سهف عبد الرحمن
هذه الدراسة محاولة لتناول نظرية المؤامرة وتاريخ ظهورها والعوامل التي تساعد في تبنيها واستخدامها بوصفها آلية تفكير وحقيقة مطلقة لا تقبل الجدل إلا من داخلها، وكذلك ستعالج هذه الدراسة المنهج المضاد الذي بدأ بالظهور في التحليل السياسي الذي يذهب إلى تسطيح الوعي والتاريخ.
المدخل
شاعت كثيراً في الآونة الأخيرة التحليلات التي تتناول الأحداث السياسية المعاصرة بالاعتماد على نظرية المؤامرة وعلى الرغم من حضور هذه النظرية القديمة في الفكر العربي والعالمي إلا أنها شكلت للخطاب السياسي العربي المعاصر أساساً مهماً يستند إليه لإنشاء حالة من التوازن الوهمي، إذ منحته عدداً من الإجابات الكسولة عن كثير من الأسئلة الراهنة والتحديات، وعلى الرغم من أنّها تخبو أحياناً ولكنّها تعود مجدداً في ظل أي حدث سياسي يقلق حالة السكون التي تنتجها الأنظمة الاستبدادية والطغم العسكرية في مجتمعاتها، وتعمل على ديمومتها وتحويلها إلى حالة أقرب إلى الموات المجتمعي والسياسي حتى تضمن بقاءها وسيطرتها، فعند كل حدث سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي يمكن أن ينتج حالة تغيير ويكسر حالة السكون تتلطى مؤامرة ما من قوى خفية ما، وهذه القوى دائما معرفة بدلالة العدو المتربص بثقافتنا وحضارتنا ويريد أن ينال منا في كل حال، هذا العدوّ الذي لا نستطيع الاستدلال على ذاتنا إلا من خلاله وتلك العداوة التي تمنح حياتنا معنى وتعطي ذواتنا أهميتها وكلما عمدنا إلى تكبير هذا العدو كبرنا معه فعندما نجعل منه إدارة خفية لشؤون الناس على هذا الكوكب نتحول نحن إلى مركز الكوكب.
نظرية المؤامرة (تعريفها وتاريخها)
هو مصطلح انتقاصي يشير إلى شرح حدث أو موقف ما اعتمادا على مؤامرة لا مسوّغ لها، عموما تأخذ المؤامرة في مضمونها على أفعال غير قانونية أو مؤذية تجريها حكومة أو جهات أخرى قوية، تنتج نظريات المؤامرة في أغلب الحالات افتراضات تتناقض مع السائد للحقائق البسيطة)(1).
يقول عالم النفس في جامعة لندن كريستوفر فرينس حول نظرية المؤامرة: نحن معشر البشر إحدى أفضل قدراتنا هي قابلية إيجاد أنماط ذات معنى في العالم حولنا لاستنتاج استدلالات سببية لكننا أحياناً نرى أنماطاً وروابط سببية قد لا تكون موجودة خاصة حين نشعر بأن الأحداث خارجة عن سيطرتنا.
يعود تاريخ ظهور المؤامرة بوصفها مفهوماً في الخطاب السياسي إلى (١٩٢٠ في مقالة اقتصادية ولكن جرى تداوله عام ١٩٦٠، وأضيف إلى قاموس أكسفورد عام ١٩٧٠)
ولكنها بالتأكيد أقدم من تاريخ تأطريها النظري فهي آلية تفكير مستخدمة منذ القدم وتغدو بداياتها مرتبطة بتاريخ نشوء الوعي البشري، فهي تعود إلى ماقبل مرحلة الأسطورة، إنها تنتمي إلى مرحلة السحر والشعوذة حيث لكل حدث في الحياة وبخاصة الحوادث الشخصية دافع مجهول مصنوع بقوة خارقة، وتعود إلى ما قبل العقل السببي، إذ هناك إحساس بالسبب وعدم القدرة على وعيه واستيعابه ما يدفع به إلى المجهول القوي وغالباً ما ترتبط هذه الآلية بالمتغيرات والأحداث السيئة التي تقع خارج نطاق الإرادة البشرية وتسبب الأذى.
