاك الاتفاقيات التي جعلت من الممكن إقامة علاقة صينية هندية أوسع. علاوة على ذلك، فقد فعلت ذلك بطريقة “وحشية” عندما كانت الهند تعاني من وباء كورونا. وبالتالي، فإن أقصى ما يمكن تحقيقه في حال عودة العلاقات، هو أن تعيد نيودلهي النظر في بعض السياسات المحددة (على سبيل المثال، القيود المفروضة على الاستثمار الصيني في القطاعات غير الحساسة) ، فمن غير المرجح في المستقبل القريب أن تثق في أن بكين ستحترم التزاماتها على نطاق واسع وعلى الحدود بشكل خاص. هذا الافتقار إلى الثقة يعني أن نيودلهي ستستمر في طلب القليل من المساعدة من أصدقائها، وذلك وفقا لموقع War on the Rocks في 27 أكتوبر 2021.
أمريكا تبدي تفهماً للعلاقات الهندية مع موسكو
تدرك الهند جيداً أن الولايات المتحدة تضع التحالف مع الهند ضمن أولوياتها بسبب موقعها وعلاقاتها الجيدة مع الدول المتحالفة مع واشنطن كاليابان وأستراليا، وتتوقع نيودلهي من الإدارة الأمريكية احترام السياسة الهندية المستقلة، كما أن انضمام الهند إلى التحالفات الناشئة وشهية الهند لشراء الأسلحة الأمريكية، يعتبر تحولاً كبيراً عما كان سائدا في الحرب الباردة عندما كانت الهند، على الرغم من كونها عضوًا في حركة عدم الانحياز ، تقترب كثيرًا من الاتحاد السوفيتي من جانبها كانت الولايات المتحدة من أكبر الداعمين لباكستان، التي لا تزال الهند تخوض معها نزاعًا حدوديًا أدى إلى عدة حروب، ولا يزال يتسبب في خسائر بشرية حتى يومنا هذا. وفي حين أن العلاقة بين واشنطن وإسلام أباد قد تآكلت على مدى العقدين الماضيين منذ اندلاع “الحرب على الإرهاب” بعد 11 سبتمبر، كانت باكستان طوال الحرب الباردة واليوم شريكًا وثيقًا للصين. كان يُنظر إلى هذه العلاقة على أنها مفيدة لواشنطن عندما اعتبرت موسكو عدوها الأساسي، ولكن يُنظر إليها الآن على أنها عائق حيث تسعى الولايات المتحدة إلى التنافس مع الصين الصاعدة.
من ناحية أخرى، أصبحت علاقة روسيا بالصين أقرب من أي وقت مضى، واشترت بكين أيضًا منظومة S-400. كما انخرط البلدان في عدد متزايد من التدريبات العسكرية المشتركة، بعضها ثنائي وبعضها الآخر شمل بالفعل الهند وباكستان.
ولذلك فإن واشنطن اليوم مستعدة لتقديم التنازلات للهند من أجل الحصول على ثقتها ودفعها إلى الانحياز أكثر نحو واشنطن، وبعدما جربت الإدارة السابقة سياسة العقوبات ضد الهند بعد شرائها منظومة الصواريخ الروسية، تميل إدارة بايدن إلى اتخاذ خطوات أكثر انفتاحا، حيث قررت عدم فرض عقوبات على الهند بموجب قانونها الصارم بشأن شراء منظومة الدفاع الجوي «إس-400» من روسيا في شهر يوليو 2022، حيث كان ثلاثة أعضاء جمهوريين في مجلس الشيوخ قد أعلنوا إنهم قدموا تشريعا لإعفاء الهند من العقوبات لشرائها نظام دفاع صاروخي روسي من طراز S400 ، مشيرين إلى أهمية العمل مع الحلفاء لمواجهة الصين.
ويضاف هذا القرار الأخير، إلى دعوات في الكونجرس للتنازل عن العقوبات المفروضة على الهند، وفقا لما نقلت وكالة Reuters البريطانية في 2 نوفمبر 2021، ويقول منتقدو المقترح بأنه يساهم بالسماح لموسكو ونيودلهي بالخروج من المأزق.
وينطلق المشرعون المدافعون عن القانون من حقيقة أن الهند لديها تاريخ طويل في شراء الأسلحة من روسيا، بالإضافة إلى ذلك، فإن الهند أفضل تسليحًا تساعدها في مواجهة الصين، وهو الأمر الذي يصب أيضًا في مصلحة أمريكا.
