وحدة الدراسات الاستراتيجية
تناقش هذه الدراسة مفهوم الوطنية ومستلزماتها في فكر الإخوان المسلمين بسوريا، إذ لم تكن البنية الفكرية لهم بنيةً وطنية البتة، وهذا يعود إلى اعتبار الأولوية لمفهوم الأيديولوجية لديهم؛ فالقومية أو الوطنية هي مفهومات غريبة على أيديولوجيتهم التي تقول بمفهوم الأمة الإسلامية ولذلك عجزت عن أن تكون ذات جذر وطني عميق يرتبط بالبنية المجتمعية السورية، فإنها اختارت أن تكون بنية فكرية “عابرة للوطنية”.
تناقش هذه الدراسة ذلك كله من خلال:
- لماذا تنشأ أي حركة سياسية.
- البنية الفكرية لحركة الإخوان المسلمين.
- الأهداف الحقيقية للجماعة.
- قناع الديمقراطية المستخدم تكتيكاً.
- جذور العنف لدى الإخوان المسلمين.
- اللاوطنية في الفكر الإخواني: العلاقة مع تركيا وأردوغان نموذجاً.
- مآل النهج غير الوطني.
التمهيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد
تنشأ الحركات السياسية تلبية لتطورات الواقع الموضوعية، إذ تتطور البنية المجتمعية بتطور أنساقها الاقتصادية والسياسية والفكرية، فتكون هذه الحركات معبّراً أصيلاً عن فئات اجتماعية واسعة تجمعها مصالح مشتركة.
وإذا أردنا معرفة نشوء حركة الإخوان المسلمين في سوريا وفق هذا المنهج العلمي، سنجد أن هذه الجماعة السياسية، لم تنبت في أرض الواقع السوري من حاجة موضوعية تطورية، بل إنها جماعة تبنّت مظهراً فكرياً وسياسياً نشأ في مصر إثر سقوط الخلافة العثمانية في تركيا.
“ويُعدُّ عام 1937 بداية النشأة الرسمية للإخوان في سوريا، عندما أسسوا أول مركز مرخّص للجماعة في حلب باسم “دار الأرقم ” وكان من أبرز المؤسسين عمر الأميري وعبد القادر السبسبي”(1).
لكنّ التاريخ الحقيقي لتشكّل هذه الجماعة أتى متأخراً سنوات عدة، إذ افتتحت مراكز شبيهة بمركز “دار الأرقم”، وكانت ذات نشاط دعوي واجتماعي، ولكن هذه المراكز التي نشأت في أوقات وأماكن مختلفة، تداعت إلى عقد مؤتمر توحيد لها “في نوفمبر 1945 عقدت فروع الإخوان في الشام مؤتمرها الخامس في حلب، وقررت إلغاء المركز الرئيسي بها، وتأليف لجنة مركزية عليا في دمشق، مشكّلةً من ممثلٍ عن كلّ مركز أو جمعية، واتخذت لها مكتباً دائماً، وجعلت على رأس هذه اللجنة مراقباً عاماً هو الشيخ مصطفى السباعي، ليكون أوّل مراقبٍ عام للإخوان في سوريا”(2).
البنية الفكرية للإخوان المسلمين
لا يمكن فهم السلوك السياسي لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا خارج البنية الفكرية التي تشكّل مرجعيتهم، وهذه المرجعية تستمدّ وجودها من فكرة “إحياء الدولة العثمانية” التي تآكلت مسوغات وجودها التاريخي، وباتت آنذاك في حالة عجزٍ بنيوي عن متابعة استمرارها، فدراسة البنية الحقيقية للدولة العثمانية في مستوى (الاقتصاد – السياسة – الأيديولوجيا) تقود إلى تقرير ماهية هذه الدولة ذات الطابع الثيوقراطي، فالدولة التي انتقلت إليها سلطة الخلافة، كانت سلطةً ترتكز على توارث عائلي للحكم، هذه الخلافة العثمانية هي الأساس الفكري لنشوء جماعة الإخوان المسلمين في مصر إبّان صعود الأتاتوركية في تركيا، وهي أيضاً الهدف السياسي الحقيقي لهم، فسلطة “المرشد العام” ومركزه السياسي والفكري يُحيل على مفهوم “الخليفة” والحاكم بأمر إلهي. لذلك فإنّ جماعة الإخوان المسلمين في سوريا اعتمدت في انطلاقتها على بناءٍ أيديولوجي من دون أن يعبّر هذا البناء عن ضرورة تطورية تحتاج إليها البنى الاجتماعية التي تولد في خضمّ صيرورة التطور السوري.
إذاً لم تكن البنية الفكرية للإخوان المسلمين في سوريا بنيةً ذات جذر وطني يعبّر عن درجة تطور اجتماعي واقتصادي وسياسي، بل كانت بنيةً فكرية غريبة عن البنى الاجتماعية السورية، وهذا ما جعل “نشأة الإخوان المسلمين في سوريا التي سبقتها الجمعيات الخيرية، التي كانت تمارس دوراً سياسياً بصورة من الصور، تميّزت بارتباطها الوثيق بطبقة التجار وكبار المُلّاك، كما تركّز صراعها بصورة رئيسة ضدّ الحركات القومية العربية، وضدّ الشيوعية”(3).
إنّ طبقة المُلّاك الزراعيين والتجار هي طبقة تمتدّ بجذورها ومصالحها الاقتصادية إلى أيام الدولة العثمانية، ولذلك حدثت قطيعة فكرية واقتصادية اجتماعية بين جماعة الإخوان والفئات الأوسع في المجتمع السوري آنذاك، وهم الطبقات المنتجة (عمال – فلاحون – حرفيون – موظفون)، وكان الإخوان المسلمون يمارسون تقزّزاً في الصراع من أجل العمال والطبقات المنتجة، وهذا “ما جعلهم يتقوقعون داخل الطبقات الوسطى (التجار – المهن الحرّة – المعلمون)”(4).
لم تكن البنية الفكرية للإخوان المسلمين في سوريا بنيةً وطنية البتة، وهذا يعود إلى اعتبار الأولوية لمفهوم الأيديولوجية لديهم “الدين”. فالقومية أو الوطنية هي مفهومات غريبة على أيديولوجيتهم التي تقول بمفهوم “الأمة الإسلامية”. هذا الشرخ الفكري ما يزال يفعل فعله في السلوك السياسي لجماعة الإخوان التي عجزت عن رؤية “طبيعة المجتمع السوري المؤلف من عدد من الأديان (الطوائف والعرقيات) التي أعطت قوةً وأفضليةً للمفهومات والكلمات التي تحمل معنى الوحدة “مفهومات قومية – مفهومات ديمقراطية، على حساب الشعارات”(5).
وما دامت هذه البنية الفكرية لجماعة الإخوان عجزت عن أن تكون ذات جذر وطني عميق يرتبط بالبنية المجتمعية السورية، فإنها اختارت أن تكون بنية فكرية “عابرة للوطنية”، وهو ما يكشف العجز الرؤيوي لتطور البنى المجتمعية السورية لدى هذه الجماعة.
الأهداف الحقيقية للإخوان المسلمين
لا يمكن إغفال الأهداف الحقيقية التي تعمل من أجل تحقيقها جماعة الإخوان المسلمين في سوريا عن الأصول العشرين لفهم الإسلام، التي قال فيها مرجع حركة الإخوان المسلمين الرئيسي حسن البنا. فقد قال في الأصل الأول: إنّ الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعاً (فهو دولة ووطن – أو حكومة وأمة – وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة – وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء – وهو مادة وثروة أو كسب وغنى- وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة – كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواءً بسواء)(6).
هذه المفهومات هي من يشكّل الموجه الرئيس لفكر الإخوان المسلمين وممارستهم بوصفهم حركة دينية سياسية عابرة للحدود. فهي في جوهرها دعوة سلفية لأنها تدعو إلى العودة بالإسلام إلى زمن الدعوة الأول.
ولكن كيف تجري العودة إلى بنية سياسية اقتصادية فكرية تغيّرت أنساقها وعلاقاتها الداخلية وأنتجت بنى جديدة؟. هذا ما لم يره فكر حسن البنا الذي قال في رسالة المؤتمر الخامس للإخوان “نحن نعتقد أن أحكام الإسلام وتعاليمه شاملة، تنتظم شؤون الناس في الدنيا والآخرة، فالإسلام عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، ودين ودولة، وروحانية وعمل، ومصحف وسيف”(7).
إنّ ناموس الكون يتمثّل بالحركة والتغير والتطور، ومن ثم هو على نقيض من مفهوم السكونية الفكرية أو الاجتماعية، التي تصرُّ جماعة الإخوان المسلمين أن تسحب مآلات التطور كلها نحو ذلك المربع الساكن في أذهانهم. إذاً يمكن فهم الأهداف الحقيقية لجماعة الإخوان من خلال مرجعيتها الفكرية، وبالتالي فهي أهداف بعيدة عن تلبية حاجات التطور الاجتماعي والاقتصادي في المجتمع، فالقول إن الإسلام “دين ودولة” هو تحميل غير علمي وواقعي لفكرة ثابتة على واقع متحرك، فكيف يكون الإسلام وطناً وجنسيةً؟ أليس في هذا الفهم قفز على حقائق تحدّد ماهية مفهوم الوطن كجغرافية بشرية خضعت لصيرورة تطور؟ أليس اعتبار الدين جنسيةً هو إسقاط للمكونات الأخرى كلها؛ المشتركة بعوامل اللغة والتاريخ والجغرافية والثقافة؟.
إنّ دعوة جماعة الإخوان المسلمين إلى تكوين الهيئة السياسية تجري من خلال مفهوم الأمة الإسلامية، وهي دعوة طوباوية في عصرنا الحديث، إذ تجتمع التجمعات البشرية على قواعد العمل الاقتصادي والسياسي، وليس على أساس الأيديولوجيا. ولهذا فإن السلاح الفكري “السلفية” لجماعة الإخوان يريد أن يستعيد “الحكم الإسلامي” أو الخلافة الإسلامية التي انتهت صلاحيتها الحيوية بانتقال المجتمعات البشرية إلى حياض المجتمعات الرأسمالية.
قناع الديمقراطية
كيف يمكن الركون إلى حقيقتين متناقضتين في آن واحد على أنهما ممكنتان؟ ونقصد هنا حقيقة الفكر الشمولي “الثيو قراطي” لدى جماعة الإخوان المسلمين في سوريا، وحقيقة قبولهم بنظام حكم ديمقراطي. فباعتبار “الإسلام ديناً ودولة، ومصحفاً وسيفاً” فهذا يتناقض مع قبول العقد الاجتماعي القائل بتداول سلمي للسلطة من دون المسّ بجوهر الدولة الديمقراطية. ولعلّ تجربة الإخوان المسلمين في مصر تكشف هذا التناقض، فهم يريدون الديمقراطية وسيلةً للسيطرة والهيمنة الشاملة على الدولة، وتحويل بنى هذه الدولة لتتوافق مع الرؤية الفكرية “السلفية”، يريدون الوصول إلى السلطة لاستعادة “الخلافة”.
من هنا فإن علاقة الإخوان المسلمين في سوريا لم تكن علاقة أصيلة مع الدعوة إلى بناء الدولة الوطنية الديمقراطية، وقدّموا تنازلات قبل الثورة لمصلحة التيار الوطني الديمقراطي المتمثل آنذاك بقوى “إعلان دمشق”، ولكنهم سرعان ما انسحبوا من إطار الإعلان، وذهبوا إلى التحالف مع المنشق عن النظام عبد الحليم خدّام عام 2006 من خلال تشكيل ما سُمي آنذاك “جبهة الخلاص الوطني”.
إنّ غياب برنامج اقتصادي واجتماعي واقعي لدى جماعة الإخوان المسلمين وضعهم في مأزقين (فكري وسياسي) كبيرين، فهم حتى اللحظة لا يؤمنون بمفهومات الديمقراطية، ويتهربون من معنى علمانية الدولة “أي فصل الدين عن شؤون الحكم”، بل يصنّفون من يقول بهذه العلمانية “كافراً”.
لذلك يمكن القول إنّ جماعة الإخوان المسلمين في سوريا بقيت عاجزةً عن تقديم رؤىً وإجاباتٍ عن التحولات الاجتماعية والاقتصادية العميقة، هذا العجز النظري انعكس عجزاً سياسياً في تلمس طبيعة المرحلة التي تمرّ بها البلاد، وعجزاً فكرياً عن فهم أبعاد هذه التحولات والسبب يعود إلى سيادة نمطية تفكير طائفوي “السنّة” كتعبير أيديولوجي ناظم للفكر والممارسة السياسية. ويمكن القول “إنّ الإخوان المسلمين يفتقدون إلى خطاب عصريّ وبرنامج سياسيً وطني وسياساتٍ اقتصادية لمشروع دولة يتعدى مصالح الجماعة”(8).
لقد ظهرت نتائج هذا الفهم الإخواني من خلال عمل المجلس الوطني السوري (إطار المعارضة السورية الأول بعد قيام الثورة)، فقد سعى الإخوان المسلمون إلى الهيمنة على المجلس الوطني، والعمل على “أخونته” سياسياً، وحدث ذلك نتيجة عوامل عدة منها وجود المعارضة على الأراضي التركية، حيث يحكم حزب العدالة والتنمية ذو المرجعية الإسلامية، وحيث يمرّ الدعم المالي والسياسي إلى المعارضة من خلال الإخوان المسلمين. هذه الحالة دفعتهم إلى ممارسة التسلط السياسي وكشفت القناع الديمقراطي الزائف عن وجههم الاستبدادي الديني، وعن فكرهم الشمولي الرافض للحريات والديمقراطية.
جذور العنف لدى الإخوان المسلمين
عندما تُدرسُ انحرافات الثورة السورية يُدرس معها عاملان أساسيان مترابطان سبّبا هذا الانحراف الخطر لثورة سلميّة كانت تنشد تحقيق قدرٍ من الحريات والكرامة والإنسانية. العامل الأول هو استدعاء العنف ومن ثم استدعاء التطرف. والعامل الثاني هو أسلمة الثورة، أي إظهار الثورة وكأنها ثورة دينية ذات بعد طائفي سنّي ضدّ حكم أقلوي علوي. هذان العاملان دفعت بهما جماعة الإخوان المسلمين ليطفوا على سطح الثورة، وقد ظهر الأمر وكأن الثورة السورية أتت انتقاماً لأحداثٍ سابقة تعرّضت لها جماعة الإخوان في بداية ثمانينات القرن الفائت.
قبل أن نناقش هذه الحالة ينبغي تلمس جذور العنف في فكر جماعة الإخوان المسلمين، ففي عام 1945 أي بعد تأسيس الجماعة رسميّاً “نشر الإخوان أهدافهم ومبادءهم التي يبدو ومنذ البداية أنها احتفظت للجانب المسلّح بمنزلة خاصة، ويظهر هذا من خلال تدرب أعضائها على السلاح منذ بداية التأسيس”(9).
وبعد صعود البعث إلى الحكم بانقلاب عام 1963 وحتى قدوم الجنرال حافظ الأسد إلى السلطة بانقلابه المسمّى “الحركة التصحيحية” يمكن القول إنّ الإسلام السياسي شهد تراجعاً كبيراً كقوة اجتماعية وسياسية منظّمة. ولا يمكن اعتبار ما حدث في حماه عام 1964، وفي دمشق عام 1966 إلاّ محض ردّات فعل عفوية للتجار المنظمين من قبل بعض الشخصيات الدينية ضدّ التأميم. لكنّ جماعة الإخوان المسلمين شهدت ولادةً داخل بنيتها التنظيمية في النصف الأول من عقد السبعينات من القرن الفائت، أتت على أرضية خلاف سياسي بين مجموعة عصام العطّار السلفية التقليدية، ومجموعة مروان حديد الذي كان متأثراً بأفكار “سيّد قطب”. انفصلت جماعة مروان حديد عن جسد جماعة الإخوان شكلاً، وشكّلت ما سُمي “تنظيم الطليعة المقاتلة” وهو أول تجربة جهادية في سوريا تتخذ من العنف سبيلاً وحيداً للتغيير”(10).
