د. عبد السلام المياحي
لطالما ارتكزت الهيمنة العالمية للولايات المتحدة الأمريكية على تفوقها في مجالات البحث العلمي والتكنولوجيا، مدعومة بقدراتها الاقتصادية والعسكرية. ومع ذلك، يشهد العالم اليوم تحوّلًا استراتيجيًا من عصر العلم، الذي اعتمد على الاكتشافات والنظريات العلمية كأساس للتقدم، إلى عصر التكنولوجيا، حيث أصبحت التطبيقات العملية والابتكارات التكنولوجية هي القوة المحركة الأساسية للنمو والتطور.
في هذا السياق، برزت الصين كمنافس جاد للولايات المتحدة الأمركية مستفيدةً من استثماراتها الضخمة في التكنولوجيا التطبيقية.
تناقش هذه الورقة التحولات الجارية في موازين القوة العالمية وتأثيرها على مستقبل العلم والتكنولوجيا.
- التحول من العلم إلى التكنولوجيا!
1.1 عصر العلم
خلال القرون الماضية، كان التقدم العلمي المستند إلى البحث النظري والاكتشافات التجريبية هو القوة المحركة الأساسية للنمو البشري. تزعمت الولايات المتحدة والغرب هذا المجال عبر تأسيس جامعات رائدة، وتمويل الأبحاث العلمية، وإنتاج ابتكارات أحدثت ثورات صناعية وتقنية.
1.2 عصر التكنولوجيا
مع التطور المتسارع في مجالات الذكاء الاصطناعي، والاتصالات، والتكنولوجيا الحيوية، بدأت التكنولوجيا تلعب دورًا أكثر هيمنةً مقارنةً بالعلم المجرد. ولم يعد التركيز منصبًا على النظريات العلمية فقط، بل أصبح النجاح يقاس بسرعة تحويل المعرفة العلمية إلى تطبيقات تجارية وتقنيات مؤثرة. فالصين من خلال استراتيجيتها في تطوير التكنولوجيا التطبيقية، تمكنت من تحقيق قفزات نوعية في هذا المجال، متجاوزة في بعض القطاعات الولايات المتحدة نفسها.
- التحدي الصيني في المجال التكنولوجي!
2.1 الاستثمار المكثف في التكنولوجيا
تتبنى الصين نهجًا يعتمد على الابتكار التكنولوجي الموجه نحو التطبيق العملي، حيث تستثمر بشكل مكثف في مجالات مثل:
- الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي
- شبكات الجيل الخامس (5G) وتقنيات الاتصالات المتقدمة
- أشباه الموصلات والتصنيع المتقدم
- الحوسبة الكمية وتكنولوجيا المعلومات
هذه الاستثمارات تُمكّن الصين من تحقيق استقلال تكنولوجي وتقليل اعتمادها على الشركات الأمريكية في القطاعات الحساسة.
2.2 مبادرات التعاون الاستراتيجي
وذلك عبر مشاريع مثل مبادرة الحزام والطريق، تعمل الصين على بناء تحالفات اقتصادية وتقنية دولية، مما يمنحها نفوذًا عالميًا في صناعة التكنولوجيا. كما أن شراكاتها مع الدول النامية تتيح لها نشر بنيتها التحتية الرقمية مثل شبكات الاتصالات والأنظمة الذكية، مما يُضعف الهيمنة التكنولوجية الأمريكية.
2.3 إعادة تشكيل المنظور العلمي والتكنولوجي
بينما استندت الهيمنة العلمية الغربية على نظريات ومنهجيات محددة، تسعى الصين إلى تطوير نماذج جديدة للبحث والتطبيق، مما قد يؤدي إلى تغيير عميق في الطريقة التي نفهم بها التقدم العلمي والتكنولوجي.
- أسباب احتمالات تراجع الهيمنة الأمريكية
3.1 الاعتماد على إرث الماضي
لا تزال الولايات المتحدة تعتمد إلى حد كبير على إرثها العلمي والتكنولوجي، حيث تهيمن شركاتها الكبرى مثل Google وMicrosoft وApple وNVIDIA على الابتكارات! إلا أن التباطؤ في تطوير تقنيات جديدة مقارنة بالصين، خصوصًا في مجالات مثل شبكات الجيل الخامس وأشباه الموصلات، يضعف تفوقها النسبي.
3.2 التحديات الداخلية
تشهد الولايات المتحدة تحديات داخلية تهدد قدرتها التنافسية، مثل:
- انخفاض الاستثمار الحكومي في البحث العلمي
- التراجع في جودة التعليم العالي مقارنة بالصين
- الاستقطاب السياسي والانقسامات الداخلية التي تؤثر على سياسات الابتكار والتطوير
3.3 تأثير الإعلام والدعاية السياسية
لطالما استخدمت الولايات المتحدة الإعلام والتأثير الثقافي لتعزيز هيمنتها العلمية والتكنولوجيا. ومع ذلك في عصر التكنولوجيا المتسارعة لم تعد الدعاية السياسية كافية لتعويض التقدم التقني الملموس الذي تحققه الصين، حيث أصبحت النتائج الفعلية أكثر أهمية من الصورة الإعلامية.
- التحولات في نظرتنا إلى العلم والتكنولوجيا
4.1 من البحث العلمي إلى التطبيق التقني
في السابق، كان يُنظر إلى الاكتشافات العلمية كنقطة انطلاق أساسية لأي تطور. أما اليوم، فإن القدرة على تحويل العلم إلى تقنية قابلة للاستخدام أصبحت المعيار الرئيسي لقياس التقدم.
4.2 دور الأدلة والتجربة في تحديد الحقيقة العلمية!
لم تعد الحقائق العلمية تُبنى على الافتراضات النظرية وحدها، بل أصبحت مرتبطة بالأدلة العملية والتجربة المباشرة. هذا التحول يُعيد تعريف مفهوم “الحقيقة العلمية” ليصبح أكثر ارتباطًا بالنتائج الملموسة.
4.3 ظهور نماذج علمية وتكنولوجية جديدة
مع تنامي الدور الصيني في التكنولوجيا، قد نشهد تطور مفاهيم علمية جديدة تعكس منظورًا مختلفًا عن النماذج الغربية التقليدية، مما قد يُعيد تشكيل المعرفة العلمية بشكل جذري.
الخلاصة
يُشير التحول من عصر العلم إلى عصر التكنولوجيا إلى تغيير عميق في الطريقة التي يُدار بها التقدم البشري! وبينما كانت الولايات المتحدة تتصدر المشهد بفضل اكتشافاتها العلمية، أصبحت الصين اليوم منافسًا قويًا يعتمد على تطبيقات التكنولوجيا العملية لتعزيز تفوقه. هذا التحول يُبرز ثلاثة اتجاهات رئيسية:
- لم يعد العلم النظري وحده كافيًا للحفاظ على الهيمنة، بل أصبح تحويله إلى تقنيات عملية هو العامل الحاسم.
- التحدي الصيني القائم على الابتكار التكنولوجي يهدد استمرار الهيمنة الأمريكية، خاصة مع استراتيجياته التي تجمع بين التقدم التقني والتوسع الجيوسياسي.
- نظرتنا إلى العلم قد تتغير مع تطور أنظمة بحث وتطبيق مختلفة عن النماذج الغربية التقليدية، مما قد يؤدي إلى إعادة تشكيل المفاهيم العلمية في المستقبل.
في ظل هذه التحولات، قد يكون السؤال الأهم:
هل ستتمكن الولايات المتحدة من استعادة تفوقها من خلال إعادة التركيز على التكنولوجيا التطبيقية؟ أم أن الصين ستفرض نموذجًا جديدًا يعيد رسم خريطة القوى العالمية؟