لطالما كانت سوريا دولة متعددة الأعراق والأديان، حيث شهدت مجتمعاتها المختلفة تغيّرات كبيرة في السكان والتوزيع على مرّ التاريخ. ومن أبرز هذه التغيّرات ما حصل خلال الحرب الأخيرة التي أعقبت اندلاع الثورة السورية في عام 2010. فقد استهدفت قوات النظام السوري وحلفاؤه المناطق ذات الأغلبية السنية، وهي المناطق التي أصبحت مراكز للاحتجاجات وانتشار السلاح بعد أن فرضت قوات الأمن قبضتها على ساحات المدن الكبرى، والتي كانت في بداية الثورة نقاط تجمع لمزيج متنوع من السوريين من مختلف الطوائف والعرقيات.
نتيجة لذلك، تعرضت مجتمعات سنية واسعة في الريف والمدن للتهجير القسري إلى خارج سوريا، ما أدى إلى انخفاض ملحوظ في عدد المسلمين السنة، الذين يشكلون غالبية السكان. ويرى مراقبون أن هذا التغيير كان متعمداً ويهدف إلى إحداث تحول ديموغرافي كبير، برعاية إيرانية. فقد دعمت إيران نشر التشيّع داخل سوريا وسهّلت انتقال شيعة إيرانيين وأفغان إلى البلاد، ومنح بعضهم الجنسية السورية.
حتى الآن، لا توجد إحصاءات رسمية أو مؤكدة حول عدد السكان في سوريا أو توزيعهم الطائفي والعرقي. ومع ذلك، تشير تقديرات البنك الدولي لعام 2023 إلى أن عدد سكان سوريا يبلغ حوالي 23 مليون نسمة. وذكر مركز جسور للدراسات أن عدد السوريين في 2023 بلغ حوالي 26 مليوناً، منهم 16 مليوناً داخل سوريا، وحوالي 9 ملايين في الخارج، بالإضافة إلى 897 ألف قتيل أو مفقود.
إلى جانب السكان السنة، تضم سوريا جماعات إسلامية أخرى مثل العلويين، والإسماعيليين، وفرق شيعية أخرى. ووفقاً لتقديرات وزارة الخارجية الأميركية، تشكل هذه الجماعات مجتمعة حوالي 13% من السكان.
يتجاوز التنوع السوري الخطوط الطائفية ليشمل مجموعات عرقية متعددة مثل الأكراد، الأرمن، التركمان، الشركس، وغيرهم. ويشكل العرب الأغلبية الساحقة، يليهم الأكراد. وبينما لا توجد أرقام رسمية حول عدد الأكراد، تشير أغلب التقديرات إلى أن عددهم يتراوح بين 2 إلى 3 ملايين، يتركزون في محافظة الحسكة، مدينة القامشلي، عين العرب (كوباني)، عفرين، وأحياء في دمشق وحلب، وفقاً لمركز جسور.
ووفق تقرير وزارة الخارجية الأميركية عن الحريات الدينية لعام 2022، فإن 74% من السكان يعرّفون أنفسهم كسنة، مع تنوع عرقي داخل هذا المكون، يشمل السنة العرب والأكراد والشركس والشيشان وبعض التركمان.
في عام 2020، أشار تقرير لموقع “أوريان 21” الفرنسي إلى أن الحرب غيّرت التركيبة السكانية لسوريا بشكل كبير، حيث أن العرب السنة، الذين كانوا يشكلون الأغلبية، أصبح وا الآن يمثلون نصف السكان فقط.
المجتمع السوري يميل إلى الاعتدال
المذهب السني السائد في سوريا هو المذهب الحنفي، ويمثل أكثر من 60% من المسلمين السنة، يليه المذهب الشافعي. وكان المذهب الشافعي سائداً في سوريا قبل صعود الدولة العثمانية، وظل كذلك حتى القرن الثامن عشر رغم محاولات السلطات العثمانية المركزية تعزيز مكانة المذهب الحنفي.
ويُعرف المذهب الحنفي باعتداله، لاعتماده على القياس والاستحسان في استخراج الأحكام، مما يعكس مرونة هذا المذهب وقدرته على التعامل مع القضايا المعاصرة.
وكانت المكوّنات السنية في سوريا معروفة باعتدالها. ويوجد أيضاً في بلاد الشام أتباع للمذهب المالكي. وكان لوزارة الأوقاف أربعة مفتين يمثلون المذاهب السنية الأربعة، بالإضافة إلى المفتي العام للجمهورية. وكانت دروس الفقه وفق المذاهب الأربعة تقام في المساجد، ولكل إمام طريقته حسب مذهبه.
كما ينتشر التصوف في سوريا بدرجات متفاوتة من الاعتدال، ومن أبرز الطرق الصوفية: الطريقة القادرية، نسبة إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني، وتفرعت عنها عدة طرق.