قامت “الطليعة المقاتلة” بعمليات اغتيال عدة استهدفت كوادر سياسية وعلمية وعسكرية ذات صلة بنظام الحكم السوري، وبذلك تكون قد شكّلت الجناح العسكري لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا، على الرغم من ادعائهم بعدم علاقتهم بهذا الجناح. ولعلّ الهجوم الذي قامت به “الطليعة المقاتلة” على مدرسة المدفعية في حلب في 16/6/1979 شكّل مرتبة متقدمة من الصراع المسلّح بين الإخوان المسلمين والنظام السوري. هذا العنف دفع النظام إلى إصدار القانون 49 عام 1980 الذي نصّت مادته الأولى على ما يلي يُعتبر مجرماً ويُعاقب بالإعدام كل منتسب إلى تنظيم جماعة الإخوان المسلمين”(12).
العنف الذي استخدمه الجناح العسكري للإخوان المسلمين جرّ على البلاد ويلاتٍ كبرى توّجت باجتياح جيش النظام السوري مدينة حماه في شباط عام 1982، إذ قُتل ما بين 20 و30 ألف مدني نتيجة سيطرة الإخوان على مدينة حماه.
اللاوطنية في الفكر الإخواني العلاقة مع تركيا وأردوغان نموذجاً
حين تفجّرت الثورة السورية السلمية في ربيع عام 2011، كانت جماعة الإخوان المسلمين ضعيفةً وغير فاعلة في الجسد السياسي للمجتمع السوري نتيجة ما تركته من آثار سلبية وآلام موجعة في مرحلة الثمانينات من القرن الفائت، بسبب استخدامها للعنف المسلّح ضد خصمها السياسي النظام السوري. “وحين بدأ الحراك بالتحول إلى احتجاجات بدأ الإخوان المسلمون في سوريا يمدّون نفوذهم من جديد عبر الإغاثة من خلال إنشاء جمعية خاصة استخدمت العلاقات الاجتماعية المناطقية (الحلبية والحموية على نحو خاص)، إذ بدأت خيوط جديدة من علاقات الولاء السياسي تتسع في المجتمع السوري مع الإخوان المسلمين”(13).
ويبدو أنّ ضعف ارتباط الجماعة فكرياً وسياسياً بمفهوم الوطنية العميق، وضعفها سياسياً وجماهيرياً دفعها إلى تبني فكرة غير وطنية تقوم على “طلب التدخل الخارجي لحلّ الأزمة السورية على أنه الحل الوحيد الممكن”(14).
من فهم هذه الحالة يمكن فهم المقدمات الفكرية والسياسية للإخوان المسلمين التي قادتهم إلى قبول غزو القوات التركية لسوريا في منطقتي الباب وعفرين. هذه الرؤية تنبع من تناقض بنيوي بين البنية الأيديولوجية للإخوان المسلمين ومفهوم الوطنية. لذلك يصير واضحاً على هذه الأرضية إصدار الإخوان بياناً أيّدوا فيه مشاركة فصائل عسكرية سورية في العملية التركية في عفرين.
وقد جاء في البيان “إنّ جماعة الإخوان المسلمين تدعم الجيش التركي وتسانده ضدّ التنظيمات الإرهابية ذات المشروعات الانفصالية في الشمال السوري، وأنّ من حق الجمهورية التركية اتخاذ الخطوات اللازمة للدفاع عن أمنها القومي”(15).
هذه الرؤية تكشف انزياحاً عميقاً لمفهوم الوطنية الذي تجهله جماعة الإخوان المسلمين الذي جرّ الويلات على الثورة السورية السلمية وبيّن خطأ الرهان على التحالف بمسائل ديمقراطية مع تنظيم استبدادي لا يعترف بالديمقراطية حتى ولو تحدث بها عبر عهود ومواثيق.
إنّ جماعة الإخوان المسلمين لا ترى في الدولة التركية سوى مشروع “دولة عثمانية جديدة ” ولا ترى في شخص الرئيس التركي رجب طيب أردوغان غير شخصية “خليفة المسلمين الجديد”. ولهذا وعملاً بمبادئها السلفية فهي تبايعه، وهذا يعني “أن يكون أردوغان خليفةً عثمانياً له برقبة الإخوان بيعة، وأنّ عليهم واجب الطاعة في المنشط والمكره، ولهم برقبته واجب حمايتهم والسعي لإقامة دولتهم في سوريا أو غيرها”(16).
على هذه الأرضية يمكن فهم ولاءات حركة الإخوان المسلمين ومواقفها في سوريا من الأحداث والعلاقات مع الدول. فهم لا يقيسون سياساتهم بأساس المصلحة الوطنية السورية، بل يقيسونها بأساس مصلحة جماعة الإخوان المسلمين كجماعة عابرة لها مرجعية دينية وليس مرجعية وطنية. وهذا يفسرّ في المرحلة الحالية موقف الإخوان من دول مثل مصر والسعودية والإمارات، تختلف أساساً وجذراً مع جماعة الإخوان عموماً. لذا “وفي كلّ مرة يحدث فيها اختلاف بين أهداف جماعة الإخوان المسلمين السوريين وأولويات تنظيمهم الدولي نجد أنهم يضحون بقضيتهم في سبيل الجماعة، وهذا ليس مستغرباً لأن هذا التنظيم قد نشأ بالأساس امتداداً لحزبٍ غير سوري”(17).
مآلات نهج غير وطني
يبدو أنّ مستقبل الاندماج العالمي عبر نظام العولمة الرأسمالي سيزيد من عزلة الأيديولوجيات ما قبل الوطنية في مناطق انتشارها، فنظام إنتاج السلع الكبير يحتاج إلى أسواق تفرضها هذه العمليات، والمنتجات هنا ليست محض سلع صناعية أو زراعية، بل هي أعمق وأشمل من ذلك، إذ تتصل بإنتاج السلع الفكرية والسلع الثقافية والسلع الفنية ..إلخ. هذا النظام لا يقبل بحاجز أيديولوجية ضيقة لا تتسع لمفهومات العولمة، لذلك فعدم وجود برامج استراتيجية ذات أنساق سياسية وفكرية واقتصادية مترابطة سيحيل هذه الأيديولوجيات ونسقها السياسي على منحدر نهايتها الطبيعي، ولذلك فإن نهج الإخوان المسلمين عبر تنظيميه الدولي والسوري هو أمام امتحان حقيقي لن يستطيع تجاوزه عبر مفهومات العدمية الوطنية أو العدمية الإنسانية.
قد تحدث عراقيل كثيرة حتى تُنجَز مهمات بناء الدولة الوطنية الديمقراطية، وقد تكون تكلفتها عالية بسبب تداخل الديني السلفي مع الوطني، ولكن البنى السياسية غير المرتبطة بجذر وطني حقيقي كلها مآلها التفكك والاندثار.
المراجع
- www.islaist-movements.com الإخوان المسلمون في سوريا، ريادة نهج العنف، 8/6/2014.
- المصدر السابق.
- www.almesbar.net الإخوان المسلمون في سوريا 13/9/2013.
- الإسلام السياسي في سوريا (خريطة معرفية)، الدكتور صلاح نيوف.
- المصدر السابق.
- www.dd-sunnah.net.
- www.aljazeera.net شفيق شقير.
- www.ultrasawt.com أحمد صلال، سوريا؛ أسئلة برسم الإخوان المسلمين.
- الإسلام السياسي في سوريا (خريطة معرفية)، الدكتور صلاح نيوف.
- Alwahabiya.com 17/10/2017 من الطليعة المقاتلة إلى الكتائب المسلحة.
- www.shrc.org القانون 49، 7/8/1980، اللجنة السورية لحقوق الإنسان.
- آراء araa.sa مستقبل جماعات الإسلام السياسي في سوريا، جاسم يونس الحريري.
- مركز كارنيغي للشرق الأوسط، جماعة الإخوان المسلمين في سوريا >Carnegie-mec.org
- الميادين www.almayadeen.net 25/1/2018
- Syrianfacts.com 13/3/2017، دور الإخوان المسلمين في الحرب الدائرة الآن في سوريا.
- الحرّةwww.alhurra.com 3/5/2018، المأزق الذي يواجه “الإخوان المسلمين في سوريا”، الدكتور عماد بوظو.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي.