الملخص التنفيذي:
كان للموقف الروسي دور حاسماً في سقوط النظام السوري، ذلك أن روسيا تقاعست بشكل أو بآخر عن تقديم الدعم الحقيقي له، ويرجع ذلك إلى أن روسيا باتت بحاجة إلى قواتها في حرب أوكرانيا، فيما أصبح النظام السوري أكثر ضعفاً من أي وقت مضى، حيث قام الأسد بتقليص جيشه وحل الميليشيات شبه العسكرية المتحالفة معه في السنوات الأخيرة، كما تعرضت إيران إلى نكسة عسكرية في لبنان؛ وتعرضت لهجمات جوية إسرائيلية؛ أثرت على تحركاتها وعلى نشاط حزب الله في لبنان.
ولكن؛ هل ستختار موسكو في حال انسداد السبل في وجهها، إنشاء ودعم عسكري للحكم الذاتي العلوي في الساحل السوري، حيث توجد القواعد الروسية؟ وهذا سيكون مماثلاً للطريقة التي دعمت بها الولايات المتحدة الأكراد في سوريا، الذين يسيطرون حاليا على مساحات كبيرة من شمال البلاد.
وقد تحتاج روسيا إلى إعادة تعريف دورها في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. إذا كان الكرملين يريد الحفاظ على التزامه الطويل الأمد المفترض في أفريقيا، فسوف يكون من الضروري استبدال نقاط الإمداد في سوريا، التي كانت بمثابة قاعدة لوجستية للعمليات الروسية في أفريقيا وكمركز لعملياتها المرتزقة في أفريقيا.
الدور الروسي بعد سقوط نظام الأسد نقوم بتحليله من خلال المحاور التالية:
- المدخل
- الجهود الروسية للسيطرة على سوريا
- هل خسرت روسيا في سوريا كل شيء؟
- خسارة سوق الأسلحة السوري!
- العلاقة الروسية/ التركية بعد سقوط الأسد
- ما مستقبل النفوذ الروسي في سوريا؟
- توقعات لمستقبل العلاقة الروسية مع إدارة الشرع لسوريا
المدخل:
ويبدو أن الرئيس التركي أردوغان أدرك ضعف السلطة في سوريا، وقررت التدخل، وعدّ بعضهم أن إسقاط الأسد جاء بمثابة انتقام لرئيس الدولة التركية. وأن أردوغان هو الفائز في هذا الصراع، حيث كانت الحكومة التركية على خلاف منذ فترة طويلة مع الأسد، وعندما أراد أردوغان تطبيع العلاقات مع النظام السوري، رد الأسد بغطرسة.
والحقيقة أن انتقام الرئيس التركي لم يكن فقط من الأسد، بل من بوتين أيضاً، يحث كانت روسيا قد وضعت تركيا في البداية على قائمة الانتظار بعد طلبها العضوية في تحالف البريكس، كما سمحت موسكو بانتهاء اتفاقية الحبوب مع أوكرانيا – وكان هذا أحد أهم النجاحات الدبلوماسية في السنوات الأخيرة بالنسبة لأردوغان.
الجهود الروسية للسيطرة على سوريا
في 30 أيلول/سبتمبر 2015، أعطى مجلس الاتحاد، وهو المجلس الأعلى في البرلمان الروسي، الضوء الأخضر للقيام بعملية عسكرية في الخارج بناء على طلب الرئيس، ووافق مجلس الاتحاد بالإجماع على طلب الرئيس – بأغلبية 162 صوتًا لصالحه، ودون امتناع عن التصويت أو معارضة. وفي اليوم نفسه، انطلقت أولى الطائرات المقاتلة الروسية من قاعدة حميميم الجوية الروسية بالقرب من اللاذقية في سوريا. وذكرت وزارة الدفاع الروسية أن المسلحين نفذوا هجمات محدودة على منشآت عسكرية ووسائل نقل ومستودعات ذخيرة لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
لكن القتال ضد داعش في سوريا لم يكن الدافع الرئيس للعملية الروسية، كما يقول ماركوس كايم الخبير الأمني في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية في برلين: “إذا نظرنا إلى شكل العمليات الروسية، فأعتقد أنك تستطيع أن ترى كيف كانت. لا يمكن إثبات أن روسيا اقتصرت على اتخاذ إجراءات ضد تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا بشكل حصري، ولكنها كثيراً ما كانت تقوم بضربات عسكرية، عادة ضربات جوية، ضد تنظيم الدولة الإسلامية عندما كانت قوات الأسد تتعرض للضغوط”.
حتى تاريخ ضم شبه جزيرة القرم في العام 2014، أثبتت القيادة الروسية أن الإصلاحات العسكرية الروسية التي أجريت في عشرينيات القرن العشرين كانت مناسبة؛ ومكنت القوات المسلحة الروسية من تنفيذ عمليات أكثر تقليدية في منطقتها.
ولكن روسيا كانت تبحث عن فرصة تثبت للعالم من خلالها أنها باتت قادرة على توسيع نطاق التدخل الأجنبي إلى ما هو أبعد من حدودها. وقد اعترف الرئيس بوتن صراحة في مؤتمره الصحفي السنوي في نهاية عام 2015: “من الصعب أن نتخيل مناورة أفضل”. “يمكننا التدرب في سوريا لفترة طويلة دون خسائر كبيرة في ميزانيتنا”.
أما النقطة الثانية والأكثر أهمية، فتتعلق بالسياسة الخارجية، ووفقاً لخبير الأمن كايم من المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية في برلين: “باعتبارها الاتحاد السوفييتي، انسحبت روسيا إلى حد كبير من الشرق الأدنى والأوسط بعد الحرب العالمية الثانية”. نهاية الصراع بين الشرق والغرب. ومن الناحية العسكرية، لم يتبق سوى عدد قليل من القواعد، بما في ذلك واحدة في سوريا. ومن الناحية السياسية، لم تلعب روسيا سوى دور ثانوي في الشرق الأوسط”.
وقد وسعت روسيا من وجودها العسكري في سوريا بشكل كبير ونشرت أيضاً طائرات مقاتلة هناك. وفي الوقت نفسه سعى بوتن إلى إجراء محادثات مع رؤساء دول وحكومات المنطقة. وفي سبتمبر 2015 جرت في موسكو في سلسلة من اللقاءات: رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وأردوغان، والمسؤولين الإيرانيين. وقال الكرملين حينها: إن بوتن يعمل على خطة لتشكيل تحالف دولي ضد الإرهاب.
وبحسب خبراء فإن فكرة بوتن بشأن تشكيل تحالف دولي ضد الإرهاب لم تنجح بسبب قيام روسيا بضم جزيرة القرم قبل سنة من محاولة تشكيل الحلف ضد داعش، يضاف ذلك إلى سياسة زعزعة الاستقرار التي انتهجتها في شرق أوكرانيا، مما جعل التعاون الدولي بين الغرب وروسيا، وخاصة بين الولايات المتحدة وروسيا مستبعداً.
وبحسب أرقام رسمية، تم نشر 69 طائرة مقاتلة روسية في سوريا في نوفمبر2015. بالإضافة إلى ذلك، كانت هناك عشر سفن حربية في بحر قزوين والبحر الأبيض المتوسط. وأعلنت وزارة الدفاع عن تحقيق نجاحات يومياً. ويقول خبراء غربيون: إن المرتزقة الروس لعبوا دوراً حاسماً في نجاح الهجمات البرية السورية، وخاصة مقاتلي مجموعة فاغنر، ما مكن المجموعة من اكتساب مهارات قتالية فريدة، وشكلت سوريا مورداً للمرتزقة حيث تم تجنيد آلاف السوريين وإرسالهم للقتال في مناطق أخرى.
تمكنت روسيا من تحقيق انتصار جزئي للأسد، وفي نهاية عام 2017، قال رئيس هيئة الأركان العامة الروسية فاليري جيراسيموف لصحيفة كومسومولسكايا برافدا الروسية: إن روسيا “كسرت ظهر قوى الإرهاب الضاربة”.
وبحلول هذا الوقت، كانت روسيا قد بدأت منذ فترة طويلة في الاستيلاء على السلطة في سوريا. ففي نهاية عام 2016، دعا بوتن رئيسي إيران وتركيا إلى المحادثات الثلاثية الأولى حول مستقبل سوريا. وقد أدى ذلك إلى ما يسمى بمفاوضات أستانا، والتي سميت باسم مكان اللقاء في كازاخستان. وكانت محادثات جنيف بقيادة الأمم المتحدة متوقفة بالفعل في ذلك الوقت.
ومن ناحية أخرى، أثبت تنسيق أستانا فعاليته، لقد بدأ النهج في الواقع بتركيز أضيق من محادثات جنيف التابعة للأمم المتحدة، وركز على المسائل العسكرية، مثل الاتفاق على تبادل الأسرى، ووقف إطلاق النار المحلي، وإنشاء مناطق خفض التصعيد المحددة جغرافيا، ثم اتسع النطاق بشكل متزايد، وبدأ ذلك في عامي 2017/2018، عندما بدأت هذه الجهات الفاعلة الثلاثة في إثارة المزيد من القضايا السياسية والاقتصادية، مثل التعديلات الدستورية، وعودة اللاجئين، ومسائل إعادة الإعمار.
وقد أظهرت روسيا مهارات دبلوماسية، ورأى مراقبون أن القيادة التركية والقيادة الإيرانية اقتنعتا أن الطريق إلى أهدافهما يمر عبر موسكو، وبدا أن فقدان أهمية الولايات المتحدة يسير جنباً إلى جنب مع اكتساب روسيا أهمية أكبر في منطقة الشرق الأوسط، ولو لم يسقط النظام السوري، لظلت روسيا هي الراعية للحكومة في المستقبل، ومن هناك تمارس نفوذها على كامل شرق البحر الأبيض المتوسط، ما أدى إلى تعزيز علاقات روسيا مع الدول الفاعلة في المنطقة مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.
على المستوى العسكري اختبر الجيش الروسي أنظمة أسلحة جديدة في سوريا. حيث أطلقت صواريخ كروز من سفن في بحر قزوين. كما تم إطلاق الصواريخ من غواصة تجوب البحر الأبيض المتوسط. وفي وقت لاحق، قامت روسيا بنصب نظامها الدفاعي الصاروخي المتطور إس-400 في سوريا.
وعلاوة على ذلك، ومع وجود الأسد في السلطة، تمكنت روسيا من استغلال هذه العلاقة لضبط العلاقات مع إسرائيل، من خلال استمرار تنسيق الطلعات الجوية الإسرائيلية ضد الأهداف الإيرانية في سوريا مع القاعدة الجوية الروسية في سوريا، وهو ما ساهم في إحجام إسرائيل عن تقديم أي دعم كبير لأوكرانيا.
هل خسرت روسيا في سوريا كل شيء؟
أعلنت الحكومة السورية الجديدة برئاسة أحمد الشرع، أنها ستنهي اتفاقية الإيجار مع شركة سترويترانسغاز في ميناء مدينة طرطوس الساحلية. ومنذ عام 1977 احتفظت البحرية السوفييتية ثم الروسية بقاعدة هناك، واستخدمت الميناء منذ عام 1971. وقبل بضع سنوات، وقعت سوريا عقداً سمح لروسيا باستخدام القاعدة لمدة 49 عاماً أخرى! وسمحت باستثمارات روسية بقيمة 500 مليار دولار. وكان ميناء طرطوس مركزاً مهماً للعمل في شمال أفريقيا وتزويد وإصلاح السفن البحرية في المنطقة. وينص العقد الأصلي بأن تحصل روسيا على نحو 65% من أرباح ميناء طرطوس، وفق ما ذكرت صحيفة “موسكو تايمز”. وقال رئيس مصلحة الجمارك في محافظة طرطوس رياض جودي: “كل الإيرادات من أنشطة الميناء ستستخدم لصالح سوريا”، حسبما نقلت وكالة تاس الروسية للأنباء.
ولم يتضح بعد ما إذا كان القرار بشأن مستقبل القاعدة الروسية نهائياً. ويكتب معهد دراسة الحرب أن إنهاء الدعم المالي لروسيا يشير إلى “أن هيئة تحرير الشام تريد استعادة السيطرة السورية على الميناء، مما يجعل من غير المرجح أن تحتفظ روسيا بوجود عسكري هناك”. وتعتبر هذه الخطوة إحدى الشروط التي وضعها الاتحاد الأوروبي على عودة التطبيع مع دمشق ورفع العقوبات الغربية.
بعد الإطاحة بالأسد، انتشرت شائعات حول انسحاب روسي وشيك بسرعة في المدينة الساحلية بدون أي إعلان رسمي، كما نقلت روسيا عدة سفن حربية راسية قبالة طرطوس إلى مواقع غير معروفة.
وذكرت تقارير إعلامية أوكرانية أن روسيا قامت بجمع معدات باهظة الثمن، ربما عسكرية، من رصيف في طرطوس منذ بداية يناير. ويقال إن الإدارة السورية الجديدة منعت سفينة شحن روسية من دخول البلاد. وفي ديسمبر الماضي، قال نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف لوكالة بلومبرج الإعلامية الأميركية إن روسيا تريد الاحتفاظ بقاعدتها البحرية والجوية في سوريا. لكن في الآونة الأخيرة بدا الأمر كما لو أن روسيا تريد أيضاً نقل قواعدها العسكرية بنفسها.
وحتى لو نجحت روسيا في الإبقاء على قواعدها في سوريا، فإن التواجد هنالك قد فقد فعاليته على ما يبدو، وتشير التطورات الأخيرة إلى إعادة تنظيم استراتيجي مع إمكانية إنشاء قاعدة في ليبيا من أجل تأمين وجود موسكو في البحر الأبيض المتوسط. وفي 23 ديسمبر 2024، غرقت سفينة الشحن الروسية بعد انفجار في غرفة المحرك في المياه الدولية في البحر الأبيض المتوسط بين إسبانيا والجزائر. ولم يتضح بعد سبب الحادث، لكن موسكو تفترض أنه هجوم إرهابي.
وكانت السفينة في طريقها من سانت بطرسبرغ إلى فلاديفوستوك، بحسب معلومات نظام التعريف التلقائي (AIS). ونقلت رافعتين. ويعتقد مراقبون دوليون أن السفينة كانت ضمن مهمة إخلاء القواعد الروسية في سوريا وأن وجهتها الفعلية كانت ليبيا. وكان من المقرر استخدام حمولتهم في بناء قاعدة في الدولة الواقعة في شمال أفريقيا.
وبحسب خبراء فإن صور الأقمار الصناعية الأخيرة لقاعدة حميميم الجوية الروسية وميناء طرطوس في سوريا تشير إلى أن موسكو بدأت الاستعدادات للانسحاب. وفي منتصف شهر ديسمبر تم اكتشاف تركيز غير عادي من المعدات العسكرية في القاعدتين الروسيتين في سوريا. وفي حين لا يزال المدى الكامل للتحركات غير واضح فإن زيادة الحركة الجوية وغيرها من التدابير اللوجستية تشير إلى عملية إخلاء منسقة، وفقا للمراقبين.
هنا بدأت موسكو تحتاج إلى إعادة تعريف دورها في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. إذا كان الكرملين يريد الحفاظ على التزامه الطويل الأمد المفترض في أفريقيا، فسوف يكون من الضروري استبدال نقاط الإمداد في سوريا، التي كانت بمثابة قاعدة لوجستية للعمليات الروسية في أفريقيا وكمركز لعملياتها المرتزقة في أفريقيا.
وفي وقت سابق، كانت هناك تكهنات حول إنشاء قاعدة بحرية في البحر الأحمر (بورتسودان). وفي ليبيا، يقال إن طبرق هي القاعدة المحتملة. ودعمت موسكو خليفة حفتر هناك من خلال نشر المرتزقة وتزويده بالأسلحة وتوفير الدعم التدريبي. ويتفق المحللون على أن وجود قاعدة بحرية في البحر الأبيض المتوسط لا يزال يشكل أهمية استراتيجية بالنسبة لروسيا.
حتى الآن، كانت مدينة طرطوس في سوريا القاعدة البحرية الوحيدة خارج البر الرئيسي الروسي. وكما حدث في حالة مطار حميميم العسكري، تمكنت موسكو من نشر قواتها في البحر الأبيض المتوسط من هنا، وبالتالي حماية مصالحها الجيوسياسية في المنطقة. وتشير بعض الأدلة إلى أن ليبيا تعتبر بديلاً لسوريا. تم رصد الغواصة الروسية “سبارتا” في وسط البحر الأبيض المتوسط يوم 28 ك1/ديسمبر، حيث يشير مسارها الجنوبي الشرقي إلى مدينة بنغازي الساحلية الليبية في شمال شرق البلاد. ومع ذلك، لا تتوفر معلومات أكثر تفصيلا لأن بيانات نظام تحديد الهوية التلقائي تعتبر غير موثوقة. وحتى لو تمكنت روسيا من التوصل إلى اتفاقيات بشأن استخدام الموانئ مع بعض الفصائل المتمردة الليبية أو مع الجزائر، فإن الأمر سيستغرق سنوات لتوفير الخدمات اللوجستية اللازمة.
قاعدة حميميم الجوية في شرق البحر المتوسط هي مركز استراتيجي حيوي لروسيا. إذا فقدتها، ستتأثر قدرتها على دعم عملياتها في أفريقيا بشكل كبير. والسبب الرئيس هو أن طائرات النقل العسكري الروسية “إليوشن إيل-76” يمكنها الطيران لمسافات محدودة عند تحميلها بالبضائع الثقيلة. للوصول إلى أقرب مطار بديل في ليبيا (مطار الجفرة)، يجب أن تقطع هذه الطائرات مسافة طويلة تصل إلى 5000 كيلومتر، مع الالتفاف حول أوكرانيا. هذا المسار يحد بشدة من كمية الحمولة التي يمكن نقلها. إضافة إلى ذلك، يتطلب المسار استخدام المجال الجوي التركي، مما يمنح تركيا نفوذًا قويًا على هذه العمليات.
على الصعيد السياسي، يعتقد على نطاق واسع، أن رد الفعل الروسي على سيطرة هيئة تحرير الشام على سوريا، والذي ينظر إليه الشركاء الأفارقة على أنه تقاعس، يؤدي إلى فقدان الثقة والإضرار بسمعة روسيا، ما يترتب عليه أيضاً عواقب سياسية وعسكرية خطيرة، خاصةً أنه من بين جميع بلدان الشرق الأوسط، تمتعت موسكو بأطول وأقرب العلاقات مع دمشق. لكن الأمر يتجاوز ذلك بكثير. إن روسيا غير قادرة حالياً على حماية الدول والأنظمة الصديقة، وهذه الإشارة تأتي أيضاً من الإطاحة بالأسد.
خسارة سوق الأسلحة السوري!
بعد قرار سوريا بحظر استيراد السلع الروسية وإمكانية حدوث تغييرات في التوجه السياسي والاقتصادي للبلاد، أصبح مستقبل سوق الأسلحة الروسية في المنطقة غير واضح بشكل متزايد. وقد كانت سوريا تقليدياً واحدة من العملاء الرئيسيين لصناعة الأسلحة الروسية، حيث كان تسليح الجيش السوري بأنظمة روسية جزءاً من العلاقات العسكرية التقنية طويلة الأمد بين البلدين.
كانت سوريا تمثل عميلاً مهماً استراتيجياً لروسيا بسبب الفوائد الاقتصادية لصفقات الأسلحة. وعلى الرغم من أن روسيا هي المورد الرئيسي للأسلحة للقوات المسلحة السورية، فإن الظروف المحيطة بالقيادة السورية الجديدة والتأخر في الدفع تثير تساؤلات خطيرة حول استدامة هذه الصفقات. وقد تضطر روسيا إلى إعادة النظر في شروط عقود الأسلحة أو حتى تعليق عمليات التسليم إذا لم تتلق ضمانات بشأن المدفوعات والاستقرار السياسي للحكومة السورية الجديدة. وإذا قررت سوريا التوجه نحو الشركاء الغربيين أو دخلت في علاقات تجارية جديدة مع الدول المجاورة، فقد تفقد روسيا نفوذها الاقتصادي في المنطقة، مما سيؤثر على صفقات الأسلحة أيضاً.
وعلى هذه الخلفية، قد تقرر روسيا خفض حجم إمدادات الأسلحة أو حتى التخلي عنها بالكامل إذا لم تتمكن من ضمان الأمن لمصالحها التجارية. تاريخياً، كانت روسيا شريكاً رئيسياً لسوريا في قطاع الأسلحة منذ حقبة الحرب الباردة. وبعد التدخل في سوريا في عام 2015، زادت بشكل كبير من وجودها العسكري وبدأت في تزويد القوات السورية بأحدث أنظمة الأسلحة، بما في ذلك أنظمة الدفاع الجوي والصواريخ. هذه الإمدادات كانت مهمة لإظهار القوة العالمية لروسيا في الشرق الأوسط.
العلاقة الروسية/ التركية بعد سقوط الأسد
عندما تدخلت روسيا في سوريا مع إيران وحزب الله، أحبطت طموحات تركيا في تغيير النظام في دمشق، وبعد ذلك حشد الرئيس الروسي الضغوط الجيوسياسية على نظيره التركي رجب طيب أردوغان. وبعد أن أسقطت القوات الجوية التركية طائرة هجومية روسية من طراز سو-24 في ت2/نوفمبر 2015، فرضت روسيا عقوبات اقتصادية على تركيا، وبالتالي شددت الخناق أكثر. وفي الوقت نفسه، عززت روسيا وجودها في أرمينيا ــ وهي دولة معادية لتركيا ــ واستمرت عسكرة شبه جزيرة القرم التي ضمتها، والتي وصفها بوتن بأنها “حاملة طائرات غير قابلة للغرق” عبر البحر الأسود بالقرب من تركيا.
بالمقابل شعر الأتراك بالضعف فيما يتصل بروسيا، لكنهم لم يثقوا في الغرب أيضاً. كانت الشراكة بين الولايات المتحدة والأكراد السوريين التابعين لحزب العمال الكردستاني، وما زالت مصدر إزعاج لتركيا. ولهذا السبب تصالح أردوغان مع بقاء الأسد في السلطة جنباً إلى جنب مع تعزيز التواجد العسكري الروسي على الحدود مع روسيا. وفي المقابل، حصلت تركيا على منطقة عازلة في سوريا ومقعد – إلى جانب الروس والإيرانيين – في عملية أستانا التي تهدف إلى حل الصراع في سوريا.
الآن بعد أن خسرت روسيا سوريا إلى حد كبير، فقد فقدت أيضاً جزءاً كبيراً من نفوذها على تركيا. ولم يعد محاور أنقرة هو الأسد بل هيئة تحرير الشام، التي لديها تاريخ من التعاون معها. وبدلاً من بوتن، يجب على أردوغان التحدث إلى دونالد ترامب – بسبب رعاية الولايات المتحدة لقوات سوريا الديمقراطية التي يهيمن عليها الأكراد والتي تسيطر على جزء كبير من شمال شرق سوريا – وكذلك دول الخليج وربما الاتحاد الأوروبي، التي ستدعم إعادة إعمار البلاد.
انخفضت أسهم روسيا تجاه تركيا على جوانب أخرى أيضاً. إذ طرد الجيش الأوكراني أسطول البحر الأسود الروسي من شبه جزيرة القرم إلى ميناء نوفوروسيسك، مما يعني أن أنقرة لديها الآن سبب أقل للخوف من تحول البحر إلى “بحيرة روسية” – وهي العبارة التي استخدمها أردوغان نفسه في عام 2016 في اجتماع لحلف شمال الأطلسي.
مع خروج سوريا من الصورة، ستعود العلاقات الروسية التركية إلى نقطة ارتكازها الجغرافية الطبيعية: منطقة البحر الأسود، ولن يكون خيار أردوغان هو المخاطرة وتحدي روسيا. بل سيستمر في العمل كوسيط بين بوتين والغرب. وقد تكون المفاوضات المحتملة بشأن أوكرانيا بقيادة ترامب فرصة ذهبية.
ما مستقبل النفوذ الروسي في سوريا؟
لم يتضح بعد نوع العلاقة التي ستربط روسيا بالقوة الجديدة التي تهيمن عليها هيئة تحرير الشام في سوريا، ومن المؤكد أن إعادة التوازن في العلاقات أصبحت معقدة حيث إن روسيا صنفت الهيئة كمنظمة إرهابية وقصفت مواقعها بشكل مكثف. ومهما تطورت العلاقات الدبلوماسية والسياسية بين موسكو ودمشق، فإنها بالتأكيد لن تكون وثيقة وودية كما كانت في عهد الأسد.
وفي المجمل، فإن خسارة طرطوس وحميميم من شأنها أن تمثل انتكاسة استراتيجية كبرى لأهداف موسكو الجيوسياسية وقدرتها على التأثير على “الجنوب العالمي”. ولذلك تركز موسكو جهودها حالياً على ضمان استمرار استخدام المنشأتين مع القوة الجديدة في دمشق. ومن المرجح أن يكون منح الأسد حق اللجوء والتأكيد المتكرر على أنه لن يغادر روسيا بمثابة طمأنينة للحكومة الجديدة بأنها لا داعي للقلق بشأن أي جهود من جانب الأسد للعودة إلى سوريا.
بعد سقوط الأسد مباشرة، فُتحت السفارة السورية في موسكو تحت علم جديد، وبدأت وسائل الإعلام الرسمية الروسية في الإشارة إلى الحكام الجدد باعتبارهم “معارضة مسلحة” وليس “جماعة إرهابية”. وعلاوة على ذلك، كان المسؤولون الروس على اتصال بهيئة تحرير الشام، التي ضمنت أمن القواعد العسكرية الروسية والبعثات الدبلوماسية في البلاد.
في أعقاب الإطاحة بالأسد، صرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتن أن القاعدة الجوية الروسية في حميميم، التي كانت تستخدم في السابق لضرب مواقع المتمردين، يمكن استخدامها لتقديم المساعدات الإنسانية. كما صرح بوتن أن انهيار النظام لم يكن هزيمة للكرملين، حيث كانت مشاركة روسيا في الحرب الأهلية السورية تهدف إلى منع إنشاء جيب إرهابي في سوريا. كما أدان الاستيلاء الإسرائيلي على الأراضي السورية.
وبناء عليه أصبح موقف الكرملين بشأن سوريا أكثر مرونة، حيث تواصلت روسيا مع جميع المجموعات التي تسيطر على الوضع في البلاد. تحتاج الحكومة الانتقالية الجديدة في سوريا إلى روسيا كما تحتاج السلطة الجديدة بسوريا إلى المزيد من الشركاء، وقد يمنحها دعم موسكو للنظام الجديد الشرعية الدولية. وفي حسابات السلطة الجديدة بسوريا تعد موسكو أكثر أهمية في مواجهة واشنطن، حيث تدعم الأخيرة الميليشيات الكردية والجماعات القبلية في شمال سوريا. وعلاوة على ذلك، فإن الإزالة المحتملة لهيئة تحرير الشام من قائمة الإرهاب الروسية تمنح الحكومة الجديدة الشرعية لتفاعل أكثر رسمية.
من منظور براجماتي بحت، تحتاج السلطة الجديدة بسوريا إلى روسيا بقدر ما تحتاج روسيا إليها؛ وعلى وجه الخصوص يمكن لموسكو أن توفر للسلطات السورية الجديدة الشرعية الدولية التي تشتد الحاجة إليها، لأنه من غير المرجح أن تسارع أوروبا والولايات المتحدة إلى فتح سفارات في دمشق، في حين أن الكرملين قد فعل ذلك بالفعل بحكم الأمر الواقع.
قد تكون روسيا مفيدة أيضاً للسلطة الجديدة بسوريا إذا كانت تريد أن تصبح مجموعة مستقلة ولاعب سياسي في منطقة الشرق الأوسط، حتى الآن، كانت تركيا هي الداعم الدولي الرئيسي لها، وغالبًا ما تُعتبر وكيلًا لتركيا. ولكي تصبح المجموعة مستقلة، تحتاج إلى دعم أكبر عدد ممكن من الشركاء الخارجيين. وحتى إذا أثبتت السلطة الجديدة بسوريا قدرتها على إضفاء الطابع الرسمي بسرعة على علاقتها مع تركيا وقطر والإمارات العربية المتحدة، فإن الاعتراف من قبل قوة عالمية مثل روسيا من شأنه أن يساعد في منح الشرعية الدولية.
إن الحاجة إلى التوصل إلى اتفاق مع هيئة السلطة الجديدة بسوريا يمكن أن تدفع روسيا إلى تعزيز التعاون مع جميع أنواع الجماعات المتطرفة على مستوى العالم. وعلى هذا النحو، قد ينتهي الأمر بروسيا إلى تقديم الشرعية لمجموعة كاملة من الجماعات المتطرفة التي استولت على السلطة في بلدان مختلفة من العالم ــ ومنح الشرعية وتقديم الدعم المادي في مقابل المعاملة التفضيلية.
توقعات لمستقبل العلاقة الروسية مع إدارة الشرع لسوريا
- لا يزال مستقبل سوق الأسلحة الروسية في سوريا غير واضح. من الممكن أن تختار القيادة السورية الجديدة الحفاظ على العلاقات الدفاعية مع روسيا، ولكنها قد تقرر أيضًا تنويع مصادر أسلحتها وتقنياتها العسكرية، أو أن تتوقف تماما عن استيراد الأسلحة من روسيا.
- من المتوقع أن تصبح روسيا مرنة في نهجها تجاه سوريا، والتعامل مع حكومة هيئة تحرير الشام الجديدة وغيرها من الجهات الفاعلة غير الحكومية مثل تعامل موسكو مع طالبان، بما في ذلك إزالتها المحتملة من قائمة الإرهاب، والعمل على آليات حل ما بعد الصراع التي من شأنها أن تساعد في إعادة بناء الاقتصاد السوري. ولكن في نهاية المطاف، ستعتمد استراتيجية روسيا في الشرق الأوسط على المدى الطويل على كيفية تطور الوضع الداخلي في سوريا.
- رغم أن الإطاحة بالأسد كانت بمثابة تراجع للكرملين، فإنها لم تكن هزيمة كاملة لسياساته في الشرق الأوسط. وحتى لو انتهى الأمر بروسيا إلى خسارة قواعدها العسكرية في سوريا، فإنها لا تزال تتمتع بعلاقات اقتصادية وثيقة مع تركيا وعلاقة خاصة مع إيران، في حين يجري التقارب مع كل من طالبان والحوثيين. وإذا تمكنت روسيا من العثور على طريقة للعمل مع هيئة تحرير الشام، فسوف يفتح ذلك مجموعة من الخيارات الجديدة، وربما يمنح الكرملين ميزة تنافسية في المنطقة.
- مع سقوط النظام الأسدي المدعوم من موسكو، اختفى جزء كبير من نفوذ روسيا على تركيا، لكن أردوغان لن يخاطر بتحدي روسيا. بل سيستمر في العمل على ما يبدو كوسيط بين بوتين والغرب.
- قد تختار موسكو في حال انسداد السبل في وجهها، إنشاء ودعم عسكري للحكم الذاتي العلوي في الساحل السوري، حيث توجد القواعد الروسية. وهذا سيكون مماثلاً للطريقة التي دعمت بها الولايات المتحدة الأكراد في سوريا، الذين يسيطرون حاليا على مساحات كبيرة من شمال البلاد.
المصادر والمراجع:
- (Tagesschau) في 23 يناير 2025
- (Carnegie Endowment) في 11 ديسمبر 2024
- (Carnegie Endowment) في 13 ديسمبر 2024
- (bulgarian Military) في 18 يناير 2025
- (Observer Research Foundation – ORF) في 17 يناير 2025
- (.zdf.de) في 30 ديسمبر 2024
- موقع (Frankfurter Rundschau) في 23 يناير 2025
- موقع (Zeit online) في 2 يناير 2025