ومن الطرق الكبرى أيضاً الطريقة النقشبندية، نسبة إلى بهاء الدين نقشبند البخاري من أوزبكستان، والتي انتشرت في آسيا الوسطى وتفرعت في سوريا إلى عدة طرق، من أبرزها النقشبندية الخزنوية، التي تدير عدداً من المدارس الدينية، منها “معهد العرفان للعلوم الإسلامية والعربية” في الحسكة، وله فروع في سوريا وتركيا. وهي نشطة بشكل خاص في دير الزور ومناطق ريف حلب وإدلب وحماة.
وقد تعرضت هذه الطريقة لهجوم من داعش في فبراير 2014، حيث هاجم المقاتلون بلدة “تل معروف” ومسجدها التابع للطريقة بدعوى ارتباطها بالتصوف.
وهناك أيضاً الطريقة الرفاعية، نسبة إلى أحمد الرفاعي (توفي 578 هـ / 1182 م)، أحد أعمدة التصوف في القرن السادس الهجري. وللطريقة الرفاعية فروع عديدة في حلب وشمال سوريا، ولكل فرع شيخ يتبعه مريدوه. كما استهدفت داعش مشايخها وفجّرت أضرحتهم في دير الزور في سبتمبر 2014.
ومن الطرق المعروفة أيضاً الطريقة السعدية، وتوجد بشكل خاص في مدينة حمص. وتعد الزاوية السعدية الجباوية، في حي بستان الديوان بحمص، من أقدم الزوايا المرتبطة بهذه الطريقة.
التيارات الدينية الحديثة
التيارات السلفية، التي تنتمي لها بعض الفصائل التي تحكم مناطق في سوريا اليوم، تُعد ظاهرة حديثة نسبياً. ظهرت السلفية في سوريا أواخر القرن التاسع عشر، لا سيما في دمشق وحلب. وشبهت في بداياتها بسلفية الإصلاح التي ظهرت في مصر مع الشيخ محمد عبده، ومن أبرز دعاة هذا الاتجاه: عبد الرحمن الكواكبي، جمال الدين القاسمي، ومحمد رشيد رضا.
ومن رحم هذا الاتجاه ظهرت جمعيات ثقافية واجتماعية ودينية مؤثرة، أبرزها جمعية الغراء التي أسسها عبد الغني الدقر، وجمعية الحضارة الإسلامية التي أسسها أحمد مظهر العظمة وبهجت البيطار عام 1930.
لكن السلفية لم تتمكن من اختراق المجتمع السوري المحافظ بعمق، حيث ظل مرتبطاً بشيوخ الدين التقليديين، وظلت السلفية محصورة في شريحة من المثقفين والمتعلمين.
فيما بعد، ظهرت السلفية العلمية (النظرية) على يد الشيخ ناصر الدين الألباني، المتأثر بأفكار محمد رشيد رضا، والشيخ عبد القادر أرناؤوط. وركز هذا الاتجاه على تصحيح العقيدة ومحاربة البدع دون الانخراط في مشاريع سياسية.
وفي الوقت نفسه، تسللت السلفية إلى سوريا عبر العمال السوريين في الخليج، خاصة السعودية، الذين تأثروا بالمجتمع الوهابي المحافظ هناك.
وخلال صدام النظام مع جماعة الإخوان المسلمين، استغل النظام ذلك لقمع كافة الحركات الإسلامية المستقلة، بما فيها السلفية، حيث نُفي الألباني إلى الأردن، وسُجن أرناؤوط، وأُغلقت جميع أنشطة الدعوة خارج سيطرة الدولة.
لكن مع اندلاع الثورة السورية، انتشرت السلفية بسرعة في الريف، مدعومة خارجياً. وظهرت فصائل سلفية مسلحة، وانتقل التيار السلفي من نهج الدعوة إلى قوة عسكرية مؤثرة.
وتنقسم السلفية اليوم في سوريا إلى ثلاث تيارات رئيسية:
- السلفية العلمية/التقليدية: تركز على التعليم الديني والدعوة، وتبتعد عن السياسة والجهاد.
- السلفية الحركية: تنخرط في النشاط السياسي وتسعى للإصلاح، مثل التيار السروري.
- السلفية الجهادية: تؤمن بالعنف والجهاد كوسيلة للتغيير السياسي، وتكفّر الأنظمة القائمة، مثل القاعدة وداعش.
ويشمل التيار الثالث “هيئة تحرير الشام” (HTS)، والتي كانت تُعرف بجبهة النصرة، بقيادة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني)، الذي اعتُبر رئيساً مؤقتاً لسوريا من قبل الهيئة. تأسست HTS عام 2017 بعد اندماج عدة فصائل جهادية، أبرزها جبهة فتح الشام (الاسم الجديد لجبهة النصرة، الفرع الرسمي للقاعدة في سوريا). وانضمت إليها فصائل مثل حركة نور الدين الزنكي، جيش السنة، ولواء الحق.
ورغم أن HTS تتبنى العنف المسلح، إلا أنها تبتعد عن استهداف الغرب، ما خلق صراعاً مع القاعدة. وفي عام 2016، أعلنت الهيئة فك ارتباطها بالقاعدة، مما أثار غضب أيمن الظواهري.
وفي السنوات الأخيرة، حاولت HTS تقديم نفسها كسلطة محلية أكثر منها جماعة جهادية عالمية، رغم أنها لا تزال تتبنى أيديولوجيا سلفية جهادية، وتحاول التكيّف مع الواقع السوري بدلاً من التركيز على الجهاد العالمي.
ما تأثير السلفية على الأرض اليوم؟
رغم وجود الفكر السلفي في سوريا قبل الثورة، فإن انتشاره السريع بعد 2011 لم يكن طبيعياً، بل جاء نتيجة عوامل سياسية وإقليمية ودولية. فالقوى الخارجية كانت تبحث عن وكلاء محليين لمحاربة النظام، فيما استفاد النظام من تقديم الثورة على أنها متطرفة لتبرير الدعم الروسي وغضّ النظر الغربي.
أصبحت السلفية، خصوصاً جناحها الجهادي، خياراً جذاباً بسبب مقاتليها المتحمسين ودعمها المالي الخارجي. في المقابل، كانت الفصائل المعتدلة تفتقر إلى البنية الفكرية والتنظيمية التي تمتلكها الجماعات الأكثر تطرفاً.
كما عمّق الصراع السني-الشيعي في المنطقة الاستقطاب الطائفي داخل سوريا، مما ساهم في تصاعد الجماعات المتشددة. ومع تحوّل سوريا إلى ساحة لصراعات بالوكالة، تدفّق الدعم والسلاح إلى الفصائل السلفية.
لكن مع تغيّر الأولويات الجيوسياسية، بدأ هذا الدعم بالانحسار، ما أدى إلى تراجع واضح في نفوذ الجماعات السلفية.
الخلافات الداخلية داخل التيار السلفي في سوريا أضعفتهم أيضاً، ومن أبرزها الصراع بين HTS وتنظيم “حراس الدين” (فرع جديد من القاعدة) بسبب انفصال الجولاني عن القاعدة. كما اندلعت معارك بين HTS وداعش بسبب خلافات فكرية وتكتيكية.
ورغم النجاحات العسكرية المؤقتة، لم تمتلك الفصائل السلفية جذوراً اجتماعية عميقة. ففي المناطق التي سيطرت عليها، مثل إدلب، الغوطة الشرقية، وأجزاء من حلب، لم تلقَ دعماً شعبياً واسعاً لتطبيق الشريعة وفقاً للفهم السلفي الصارم. وعندما حاولت فرض قوانين مثل الحجاب الإجباري، والفصل بين الجنسين، وحدود العقوبات، واجهت مقاومة اجتماعية.
اعتمدت أغلب الجماعات السلفية الجهادية على التمويل الخارجي وليس على الحاضنة الشعبية. وعندما توقف هذا التمويل، ضعفت قوتهم، ما يؤكد أنهم لم يكونوا حركات متجذرة اجتماعياً.
تختلف السلفية الجهادية في نهجها الفقهي عن المذاهب السنية التقليدية كالحنفية والشافعية، حيث تعتمد على الفهم الحرفي للنصوص وتعتبر الجهاد الوسيلة الأساسية للتغيير، بخلاف المناهج التقليدية التي تعتمد على القياس والإجماع.
الخلاصة:
– تُظهر التجربة التاريخية أن السلفية لم تكن تياراً واسع الانتشار أو مقبولاً شعبياً في المجتمع السوري. فقد هيمنت المذاهب السنية التقليدية، مثل الحنفي والشافعي، إلى جانب التصوف والأشعرية، مما حد من تمدد الفكر السلفي، الذي بقي محصوراً في دوائر دعوية معينة.
– مع اندلاع الثورة السورية عام 2011، ظهرت بعض الفصائل السلفية المسلحة التي استغلت الفراغ الأمني والسياسي، لكنها فشلت في كسب تأييد شعبي واسع بسبب تشددها وممارساتها.
– يمكن القول إن المجتمع السوري، بتنوعه الديني والثقافي، لا يميل إلى قبول نظام حكم على النمط السلفي. وقد واجهت محاولات فرض هذا النموذج رفضاً شعبياً واسعاً.
– إن عدم اتخاذ خطوات جادة نحو مشاركة سياسية شاملة لجميع المكونات السورية سيؤدي إلى حكم أقلية للأغلبية، مما سيدفع جماعات مثل HTS وغيرها إلى الانغلاق، والاعتماد على العنف والدعم الخارجي لضمان بقائها في السلطة.