أحمد الرمح
الملخص التنفيذي:
انتهت حقبة قاسية جداً من تاريخ سوريا استمرت أكثر من نصف قرن حكم فيها آل الأسد الشعب السوري بالحديد والنار؛ وأخيراً بعد (14) عاماً من النضال والتضحيات؛ نال الشعب السوري حريته؛ وتخلص من الاستبداد الأسدي؛ ولكن هذا الخلاص هو انتقال من الثورة الصغرى إلى الثورة الكبرى؛ حيث يتم فيها بناء سوريا على أسس وطنية معاصرة؛ تحترم إرادة وحقوق وحرية السوريين كلهم دون استثناء؛ ولذلك تطرح هذه الورقة ميثاقاً وطنياً سورياً؛ يُرجى منه أن يكون مقدمةً لدستور لسوريا الجديدة؛ يقوم على أسس إنسانية ووطنية ومواطنية من خلال المحاور التالية:
المحاور:
- المدخل
- لماذا نحتاج إلى ميثاق شرف وطني؟
- الأسس التي يقوم عليها ميثاق الشرف الوطني السوري!
- لمحة تاريخية عن ميثاق الشرف عالمياً
- العرب وميثاق الشرف
- الخاتمة
المدخل:
انتهت حقبة قاسية في تاريخ سوريا؛ استمرت (54) سنة من الاستبداد المتوحش؛ عاشها الشعب السوري بعد أن أدخل النظام البائد في كل بيت سوري مصيبة على الأقل! ولكن هذا التحول الذي جاء بعد (14) عاماً من انتفاضة شعب قدم فيها الغالي والنفيس لينال حريته؛ لا بد أنْ يبني سورية جديدة على أسس إنسانية شعارها الثقة بين جميع المكونات السورية؛ ثقة قواعدها الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية لكل السوريين دون استثناء.
هذه الثقة تحتاج إلى ميثاق شرف وطني قائم على أسس إنسانية وطنية مواطنِية سليمة؛ يلتزم بها كل السوريين من أفراد وجماعات وتكتلات وأحزاب ومكونات، ينبثق من خلال الخطوط العامة لهذا الميثاق دستور سوري معاصر؛ وينتج عن هذا الدستور قانون يخضع له الجميع؛ لا استثناءات فيه لطائفة أو جماعة مهما كان عددها وعديدها.
لماذا نحتاج إلى ميثاق شرف وطني؟
إن حاجة سوريا ما بعد الاستبداد الأسدي وثوارها وقواها السياسية والمدنية لميثاق شرف وطني؛ باتت ملحة وضرورية، ليكون ناظماً لعمل القوى السياسية؛ وضابطاً سياسياً وأخلاقياً وإنسانياً ووطنياً لها، وعنوان تفاهمها المفتوح لجميع القوى والفعاليات الأخرى الملتزمة به، بما يسهم في تحقيق أهداف الثورة التي دفع من خلالها السوريون كلهم ثمناً غالياً لتجسيدها.
كما أن ميثاق الشرف وثيقة توافقية؛ تنطلق من روحية الشعب السوري وحضارته، وتنوّعه، وخصائصه، وأخلاقية ثورته؛ وتسعى لتكريس ثقافة التشاركية والوحدة الوطنية التي عاشها أبناء سورية عبر تاريخهم بكل مكوناتهم الفكرية والسياسية والدينية والأثنية والمذهبية، وبما يعزز أسس الطمأنينة لمستقبلهم في وطن يحترم حقوق مواطنيه وانتماءاتهم بكل تنوعاتها.
إن الثورة التي قامت من أجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية ضد استبداد ألغى حقوق الجميع؛ واضطهد الجميع؛ وهدر كرامتهم؛ لا يمكن أن تمارس سلوكاً استبدادياً أو استئصالياً ضد أحد من أبناء الوطن؛ ومن أساء وأجرم؛ فالقضاء العادل هو محل محاسبته.
كما أنّ حالة الاختلاف والتنابذ بين القوى الوطنية السورية مع بعضها بعضاً؛ تمثل دورَ المعرقل والمعوق في قيادة الثورة للوصول بها نحو أهدافها؛ ولذلك لم تستطع حتى اللحظة انتاج مشروع سياسي وطني، مما جعلها تبدو غير صالحة لقيادة المشروع الوطني، ولا قادرة على بناء سوريا المستقبل.
إضافة إلى ما سبق؛ لم يعد الشارع السوري يثق كثيراً بالنخب السياسية التي قادت مسيرة الثورة! وهو محق في ذلك؛ لأن الأداء السياسي الثوري كان مخجلاً؛ ولم يرتقِ إلى مستوى تضحيات الشعب السوري الكبيرة؛ كما أن العديد من القوى السياسية؛ انشغلت بخلافاتها مع المعارض الآخر؛ وبدتْ تنظر إلى سوريا كما لو أنها كعكة؛ يريد كل فريق الحصول على الحصة الأكبر منها! وهذا ما يجعل النظرة إليها نظرة شك من قبل الشارع الذي عانى كثيراً خلال سنوات الثورة الماضية.
ولهذا كله نحتاج إلى ميثاق شرف وطني يمنح السوريين كلهم الأمان والأمان والطمأنينة.
الأسس التي يقوم عليها ميثاق الشرف الوطني السوري!
بما أننا كسوريين لم نتفق بعدُ على دستور يولد عنه قانون مدني يكون المظلة التي يجتمع تحتها السوريون كلهم للعمل من أجل سوريا المستقبل؛ فلا بد من الاتفاق على ميثاق شرف وطني؛ يكون النواة الأساسية لدستور سوريا الجديدة.
إن ميثاق الشرف الوطني الذي نراه قادراً على بعث رسائل الأمن والأمان؛ ونتحاكم عليه في الخصومات الوطنية؛ لا بد له من أسس عامة؛ تكون ملهماً لروح الدستور الوطني الجديد، وأساساً لكتابة قوانينه العامة؛ وعليه فإننا نرى أنّ أسسه تتمثل بما يلي:
- لا للتكفير ولا للتخوين: فلا يُكفر سوري على أساس معتقده؛ ولا يُخَوَّن سياسي لرأيه مادام ملتزماً بمبادئ الثورة وأهدافها.
- أبناء الوطن كلهم متساوون في الحقوق والواجبات؛ فلا يحق لجماعة أو طائفة أو حزب الاستفراد بالقرار الوطني تحت أية ذريعة كانت.
- سوريا وطن لكل مواطنيها فلا يحق لأحد تقسيمه على أساس ديني أو طائفي أو قومي لأي سبب كان.
- حماية المواطنين المدنيين وممتلكاتهم ومقدساتهم على مختلف طوائفهم وانتماءاتهم أمانة في أعناقنا جميعاً ومن الواجب علينا حماية أرواحهم وأملاكهم ومقدساتهم؛ وهذه ثقافة السوريين عبر تاريخهم.
- الحفاظ على التراث الحضاري والثقافي والإنساني والتاريخي واجب على الثوار وأصحاب القرار السياسي وكل من يقود الوطن.
- الدم السوري على السوري حرام؛ فلا يجوز التقاتل بين أي فصيل عسكري وآخر؛ ولا يُهدر دم مدني؛ فتلك جريمة وطنية وإضعاف للشعور الوطني؛ والقضاء العادل محل أي نزاع.
- لا يحق لفصيل عسكري أو جناح سياسي الانفراد بالحكم لكونه منتمياً دينياً أو عرقياً لجهة ما؛ وإنما الانتخابات النزيهة والشفافة هي التي توصل هذا أو ذاك إلى السلطة على أساس برنامج وطني تنموي؛ يضمن حرية وكرامة السوريين كلهم؛ لا على أساس شعارات دينية أو قومية متطرفة.
- حرية التفكير والتعبير والابداع مكفولة لكل المواطنين ضمن الضوابط الأخلاقية والاجتماعية التي تحترم مشاعر الآخرين ومقدساتهم. وتراعي الضوابط القانونية المتفق عليها.
- الحفاظ على وحدة سوريا أرضاً وشعباً ودولةً. والتأكيد على حقوق كافة مكونات الشعب السوري.
- التأكيد على الطابع الوطني واستبعاد كافة المشاريع الطائفية والدينية والإيديولوجية المسيئة للسوريين المخالفين لها.
- المواطنة الكاملة لكل السورين؛ بما يجعلهم على مسافة واحدة من تبوء أي مركز من مراكز الدولة.
- تحترم السلطة الحريات العامة والخاصة؛ وحرية الاعتقاد وممارسة الشعائر وحرية التظاهر والاعتصام السلمي وفق قوانين مرعية، وتساعد السلطة على تشكيل منظمات المجتمع المدني غير الحكومية والنقابات والأحزاب؛ كما تحترم الحقوق الثقافية والمكوناتية لكل أطياف الشعب السوري.
- المرأة صنو الرجل في الحقوق والواجبات؛ ولا يجوز اضطهادها بذريعة ذكورية؛ ولا يحق لأحد أن يمنعها من تبوء المناصب كلها في الدولة؛ فالمنصب يقوم على أساس الكفاءة؛ لا الجنس.
- تحافظ سورية الجديدة على انتماءها العربي والإسلامي كونها عضواً مؤسساً في جامعة الدول العربية والمؤتمر الإسلامي؛ كما أنها عضو مؤسس في هيئة الأمم المتحدة والمنظمات والمؤسسات المنبثقة عنها.
لمحة تاريخية عن ميثاق الشرف عالمياً
ميثاق الشرف هو مجموعة من المبادئ الأخلاقية التي من الممكن أن تتحول إلى مواد دستورية؛ تنبثق عنها مواد قانونية تحكم سلوكية المجتمع، وميثاق الشرف يقوم على الاعتقاد بأنّ أفراد المجتمع يمكن الوثوق بهم؛ ليتصرفوا بأخلاقية الميثاق الذي يوقعون عليه.
وأول مرة عُرف من خلالها هذا المصطلح في الولايات المتحدة الأمريكية من خلال اعتماد مراقبة الطلاب لأنفسهم في العام 1779 بتوصية من محافظ ولاية فيرجينيا في ذلك الحين “ثوماس جيفيرسون” الذي تخرج بتفوّق من نفس الجامعة في العام 1762 فوقّع على نظام شرف مبدئي لكليّته. ([1])
اقترح “جيفيرسون” لاحقاً نظام شرف مماثل لجامعة فيرجينيا التابعة له؛ وكان ذلك أول نظام يعتمد على قوانين صارمة تحد من سلوك الطلاب، ثم أصبح يعتمد لاحقاً على الرقابة الذاتية لدى الطلاب، وقد اعتمدت جامعة “برينستون” أيضاً نظام الشرف الذي يديره الطلاب بالكامل منذ بدايته في العام 1893، وغالباً ما يستخدم ميثاق الشرف في أمريكا لمواجهة الخيانة الأكاديمية. ([2])
كذلك يمكن القول بأن الإعلان العالمي لحقوق الانسان ميثاق شرف، وقعت عليه عديد الدول؛ إلا أنّ الالتزام به يختلف من دولة إلى أخرى، ناهيك أن الأنظمة المستبدة؛ ترفعه شعاراً ولكنها تخرقه مع مواطنيها كل لحظة.
العرب وميثاق الشرف
عرف العرب مثل هذه المفاهيم ـــ إنْ صحت المقاربة ـــ في حلف الفضول بالجاهلية ([3])؛ الذي تضمن مكارم الأخلاق والالتزام بحماية الضعفاء والاتحاد في مواجهة الظلم، وكان ذلك بعد حرب الفجار بأربعة أشهر، وسببه أن رجلاً من زبيد (بلد باليمن) قدم مكة ببضاعة، فاشتراها منه “العاص بن وائل” ومنعه حقه فاستعان عليه الزبيدي بأشراف قريش، فلم يعينوه لمكانة العاص فيهم، فوقف عند الكعبة واستغاث بآل فهر وأهل المروءة، فقام “الزبير بن عبد المطلب” فقال: ما لهذا مترك.
ثم اجتمع بنو هاشم، وزهرة، وبنو تَيْم بن مرة في دار عبد الله بن جدعان فصنع لهم طعامًا، وتحالفوا في شهر ذي القعدة، إذ وقعوا ميثاقاً؛ تحالفوا بالله ليكونُنّ يدًا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يُرد إليه حقه، ثم مشوا إلى العاص بن وائل، فانتزعوا منه سلعة الزبيدي، فدفعوها إليه، وأبرموا هذا الحلف، الذي سمي بحلف الفضول لأن من قام به كان في أسمائهم الفضل، كالفضل بن الحارث، والفضل بن وداعة، والفضل بن فضالة؛ وعن ذلك الحلف قال الزبير بن عبد المطلب:
إن الفضولَ تعاقدوا وتحالفوا ألا يقيمَ ببطنِ مكةَ ظالـــمُ
أمرٌ عليه تعاقــدوا وتواثقــوا فالجارُ والمُعترُّ فيهم سالمُ
إن حلف الفضول كان ميثاقاً أخلاقياً تنادت فيه المشاعر الإنسانية لنصرة المظلوم، والدفاع عن الحق، ويعتبر من مفاخر العرب قبل الإسلام، حتى أنَّ رسول الله قال عنه: ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دُعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت. ([4])
أما في الإسلام فكانت صحيفة المدينة؛ التي كتبها النبي وزعماء يثرب؛ والتي ما تزال موضع بحث عدد من المُحْدثين وبخاصة المستشرقين منهم مثل (لين بول) و(ولهة وزن) و(كايتني موللر) وآخرون. وأحدث الدراسات عن صحيفة المدينة ما كتبه (آربري) “الدين في المشرق الاوسط “. ([5]) ([6])
لقد عالجت صحيفة المدينة قضايا تنظيمية إدارية، ولم تمس العقيدة والدين، وأما الموقعون عليها فهم المؤمنون (المهاجرين والأنصار) والعرب غير المؤمنين والقبائل اليهودية في يثرب إضافة لكل من والى أي طرف من الأطراف الثلاثة من العرب، وأما أهم ما تضمنته صحيفة المدينة يتمثل بحرية الاعتقاد في الإسلام واستقلال الذمة المالية والتعاون في حماية الوطن حالة الحرب والعدل التام والتعاون والتناصح وحفظ الوطن.
ختاماً
فإننا نرى بأن السوريين جميعاً أفراد وجماعات وتكتلات سياسية وأحزاب بحاجة ماسة لميثاق شرف وطني؛ ليتفقوا فيه على أساسيات العمل الوطني في سوريا المستقبل.
من هنا نرى أنَّ هذا الميثاق يجب ألا يغفل العيش المشترك بين السوريين؛ والالتزام بأهداف الثورة لتمكين جميع السوريين من الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية التي قامت من أجلها الثورة؛ فأسقطت النظام الاستبدادي بكافة رموزه ومرتكزاته الاستبدادية لإقامة الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، كما يجب أن يضمن حرية التفكير والتعبير والإبداع لكل المواطنين في الدستور المتوافق عليه؛ ورفض ادعاء احتكار السلطة من أي جهة أو طرف.
مع التأكيد على أن سوريا وطن واحد لكل مواطنيها. ولهذا وجب أن ينص ميثاق الشرف بكل وضوح على محاربة النزعات والدعوات والمحاولات التقسيمية أياً يكن شكلها، ومضمونها، مع الاعتراف بأن أبناء الوطن كلهم متساوون في الحقوق والواجبات؛ فلا يحق لجماعة أو طائفة أو حزب الاستفراد بالقرار الوطني تحت أية ذريعة كانت. ووجوب العمل على حماية المواطنين على مختلف انتماءاتهم الفكرية والسياسية والقومية والدينية والمذهبية، وحماية أرواحهم وأملاكهم ومقدساتهم؛ وهذه ثقافة السوريين عبر تاريخهم.
فهل من الممكن إنجاز مثل هذا الميثاق؛ ليكون ناظماً وضابطاً لمسيرة سورية الجديدة؛ أم سيبقى كل فريق له قانونه وميثاقه؛ تبقى سوريا موزعة المصالح بين أبنائها؟.
مراجع
[1] ـ ميثاق الشرف: كيف تحدث الثورات الأخلاقية؟
https://www.hindawi.org/books/82483074/5/
[2] ـ توماس جيفرسون كاتب إعلان الاستقلال الأمريكي:
[3] ـ حلف الفضول: راجع ابن كثير. البداية والنهاية: (ج: 2. ص:355).
[4] ـ حديث يُروى عن النبي: الراوي: عبد الرحمن بن عوف. المحدث: ابن جرير الطبري. المصدر: تفسير الطبري (ج:4. ص: 77).
[5] ـ صحيفة المدينة: راجع: ابن القيم (محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي) زاد المعاد في هدي خير العباد. تحقيق: شعيب الأرناؤوط – عبد القادر الأرناؤوط، بيروت – الكويت: مؤسسة الرسالة – مكتبة المنار الإسلامية -الطبعة الرابعة عشر، 1407 هـ- 1986م
[6] ـ راجع الدراسات عن صحيفة المدينة في (كمبرج:21/3) و(سارجنت) في مجلة الإسلام (8/1-2/3-6) وفي بحثه ” السنة الجامعة” المنشور في مجلة مدرسة اللغات الشرقية بجامعة لندن سنة 1972 ثم نشر (جل) بحثاً عنها في ” الحوليات اليهودية ” سنة 1974.