وقد انتقلت مع بدايات ظهور المرحلة الأسطورية إلى المستوى الفوقي السماوي لتغدو إرادة من القوى الغيبية التي تدير شؤون الإنسان وترعى مصالحه، تلك القوى التي خرجت من المخيال البشري في بداياته واشتقت من الصورة البشرية مضافاً إليها المستحيل.
نستطيع أن نلاحظ ذلك جلياً في قصة صراع عشتار مع أختها أرشيكشجال آلهة العالم السفلي والمكيدة التي دبرتها أرشيكشيكال مع خدمها للإيقاع بعشتار، وفي عدد من القصص والأساطير الأخرى، إذ تغدو الحيلة والمكيدة هي البذرة الأولى لنظرية المؤامرة ونستطيع أن نلحظ تلك البدايات جيداً في قصة اغتيال الفرعون رمسيس الثالث من قبل زوجته لتولي ابنها الحكم واشتركت فيها مجموعة كبيرة من قادة الجيش وتكاد تكون تلك القصة أولى القصص المروية عن التدبير والمكائد في تاريخنا من أجل الوصول إلى السلطة.
إذاً فنظرية المؤامرة كانت ملازمة لتطور الوعي البشري في أغلب مراحله ولم تنفصل عنه إلا في المرحلة التي بدأ الوعي فيها في فهرسة نفسه ونقدها.
مع الدخول في المرحلة الملكية وعصر الإمبراطوريات اشتبك مفهوم السياسة مع نظرية المؤامرة حتى غدا من الصعب فصلهما عن بعضهما، فعندما نعود إلى السرد التاريخي لمجموعة من القصص والأحداث نستطيع أن نقرأ تلك الحوادث والسرديات التاريخية كلها بوصفها مؤامرات صغيرة تستهدف الإيقاع بالآخرين والوصول إلى السلطة والاستحواذ عليها، وتلعب طريقة السرد دوراً حاسماً في تلك المرويات وتحويلها إلى مؤامرات محبكة.
إذاً (السياسة مؤامرة مستمرة) مفهوم تلازم مع نمط الإنتاج الزراعي وأنظمة الحكم الملكية، إذ نجد (المؤامرة -المكيدة -السياسة) مفهومات توءمية في تلك المرحلة التي استمرت حتى مأسسة السياسية وتحويلها إلى فعل يهدف إلى تحقيق النفع العام لمجموعة بشرية ما والتنظير لها بوصفها علماً وإدارة، إذ كانت مرتبطة في مرحلة ما قبل الثورة الصناعية والنهضة بمجموعات صغيرة نخبوية تحاول بالأساليب كلها الاستحواذ على السلطة والثروة من دون أخذ أي اعتبار لمصالح المجموع، وبعد الثورة الصناعية وبداية ظهور العالم الحديث بدأ الفصل بين نظرية المؤامرة والسياسية، وحصلت كل منهما على استقلالها عن الأخرى، ويعدّ كتاب برتوكولات حكماء صهيون أو قواعد حكماء صهيون (وثيقة تتضمن ٢٤ بروتوكولاً يتحدث عن خطة لغزو العالم أنشئت من قبل اليهود وكتب هذه الوثيقة ماثيو جولو فينسكي عام ١٩٠١) لحظة الافتراق النظري بين المفهومين، إذ خطت السياسية طريقها الخاص معتمدة على إرث من مؤلفات مونتسكيو وجون لوك وجاك روسو وميكافيلي فصدرت كتب والدراسات كثيرة، وأنشئت مراكز للأبحاث ومؤسسات وقدمت دراسات ورسائل دكتوراه عدة في الجامعات وعاشت نظرية المؤامرة آخر أيامها مع نهاية الحرب العالمية الثانية وانهيار المشروعات السياسية القائمة على العرق والقومية لتظهر بين فينة وأخرى في كتاب هنا ومقال هناك.
نظرية المؤامرة في الفكر السياسي العربي
يغدو الفكر السياسي العربي بطبيعته العاطفية ميالاً إلى فكرة المؤامرة التي تمده بالسحرية اللازمة لاكتمال الخطاب وإعطائه البعد التراجيدي المؤثر في الجماهير ذات العلاقة المازوخية تاريخيًا مع السلطة.
فما تزل نظرية المؤامرة في اشتباك قوي مع الفكر السياسي العربي إذ ما تزل الأيديولوجية بشقيها (القومي والإسلامي) تشكل أساساً للفكر والخطاب السياسي العربي وتشكل أيضاً البيئة النموذجية لنظرية المؤامرة، ويرى كثير من الأيديولوجين العرب أن كتاب برتوكولات حكماء صهيون يشكل مرجعية ذات صدقية عالية يمكن الارتكاز عليها في تحليل الحدث بشقيه الراهن والتاريخي، وبعضهم الآخر انتقل إلى كتب أكثر حداثة وأكثر إثارة ودرامية مثل كتاب أحجار على رقعة الشطرنج لوليم كار(وهو ضابط مخابرات كندي كتب الكتاب بعد مشاركته في الحرب العالمية الثانية وسجل فيه رؤيته للمؤامرة اليهودية في إطلاق الحربين العالميتين لتحقيق مصالح اليهود)، وكتاب الماسونية في العراء لمحمد علي الزعبي الذي أخذ حقه من الشهرة والانتشار كونه وثيقة خطرة تكشف حقيقة ماحدث وما سيحدث، ومن أحدثها كتاب اليهود والماسون في ثورات العرب لبهاء الأمير الذي يقيس فيه الثورات العربية الحالية على الغربية وإثبات تورط اليهود في إشعالها.
ويعود سبب تلك العلاقة الوثيقة بين السياسة والمؤامرة في الخطاب السياسي العربي إلى عدم التأسيس لمفهوم السياسة بصفتها إدارة للمجتمع ومجموعة من العلاقات البراغماتية التي تهدف إلى تحقيق الحد الأقصى من الانتفاع والتقدم لمجموعة بشرية وربما لتأخر مشروع الدخول في الحداثة وعدم قدرة البنى الاجتماعية بمرجعياتها المتهالكة على حمل المشروع وعدم قدرة المثقف على إعادة تبيئة المشروع وإنتاج قيمه وآلياته ووصول العسكر إلى سدة الحكم في العالم العربي في مرحلة حرجة من تاريخنا.
يرى القوميون العرب معظمهم أن الأمة العربية تتعرض لمؤامرة كبرى بدأت منذ ما يقارب القرن من الزمن وما زالت مستمرة إلى يومنا هذا، تلك المؤامرة التي بدأت مع وعد بلفور وسايكس بيكو، ويشكل اليهود العنصر الأساس والدائرة الصغرى في هذه المؤامرة، إذ إن كل ما يصدر من قرارات وخطط هدفها الوحيد والأوحد هو تمزيق الأمة واستنزاف مقدراتها وزرع الفتن بغية إضعافها واستمرار السيطرة عليها وذلك كله خدمة للمشروع الصهيوني ومن أجل توسيع رقعة الدولة الإسرائيلية على حساب الدول العربية، وقد استحكمت نظرية المؤامرة بالخطاب القومي العربي بعد أن مني هذا المشروع بهزائم كبيرة كانت بدايتها في حرب ١٩٤٨ وماسمي بالنكبة وصولاً إلى النكسة وما تلاها وما ترتب عليها، وبعد أن وصل القوميون العرب إلى السلطة بطغم عسكرية مستبدة وفاسدة لم تسمح تلك القوى بإجراء أي مراجعات نقدية حقيقية بل فضلت تحميل الهزيمة وما ألحقته بالمشروع القومي لقوى خارجية متكاتفة ومتآمرة وتستهدف الأمة، شكل هذا التحليل مخرجاً آمناً لتلك الطغم للتهرب من دفع فاتورة الهزيمة وللتمسك بالسلطة والثروة واستمرار مشروعها النهبي، واستطاعت إبعاد المفكرين القوميين عن الساحة لتتصدرها مجموعة من الإعلاميين والأيديولوجيين الذين انحصرت مهماتهم بالتسويغ لتلك الطغم وتقديم الغطاء النظري لاستمرارهم.
تغيب الموضوعية عن هذا التحليل إذ يحاول القوميون العرب تصوير العالم قوة متجانسة خالية من التناقضات تستهدف فقط الأمة العربية، إن الميل إلى جعل العرب في حالة الاستهداف الدائم يغذي عقدة النقص الناشئة عن التأخر التاريخي ويجعلها إجابة معقولة ومقنعة للشارع العربي عن السؤال النهضوي الشهير لماذا تقدم الغرب وتأخر العرب فتغدو الإجابة لأن الغرب يتآمرون على العرب بدافع الخوف ويمنعون تقدمهم، إننا نحاول أن نتقدم ولكنهم يمنعون تقدمنا في هذا الجوهر إجابة طفولية عن الاستحقاقات.
إن نظرية المؤامرة في التحليل السياسي السائد لدى أغلب القوميين العرب هي أشبه بمرض إدركي، يستعصي على العقل المأزوم إدراك الأبعاد العلائقية للواقع ومن ثم تستعصي القدرة على الاشتباك مع هذا الواقع من خلال فهم الدور والمصلحة، ما يضطره إلى الذهاب باتجاه نظرية المؤامرة إذ هي حل سحري ودواء مسكن لهذا المرض الإدراكي المؤلم.
لم يسلم الإسلام السياسي بتلويناته كافة من مرض المؤامرة أيضاً وهو الذي يرى في الآخر المختلف عدواً دائماً، في حين تغدو ملامح العدو عند القوميين العرب واضحة ومؤطرة ويستطيعون من خلال تحديد العدو تقديم مؤامرة محبوكة ومقنعة، يغدو العدو عند الإسلاميين هلامياً غير محدد الملامح، إنه ثوب يستطيعون إلباسه لمن يشاؤون وبحسب المعطى السياسي، ثوب واسع يتسع لكل آخر مختلف، ويستند الإسلام السياسي بمعظمه إلى تفاسير خاصة لبعض آيات القرآن الكريم لتدعيم المؤامرة وإثبات أدلة قطعية لديه على وجود المؤامرة منذ بداية الخليقة:
إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (القصص: ٢٠).
ويعتمدون على تفسير الآية
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (الأنفال: ٣٠).
ويلتقون مع القوميين العرب في الظنّ بالمؤامرة اليهودية ولكنهم يرجعون بها بعيداً إلى مرحلة السلطنة العثمانية والانقلاب العسكري الذي جرى على السلطان عبد الحميد ١٩٠٨، فهم يظنون أن يهود الدونمة كانوا وراء الانقلاب لتقويض السلطنة العثمانية نتيجة رفض السلطان عبد الحميد وعد بلفور، ولديهم الكثير من القصص التي تدعم ظنهم هذا ومنها التقرير السري الذي أرسله لورنس العرب إلى الخارجية البريطانية المسمى سياسة مكة إذ يقول:
(أهدافنا الرئيسية تفتيت الوحدة الإسلامية ودحر الإمبراطورية العثمانية وتدميرها، وإذا عرفنا كيف نعامل العرب وهم أقل وعياً للاستقرار من الأتراك فسيبقون في دوامة الفوضى السياسية داخل دويلات صغيرة حاقدة ومتنافرة وغير قابلة للتماسك).
وكذلك تصريح أحد الحاخامات يدعى ريتشورون حين يقول (شعبنا محافظ مؤمن ولكن علينا أن نشجع الانحلال في المجتمعات غير اليهودية فيعم الكفر والفساد وتضعف الروابط المتينة التي تعتبر أهم مقومات الشعوب فيسهل علينا السيطرة عليها وتوجيهها كيفما نريد).
لا يعفي هذا طبعا اليهودية السياسية من التخطيط والعمل على مشروعها الخاص والتدبير وإقامة التحالفات لتوسيع كيانها السياسي ونطاق سيطرتها وتأثيرها، ولكن لا يعفي العرب والمسلمين أيضاً من قصر الرؤيا والانكفاء والاكتفاء بهذه البكائية العاجزة التي تشبه آلية ندب فكري (إنهم يتأمرون علينا) إذا كنا لا نملك خطة لمستقبلنا ولا نعمل له هذا لا يجعل من العاملين لمستقبلهم ومصالحهم متآمرين فحسب، التاريخ لا ينتظر النائم والحياة يجب أن تتدفق.
كان تأثر اليسار العربي معظمه بنظرية المؤامرة أقل من غيره من التيارات إذ اكتفى بالإمبريالية والرأسمالية عدواً يجب مجابهته وذهبفي بفهمها كآليات وبنى علائقية ونمط إنتاج ينتج منه مجموعة من المصالح والتحالفات ومن ثم مخططات وأهداف ومؤسسات، تعاطى اليسار مع فكرة المخطط والهدف بوصفها ناتجاً طبيعياً للسياسة ومرافقاً لها، قليل منهم من اعتبر انهيار الاتحاد السوفياتي مؤامرة إمبريالية على الشيوعية، وذهب كثير منهم إلى تحليل أسباب الانهيار ودراستها وإن لم تصل بعد تلك المراجعات إلى نتائج مقنعة ولكن التفكك وانهيار المنظومة الاشتراكية حرّك العقل النقدي التحليلي تجاه تلك التجربة التي كانت استبداداً أيديولوجيا أكثر من كونها مشروع عدالة للكل الإنساني كما تبنت في طروحاتها النظرية.
إن مفهوم العدو الخبيث أحد ركائز ومولدات نظرية المؤامرة التي لا يمكن أن تقوم بلا هذا المفهوم والمؤامرة هي الآلية والأدوات التي يستخدمها هذا العدو الخبيث للقضاء علينا نحن بوصفنا الخير المطلق الذين نحمل في عقائدنا جوهر الخلاص للجميع، إنه في العمق تفكير ارتيابي عصابي يحمل سوداوية تجاه الواقع والمستقبل الذي يصنعه الآخرون، إن نظرية المؤامرة هي أشبه بمتاهة ماإن تدخلها حتى يغدو خروجك منها أشبه بالمستحيل لذلك لا جدوى من انتظار نهاية المتاهة الحل الأمثل هو تسلق جدارها للخروج.
عكس نظرية المؤامرة (اللاعقلانية وتسطيح الوعي)
ساد في الفترة الأخيرة منهج في التحليل والخطاب يقوم على نفي المؤامرة وذهب هذا النفي بعيداً حدود اللاعقلانية أي انتفاء دور العقل في صناعة الحدث والتاريخ وكان منهجاً انفعالياً طفولياً، كل ما يرنو إليه هو نفي المؤامرة حتى ولو حوّل الحدث التاريخي برمته إلى دافع غريزي وحتى لو حوّل المجتمعات إلى جملة ترمودينامية معزولة لا تؤثر ولا تتأثر، وشاع هذا التحليل والخطاب عند المجموعات العربية الشابة التي دخلت خضم الأحداث من دون خبرة سياسية سابقة وغدا النفي والاعتراض هو المولد الوحيد لجملتها السياسية، ونتيجة لغياب مفهوم السياسة عن الثقافة الاجتماعية واحتكارها بيد السلطات الحاكمة نشأ جيل بأكمله على خطاب واحد وتحليل واحد يتبنى في طياته نظرية المؤامرة بل يقوم في تماسك بنيته عليها، ما دفع بالجيل المعترض والثائر إلى تبني الخطاب المضاد باعتباره خطاباً يقوم على التقويض وهدم خطاب السلطة، ما أدى به إلى الابتعاد عن العقلانية والهدوء وقراءة المصالح والتوازنات والبنية العلائقية للواقع. إنه فهم مستوٍ للواقع يؤدي إلى تسطيح العقل وتجويف الخطاب والتحليل حيث تغدو القراءات حالة نفي عدمي وتطهر من الآخر.
في الخطابين كليهما يلعب الآخر دوراً محورياً، إذ يغدو الآخر عدواً متربصاً في خطاب المؤامرة، يغدو في الخطاب التطهري الآخر التهمة التي يعمد هذا الخطاب إلى نفيها وتبدأ عملية النفي في الخطاب التطهري بعكس عملية الإثبات في خطاب المؤامرة أي مقلوب الآلية إذ يقوم خطاب المؤامرة على شرح المؤامرة وإثباتها وتدعيم الفكرة بالشواهد والإثباتات وصولاً إلى من يقف وراء المؤامرة وهو الآخر العدو الشرير المتربص بينما يقوم الخطاب التطهري على نفي الخطة والتدبير واستحضار العوامل الذاتية للحدث كلها وإعطائها الأهمية كلها ومن ثم ينفي الآخر العقلاني وينفي العلاقة معه بوصفه تهمة يجب الخلاص منها، الخطابان كلاهما والآليتان كلتاهما خارج نطاق العقلانية والفهم الحقيقي للواقع وتشابكاته، لا يمكن البناء على الخطابين كليهما ولا يمكن التأسيس عليهما ومن الغريب أيضاً تبني بعض الليبراليين العرب خطاب التطهر والمزاوادة فيه ليغدو عند بعضهم أشبه بصكوك ولاء ذليلة للعالم المتقدم .
الخاتمة
مما تقدم نستطيع أن نستخلص أن التاريخ البشري منتج عقلي يشكل العقل فيه الدافع والراصد ولذلك لا يمكن التعامل مع العقلانية والتنظيم على أنهما محض مؤامرات شريرة، وصانعوها مجموعة من الأشرار أو الكائنات الشيطانية، هذا الموقف من الحدث والتاريخ لا يمكن تغييره إلا بالانتقال من موقف المتفرج والمتلقي للحدث التاريخي إلى موقف الفاعل والمساهم في إنتاج التاريخ بوصفه منجزاً بشرياً يخصنا جميعاً وعلينا جميعاً المساهمة فيه ودفعه في المسارات التي تراكم النفع والسعادة للجميع.
لا نستطيع إيجاد أي منطق عقلي في خطاب المؤامرة فهي لا تقوم على المنطق الصوري ولا على المنطق الجدلي ولا حتى على علوم المنطق الحديثة كالمنطق الميكانيكي والدينامي والعضوي بل لها منطقها العاطفي الخاص المبني على الاستهداف وهذا الاستهداف يشكل مسوّغا لقبول كل ما يخطط له الآخر الشرير.
إن وجود الخطط والاستراتيجيات هو عقل السياسية ومعناها ولا يمكن لنا أن نشترك مع هذا العالم إلا عندما نبني استراتيجياتنا التي تقوم على فهم الشرط التاريخي ومصالحنا بوصفنا جزءاً من مسيرة التاريخ البشري لا عالة عليه.
إن تلك الخطابات والتحليلات البائسة للطغم العسكرية التي استولت على الحكم في العالم العربي منذ نصف قرن هي أشبه بالحجب التي يكتبها السحرة والمشعوذون التي تهدف إلى سرقة الآخر ووضعه في دوامة من عدم الفهم لاستمرار السيطرة التي تدوم باستمرار التجهيل.
لعبت الطغمة الأمنية في سورية على خطاب المؤامرة في بداية الانفجار الشعبي وحاولت من خلال ما روجته عن وجود مؤامرة جهنمية تستهدف (سوريا -النظام -الممانعة) التشويش على المطالب الشعبية واستحقاقات التغيير، نجحت في استهداف شريحة معينة من الشعب وأخذته إلى متاهة المؤامرة بينما استمر الواقع في تكذيب الخطاب المؤامراتي وتعريته، (فما قام به النظام الأمني في سوريا لهو أسوأ احتمال كان من الممكن أن تصل إليه، فمن تدمير العمران إلى تدمير البنية الاجتماعية والهوية الوطنية والبنية الاقتصادية وتهجير نصف السكان وقتل الناس في المعتقلات ونهب المنازل والمعامل، بحسب منطقه ونظرية المؤامرة التي يتبناها يغدو هو -النظام الأمني- من استهدف سوريا وهو المؤامرة الكبرى التي لحقت بها).
مصادر ومراجع
١- ويكبيديا.
هذه المادّة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي.