عامر خليل
كانت نقطة البدء هي الحرب الأمريكية على العراق التي وقفت تركيا بالضد منها، الأمر الذي اعتبر سلوكاً تركياً مغايراً وفريداً من نوعه بحسبانه نوعاً من الخروج عن الاستراتيجية الأمريكية. تفجرت الأمور بشكل غير مسبوق خلال السنوات القليلة الفائتة بفعل التحولات الكبيرة المتلاحقة في الشرق الأوسط، حيث بدأ الصَدّع في العلاقات الأمريكية ـ التركية، يأخذُ منحى الاتساع فقط.
هل سيتم رأب الصدع؟ يبدو أن الأمر غير ممكن في المدى القريب. كما أنه ليس من المؤكد بأنّ أي تغيير في الخطاب أو حتى فترة من “الإهمال الغير ضار” من قبل الولايات المتحدة -كما يظهر أحياناً من سلوكها- سوف تعطي نتيجة خلال الوضع الحالي، لإعادة وضع العلاقة في مسارها. ذلك أن تركيا تخطط وعلى نحو متزايد في سياق معارض للولايات المتحدة الأمريكية، وذلك بالعمل على سياسات غير منسجمة البتّة مع المنهج الأمريكي في الكثير من القضايا، بالإضافة إلى تمركز السلطة على صعيد الداخل التركي عبر تبنّي التوجه الإسلامي، إذ يقوم الرجل القوي السلطوي بلا ضوابط دستورية ودون وجود توازن في المؤسسات التي غدت تتلاشى في البلاد لتتماهى مع شخص الرئيس التركي.
خلفية
تعود العلاقات الأمريكية – التركية إلى أكثر من نصف قرن، وتحديداً مع دخول تركيا حلف شمال الأطلسي (الناتو) عام مطلع النصف الثاني من القرن الماضي في أعقاب مشاركتها إلى جانب الغرب في الحرب الكورية. واستمرت الأمور كذلك إلى ما بعد نهاية الحرب الباردة، حيث ربطت الولايات المتحدة الأمريكية علاقة شراكة قوية مع تركيا، قائمة على المصالح والتطلعات الاستراتيجية المشتركة نحو تقاسم ما تصفه واشنطن في أدبيات سياساتها الخارجية بـ”القيم المشتركة”. هذا التحالف بين الطرفين استمرَ حتى بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، التهديد الجيوسياسي الذي واجهته واشنطن، بالتحالف مع أنقرة. في الربع الأخير من القرن الفائت، كانت تركيا توصّفْ بأنها الشريك الأقربْ للولايات المتحدة الأمريكية، في الشرق الأوسط، وهي الحالة التي رسخّتها تركيا من خلال مشاركتها في حرب الخليج عام 1991، ونظُر إليها غربياً بوصفها “مثال عن الديمقراطية والاستقرار بين منظومة دول المنطقة”. أما اليوم، ومع كل ما سبق ذكره، فإن الحقيقة مختلفة بشكل تام، حيثُ أنّ تركيا لم تعد حليف واشنطن الذي يمكن الاعتماد عليه، وتحتاج السياسة الأمريكية إلى ترتيب وتنظيم وضعها وفقاً لتلك التطورات.
تتعامل الولايات المتحدة مع الشرق الأوسط المليء بالأزمات دون أن تعمل بشكل جدي على إنهاء أزماته أو التخفيف من حدتها مع التدخل لأجل إعادة توازن مرحلي هنا وهناك (كما هو الحال في العراق أحياناً) أو بالتدخل العسكري المعلن ضد “الإرهاب” الذي يمثله بشكل خاص تهديد تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش)، لكن الصراع الطائفي الأكبر في سوريا والعراق، وتصاعد الحرب الأهلية في اليمن، بالإضافة إلى التنافس على المنطقة بين إيـران، والمملكة العربية السعودية، كل ما سبق يلعبُ دوراً في حلبة الصراع، وتركيا غائبة إلى حدِ كبير، في أفضل الأحوال، أو من خلال تفويض أمريكي مباشر خاص بمصالحها في أسوء الأحوال. علاوة على ذلك، يلعب العامل الداخلي في تركيا دوراً معاكساً لما كان عليه الحال بالنسبة للدولة التركية قبل كل شيء من خلال إجراءات حزب العدالة والتنمية AKP، الحاكم في تركيا، والتي تحد من استقلالية القضاء، وحرية الصحافة والتعبير، كما أن سيادة القانون تبتعد يوماً تلو الأخر عن القيم الديمقراطية، التي كانت تُميز تركيا وتضعها في خانة مغايرة عند تصنيف الدول في الشرق الأوسط أمريكياً وغربياً. في خضم هذه التطورات التي يلعب فيها العامل الخارجي الدور الأكبر من خلال التغريد خارج سرب “الناتو” الذي ترسم واشنطن خطوطه.
