عادة ما يتم وصف السياسة الأمنية البلجيكية بالهشة والمتراخية، عندما يتعلق الأمر بالتهديدات التي يمثلها تنظيم الإخوان المسلمين، الأمر الذي يستغله التنظيم للعمل بحرية في الدولة، التي قامت بتصدير أكبر عدد من المقاتلين الأوروبيين بالنسبة لعدد سكانها، ممن انضموا إلى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش).
إلا أن هذه السياسة المتراخية بدأت تجد طريقها للتغيير، فخلال شهر مارس 2022 دعت (اللجنة المسؤولة عن مراقبة مختلف أجهزة الشرطة والأمن والاستخبارات في بلجيكا)، إلى ضرورة مراقبة أنشطة جماعة الإخوان المسلمين في بلجيكا (1). وقدمت اللجنة في تقريرها، سلسلة من التوصيات لتحسين مراقبة أنشطة جماعة الإخوان المسلمين في بلجيكا.
وتشير الاستنتاجات الرئيسية للتقرير إلى عدم وجود تعاون بين أجهزة المخابرات والأمن في البلاد لمراقبة أنشطة جماعة الاخوان المسلمين وتشمل هذه الأجهزة المخابرات العامة والأمن (GISS) وهي الخدمة العسكرية البلجيكية الخاضعة لمسؤولية وزارة الدفاع، وجهاز أمن الدولة البلجيكي المدني (VSSE)، ومختلف وكالات الشرطة OCAM، إضافة إلى مركز مستقل لتقييم الإرهابيين والتهديد المتطرف في بلجيكا.
وطلبت الحكومة من لجنة مراجعة وكالات الاستخبارات الدائمة، التحقيق في وجود الإخوان المسلمين في بلجيكا، وإعداد تقرير بعد الأزمة التي أحاطت بترشيح إحسان حواش خلال العام 2021 من قبل حزب الخضر السياسي Ecolo للبرلمان، حيث اضطرت عضو الحزب إلى الاستقالة بسرعة بعد الكشف عن صلات مختلفة مباشرة وغير مباشرة بجماعة الإخوان المسلمين.
معلومات عن جماعة الإخوان في بلجيكا
تعتبر بلجيكا دولة بالغة الأهمية بالنسبة لحركة الإخوان المسلمين وخاصةً عاصمتها بروكسل، فهي عاصمة الاتحاد الأوروبي، وتضم عدداً لا يحصى من جماعات الضغط والشركات الاستشارية، والمنظمات غير الحكومية، وبالتالي فإن وجود حركة الإخوان المسلمين في بروكسل ليس وليد الصدفة، بل هو هدف مقصود، يسمح للأخوان المسلمين بالضغط على المؤسسات الأوروبية، وكذلك الانضمام إلى العديد من المنظمات غير الحكومية البلجيكية والأوروبية، مثل الشبكة الأوروبية للدين والمعتقد (ENORB) أو المركز الديمقراطي الإنساني ( HDC).
وتؤكد تقارير (2) أن ثلاثاً من المنظمات الأوروبية الست التابعة للإخوان تقيم مقرات لها في بروكسل، هي منتدى المنظمات الشبابية والطلابية المسلمة الأوروبية (FEMYSO) ، المنتدى الأوروبي للمرأة المسلمة (EFOMW) والشبكة الإسلامية الأوروبية (EMN).
وبالإضافة إلى النشاط الإخواني الذي يستهدف التأثير العلني والخفي على الاتحاد الأوروبي والمنظمات التي تعمل معه، هناك الشبكات المحلية البلجيكية، ويقع المقر الرئيسي لرابطة المسلمين في بلجيكا (LMB) في العاصمة وهي موجودة في أربع مدن أخرى: لييج وأنتويرب وغينت وفيرفييرس. تأسست LMB عام 2005 ، وسرعان ما أثبتت نفسها على أنها أكثر المنظمات تمثيلا لجماعة الإخوان المسلمين في بلجيكا، يترأسها حاليًا كريم عزوزي.
أما القطب الرئيسي الثاني للإخوان المسلمين البلجيكيين هو المجمع الإسلامي التربوي والثقافي في فيرفيرس (ECICV)، الذي أنشأه الإسلامي الألماني حسن سويد عام 2004.
حول هذين القطبين الرئيسيين للإخوان المسلمين البلجيكيين ، تدور العديد من المنظمات التابعة، وأكثرها نفوذاً هي التجمع المناهض للإسلاموفوبيا في بلجيكا (CCIB) ، ومقرها بروكسل ويرأسها مصطفى شيري. و جمعية تمكين المسلمين البلجيكيين (EmBeM) ، ومقرها جينك بقيادة فاطمة زيبوح، وأيضاً هنالك الرابطة البلجيكية للمهنيين المسلمين (ABPM) وغيرها.
وحددت المخابرات البلجيكية حوالي 40 جمعية تنتمي إلى هذه الحركة، تعمل في مجالات مختلفة، اجتماعية وتعليمية ودينية وإنسانية ومدنية، ويديرها غالبا شباب مؤهلون ومتعددو اللغات، وهم يتبادلون بانتظام المواقع ويخلقون باستمرار هياكل جديدة.
وبحسب تقارير صحفية فرنسية (3)، فإن الجمعيات التابعة لجماعة الإخوان أو تلك التي تدور في فلكهم من قريب، قد خصص لها أكثر من 52 مليون يورو من الأموال العامة بشكل مباشر أو غير مباشر بين عامي 2007 و2020.
والمشكلة ليست فقط في المبالغ الممنوحة من قبل أوروبا للجماعة، بل تكمن في اعتراف المؤسسات الأوروبية الضمني الكامن وراء هذه المخصصات المالية، والقدرة ايضاً على إخفاء الهوية الحقيقية للحركة في بعض الحالات.
تحركات بلجيكية للحد من نشاط الجماعة
يصنف جهاز المخابرات (GISS) البلجيكي حركة الإخوان المسلمين على أنها “خطر”. أما بالنسبة لجهاز أمن الدولة البلجيكي (VSSE) ، فقد تم اعتبار الحركة على أنها تشكل “تهديدًا ذا أولوية قصوى فيما يتعلق بالتطرف لأن استراتيجيتها قصيرة المدى يمكن أن تخلق مناخًا من الاستقطاب والفصل العنصري داخل المجتمع البلجيكي، وبالتالي تشكل عاملًا موجهاً للتطرف”.
لكن بلجيكا لا تصنف الحركة على أنها إرهابية، على الرغم من الدعوات التي حضت على ذلك، خاصةً بعد الهجمات الدموية التي شهدتها كل من بلجيكا وفرنسا، بين عامي 2015 و 2016. وحذر رئيس لجنة مكافحة الإرهاب في البرلمان البلجيكي”كوين ميتسو” من مخاطر جماعة الإخوان المسلمين، وطالب في مقاله له (4)، بإدراج جماعة الإخوان المسلمين منظمة إرهابية كما تم في العديد من الدول.
و يبدو أن سياسة بلجيكا في الإشراف على المساجد ومراقبة دروس وخطب الأئمة وكذا التمويلات الأجنبية وما يجري داخل نحو 300 مسجد تقريبا هي سياسة هشة بحسب تقرير للمركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات في 15 أغسطس 2021، وذلك رغم الإجراءات المتخذة والتشريعات التي سنتها لمحاربة التطرف والإرهاب.
وأفاد تقرير صادر عن (OFFICE OF INTERNATIONAL RELIGIOUS FREEDOM) في 12 مايو 2021، أن بعض المتابعين لمثل هذه المسائل أكدوا وجود عدداً لا بأس به من المساجد فضلت العمل دون إشراف حكومي وقررت عدم المطالبة بالاعتراف الرسمي، ذلك أنها تلقت تمويلا أجنبيا كافيا، ولوجود عامل آخر يتعلق بعملية البيروقراطية المطولة للحصول على الاعتراف.
وهو ما يعيق استراتيجية الحكومة المتمثلة، في توسيع نطاق الاعتراف ليشمل المزيد من المساجد في بلجيكا حتى تصبح مؤهلة للحصول على تمويل حكومي يقلل من تأثير التمويل الإسلامي الراديكالي الأجنبي، ويمنح السلطات مزيداً من الرقابة.
وبحسب التقرير هناك اليوم 87 مسجدًا معترفًا بها فقط من أصل 300، وهو ما يعتبر عدداً غير كاف لإنجاح سياسة الحكومة البلجيكية، ويشير إلى خطورة الوضع في بلجيكا وعدم وجود تنسيق حقيقي بين الجهات المسؤولة عن مراقبة نشاط الحركات الإسلامية، وهذا ما يثبت بشكل أو بآخر تأثير حركة الأخوان على صناع السياسة في بلجيكا.
المخاطر التي تشكلها جماعة الأخوان على بلجيكا
تأتي خطورة جماعة الإخوان في بلجيكا، من أنها تملك تأثيراً على المنظمات الأوروبية الموجودة في عاصمة الاتحاد الأوروبي، ما يجعل الحد من نشاطها أمراً صعباً، وهي تعمل في الخفاء من أجل تعزيز عزلة الجالية المسلمة عن المجتمع الأوروبي، عبر طرح أفكار راديكالية منافية للقيم الأوروبية، مستغلة مصطلح الإسلاموفوبيا من أجل الحصول على أقصى قدر من التأييد داخل الأقلية المسلمة، لتصل في النهاية إلى هدفها النهائي وهو فرض أجندتها على الدول الغربية على اعتبارها صاحبة التأثير الأكبر على الجالية المسلمة في أوروبا، وينتج عن هذه السياسة التي تشجع إلى حد بعيد على إنشاء ما يشبه الغيتو الإسلامي، بهدف خلق جيل من الشباب المتأثر بالأفكار المتطرفة والمنغلقة والتي تؤمن تربة خصبة للتنظيمات الإرهابية التي تعمل على تجنيد الشبان لتنفيذ العمليات الإرهابية في أوروبا وخارجها، إضافة إلى الحصول على الدعم المالي عبر التبرعات التي يتم إرسالها من أوروبا.
ووصف رئيس لجنة مكافحة الإرهاب في البرلمان البلجيكي كوين ميتسو، جماعة الأخوان بـ “السم الزاحف”، وقال في مقال في مجلة ( Doorbraak ) البلجيكية: “إن جماعات الإسلام السياسي باتت مدفوعة من جهات دولية من أجل اختراق أوروبا”. وتابع: “نجحت الجماعة في اختراق أجهزة الدول عن طريق تقديم حسن النية والظهور في مظهر الضحية، ومن ثم تنفيذ أجندتهم المتطرفة في الخفاء”.
ويحذر السياسي البلجيكي من أن التجمع المناهض للإسلاموفوبيا في أوروبا CCIB، مرتبط بنظيره الفرنسي CCIF ، الذي تم حله على الفور من قبل وزير الداخلية الفرنسي بعد أن تم ربط المنظمة غير الربحية بالهجوم على الأستاذ الفرنسي صمويل باتي، على اعتبار أن هذا الهجوم مرتبط بجماعة الإخوان المسلمين.
وفي بلجيكا ، يجلس مديرو CCIB الآن في العديد من الهيئات والمجالس الإدارية مثل مجلس الشيوخ، ومجلس بروكسل الاقتصادي، ومجلس شرطة مدينة سكاربيك، ومركز الهجرة الفيدرالي، ويدافع عن تكافؤ الفرص في Unia، وهي مؤسسة عامة مستقلة تحارب التمييز وتعزز تكافؤ الفرص في بلجيكا، بحسب رئيس لجنة مكافحة الإرهاب في البرلمان البلجيكي، بحسب ما يؤكد رئيس اللجنة الأمنية في البرلمان البلجيكي.
اليسار والإخوان المسلمين في بلجيكا
تمثل بلدة مولنبيك البلجيكية، نموذجاً للتقارب بين أحزاب اليسار وتنظيم الإخوان، حيث تنشط العديدُ من الشبكات الإرهابية، وكان عمدة المدينة الاشتراكي الراحل فيليب موريو قد اتهم بأنه أقام نظامًا قائماً على المحسوبية وأطلق العنان للإسلاميين المتطرفين في مقابل الدعم الانتخابي.
وقد ترسخ هذا الفهم بصورة كبيرة، عندما نشرتِ الصحفيةُ البلجيكية-المغربية هند فريحي مقالتها الشهيرة “مهمة سرية في مولنبيك”، وكشفت فيها عالم الإجرام والتطرف، حيث دعا موريو الأئمة المحليين لتوحيد جهودهم ضد الكاتبة بدلًا من السعي نحو معالجة هذه القضايا. وبالمثل، ذكر المؤلف والممثل الكوميدي والناشط في مجال الدفاع عن حرية التعبير سام توزاني، أن موريو منعه من الظهور في المراكز الثقافية العامة، بسبب إلحاده الصريح وانتقاده للنزعة الإسلامية المحافظة، وتيارات الإسلام السياسي. (6)
وتظهر المصالح المتبادلة في العلاقات بين منظمات الإسلام السياسي وأحزاب اليسار في بلجيكا على الرغم من الاختلاف الكبير في الأيديولوجيات والأفكار، ففي استطلاع أجراه موقع (Jknack_ 12 مايو 2021) البلجيكي في الانتخابات المحلية لعام 2018 ، تبين أن نسبة تصويت المسلمين للأحزاب اليسارية تراوحت بين 60.3٪ و 80٪ ، حيث يتأثر المسلمون بالخطاب اليساري الذي يدافع عن حرية المعتقد والممارسات الدينية، كما الأحزاب اليسارية تتبنى خطاباً مناهضاً للإسلاموفوبيا في المجتمع البلجيكي، وهنا يأتي دور الإخوان الذين يلعبون على هذا المصطلح كورقة سياسية للحصول على حرية الحركة السياسية في بلجيكا، ويقدمون أنفسهم كمناهضين لاضطهاد المسلمين في أوروبا ويصبحون بذلك شركاء لليسار، عبر انضمامهم إلى الأحزاب اليسارية وبذلك يقتربون من التأثير في صنع القرار، فيما يستفيد اليسار من وجودهم من أجل اكتساب أصوات المسلمين الذين يفضلون التصويت لشخص مسلم.
استنتاجات
ـ تتعامل حكومة بروكسل وفقاً للمنطق القائل بأن حركة الإخوان لا تشكل في الوقت الراهن تهديداً مباشراً ضد المؤسسات البلجيكية ذلك أن الإخوان لا يدعون إلى العنف بشكل مباشر، على الرغم من تحذيرات الأجهزة الأمنية إلى خطرها اللاحق على المجتمع والأمن في الدولة. ولذلك تقترح اللجنة المعنية بمراقبة نشاط الأجهزة الأمنية، أن تكثف أجهزة المخابرات جهودها لرفع الوعي في الأوساط السياسية والإدارية بالتهديدات المرتبطة بوجود الإخوان المسلمين في بلجيكا.
ـ إن مبادرة الحكومة البلجيكية الأخيرة بتكليف (اللجنة المسؤولة عن مراقبة مختلف أجهزة الشرطة والأمن والاستخبارات في بلجيكا) في التقصي عن حركة الإخوان، تشير إلى خطوات جديدة قد تتخذها بروكسل للحد من نشاط الإخوان، أسوة بدول مجاورة مثل فرنسا وألمانيا، حيث تعتبر بروكسل دولة متأخرة عن الركب الأوروبي في الحد من نشاط تنظيمات الإسلام السياسي.
المصادر:
1ـ مجلة (brussels times) البلجيكية في 26 مارس 2022.
2ـ موقع (global-watch-analysis) الفرنسي.
3ـ مجلة (Le Point) الفرنسية في 25 يناير 2022
4ـ مجلة (Doorbraak ) البلجيكية 9 نوفمبر 2021
5ـ موقع (OFFICE OF INTERNATIONAL RELIGIOUS FREEDOM) في 12 مايو 2021
6ـ موقع (عين أوروبية على التطرف) في 26 يناير 2020
7ـ موقع (Jknack_ مايو 2021)
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مركز أبحاث ودراسات مينا.