من الواضح أن التنازل أو عدم التنازل يمثل مصدر قلق في الكونغرس. حيث قدم موظفو البنتاغون إحاطة سرية لموظفي لجنة القوات المسلحة بمجلس النواب ومجلس الشيوخ حول مسألة تنازل الولايات المتحدة عن العقوبات، أن موقف وزارة الدفاع لسنوات كان أنه من الأفضل إبقاء الهند سعيدة في علاقتها مع الولايات المتحدة.
وتؤكد التحليلات أن الهند تتماشى بشكل متزايد مع الولايات المتحدة وحلفائها، خاصة بعد حضور الهند لقمة الرباعية التي تضم أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة في شهر سبتمبر من العام 2021. وجاء في الإحاطة أن نيو دلهي اختارت تعميق العلاقات مع الشركاء الذين يمكنهم مساعدتها في بناء القدرات الهندية، وتقديم بدائل في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، والحفاظ على توازن ملائم للقوى في المنطقة.
يُنظر إلى الولايات المتحدة على أنها مفيدة بشكل خاص، حيث أشار مستشار الأمن القومي الهندي السابق شيفشانكار مينون إلى أنه على الرغم من أن البلدين ليس لديهما التزام بالدفاع المتبادل، فإن “الهند والولايات المتحدة … تتجهان نحو شراكة لديها بعض خصائص التحالف “.
وفي هذا المجال يدعو مراقبون الولايات المتحدة وشركائها إلى استمرار الاهتمام بالهند ورعايتها، فمثلما جعل اختيار بكين مواجهة الهند على الحدود، نيودلهي أكثر اهتمامًا بالتعاون مع الولايات المتحدة، يمكن لخيارات واشنطن أن تحدد نطاق هذا التعاون – للأفضل أو للأسوأ.
لقد قطعت الهند شوطا طويلا في الرباعية، رغم أنها لم تستخدم كلمة “رباعية” في البيانات ولا توافق على بيان مشترك. كان هذا جزئيًا بسبب الرغبة في عدم استفزاز الصين المنافسة أو إزعاج روسيا الشريكة. ومع ذلك، بحلول مارس 2021، وافقت دلهي على رفع مستوى التجمع من مستوى الوزراء إلى مستوى القادة، من خلال قمة افتراضية في 12 مارس أسفرت عن بيان مشترك ، ومقالة افتتاحية مشتركة ، و مبادرة لقاح مشتركة. كان هذا لافتًا للنظر بشكل خاص لأن نيودلهي في ذلك الوقت كانت منخرطة في مفاوضات حساسة مع بكين لحل أزمة الحدود، في مثل هذه اللحظة، لم تكن الهند قد اتخذت أي خطوات يمكن أن تؤثر على المفاوضات مع بكين، إلا أنها هذه المرة اختارت المجازفة.
يرتكز هذا الخيار الهندي للتوافق مع أستراليا واليابان والولايات المتحدة على رؤية مشتركة لمنطقة حرة ومنفتحة وآمنة، ومزدهرة في المحيطين الهندي والهادئ. يمكن لهؤلاء الشركاء المساعدة في مواجهة التحديات التي تواجه هذه الرؤية – سواء كان هذا التحدي هو تأكيد الصين، أو تغير المناخ. وبالتالي، كان نيودلهي على استعداد للتشاور والتنسيق والتعاون معهم لبناء تحالف متوازن وقدرة على الصمود في المنطقة.
وقد رفضت كل من بكين وموسكو المجموعة الرباعية باعتبارها زمرة تقودها الولايات المتحدة لزعزعة الاستقرار وكان صوت روسيا أقوى من الصين في معارضة الرباعية. لكن وزير الشؤون الخارجية الهندي رد على تصريحات نظيره الروسي ضد الرباعية، ومن خلال مضاعفة التعاون عبر التحالف، أوضحت نيودلهي أنها لن تسمح لموسكو أو بكين باستخدام حق النقض ضد شركاتها. وذلك بحسب موقع War on the Rocks في تقرير له 27 أكتوبر 2021.
وخلصت مجموعة عمل حديثة، تضم باحثين ومسؤولين سابقين، إلى أنه “من مصلحة الهند أن تظل الولايات المتحدة منخرطة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ وآسيا القارية، وأن تعمل الهند مع الولايات المتحدة لإبقاء المنطقة مفتوحة، وتعددية وخالية من هيمنة القوة الواحدة “. في حين أن الحكومة الحالية التي يقودها حزب بهاراتيا جاناتا عززت علاقة الهند مع الرباعي، فمن الجدير بالذكر أن حكومة ائتلافية بقيادة حزب المؤتمر انضمت لأول مرة إلى الرباعية في عام 2007، بالإضافة إلى الهند واليابان والولايات المتحدة. ثلاثي الأطراف في عام 2011. وربما كان الأمر الأهم هو توقيع تلك الحكومة على اتفاقية نووية مدنية مع الولايات المتحدة خلال إدارة بوش على الرغم من الرفض الصيني والروسي.
الاستنتاجات
لطالما بنت الهند سياستها على عدم الانحياز الكامل لأحد الأقطاب، وهي تستمر في تفضيل سياسة الاستقلال الاستراتيجي (أي حرية إصدار أحكام مستقلة بناءً على مصالح الهند). لكن قرارات سياستها الخارجية تعكس اقتناعاً سياسات الصين ذات البصمة المتزايدة في جنوب آسيا، يمكن أن تكون واحدة من أهم القيود على الحكم الذاتي الهندي – وقد لا تساعد الشراكة مع الدول ذات التفكير المماثل في حماية المصالح الأمنية للهند فحسب، بل تساعد أيضًا في الحفاظ عليها. وحتى تعزيز مساحة صنع القرار في نيودلهي.
يمكن أن تتشكل قرارات الهند من خلال خيارات البلدان الأخرى، على سبيل المثال، أثرت تحركات بكين الأخيرة على الحدود الصينية الهندية على قرارات نيودلهي بشأن الولايات المتحدة والشركاء الآخرين القلقين بشأن الصين. وكلما طالت الأزمة، زاد الوقت الذي يجب أن تتوطد فيه هذه الخيارات. إن موقف كانبرا المتغير من الصين جعلها شريكًا أكثر جاذبية لنيودلهي. حتى مع بقاء روسيا على صلة مع الهند، لا سيما عندما يتعلق الأمر بأفغانستان أو المعدات الدفاعية، فإن اختيار موسكو تعميق العلاقات مع بكين قد يحد من فائدتها بالنسبة للهند وزاد من استعداد دلهي لاتخاذ إجراءات قد تثير استياء الروس. من ناحية أخرى، فإن اختيار واشنطن للتنافس مع الصين والشراكة مع الهند سهّل قرارات دلهي لتعميق العلاقات مع الولايات المتحدة.
أما من طرف روسيا، فيمكن تشبيه علاقتها مع الهند، بالعلاقات القائمة بين موسكو وتل أبيب، حيث تعتبر روسيا من أهم حلفاء إسرائيل باعتراف الطرفين، فيما تعتبر موسكو حليفاً لإيران وداعما لسياساتها في منطقة الشرق الأوسط، بالمقابل فإن علاقة نيودلهي مع روسيا تؤمن لها مساحة للمراوغة تمكنها من فرض كلمتها في منطقة المحيطين الهندي والهادي التي تشتد فيها المنافسة يوماً بعد يوم.
في مواجهة أية شكوك حول إمكانية انسحاب الولايات المتحدة المستبعد من منطقة المحيطين الهندي والهادي، تختار الهند أيضًا تحقيق التوازن مع الصين من خلال شراكات أوثق مع اليابان وأستراليا، والتي بدورها جعلت اختيار الرباعي ممكنًا. في حين أن تعميق العلاقات الهندية اليابانية يعود إلى أبعد من ذلك، فقد كان تطوير العلاقات الدفاعية والأمنية بينهما في السنوات الأخيرة محل تركيز إضافي. لكن التحول في علاقات الهند مع أستراليا هو الذي عزز التحالف الناشئ. حيث تعد أستراليا اليوم واحدة من عدد قليل من الدول التي وقعت الهند معها اتفاقية مشاركة لوجستية، وتحمل اتفاقية وزارية 2 + 2 ، وتجري تدريبات عسكرية على درجة متزايدة من التطور، وجاء تعزيز العلاقات على ما يبدو نتيجة إدراك الهند المتزايد للخطر الصيني وضرورة التصدي له.
المصادر:
وكالة الأنباء الروسية تاس 1 نوفمبر 2021
مجلة “إنديا توداي” 18 مارس 2023
وكالة رويترز 28 أبريل 2023
موقع newsweek في 1 نوفمبر 2021
موقع War on the Rocks في 27 أكتوبر 2021
موقع العربي الجديد 10 أغسطس 2022
موقع War on the Rocks في 27 أكتوبر 2021.
موقع War on the Rocks في تقرير له 27 أكتوبر 2021
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مركز أبحاث ودراسات مينا.