الاختلاف بين الولايات المتحدة وتركيا، والمتعلق بالسياسة الخارجية يتجاوز حدود الشرق الأوسط. حيث أنّ تركيا لم تمتنع فقط عن المشاركة في العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة مع الاتحاد الأوروبي على موسكو، رداً على العدوان الروسي الذي استهدف أوكرانيا، بل انتقلت أنقرة إلى التقارب من موسكو. على عكس الاتجاه الغربي السائد، تهدف تركيا إلى زيادة التبادل التجاري مع روسيا، وتعزيز الشراكة في مجال الطاقة. وعندما كان تدهور العلاقات بين أوروبا وروسيا، السبب وراء إلغاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، قرار إنشاء خط أنابيب الغاز “ساوث ستريم”، والذي كان من المفترض أن يعبر بلغاريا وصولاً إلى الدول الأوروبية الأخرى، أعلن بوتين مع نظيره التركي أردوغان، عن خط أنابيب بديل تحت مسمى “الخط التركي”، والذي سينقل الغاز الروسي إلى دول الاتحاد الأوروبي عبر تركيا. بالإضافة إلى ذلك، لا تزال أنقرة تسعى وراء صفقة أنظمة الدفاع الصاروخية المحلية مع الشركة الصينية، التي تخضع للعقوبات الأمريكية نظراً لتعاملها مع إيران، والتي ستكون أي “الصواريخ” غير متوافقة مع أنظمة حلف شمال الأطلسي بشكل فعلي. كل ذلك مهّد ربما لما نشهده اليوم من تطور غير مسبوق على صعيد تراجع العلاقات البينية التي تهدد بانشقاق تركي عن منظومة حلف “الناتو” وربما بحث الولايات المتحدة الأمريكية في مكان أخر عن شريك استراتيجي “يمكن الاعتماد عليه” في المنطقة.
ضمور العلاقة التاريخية ومقدمات فصم عُرى الحلف
منذُ عام 2013، بدأ الصَدّع في العلاقات الأمريكية التركية، يأخذُ منحى الاتساع فقط. كما أنه ليس من المؤكد بأنّ أي تغيير في الخطاب أو حتى فترة من “الإهمال الغير ضار” سوف تعطي نتيجة خلال الوضع الحالي، لإعادة وضع العلاقة في مسارها. فالقادة الأتراك من وجهة النظر الأمريكية يخططون وعلى نحو متزايد في سياق معارض للولايات المتحدة الأمريكية، كما أنهم يتجهون نحو تبني التوجه الإسلامي داخلياً. حيث يقوم الرجل القوي السلطوي (أردوغان) بلا ضوابط دستورية ودون وجود توازن في المؤسسات بدعم الإسلاميين السنة المتطرفين على حساب السلام والاستقرار في المنطقة.
شهدت العلاقات التركية الأمريكية في الآونة الأخيرة تحولات غير مسبوقة نتجت عنها جملة من الأحداث الدولية والإقليمية التي مرّ بها العالم عامةً، والشرق الأوسط خاصةً، حيث تحاول تركيا تكثيف جهودها السياسية و الدبلوماسية لمعالجة آثار الأزمة الاقتصادية مع الولايات المتحدة الأمريكية، قد يكون أهمها التصعيد التركي الأمريكي في ملف قضية القس الأمريكي آندرو برانسون المحتجز في تركيا منذ أكثر من عامين، وقد خلفت هذه التحولات نتائج كبيرة على مستوى التحالفات الأساسية في المنطقة، والتي قد تؤدي الى فضّ الشراكة بين أكبر قوتين في حلف “الناتو”، وهذا التصعيد ليس وليد التطورات الأخيرة، وإنما يمتد جذوره لما قبل ذلك، وكان من الممكن لهذا التحالف أن يصل لطريق مسدود لو توافرت أسباب أكثر جدية، حيث تعرض هذا الحلف الاستراتيجي وفي أكثر من مرة لأزمات سياسية و دبلوماسية بينهما. تعتبر حرب الولايات المتحدة على العراق عام 2003 الصدام الأول بين واشنطن وأنقرة، حيث عملت الأخيرة على الوقوف بالضد من القرار الأمريكي حينما رفضت طلب الولايات المتحدة الأمريكية بالتعاون معها في أثناء إسقاط نظام صدام حسين، وبذلك شكّل الرفض التركي ضربة موجعة للولايات المتحدة الأميركية، وحرمه من استخدام القواعد (قاعدة أنجرليك) التركية وأراضيها لشنّ هجمات على العراق، وقد دفع ذلك الولايات المتحدة الأمريكية لإعادة حساباتها، قبل بدء الحرب على العراق، الأمر الذي اعتبر بداية الخلاف بين الحليفين الاستراتيجيين خلال مسيرة الحلف “الناتو”، وما رافق ذلك من تصعيد بينهما، ثم تصاعدت التهديدات و الاتهامات الحادة المتبادلة بين تركيا و الولايات المتحدة الأمريكية، وبالرغم من ما حصل، فإن القوتين الكبيرتين في الناتو استمرتا في علاقاتهما، وتمكنتا من تجاوز الأزمة في تلك الفترة، ولو بشكل مؤقتً على الأقل. حصل ذلك قبل أن تشهد المنطقة التطورات الأكثر دراماتيكية في تاريخها من نافذة “الربيع العربي” وكذلك التغيير الذي طال بنية النظام العالمي بعد أن عادت روسيا بدورها إلى الساحة الدولية بأشكال مختلفة. التغيير وقع لجهة التحول من حالة السكون التي كان تعيشها لعقود إلى حالة مغايرة تعددت فيها القوى لتتواجد واشنطن وأنقرة من جديد في حالة صدام أفرزت العديد من الملفات المختلف عليها من قبيل ما يلي:
- الانقلاب الفاشل في تركيا 2016: يعتبر الانقلاب الفاشل الذي وقع في تركيا في 15 تموز/ يوليو عام 2016 (المشكوك في أمره من قبل البعض) الحدث المفصلي في ترجمة تصورات الرئيس التركي وخلفيته السياسية الإسلامية إلى أمر واقع. حيث استطاع أردوغان فيه ومن خلاله التخلص من جميع معارضيه و خصومه و زجهم في السجون، و إفراغ الساحة السياسية التركية من أية معارضه له لإجراء أية انتخابات مستقبلية، وهذا ما حدث بالفعل فالانتخابات التي جرت في البلاد استطاع فيها أردوغان التفرد بحكم تركيا ونقلها من نظام برلماني إلى نظام رئاسي يتفرد فيه بحكم البلاد، وإبعاد العسكر عن حكم البلاد، ولكن بالرغم من ذلك لم يصل إلى مبتغاه بإلقاء القبض على المتهم الأول بنظره في تدبير الانقلاب الفاشل الداعية فتح الله غولن الموجود في الولايات المتحدة الأمريكية في ولاية بنسلفانيا، حيث ازدادت حدة التوتر بينهما وصولاً إلى اتهام الولايات المتحدة بدعم الإرهاب في تركيا بعد رفضها تسليم غولن إلى تركيا.
- التقارب التركي الروسي: بعد تسارع أحداث الأزمة السورية في الآونة الأخيرة، وسيطرة النظام بالتعاون مع حلفائه الروس على مساحات واسعة من الجغرافية السورية، وتجميع الفصائل المسلحة الرافضة لمبدأ المصالحات مع النظام في مدينة إدلب، والتحضير لضربة عسكرية على إدلب أهم المواقع الاستراتيجية لهذه الفصائل المدعومة من تركيا، واختلال التوازنات العسكرية، وتركيز الولايات المتحدة الأمريكية كل جهودها وتواجدها في منطقة شرق الفرات كل هذه العوامل من جهة، ومن جهة أخرى محاولة أردوغان التفرد بقراره في الشرق الأوسط، محاولة تغيير ميزان السياسية التركية من حليف في “الناتو” إلى الدخول في المعسكر الروسي الذي لم يتضح فيه بعد الدور النهائي لتركيا فيه، وفيما إذا كانت تنوي الخوض فيه إلى النهاية بما يحمله من فصم لعُرى التحالف مع الغرب. مهما يكن من أمر لم تتضح معالم نتائجه النهائية بعد، فإن البداية والدخول في تحالفات هي على النقيض من التوجه والسلوك اللذين ينتهجهما حلف “الناتو” الذي تعتبر تركيا حتى اللحظة الراهنة جزءاً منه، قد ابتدأت من خلال التوقيع على اتفاقيات عسكرية مع روسيا، وذلك عبر الشروع في شراء منظومة صواريخ (S 400)، بالرغم من معارضة الولايات المتحدة لذلك وتهديدها بإلغاء صفقة الطائرات الأمريكية F35) )، الأمر الذي فسح المجال لدخول العلاقات التركية الأمريكية بعدها مرحلة الـتـوتـر بعد التهديدات المتبادلة بينهما، وتهـديد أردوغان برفع قضية الطائرات إلى هيئة التحكيم الدولية لفض الخـلاف بينهما.
- المساعدة الأمريكية لقوات سوريا الديمقراطية: بعد إعلان التحالف الدولي في العراق و سوريا بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية بمحاربة التنظيمات الإرهابية، وعدم التزام بعض الفصائل المسلحة التي دربتها أمريكيا لمحاربة هذه التنظيمات ومن ثم الانضمام إلى جبهة النصرة، وعدم وجود حليف قوي يمكن الاعتماد عليه في محاربة هذه التنظيمات الإرهابية، وخاصة بعد ظهور ما يسمى تنظيم “الدولة الإسلامية” وسيطرته و تمدده السريع على مساحات واسعة في سوريا و العراق، و زيادة عدده، كل ذلك دفع بالولايات المتحددة بالبحث عن هذا حليف بديل على الأرض لسد الفراغ الحاصل بفعل عدم تمكن أي قوة عسكرية من ضمن الفصائل الإسلامية العاملة ف سوريا وكذلك هزيمة جيوش نظامية أمام هيمنة التنظيم المتطرف، كل ذلك دفع بالولايات المتحدة الأمريكية إلى ضرورة إيجاد البديل فكان هذا الحليف (البديل) في البداية هو وحدات حماية الشعب و وحدات حماية المرأة التي أظهرت وأثبتت للجميع قدرة وتفوق عسكريين في الميدان، لتتشكل فيما بعد قوات سوريا الديمقراطية، وتحريرها بالتعاون مع التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة لمساحات واسعة من شمال شرق سوريا، بما فيها مدينة الرقة التي اتخذها التنظيم عاصمة لخلافته المعلنة إبان سيطرته وتمدده عام فكانت النتيجة الأولى والسريعة هي إثارة حفيظة أنقرة وبدأت توجساتها بالظهور من هذا التعاون، فكان رد الفعل الطبيعي هو البدء بإطلاق مصطلحات “الإرهاب” على قوات سوريا الديمقراطية واتهامها بالارتباط بحزب العمال الكردستاني، والطلبات المتكررة من الولايات المتحدة بوقف تعاونها مع قسد، ولكن دون جدوى، فتتوتر العلاقات بين أمريكيا وتركيا، وكانت في بعض الأحيان على وشك صدام عسكري بينهما، كما حصل من توتر بينهما في مدينة منبج.
- ملف القس الأمريكي آندرو برانسون: لقد شكل اعتقال القس الأمريكي آندرو برانسون في تركيا قبل عامين باتهامات غير واضحة لجهة صحتها أم لا. لكن ما هو واضح هو أن ما حصل لا يخرج عن السياق العام لطبيعة العلاقة بين البلدين واعتباره أزمة أخرى تضاف إلى جملة الخـلافات بين البلدين، لا سيما بعد مطالبات أمريكية متكررة بالإفراج عنه لكن دون جـدوى. إنها بهذا المعنى نقطة تحول في العلاقات التركية الأمريكية في الآونة الأخيرة، حيث شكلت بداية حقيقية لترجمة التدهور في العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة، حيث حاول كل طرف منهما تحقيق المزيد من المكاسب ومحاولة إخضاع الطرف الأخر لشروطه، حيث بررت تركيا عملية اعتقال القس الأمريكي برانسون لمساعدته حزب العمال الكردستاني و جماعة غولن التي تعتبرهما تركيا وفي نظرها “منظمات إرهابية”، في حين وصف الرئيس الأمريكي ترامب اعتقال تركيا للقس بأنه “عار كبير”، ولتبدأ بعدها التهديدات الأمريكية لتركيا إذا لم يتم الإفراج عنه، وكانت بدايتها في الأول من آب / آغسطس 2018 بفرض عقوبات اقتصادية على وزيري العدل و الداخلية التركيين لصلتهما بعملية اعتقال القس مباشرة، وفي العاشر من الشهر نفسه فرضت أمريكا رسوماُ جمركية على وارادت الفولاذ و الألمنيوم من تركيا، وهنا بدأت فعلياً عملية انهيار العملة التركية لتصل بعدها إلى مستويات قياسية، لم يستطع أردوغان رغم محاولاته الداخلية و الخارجية من إنقاذ انهيار الليرة التركية، لتلجأ تركيا بعدها إلى فرض عقوبات مماثلة في الرابع من آب / آغسطس على وزيري العدل و الداخلية الأمريكيين، وفرض رسوم على بعض الواردات الأمريكية، ولكن دون أن يتمكن من إنقاذ العملة التركية من خسائر فادحة أثرت على الاقتصاد التركي، حيث وصف أردوغان عملية انهيار الليرة التركية والعقوبات الاقتصادية الأمريكية بالمؤامرة السياسية الأمريكية، وطعنه في الظهر.
- تدهور الأوضاع الاقتصادية: بعد تفجر الأزمة السياسية و الدبلوماسية بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية في أعقاب عملية إلقاء القبض على القس آندرو برانسون في تركيا منذ أكثر من عامين كما أسلفنا، والمطالبات الأمريكية بالإفراج عنه دون جدوى، ولجوء الولايات المتحدة الأمريكية إلى العقوبات الاقتصادية وتأثيرها على السياسة المالية في تركيا، لتتحول تركيا بأنظارها نحو الشرق الأوسط في محاولة منها لتخفيف من وطأة العقوبات الاقتصادية الأمريكية، حيث بدأت بالضغط على الحكومة العراقية المنهمكة أصلاً في الأزمات السياسية و الاقتصادية بزيادة تعاملاتها التجارية معها مقابل الحصول على مياه دجلة و الفرات، أو المقايضة مقابل الكهرباء رغم الأزمة الخانقة التي تعاني منها الحكومة العراقية في الآونة الأخيرة من جهة، ومن جهة أخرى سارعت إلى التوجه شرقاً نحو الصين العدو اللدود للولايات المتحدة الأمريكية للتخفيف من حدة هذه العقوبات الاقتصادية، حيث سارعت الصين من جهتها إلى توجيه ضربة إلى الولايات المتحدة الأمريكية من خلال توجه مجموعة من رجال الأعمال الصينيين إلى تركيا للاستثمار فيها، و زيادة التبادلات التجارية معها، و تقديم المساعدة الاقتصادية لتركيا لتتجاوز الأزمة الاقتصادية الخانقة. وكما حاولت تركيا زيادة تعاملاتها الاقتصادية مع إيران بالرغم من العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، لينجح أردوغان أخيراً في الحصول على استثمارات اقتصادية من قطر بحوالي /15/ مليار دولار للعمل في تركيا، وكما حاول أردوغان التقرب من بعض الدول الأوروبية واستغلال حالة الفتور في العلاقات بين دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، كما حدث في استمرار ألمانيا بالتعامل التجاري مع تركيا، بالرغم من العقوبات الاقتصادية الأمريكية على تركيا.
ذهب البعض بأن الربط بين الأزمة الخانقة التي حدثت بين الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا، لكن واقع الحال يشير إلى الأثر الكاشف للضغوط الأمريكية على أنقرة عن النتائج الاقتصادية السيئة في تركيا، والذي تُرجم على الأرض عبر الانخفاض الحاد والسريع للقيمة الشرائية لعملتها وانخفاض قيمتها أمام الدولار الأمريكي. ذلك أن موجة الهبوط المفاجئة للكثيرين بما فيهم الرئيس التركي جاءت في أعقاب تغريدة للرئيس الأمريكي على تويتر يصف فيها علاقة بلاده مع تركيا بأنها ليست على ما يرام، مُردفاً قوله هذا بجملة عقوبات اقتصادية على تركيا تتضمن زيادة نسبة الرسوم على صادرات تركيا إلى الولايات المتحدة من الحديد والصلب. الأمر الذي كان بمثابة إعلان أو كشف عن الأوضاع الاقتصادية المتردية في تركيا، والتي نتجت بطبيعة الحال عبر فعل تراكمي ساهم فيه سوء العلاقة مع واشنطن.
مهما يكن من أمر، فإن من نتائج الحالة الاقتصادية المتراجعة بشدة ارتفاع معدل التضخم و ارتفاع نسبة البطالة و تراكم الدين السيادي فيها، وفي مجمل الأسباب المتوقعة لها ما كانت سوى عبارة عن رسالة موجهه من الولايات المتحدة الأمريكية إلى تركيا للتوقف عن التوجه نحو روسيا و ابتعادها عن حلف “الناتو” الذي لعبت فيه تركيا دور الشرطي القائم بحماية المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط في مراحل سابقة أمام التوجهات الروسية نحو المياه الدافئة في الشرق وزيادة نفوذها فيها، ومحاولة أردوغان -على حد تصريحات يكيت بولوت المستشار الاقتصادي له- التكفير عن الخطأ الذي وقعت فيها فيه تركيا إبان الحرب عام 1854 بين روسيا من جهة و تحالف بريطانيا و فرنسا و تركيا من جهة أخرى، وعدم وقوف تركيا في تلك الحرب إلى جانب روسيا، والتي كانت ستعود بالمنفعة المتبادلة بين روسيا و تركيا، وأن بلاده تتعرض لحرب اقتصادية من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، وأنها اقتربت من التحرر من الاستعمار الاقتصادي أكثر من أي وقت مضى منذ حرب الاستقلال قبل /200/ عام، وخاصة بعد قدرة روسيا على التصرف بشكل شبه كامل في الأزمة السورية، و زيادة الاتفاقيات العسكرية بين تركيا و روسيا، كاتفاقية شراء منظومة صواريخ (S400) بالرغم من المعارضة الأمريكية لذلك. لكن المشكلة لم تتوقف عند زيادة التعاون مع موسكو فحسب، وإنما تعتبر تعتبر العقوبات الأمريكية على تركيا من ناحية أخرى محاولة أمريكية للضغط على تركيا لإبعادها عن إيران سياسياً واقتصادياً من أجل تفعيل العقوبات الأمريكية على إيران، تلك العقوبات التي ساهمت أنقرة من قبل في خرقها لصالح طهران مقابل مكاسب اقتصادية. يضاف إلى ذلك أن العقوبات الأمريكية ما هي إلا رسالة إسرائيلية إلى تركيا بعد الانتقادات التي وجهت إليها من قبل أردوغان بعد القرار الإسرائيلي بإعلان قومية ويهودية الدولة الإسرائيلية في فلسطين، ومساعدتها للجماعات والفصائل المسلحة في سـوريا.
ولكن بالرغم من المحاولات التركية من قبل أردوغان لاحتواء الأزمة الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية عليها، يذهب البعض إلى أن أنقرة سترضخ في نهاية المطاف لإرادة الولايات المتحدة الأمريكية وتنفذ جميع مطالب الإدارة الأمريكية منها الإفراج عن القس الأمريكي المحتجز لديها، لأن الاقتصاد التركي لا يتحمل الانهيارات المتكررة لليرة التركية، ومن الطبيعي أن يحاول أردوغان ابتداء استرضاء الجانب الأوروبي في محاولة مكررة من قبله للاستفادة من حالة اختلال التوازن في العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية و الاتحاد الأوروبي، وذلك لإيجاد حل مؤقت للأزمة الاقتصادية التي تمر بها تركيا نتيجة سياسات معينة ومتبعة من سنوات في البلاد. لكن، وعلى بالرغم من كل ذلك، فإن رؤوس أموال ستدفع بالمستثمرين والشركات الأوروبية إلى الانسحاب من السوق التركية، وتراجع نتائج القطاع السياحي فيها، كـل ذلك دفـع باحتمال تفجُّـر الأوضاع الداخلية ارتباطـاً بالأوضـاع الاقتصادية، لا سيما في ظل توجه الرئيس التركي لإحكام سيطرته على السياسة الاقتصادية في البلاد. والواضح أن هذه الأزمة ومثيلاتها تمثل بداية النهاية لانتهاء توجهات في عودة إعادة تدوير “العثمنة” من خلال السيطرة على المجتمعات الإسلامية والتمدد من بوابة أزمات المنطقة.
واقع الحال أن مستقبل العلاقات الأمريكية – التركية هو رهين التحولات القائمة منذ سنوات، والتي تمتلك واشنطن إزاءها استراتيجيا تختلف إلى حد كبير عن نظيرتها التركية، وذلك في العديد من الملفات التي تقف أنقرة من بعضها موقفاً شديد الحساسية كما هو حال دعم واشنطن لقوات سوريا الديمقراطية المستمر حتى اللحظة. بدورها بأنقرة تذهب إلى اتخاذ موقف مناقض في الاتجاه الأخر عبر التقرب من روسيا التي يزداد نفوذها في الساحة الدولية. كل ما سبق، يفتح المجال أمام احتمالات عديدة من بينها فض الحلف القائم مع أنقرة والغرب، وهو حلف يتجسد عملياً عبر عضوية تركيا في “الناتو”.
الـمـراجــع
هل العلاقات الأمريكية – التركية آخذة في التداعي. معهد واشنطن
تعرف على التسلسل الزمنى لانهيار العلاقات الأمريكية التركية، اليوم السابع
https://www.youm7.com/story/2018/8/13/تعرف-على-التسلسل-الزمنى-لانهيار-العلاقات-الأمريكية-التركية/3910784
العلاقات الأمريكية- التركية في سوريا، منتدى فكرة
https://www.washingtoninstitute.org/ar/fikraforum/view/the-kurdish-question-revisited
تزايد حالة اللاثقة في الحليف التركي! خبركم
http://xebercom.com/2015/06/تزايد-حالة-اللاثقة-في-الحليف-التركي/
إلى أين تتجه العلاقات الأمريكية التركية، سبوتنيك
https://arabic.sputniknews.com/radio_hot_issues/201807301034231130-العلاقات-الأمريكية-التركية/
العلاقات الأمريكية التركية من الشراكة النموذجية إلى التأزم، شبكة النبأ
https://annabaa.org/arabic/authorsarticles/13384
خبراء أمريكيون: الخلاف الأمريكي التركي سيتفاقم ومغادرة تركيا لحلف الناتو مسألة وقت، ترك برس
https://www.turkpress.co/node/51644
تركيا ـ أميركا: المسارات المحتملة، المعهد المصري للدراسات
https://eipss-eg.org/تركيا-ـ-أميركا-المسارات-المحتملة/
العلاقات الأمريكية التركية، المعرفة
هذه المادّة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي.