أدى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى تفاقم ديناميكيات مختلفة في الشرق الأوسط، وقد أتيحت لنا الفرصة للحديث عن ذلك مع المحرر والصحفي الأوكراني فيتالي بورتنيكوف. أجرى المقابلة دينيس كولسنيك، محلل ومستشار فرنسي.
لقد سلط العدوان الروسي على أوكرانيا الضوء على اتجاهات مثيرة للاهتمام في الشرق الأوسط، مثل الرغبة في عدم الانحياز ورفض الانحياز إلى الموقف الغربي بشأن العدوان الروسي على أوكرانيا. كيف تفسرون ذلك؟
حين نتحدث عن موقف دول الشرق الأوسط وما يسمى بالجنوب العالمي، يجب أن نتذكر أن هذه الدول لديها تجربة مختلفة تماما، وتجربة تاريخية وقانونية مغايرة للدول الغربية ودول الاتحاد الأوروبي ودول من أمريكا الشمالية.
ما لدينا هو تجربة الحرب العالمية الثانية. بل يمكنني القول حتى تجربة الحربين العالميتين. ويتذكر الأوروبيون أن حربين عالميتين دمرتا أوروبا. والأميركيون يدركون ذلك أيضاً، لأنهم كانوا متورطين بشكل مباشر في كلا الحدثين. ما نستنتجه من هذين الصراعين بسيط: من الضروري احترام القانون الدولي، واحترام حرمة الحدود، واتخاذ تدابير استباقية لمنع دولة من الاستيلاء على أراضي دولة أخرى.
في هذه الأثناء، تجدر الإشارة إلى أنه من عام 1945 إلى عام 1975، بدءًا من مؤتمر روزفلت وتشرشل وستالين في يالطا إلى مؤتمر هلسنكي، أين تم التوقيع على قانون هلسنكي النهائي، لم يكن هناك تأكيد حتى في أوروبا وأمريكا الشمالية. على إستقرار الحدود. كان التصور العام هو أنه كان هناك نوع من الاتفاق بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن ما مدى استقرار هذا الاتفاق؟ فقط بعد عام 1975، تنفست الدول التي حصلت على حدودها نتيجة للحرب العالمية الثانية الصعداء.
دعونا نلقي نظرة الآن على الجنوب العالمي والشرق الأوسط. فهذا التصور غير موجود هناك، لأن بعض الدول لا تزال لا تتمتع بحدود مستقرة. والمثال الكلاسيكي هو دولة إسرائيل، التي عاشت بلا حدود مستقرة منذ عام 1948. ولا تزال الهند وباكستان تتجادلان بشأن كشمير. ولم ينته الأمر. في بلدان الجنوب العالمي، إذ هناك صراعات إقليمية ومطالبات تاريخية، وشكوك حول استقرار حدود دولة معينة. تطالب الصين مثلاً بأراضي من الهند لأن بكين ضمت التبت. بمعنى آخر، تختلف الأولويات تماما.
ومن بين الأولويات الرئيسية، بل وحتى الأولوية الرئيسية، ليست استعادة القانون الدولي، ولكن تجنب الحرب. أما بالنسبة لمن هو المعتدي، ومن بدأ أولاً، فهذه قصة مختلفة تمامًا. بالنسبة لهم، هذه الأسئلة ثانوية، وحتى ثالثية. في المقابل كانت مصالحهم الاقتصادية ذات أهمية قصوى.
لذلك، لا يبدو أن روسيا تنتهك أي قواعد، من وجهة نظر هذه البلدان. هم بالطبع يرغبون في أن تتوقف روسيا وأوكرانيا عن القتال، ولكن ليس على حساب بعض المشاكل الداخلية، ولا على حساب انهيار الاقتصاد، أو على حساب انتصار الغرب. لأنه بالنسبة للعديد من هذه البلدان، لا يزال يُنظر إلى روسيا على أنها بديل للغرب.
لكن فلننظر الى المملكة العربية السعودية والأمير محمد بن سلمان. في الأيام الأولى للغزو الروسي لأوكرانيا، اعتقد الكثيرون أن الرياض ستنضم إلى المعسكر الغربي وتدعم العقوبات ضد الاتحاد الروسي. وهو ما لم يحدث. بل على العكس من ذلك، رأينا كيف تمكنت السعودية من استغلال قضية أسعار النفط. أو كيف تحاول المملكة العربية السعودية، على سبيل المثال، وضع نفسها كوسيط. كيف تفسر هذا الموقف في الرياض؟
أثناء العصر السوفيتي، كانت المملكة العربية السعودية دولة مناهضة للشيوعية بشدة. لدرجة أن العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وموسكو كانت معدومة لعدة عقود، إلى حين انهيار الاتحاد السوفيتي. بعبارة أخرى، كانت كراهية الشيوعية أقوى من التجربة الاستعمارية في المنطقة.
لكن ماذا يعني التحديث من الناحية السعودية؟ لا يتعلق الأمر بالتحول إلى ديمقراطية أوروبية. بل يعني ذلك أن تصبح دولة قريبة أكثر من السلوك التقليدي في العالم العربي. وبمعنى آخر، فإن الأمير سلمان هو زعيم وطني عربي نموذجي يواجه المنافسة، في حين أن والديه، اللذين كانا ملوكاً، لم يكن لديهما أي خصوم سياسيين يواجهانهما. وفي هذه الحالة، فهو بالطبع يناور بين المصالح المختلفة.
أما الولايات المتحدة، فلم تعد الدولة الوحيدة التي يركز عليها. إذ أن الأمير سلمان يجد أرضية مشتركة مع الصين. فحقيقة أن الصين لعبت دور الوسيط بين المملكة العربية السعودية وإيران تتحدث عن الكثير. والولايات المتحدة نفسها، كما تعلمون، لا تستطيع أن تفعل ما كانت تفعله من قبل.
سبق وذكرت إسرائيل كأحد الأمثلة المتعلقة بعدم الاستقرار على الحدود. وقد اتخذت إسرائيل موقفاً مثيراً للاهتمام إلى حد ما. إذا قرأت تصريحات المسؤولين الأوكرانيين، فإن هذا الموقف غير مناسب لأوكرانيا. كيف تفسر إحجام إسرائيل عن تقديم المساعدة العسكرية والوقوف إلى جانب أوكرانيا في الحرب الروسية الأوكرانية؟
ينبع المنطق الإسرائيلي من حقيقة أن إسرائيل أصبحت الآن جارة للاتحاد الروسي. وهذا لا علاقة له بالحرب الروسية الأوكرانية، بل بسوريا. دخلت روسيا المنطقة بطريقة لم يتوقعها أحد. وحقيقة أن هذه الأخيرة اقتربت من حدود إسرائيل أمر يجب على كل زعيم إسرائيلي أن يأخذه بعين الاعتبار، لأن روسيا ليست قريبة فحسب، بل تسيطر على المجال الجوي. واعتماداً على رغبات موسكو، قد تردع الإيرانيين أو لا تردعهم. قد ترد أو لا ترد الهجمات الجوية الإسرائيلية على أهداف عسكرية إيرانية وسورية مهمة معينة. وهكذا، فإن إسرائيل تضطر، في كل تصرفاتها، إلى أخذ رد الفعل الروسي المحتمل بعين الاعتبار.
فضلًا عن ذلك، تحتفظ موسكو بعلاقات مع الحركات الإسلامية المتطرفة في الشرق الأوسط. وكانت روسيا الدولة الوحيدة من بين دول مجموعة الثماني في ذلك الوقت التي اجتمع وزير خارجيتها بقادة حماس بعد فوز هؤلاء بالانتخابات التشريعية في السلطة الفلسطينية وحتى بعد تشكيل حكومتها في قطاع غزة. وهي اتصالات مستمرة حتى يومنا هذا. كما أن موسكو لديها اتصالات مع حزب الله ولا أحد يخفي ذلك أيضاً.
وفي جميع الأحوال، فإن روسيا قادرة على تغيير الوضع في الشرق الأوسط إذا أرادت ذلك. حاول، مثلًا أن تضع نفسك مكان رئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي يدرك أنه يزود أوكرانيا بأسلحة تسمح لها بالدفاع عن نفسها ضد الصواريخ الروسية، أو حتى إسقاط المعدات العسكرية لروسيا. والآن تسقط صواريخ ذات نوعية مختلفة عن تلك التي تستخدمها حماس حاليا على تل أبيب. أو يتم إسقاط طائرة إسرائيلية، “بطريق الخطأ”، على يد الدفاع الجوي الروسي خلال غارة في سوريا. هذه هي العناصر التي يجب على القادة الإسرائيليين أن يأخذوها بعين الاعتبار.
ولكنني أعتقد أيضًا أنه يجب على إسرائيل أن تنظر إلى هذا الوضع من جانب الخطر العالمي. بمعنى آخر، يتعين على إسرائيل أن تسترشد بمنطق تجربتها التاريخية الوطنية، والتي لا يمكن للدولة اليهودية أن تشعر بالأمان من خلالها إلا في عالم ديمقراطي. وفي عالم يهيمن عليه المعادون للسامية وكارهي الأجانب والطغاة، من الصعب الحصول على ضمانات أمنية للدولة اليهودية.
يشكّل وجود إسرائيل مع الاتحاد السوفييتي، والذي زود الدول العربية بأحدث المعدات ونجح في عدة مناسبات في إيقاف الصراعات العسكرية في الشرق الأوسط عن طريق الابتزاز والتهديد بالتدخل، مثالاً مثيراً للاهتمام بالنسبة لإسرائيل. وهذا ما حدث خلال أزمة السويس، وحرب الأيام الستة، وحرب يوم الغفران.
ولو لم يكن الاتحاد السوفييتي موجوداً، لكان من الممكن ضمان أمن إسرائيل قبل ذلك بكثير من خلال اتفاقيات السلام مع الدول العربية. ولكان من الممكن أن تفهم الدول العربية أن عليها أن تجد تسوية مؤقتة مع إسرائيل وأن عليها أن تعترف بحقها في الوجود. لكن، باختصار، مجرد وجود الاتحاد السوفييتي جعل الدول العربية واثقة من أنها ستدمر إسرائيل عاجلاً أم آجلاً.
والوضع مشابه للغاية فيما يتعلق بروسيا وأوكرانيا. فروسيا تقاتل هذه الأخيرة اليوم، وهي مقتنعة بأن أقصى ما يمكن أن تخسره هو الأراضي المحتلة. هذا هو المكان الذي تنتهي فيه كل المخاطر والمشاكل التي تواجه موسكو. وبعض الساسة الغربيين على حق في اعتقادهم أن أوكرانيا سوف تختفي من الوجود إذا توقفت عن القتال. وإذا توقفت روسيا عن القتال، فسيحل السلام.
بالتالي فإن إسرائيل، مثل معظم الدول، لا تسترشد إلا بمصالحها الوطنية. ويدرك القادة الإسرائيليون أنه بسبب وجود روسيا في سوريا، ولأن هناك مشاكل أمنية ومشاكل سياسية، فإن إسرائيل لا تستطيع تحمل تكاليف اتخاذ خطوات لمساعدة أوكرانيا. هل فهمت جيدا؟
عمومًا، لقد فهمت جيدًا. ومع ذلك، فإن الحكومة الإسرائيلية تسترشد بالمصالح الوطنية التكتيكية، لا الاستراتيجية. وبالحديث عن المصلحة الاستراتيجية، هناك مشكلة لأن إسرائيل يجب أن تساعد الديمقراطية على الفوز. بما أنها هي نفسها قاعدة أمامية للديمقراطية في الشرق الأوسط.
تمثل إسرائيل ملجأ للشعب اليهودي، كما أن أوكرانيا ملجأ للشعب الأوكراني. وفي هذا السياق، إذا أردنا أن يظل هذا الملجأ آمناً، فلابد أن تخسر روسيا، ولابد أن تفوز أوكرانيا. إنها ليست حتى مسألة تعاطف مع الأوكرانيين أو الروس.
وفي هذه الحالة من المهم جدًا معرفة من بدأ الحرب أولاً. هذه دولة تحاول بوقاحة تدمير دولة أخرى. ونظرًا لتجربة التاريخ اليهودي، فإن الأمر لا ينتهي أبدًا بشكل جيد بالنسبة لأولئك الذين لا يشعرون أنهم يشكلون الأغلبية. فقد تم إنشاء إسرائيل لأن اليهود لم يشعروا قط أنهم يشكلون الأغلبية في أي من البلدان التي عاشوا فيها.
لديهم اليوم هذه الدولة. فالناس الذين يعيشون في إسرائيل يدافعون عنها. ولكن هذا غير كاف لحماية حدودها. من المهم جدًا بناء عالم تشعر فيه إسرائيل بالراحة. والأوكرانيون يقاتلون من أجل هذا العالم اليوم؛ الجندي الأوكراني الذي يموت على خط المواجهة لا يقاتل من أجل مصالح إسرائيل، بل يقاتل من أجل مصالح أوكرانيا، لكنه يخلق عالما أفضل، بما في ذلك لإسرائيل.
وفي ذات الوقت، فإن الجندي الإسرائيلي، عندما أوقف الدبابات السوفيتية، وعندما أسقط الطائرات السوفيتية، وعندما واجه الأنظمة الاستبدادية التي أرادت تدمير إسرائيل، كان أيضًا يخلق عالمًا أفضل، بالمناسبة، كان من الممكن أن تبرز خلاله أوكرانيا.
يجب أن ندرك أن كل شيء مترابط. وأعتقد أننا بحاجة إلى مواصلة الحديث عن هذا الأمر مع المسؤولين الإسرائيليين. وقد التقى على سبيل المثال، الرئيس زيلينسكي برئيس الوزراء نتنياهو في الجمعية العامة للأمم المتحدة. وأعتقد أن هذا يجب أن يكون جزءًا من تلك المحادثة أيضًا. علينا أن نشرح الكثير من الأمور للسياسيين والمجتمع الإسرائيلي.
ماذا عن تركيا؟ لعبت أنقرة دورًا هامًا في الأسابيع الأولى من الحرب وذلك عبر تطبيق اتفاقية مونترو ومنع السفن الروسية من دخول البحر الأسود. لكن يمكننا أن نرى أن أردوغان حاول منذ البداية وضع نفسه كوسيط. لكنه لم يحقق أي نتائج جدية، باستثناء اتفاق الحبوب الذي توقف. ما هي الفائدة من مثل هذه التصرفات بالنسبة لأنقرة إذا كان من الواضح أن الكرملين يفتقد لأي إرادة سياسية للسلام؟
هناك عدة أسباب لذلك. التبرير الأول هو أن أردوغان قادر على الحفاظ على علاقات خاصة مع روسيا، فهناك أيضًا مصلحة اقتصادية في ذلك. حيث أن تركيا لم تفرض عقوبات على روسيا، ولم تلغي رحلاتها الجوية معها، وتواصل الترحيب بالسياح الروس كما احتضنت الأوليغارشيين الروس.
ولدى أنقرة دافع آخر كذلك كمرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي. فعندما تعمل تركيا كوسيط، مثلًا، من الصعب أن يتبنى الاتحاد الأوروبي نفس المطالب الموجهة إلى دول أخرى، مثل صربيا أو جورجيا. والواقع أن أوروبا ليس لديها وسطاء آخرون غير أردوغان. ومنطقه كالتالي : إذا كنت تريد مني أن أكون وسيطا، فلا تمنع عني المصالح الاقتصادية. لأنه من المهم الحفاظ على القناة مع بوتين. هذه هي النقطة الأولى.
النقطة الثانية سياسية. إذا تواصل أردوغان مع بايدن وبوتين وزيلينسكي، فمن يستطيع أن يسمح لنفسه بذلك؟ لا أحد . وهذا يجعل من أردوغان سياسيًا عالميًا عظيمًا. لكن هذا الدور يحتاج إلى مناورة من أردوغان. ورأيتم أنه خلال لقائه مع بوتين في سوتشي، انتقد أردوغان الغرب وأوكرانيا. وقال أنه يجب علينا أن نكون أكثر طاعة وعلينا أن نقبل بشروط روسيا. لكنه يستطيع أيضاً أن ينتقد روسيا. فعندما عاد من سوتشي إلى أنقرة، قال لمراسليه إنه ليس سعيدًا جدًا بالموقف الروسي أيضًا. هذا هو أردوغان، وهو يناور بهذه الطريقة.
ومن المهم كذلك أن نفهم أن الحرب الروسية-الأوكرانية، رغم أنها ليست صراعاً عالمياً، تظل بمثابة مواجهة عالمية مع الإئتلاف الغربي إلى جانب أوكرانيا. وأردوغان هو رئيس دولة عضو في الناتو، لذلك ليس من السهل المناورة بحرية. فمن ناحية، هناك الصين التي تقول إنها تتفهم مخاوف روسيا، ومن ناحية أخرى، إلى جانب أوكرانيا، هناك الولايات المتحدة والغرب، وهناك شبه جزيرة القرم، حيث يوجد عامل تتار القرم، الذي يلعب دورًا مهمًا جدا في السياسة الداخلية التركية.
وعلى كل حال، فإن هذه المناورة ليست جديدة في السياسة التركية. إنها سياسة “عبور مضيق البوسفور”. ويجب على المرء أن يكون حذراً عندما يقف على ضفاف مضيق البوسفور ويتساءل عن كيفية مرور السفن. وفي الواقع، كان السياسيون الأتراك يفعلون الشيء نفسه منذ تأسيس الجمهورية التركية. ولم تكن الدبلوماسية العثمانية تتمتع بهذه الحصافة، وهو ما أدى إلى انهيار الإمبراطورية، وأنقرة تتذكر ذلك جيداً. لذلك كان السياسيون الذين خلفوا الحكام العثمانيين أكثر حذراً وأكثر مرونة.
وهل تعتقد في المستقبل وخلال ولاية أردوغان الحالية، أنه سيواصل نفس سياسة “العبور الحذر للبوسفور” أو سيتبنى نهجا أكثر تأييدا للغرب؟
سيكون التوجه أكثر تأييدا للغرب. فهو يحتاج إلى الغرب لحل مشاكله، وخاصة الاقتصادية منها. يجب على أردوغان التفاوض على العديد من الأمور المهمة مع الغرب. ولم يكن مثقلا بالانتخابات،التي أجبرته على استخدام الخطاب المناهض للغرب، رغم أنه لم يكن في حاجة إليه حقا، ولكن كان عليه استخدامه لتعبئة السكان
وإذا صوت البرلمان التركي الآن لصالح انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي، فلن يكون ذلك سلاماً كاملاً مع الولايات المتحدة، بل هدنة، أو خطوة إلى الأمام إذا جاز التعبير. ويمكن أن يكون هناك العديد من الخطوات إلى الأمام.
تحاول أغلبية الدول أن تجد فائدة لمصلحتها ولا تريد الاختيار بين الغرب وأوكرانيا من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى. وكيف ترى توازن القوى في الشرق الأوسط فيما يتعلق بأوكرانيا؟
في الواقع، سوريا هي الوحيدة التي تدعم روسيا علناً. أما بالنسبة لإيران، فإن طهران تنفي حتى تزويد روسيا بطائرات بدون طيار. لذا، حتى من وجهة نظر إيران، ليس هناك ما يدعو للفخر أو التباهي. فهذه الأخيرة لا تريد أن يُنظر إليها على أنها حليفة لروسيا في المنطقة، لأنها من وجهة نظرها قوة جدية. كما حاولت طهران المشاركة في حل النزاع بين أرمينيا وأذربيجان.
تناور جميع الدول الأخرى بطريقة أو بأخرى. فعلى سبيل المثال، كان المغرب الدولة الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي قامت بتزويد أوكرانيا بالدبابات. لكنه في الوقت نفسه، يستأنف الرحلات الجوية المباشرة مع روسيا الاتحادية. و لم يقم المغرب بتخريب علاقاته مع روسيا، بل حافظ عليها.
ثم هناك المملكة العربية السعودية، التي تحدثت إلى العديد من البلدان حول العالم. ونظمت الرياض مؤتمرا اجتمع فيه الغرب بالجنوب وناقشوا الحرب في أوكرانيا. لكن في الوقت نفسه، تواصل المملكة العربية السعودية الحفاظ على علاقاتها مع روسيا. ويمكننا هنا القول أن هذه هي المتغيرات لسياسات الجنوب العالمي.
في الحقيقة، كان من المفاجئ بالنسبة للكثيرين منا أن تصبح دولة إسرائيل، التي كان يُنظر إليها دائمًا جزءًا من الغرب، قسمًا من الجنوب العالمي. وأنا أشك في أن هذا أمر جيد بالنسبة للشعب اليهودي. بمعنى آخر، إسرائيل تنتهج نفس السياسة التي تنتهجها دول الجنوب. يساند المجتمع أوكرانيا ويرى أن روسيا هي المعتدية، بينما تحاول الحكومة المناورة والحذر إقتداءً بحكومات الدول العربية. وهي نقطة مثيرة للاهتمام وتسلط الضوء على أن المنطقة بأكملها في حالة المناورة هذه.
ولكنني أعتقد أيضاً أنه لا يمكن أن يكون هناك تغيير إلا إذا خسرت روسيا هذه الحرب حقاً. وما أعنيه بالهزيمة هو بقاء أوكرانيا كدولة. إذا أصبحت أوكرانيا عضوا في حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي. وإذا كان على روسيا أن تتخلى عن مطالبتها بدمج أوكرانيا في حظيرتها، أو حتى جعلها دولة تابعة. ستكون هذه هزيمة في الأساس، لكن روسيا سوف تختفي من المشهد السياسي في الشرق الأوسط. بل إنها ستفقد مكانتها حتماً، لأن العالم العربي يحترم الفائزين، وهم الأقوى عموماً.
هناك عامل آخر كفيل بالتأثير على هذه المشاعر هو سلوك روسيا فيما يتصل بسلامة الغذاء. لقد رأينا أنه عندما قرر بوتين التخلي عن صفقة الحبوب، كان الرئيس المصري السيسي، وهو سياسي حذر للغاية، صريحًا جدًا في القول إن ذلك كان خطأً، وأنه كان بمثابة ضربة للأمن الغذائي. وبالنسبة لمصر، فإن ارتفاع أسعار المواد الغذائية، حتى ولو ببضعة جنيهات مصرية، يمثل مشكلة كبيرة للحكومة.
هذا ما يقودني إلى سؤال آخر. اتضح أن أغلب دول الشرق الأوسط لم تقتنع بعد بأن أوكرانيا سوف تبقى كدولة، أليس كذلك؟
أظن أنهم لا يفكرون في الأمر. فهم ينظرون إلى هذا الصراع على أنه صراع عالمي بين روسيا والغرب. وهذا مهم بالنسبة لهم.
بالإضافة الى ذلك، فإن أوكرانيا إذا تمكنت من البقاء كدولة، فسوف يكون ذلك دليلاً على نجاح الغرب الجماعي في الدفاع عن مبادئه. إن الحفاظ على أوكرانيا هو الدفاع عن مبادئ الغرب الجماعي. كاحترام القانون الدولي، مثلًا. وهي ليست أولوية بالنسبة لدول الجنوب.
لكن إذا دافع الغرب عن هذه المبادئ، فهذا يعني أنها أكثر جدية وأقوى من مبادئ روسيا. أن الغرب مستعد للقتال من أجل مبادئه. مما سيشكل درسًا
هل تتذكرون إلى جانب ذلك حين تولت الولايات المتحدة قيادة التحالف الدولي لتحرير الكويت من الاحتلال العراقي، كيف كان ذلك بمثابة علامة فارقة في منطقة الشرق الأوسط؟ وهذا ما عزز موقف الولايات المتحدة. لقد أظهر أن الأميركيين مستعدون وقادرون على القتال من أجل مبادئهم.
وما الذي يمكن أن تفعله أوكرانيا في المنطقة لتغيير هذا الوضع، والطريقة التي يُنظر بها إليها في هذه المنطقة؟ هل من الممكن؟
أعتقد أن الدبلوماسية الأوكرانية أصبحت أكثر نشاطا في الأشهر الأخيرة. كان يجب أن يكون الأمر على هذا النحو. وتولي العديد من دول المنطقة الآن اهتمامًا أكبر لأوكرانيا أكثر من ذي قبل. ربما ليس بقدر ما نعتقد، لأن هذه الحرب بالتأكيد ليست محور اهتمامهم، لكن هناك دلائل كثيرة على أنهم يتابعونها. ويتصدر السفراء الأوكرانيون عناوين الأخبار في صحف بعض البلدان، ففي إسرائيل، مثلًا، يقوم السفير الأوكراني يفهين كورنيتشوك باستمرار بتوليد معلومات عن نفسه في وسائل الإعلام الإسرائيلية.
وخلاصة القول، أظن أن أوكرانيا يجب أن تكون حاضرة ميدانيّا. ثانياً، يجب أن تقوم باتصالات على أعلى مستوى. والحقيقة هي أنه لا تزال هناك اتصالات الآن مع هؤلاء القادة الذين لم تبنِ معهم أوكرانيا مثل هذه العلاقات من قبل. محمد بن سلمان مثال جيد. وبشكل عام، فإن حقيقة اهتمام السياسيين السعوديين بأوكرانيا أمر مهم للغاية. لأن الكثير من الأشياء تعتمد على الرياض. لكنني لا أعتقد أننا نستطيع إقناعهم بعدم التعاون مع روسيا. لن يفهموا السبب.
ولكن حين يصوتون في الأمم المتحدة أو حين يعارضون انسحاب روسيا من صفقة الحبوب، فإنهم يرسلون إشارة إلى فلاديمير بوتين. هي علامة لبوتين وهو يتبع هذه الإشارات. هذا ما يجبر روسيا بطريقة أو بأخرى على المناورة، على الأقل في سياستها الخارجية.
جميع حقوق النشر محفوظة لصالح مركز أبحاث مينا.